عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-05-2023, 03:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,220
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أحكام تمني الموت خشية الفتنة أو غيرها

وتأمل الرغائب العمرية في الحياة؛ قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "لولا ثلاث في الدنيا لَما أحببت البقاء فيها؛ لولا أن أحمل أو أجهز جيشًا في سبيل الله، ولولا مكابدة هذا الليل، ولولا مجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقَى أطايب الثمر، لَما أحببت البقاء"[26]، وتأمل اتفاق أسباب حبه للحياة مع أسباب معاذ وأبي الدرداء، لا جرم فالقبس واحد، رضي الله عنهم.

ولما اشتكى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عام الفتح في مكة، وعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: ((يا رسول الله؛ أُخلَّف بعد أصحابي؟[27] قال: إنك لن تخلَّف فتعمل عملًا تبتغي به وجه الله إلا ازددت به درجةً ورفعةً، ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام، ويُضَرُّ بك آخرون))[28]، فتدبَّر هذه البشرى لكل من عاش على الإيمان، وفيه: فضيلة طول العمر للازدياد في العمل الصالح، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((ولعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام))؛ أي: يطيل الله عمرك، وكذلك كان، فإنه عاش بعد ذلك أزيد من أربعين سنة، بل قريبًا من خمسين عامًا؛ إذ كانت وفاته سنة خمس وخمسين من الهجرة، وقيل: سنة ثمانٍ وخمسين، وهو المشهور، فيكون قد عاش بعد حجة الوداع خمسًا وأربعين، أو ثمانيًا وأربعين، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون))؛ أي: ينتفع بك المسلمون بعلمك وعملك، ودعوتك ودعائك، وجهادك في سبيل الله تعالى، فعاش حتى فتح الله به وبمن معه العراق وغيره، وانتفع به أقوام في دينهم ودنياهم.

وفي الحديث آية وبرهان لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد أخبر بطول عمره وبعمله الصالح، ونفعه المتعدي قبل وقوعه بكل هذه السنين، وقد قالها وسعد في غمرة المرض الشديد الذي خشِيَ على نفسه منه؛ ففي صدر الحديث قال: ((عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع في وجع أشفيتُ منه على الموت، فقلت: يا رسول الله، بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مال...))؛ [الحديث].

قال النووي رحمه الله تعالى: "في هذا الحديث فضيلة طول العمر للازدياد من العمل الصالح، والحث على إرادة وجه الله تعالى بالأعمال"[29]؛ لذلك كان شيخنا ابن باز رحمه الله تعالى يقول بمشروعية الدعاء بموجب هذا الحديث فيقول الداعي: اللهم أطِلْ عمري في طاعتك، ونحو ذلك؛ فالدنيا مزرعة الآخرة حتى آخر رَمَقٍ فيها؛ وقد ذكروا أن الجنيد رحمه الله تعالى كان يقرأ القرآن وهو في سياق الموت ويصلي، فختم، فقيل له: في مثل هذه الحال يا أبا علي؟ فقال: ومن أحق مني بذلك، وها هي تُطوَى صحيفة عملي، ثم كبَّر ومات رحمه الله تعالى[30].

لهفي على عمر تقضَّى غافلًا
وتركتُ للنفس السفيهة غاربي
يا صاحبي إن جزتَ قبري هائمًا
فانصح لنفسك واعتبر بتجاربي


وعن أبي سلمة رحمه الله تعالى، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان رجلان من بَلِيٍّ من قضاعة أسلما مع النبي صلى الله عليه وسلم، واستُشهد أحدهما، وأُخِّر الآخر سنة، قال طلحة بن عبيدالله: فأُريتُ الجنة، فرأيت فيها المؤخَّر منهما أُدخِل قبل الشهيد، فعجبت لذلك، فأصبحت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أليس قد صام بعده رمضان، وصلى ستة آلاف ركعة[31]، أو كذا وكذا ركعةً صلاة السَّنَة[32]، وفي رواية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بينهما أبعد مما بين السماء والأرض))[33].

وبالجملة؛ فالناس في تمني الموت على خمسة أقسام:
الأول: من يتمناه لينال الشهادة في سبيل الله تعالى؛ فهذا مشروع محمود، ولكن لا يلزم من ذلك الاستعجال به، بل الأولى له أن يسأل ربه أن يمنَّ عليه بأن يستكثر من صالحات الأعمال والقُرُبات والعلم والذكر والجهاد، ثم يُختم له بالشهادة في سبيله، فيجمع بين مرتبتي الصديقية والشهادة.

الثاني: من يتمناه شوقًا إلى ربه؛ وهذا مشروع؛ لأن قلق الشوق لا مدفَعَ له عند بعض النفوس إلا باللقاء، فكيف إن كان لقاء رب العالمين تبارك وتعالى؟ وقد سبق ذكر قول أبي الدرداء رضي الله عنه: "أحبُّ الموت اشتياقًا إلى ربي"، فشوقه قد ساقه لتمني عبور الباب للمحبوب سبحانه وبحمده، وتأمل أيضًا حال معاذ وبلال، وحذيفة وعمار وكثير من السلف رضي الله عنهم، حين حضرتهم مناياهم؛ فقد كانوا يطرَبون لذلك ويبتهجون، ويستبشرون ويشتاقون، ويهتفون: غدًا نلقى الأحبة؛ محمدًا وحزبه، وهم لم يسألوا ربهم الموت، لكنهم فرِحوا بنزوله؛ لأنه الباب الوحيد للوصول للدار الآخرة التي يلقَون الله تعالى فيها، ثم نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأحبابه.

إذًا فتمني الموت شوقًا إلى الله تعالى مشروع، ولكنه مشروط بأمرين:
الأول: ألَّا يكون دافعه التألِّي على الله تعالى، والإعجاب بعمله، والثقة بقبوله، والأمن من مكر الله تعالى، ونسيان صفات جلاله تبارك وتعالى، فهذا من سوء الأدب مع الله سبحانه وتعالى؛ ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91]، بل الموفَّق هو من يبسط الرجاء على حسن ظنه بربه تعالى، لا بعمله مهما بلغ، فالقبول غيب، والخاتمة غيب، والمصير غدًا غيب، لا يعلمه إلا علَّام الغيوب سبحانه وتعالى، ولولا انتظار المؤمنين لقاء ربهم يوم القيامة، لتقطَّعت نفوسهم حسرات؛ لذلك كان عامة من ورد عنهم مثل ذلك من السلف إنما يصرحون بالشوق للقاء الله تعالى عند الاحتضار، أو قُبَيله حين نزول أمارات الرحيل لله والدار الآخرة، والله المستعان.

الثاني: أن يكون قلقه مُفْضِيًا به إلى الخشية من نقص دينه عبر تشوُّش قلبه بواردات لا يطيق لها دفعًا، أو قسوة قلبه مع طول المدى، وهذا في الحقيقة آيلٌ إلى معنى تمني الموت عند الخوف من الفتن، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم قد وضح ذلك غاية الوضوح؛ بقوله: ((لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بد فاعلًا، فليقل: اللهم أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي))[34]، وتأمل تعليق الدعاء بالحياة والوفاة بالخيرة الإلهية من جهة، وبالرضا باختيار الله له من جهة أخرى، فصار الداعي محاطًا بخير الله من جميع جهاته، وهذا من حرص الشفيق صلى الله عليه وسلم على حماية قلوب أُمَّتِهِ من استجرار العواطف غير الموفَّقة لها، فسدَّ ذريعة الخطأ أولًا، ثم فتح باب الأمل من جميع الجوانب، ولا غرو؛ فقد مدحه ربه تبارك وتعالى بقوله الأكرم: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128]، بل رحمته عامة؛ قال سبحانه فيه: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: ((قيل: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ادعُ الله على المشركين، قال: إني لم أُبعثْ لعَّانًا، وإنما بُعثتُ رحمة))[35]، وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا أيها الناس، إنما أنا رحمة مهداة))[36]، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه وآله ومن تبعه بإحسان.

الثالث: من يتمناه خوفًا من فتنة تَحُول بينه وبين رضا ربه، وهذا مشروع كما مرَّ معنا، مع تسليم الأمر لله، والدعاء بما ورد به الخبر.

الرابع: من يتمناه جزعًا من الدنيا؛ وهذا مذموم بكل حال، وقد يُفضِي به ذلك للانتحار، وهو من أكبر الذنوب عياذًا بالله تعالى، فالواجب الصبر على لَأْوَاء الدنيا وتقوى الله فيها، والاستعانة به في دفع ما يضره من بلاء الدين والدنيا.

الخامس: من يتمناه مَلَالةً من الدنيا، واكتفاءً بما عاشه من عمره؛ والغالب أن هذا يكون عند تقدم السن، وضعف الأعضاء، واعتلال الجسد، وموت الأقران، والإحساس بثقله على أهله، فهذا حكمه حكم غيره، فهو يختلف باختلاف حاله ودافعه وموجبه، فيكون مذمومًا إن كان زهدًا في صالح الأعمال، ومَلَالًا من القُرُبات لرب البريَّات، ومشروعًا إن خاف نقص دينه بتقصير في فريضة، أو وقوع في خطيئة، أو زيغ في فتنة ونحو ذلك؛ قال الربيع بن بزة رحمه الله تعالى: "إنما يحب البقاء من كان عمره له غُنْمًا، وزيادةً في عمله، فأما من غَبِنَ عمره واستزَّله هواه، فلا خير له في طول الحياة"[37]، ومن شواهدهم في مَلَالهم حياتهم قول زهير بن أبي سُلمى في معلقته:
سئمت تكاليف الحياة ومن يعِشْ
ثمانين حولًا لا أبا لك يسأمُ




وقال آخر:
إذا عاش الفتى سبعين عامًا
فقد ذهب اللذاذة والفتاءُ




وقال لبيد العامري بعد أن بلغ المائة والثلاثين سنة فيما يُحكى:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الخَلْق كيف لبيدُ




وقول أوس بن ربيعة الخزاعي:
لقد عمرت حتى ملَّ أهلي
ثَوَائي عندهم وسئمتُ عمري




وقال زهير بن جناب الكلبي:
لقد عمرت حتى لا أبالي
أَحَتْفِي في صباح أو مساءِ





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.86 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.23 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.63%)]