عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-05-2023, 05:43 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: محمد صلى الله عليه وسلم زوجا


ولو لاحظت هذا الحديث الطويل، فستجد كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم مستمعًا رائعًا لعائشة رضي الله عنها، جلست تقص عليه صلى الله عليه وسلم خبر إحدى عشرة امرأة مع أزواجهن، وهو يستمع بلا مقاطعة.

إن رجلًا يدير شركة، أو مصنعًا، أو حتى يرأس بضعة رجال، لن تجد له من الوقت ما يجعله يناقش زوجته في أمر يتعلق بأحد أبنائه كملابسه أو طعامه، فما بالنا إذ جاءته زوجته تقص عليه خبر جيرانها اللائي جلسن معها؟

ويا لها من مفاجأة لو عرف أن هؤلاء الجيران لَسْنَ واحدة، ولا اثنتين ولا ثلاث، بل إحدى عشرة امرأة.

قطعًا لو أحدنا هو، لاتَّهم زوجته بكونها تعاني فراغًا، والأَولَى بها أن تنفق هذا الوقت في رعاية أسرتها وزوجها، بدلًا من إضاعته في الكلام الفارغ.

وحده النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مدى حاجة المرأة للحديث، وحاجتها لمن يستمع إليها، فكان بالرغم من مهامه الجسام يجلس ويستمع؛ فيحقق لزوجته إشباعًا معنويًّا بصورة مذهلة.

وكما كان النبي صلى الله عليه وسلم يُولِيها اهتمامًا ورعاية بما تقول، ولو كان من لغو الحديث، فإنها هي الأخرى كانت من الذكاء ما جعلها تقف عما يشغل خاطره، ويأخذ اهتمامه صلى الله عليه وسلم.

فما أروعها حينما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، ما أشد ما لقيتَ من قومك؟".

سؤال مختصر للغاية، لكنه وقع في بؤرة اهتمامه صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن شرع صلى الله عليه وسلم في أن يسرد عليها تلك المواقف المختلفة التي عاناها في سبيل دعوته.

ومعظم تلك المواقف تعرفها عائشة لا ريب، لكنها بذكائها رغم حداثة سنها تعرف كيف تبني حوارًا بينها وبين زوجها صلى الله عليه وسلم.

جاءه صلى الله عليه وسلم أحد جيرانه يدعوه للطعام، وبجواره عائشة رضي الله عنها، قال: ((يا رسول الله، صنعت لك مَرَقًا، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: لا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: لا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا، فعاد يدعوه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: وهذه؟ فقال الرجل: نعم، فقاما يتدافعان حتى أتيا منزله))؛ [رواه مسلم].

ولك أترك عزيزي القارئ تخيل المشهد الرائع في تدافعهما.

لو حدث هذا في زماننا معنا نحن من ندَّعي المدنية، وندعي أننا أعْلَينا من شأن المرأة، وأنها في عصر ما بعد الحداثة صارت لها كل حقوق الرجال وتزيد، أقول: لو حدث هذا مع أحدنا، وكان رده مثل النبي صلى الله عليه وسلم، لتعالت ضحكاتنا سخرية منه، ورميناه بجهله بالإتيكيت.

إنه الحب يا صاح؛ ذاك الذي جعله صلى الله عليه وسلم يناديها بالْحُمَيراء، ويا عائش، بل إنه صلى الله عليه وسلم قالها صريحة بلا مواربة.

حينما سأله صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه: ((من أحب الناس إليك؟ قال صلى الله عليه وسلم: عائشة، قال عمرو: من الرجال؟ قال صلى الله عليه وسلم: أبوها))؛ [صحيح البخاري].

انظر كيف كان حب أبي بكر رضي الله عنه وهو صديقه الأول مقرونًا بكونه أبا عائشة.

لو أننا الآن سألنا رجلًا عن أحب الناس إليه وذكر اسم زوجته؛ لاتُّهِمَ بعدم النخوة، وبأنه من سلالة التابعين لزوجاتهم، معدومي الرجولة.

إن هؤلاء الذين تأخذهم الذكورة بعيدًا عن حقائق الأشياء ومعانيها لا يمكن أن تتوقع منهم فهم شهامة الحب، تلك الشهامة التي لا تجود بها إلا النفوس النبيلة.

وبعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كان الصحابة يُعطون لنساء النبي قدرًا ولعائشة رضي الله عنها مكانة استثنائية بينهن.

في البيهقي في السنن الكبرى، قال مصعب بن سعد رضي الله عنه: "فرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه لأمهات المؤمنين رضي الله عنهن عشرة آلاف، عشرة آلاف، وزاد عائشة ألفين، وقال: إنها حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم".

وكان مسروق إذا حدَّث عن عائشة رضي الله عنها يقول: "حدثتني الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق، حبيبة رسول رب العالمين".

وقد أدرك نساؤه صلى الله عليه وسلم تلك الحظوةَ التي لعائشة في قلبه، وقد دفعتهن الغَيرة إلى أن يكلِّمْنَ فاطمة الزهراء في مخاطبة أبيها في الأمر.

تدخل فاطمة على أبيها وعائشة عنده، فقالت: ((يا أبي، إن نساءك أرسَلْنَنِي إليك، وهنَّ ينشُدْنَك العدل في ابنة أبي قحافة.
فيقول لها النبي صلى الله عليه وسلم في رفق: أي بنية، ألستِ تحبين ما أحب؟
تقول: بلى.
قال: فأحبي هذه.
تعود فاطمة أدراجها لتخبر زوجاته بما سمعت من أبيها، وقالت: والله لا أكلمه فيها أبدًا))؛ [صحيح مسلم].

وعلى الرغم من حبه الاستثنائي لعائشة، وتصريحه بذلك كما سبق أن أشرنا، فإن زوجاته الأخريات كان لهنَّ نصيب من ودِّه ولطفه صلى الله عليه وسلم.

عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يجلس عند بعيره، فيضع ركبته، فتضع صفية رضي الله عنها رجلها على ركبته حتى تركب))؛ [رواه البخاري].

هذا الإكرام لصفية من نبله وكرمه صلى الله عليه وسلم، فهو لم ينسَ أنه قتل أباها حيي بن أخطب، وزوجها السابق كنانة بن الربيع على إثر غدرة بني قريظة، وعلى الرغم من ذلك، فكانت تحمل للنبي صلى الله عليه وسلم حبًّا عميقًا.

في مرضه الذي تُوفِّيَ فيه صلى الله عليه وسلم، اجتمع إليه نساؤه، فقالت صفية: ((إني والله يا نبي الله لَوددتُ أن الذي بك بي.
فغمزن أزواجه ببصرهن.
فقال صلى الله عليه وسلم: مَضْمِضْنَ.
فقلن: من أي شيء؟
فقال: من تغامُزكن بها، والله إنها لصادقة))؛ [رواه ابن سعد في الطبقات، والحاكم في المستدرك].

كما كان ينتصر لها في وجه عائشة وحفصة، فقد كانتا تدعوانها باليهودية، متقوِّيتَين بمركز أبويهما أبي بكر وعمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم باكية، فيمسح دموعها قائلًا: ((قولي لهما: كيف تكونان خيرًا مني وأبي هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد))؛ [رواه الترمذي، حديث صحيح غريب].

يقول الدكتور مصطفى محمود: "كيف استطاع حبها أن يعبر ذلك البحر من الدم، وأن يتغلب على يهوديتها وعنصريتها، وارتباطها بقومها وأبيها وأهلها، الذين سقطوا بسيف الإسلام ويد محمد؟".

هنا لا تجد جوابًا إلا محمدًا وروحه المشعَّة الآسِرة، وقلبه الطيب النبيل.

وقد أكرم صلى الله عليه وسلم أهلَ مصر إكرامًا لمارية القبطية - أم إبراهيم - فيقول لأصحابه موصِيًا: ((إنكم ستفتحون مصر... فأحسِنوا إلى أهلها، فإن لهم ذمة ورحمًا))؛ [صحيح مسلم].

أما خديجة، فكان مضرِب المثل في الوفاء معها.

بلغ من وفائه لها أنه كان صلى الله عليه وسلم يُكثِر من ذكرها رضي الله عنها، ويُثني عليها، ويذبح الشاة، ويبعث بها لصديقاتها.

ولذلك غارت منها عائشة رضي الله عنها وقالت: ((ما غِرْتُ على أحد من نساء النبي صلى الله عليه وسلم ما غرت على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكْثِر ذِكرها، وربما ذبح الشاة، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها في صدائق خديجة، فربما قلت له: كأنه لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة، فيقول: إنها كانت، وكانت، وكان لي منها ولد))؛ [صحيح البخاري].

((وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذبح الشاة فيقول: أرسلوا بها إلى أصدقاء خديجة)).

وذُكرت خديجة ذات يوم ومعه عائشة، فقالت عائشة: ((ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشِّدْقَين، هلكت في الدهر أبدلك الله خيرًا منها؟ فتغير وجهه صلى الله عليه وسلم وزَجَرَ عائشة، وقال غاضبًا: والله ما أبدلني الله خيرًا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء))؛ [صحيح البخاري].

وقال عنها: ((إني رُزقتُ حبها))؛ [صحيح مسلم].

إن امرأة توظِّف أموالها بالتجارة لا يتحرك قلبها إلا للغة الأرقام، ولا يأخذها إلا شغف تراكم الثروات، فعندما يأتيها زوجها - المتصرف في تجارتها - من غار حراء وجِلًا خائفًا من أن يكون قد أصابه من الجن مسًّا، فتجد نفسها تتعامل بعاطفة الأمومة، فتحتويه حتى يذهب عنه الرَّوع، وتسمع منه بكل شغف، ثم تُطَمْئنه بأن بداياته المبهرة مع من حوله لا تنبئ إلا برجل عظيم.

ثم إذا دثَّرته، واطمأنَّت أن ما به من وَجَلٍ قد خَمَدَ، وأنه قد استغرق في نومته، خرجت مع بوادر الصباح عَجْلى لابن عمها ورقة بن نوفل، فتقص عليه ما حدث لزوجها، فينتفض الشيخ انتفاضة العصفور قد بلَّله المطر، ويخبرها بأنه نبي هذه الأمة.

على عجل مثلما ذهبت، ترجع إلى الحبيب المدثِّر، فتجده ما يزال نائمًا، تنتظر حتى يستيقظ من نومه، فيجد تلك التي تلقَّفته وهدَّأت رَوعه، وتزيل عنه ما به من خوف، مبشِّرة إياه ما قاله ابن عمها ورقة بن نوفل.

ما أروعها من زوجة؛ حملت قلب أمٍّ رؤوم، ورجاحة عقل شيخ مجرِّب!

إن امرأةً بهذا الاقتدار لا يجازيها إلا بقاؤها خالدةً في وجدان سيد الأوفياء صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم يذكر لخديجة وفاءها كزوجة احتوته احتواءً كاملًا، ماديًّا ووجدانيًّا، فإنه لا ينسى نبلها في مطلع العمل معها.

فحينما ذهب إليها عمه أبو طالب قائلًا: قد بلغنا أنك استأجرت فلانًا بِبَكْرَين، ولسنا نرضى لمحمد دون أربعة أبكار.

فكان جوابها يقطر شهامة: "لو سألتَ ذلك لبعيدٍ بغيض، فعلنا، فكيف وقد سألته لقريب حبيب؟".

قال القرطبي: "كان حبُّه صلى الله عليه وسلم لها لأسباب كثيرة، ومما كافأ به خديجة في حياتها أنه لم يتزوج في حياتها غيرها، وفيه دليل على عِظَمِ قدرها عنده، وعلى مزيد فضلها؛ لأنها أغنَتْه عن غيرها، واختصت به سبقها نساء هذه الأمة إلى الإيمان".

ولم يسلم الحبيب صلى الله عليه وسلم من صنائع الضرائر بعضهن ببعض، وما ينعكس ذلك عليه، وكان يعرف أن تلك جِبْلَةٌ فُطِرْن عليها؛ فتعامل مع مواقفهن النسوية بكل حلم وأناة.

ففي البخاري أن عائشة قالت: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، فيدنو من إحداهن، فدخل على حفصةَ بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس، فغِرْتُ فسألت عن ذلك، فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها جرَّة عسل، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالنَّ له، فقلت لسودة بنت زمعة: إنه سيدنو منك، فإذا دنا منكِ فقولي: أكلتَ مغافير؟ جمع مغفور، وهو صمغ حلو له رائحة كريهة.
فإنه سيقول عند ذلك: لا.
فقولي له: ما هذه الريح التي أجد؟
فإنه سيقول لك: سقتني حفصةُ شربةَ عسل.
فقولي: رَعَتْ نحله العُرْفُط (الشجر الذي صمغه مغافير).
وسأقول ذلك، وقولي أنتِ له يا صفية ذلك.
قالت: تقول سودة: والله ما هو إلا أن قام على الباب، فأردت أن أناديه بما أمرتني خوفًا منك.
فلما دنا منها قالت له سودة: يا رسول الله، أكلت مغافير؟
قال: لا.
قالت: فما هذه الريح التي أجد منك؟
قال: سقتني حفصة شربة عسل.
قالت: رعت نحله العرفط.
فلما دار إليَّ قلت نحو ذلك، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك، فلما دار إلى حفصة قالت له: يا رسول الله، ألَا أسقيك منه؟
قال: لا حاجة لي فيه.
قالت: تقول سودة: والله لقد حرمناه، قلت لها: اسكتي))؛ [صحيح البخاري].

تقول عائشة رضي الله عنها: ((صنعت طعامًا للنبي صلى الله عليه وسلم وصنعت له حفصة طعامًا، فقلت لجاريتي: اذهبي فإن جاءت هي بالطعام، فوضعته قِبلي، فاطرحي الطعام، قالت: فجاءت بالطعام، فألقته الجارية – كما طلبت منها - فوقعت القَصْعة فانكسرت، فجمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: طعامًا مثل طعام، وإناء مثل إناء))؛ أي: عليكِ يا عائشة أن تغرمي الطعام والإناء؛ [صحيح مسلم].

وتتجلى رجولة وشهامة وثبات النبي صلى الله عليه وسلم في حادثة الإفك، تلك التي رُمِيَتْ فيها عائشة رضي الله عنها في شرفها، فيظل صلى الله عليه وسلم على العهد بزوجته، عهد الواثق المحب.

يا لقبح تلك البيئة حينما يُرمَى إنسان بتهمة ويبرأ منها، يظل ملاحقًا بنظرات الناس المستندة على منطق عفن: "ما في دخان بدون نار".

وحده الرجل المهزوز هو الذي يجعل منطق الدخان والنار هو الموجِّه له في علاقته بزوجه، بينما الرجل الواثق من أهله لا يلتفت لتلك الترهات.

أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما حديث الإفك، وملخص القصة كما وردت في كتب الحديث والسيرة: إن المنافقين استغلوا حادثة وقعت لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في طريق العودة من غزوة بني المصطلق، حين نزلت من هودجِها لبعض شأنها، فلما عادت افتقدت عِقْدًا لها، فرجعت تبحث عنه، وحمل الرجال الهودج ووضعوه على البعير وهم يحسبون أنها فيه.

وحين عادت لم تجد الركب، فمكثت مكانها تنتظر أن يعودوا إليها بعد أن يكتشفوا غيابها، وصادف أن مرَّ بها أحد أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ وهو صفوان بن المعطل السلمي رضي الله عنه، فحملها على بعيره، وأوصلها إلى المدينة.

فاستغل المنافقون هذا الحادث، ونسجوا حوله الإشاعات الباطلة، وتولَّى ذلك عبدالله بن أُبِيِّ بن سلول، وأوقع في الكلام معه ثلاثة من المسلمين؛ هم: مسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة بنت جحش، فاتُّهمت أم المؤمنين عائشة بالإفك.

وقد أُوذي النبي صلى الله عليه وسلم بما كان يُقال إيذاءً شديدًا، وصرح بذلك للمسلمين في المسجد؛ حيث أعلن ثقته التامة بزوجته وبالصحابي ابن المعطل السلمي.

ومرِضت عائشة رضي الله عنها بتأثير تلك الإشاعة الكاذبة، فاستأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الانتقال إلى بيت أبيها، وانقطع الوحي شهرًا، عانى الرسول صلى الله عليه وسلم خلاله كثيرًا؛ حيث طعنه المنافقون في عِرْضِهِ وآذَوه في زوجته، ثم نزل الوحي من الله موضحًا ومبرِّئًا عائشة رضي الله عنها: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ [النور: 11].

كيف عالج النبي صلى الله عليه وسلم تلك الحادثة؟

لم ينقل النبي صلى الله عليه وسلم من قريب أو بعيد ما تناقله الناس عن عائشة، وظلت عائشة شهرًا كاملًا لا تعرف شيئًا مما يُقال عنها.

لكنها لاحظت تغيره صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان يدخل عليها ويقول لها: كيف تِيكم؟ أي كيف أنتم؟

وحينما استأذنته عائشة في أن تذهب إلى أبويها، أذِن لها.

وبدأ يستشير مَن يثق فيه، ويعرف عائشة حق المعرفة، مثل: أسامة بن زيد، وعلي بن أبي طالب، وجارتها بُرَيرة؛ التي قالت عن عائشة: "إنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله".

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((من يعذِرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي - يقصد عبدالله بن أبي بن سلول؟ فوالله، ما علمت على أهلي إلا خيرًا)).

ثم يجلس النبي صلى الله عليه وسلم معها، ويحمد الله تعالى ويتشهد، ثم يقول: ((يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئكِ الله، وإن كنت ألممتِ بذنب، فاستغفري الله، وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه)).

ترد عائشة رضي الله عنها: "لئن قلت لكم: إني بريئة، والله يعلم أني بريئة، لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر، والله يعلم أني منه بريئة، لتصدُّقني، والله ما أجد لكم مثلًا إلا قول أبي يوسف قال: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]"، ثم تأتي براءتها من السماء.

فطوال فترة تلك الحادثة والنبي صلى الله عليه وسلم يتعامل مع عائشة من منطلق الواثق منها، لكنه يريد أن يقطع تلك الألسن التي تطاولت، ولا يمكن أن يتحرك من تلقاء نفسه؛ فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى.

والنبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي ما تزال طفلة صغيرة، تمارس حقها في اللعب، شأنها في ذلك شأن أقرانها.

وعنها ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزُفَّت إليه وهي بنت تسع سنين ولُعَبها معها))؛ [صحيح مسلم].

لذلك حرَص النبي صلى الله عليه وسلم على أن تمارس حقها في اللعب، وألَّا يطغى على طفولتها لا لشيء إلا لأنها أصبحت زوجة، وليست زوجة لرجل عادي، وإنما رجل يحمل أعباء أمة، كل ذلك وغيره لم يخوِّل له الحق في حرمانها من أن تعيش سنها.

تقول عائشة: ((كنت ألعب بالبَنَات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت تأتيني صواحبي، فكن يتقمَّعْنَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان رسول الله يُسرِّبُهُنَّ إليَّ، فيلعبن معي))؛ [صحيح البخاري].

وتضيف؛ ((لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا على باب حجرتي، والحبشة يلعبون في المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه؛ أنظر إلى لعبهم))؛ [صحيح البخاري].

وقدِم النبي صلى الله عليه وسلم من غزو تبوك أو خيبر، فهبَّت الريح فكشفت ستر عائشة ومعها بنـات تلعب بهـن.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما هذا يا عائشة؟
قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رِقاع.
فقال: ما هذا الذي أرى وَسَطَهن؟
قالت: فرس، قال: وما هذا الذي عليه؟
قالت: جناحان.
قال: فرس له جناحان؟!
قالت: أمَا سمِعتَ أن لسليمان خيلًا لها أجنـحة؟
فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بانت نواجذه))؛ [رواه أبو داود].

ولم يكن صلى الله عليه وسلم يمتعض أو يتأفف من نسائه أثناء حيضهن، كما كان معروفًا في زمانه من عدم مؤاكلة اليهود الحائضَ، وكما هو دَيدن بعض الرجال اليوم؛ حيث يأنفون من زوجاتهم أثناء الحيض، لكنه صلى الله عليه وسلم كان أرقى من ذلك؛ فقد ((كان يتكئ في حِجر عائشة وهي حائض، فيقرأ القرآن))؛ [صحيح البخاري].

تقول أم سلمة: ((بينما أنا مضطجعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة - كساء غليظ - إذا حِضْتُ، فانسللت، فأخذت ثياب حيضتي، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنفستِ؟ أي: أحضتِ؟
قلت: نعم.
فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة))؛ [صحيح البخاري].

بل بلغ من نبلِهِ أنه يتحرَّى موضع فم عائشة في الطعام والشراب.

تقول عائشة: ((كنت آخُذُ اللحم من العظم بأسناني وأنا حائض، فأعطيه للنبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي فيه وضعته، وأشرب الشراب فأناوله، فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه))؛ [صحيح مسلم].

ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بشرٌ؛ فإنه يضيق بما لا طاقة له به؛ فعندما اجتمع نساؤه صلى الله عليه وسلم في الغَيرة، وطلبن منه النفقة والكُسوة، طلبن منه أمرًا لا يقدر عليه في كل وقت، ولم يَزَلْنَ في طلبهن متفقات، في مرادهن متعنتات، شقَّ ذلك عليه صلى الله عليه وسلم حتى وصلت به الحال إلى أنه آلى منهن شهرًا، "فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فارغ البال لذلك العبث النسوي المسرف"؛ بتعبير بنت الشاطئ.

فقد ((سُئلت عائشة رضي الله عنها: هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي وهو قاعد؟
قالت: نعم، بعدما حطَّمه الناس))؛ [صحيح مسلم].

إن رجلًا وهب حياته للدعوة لا شك أنه سيقنع بالكفاف، لكن الإشكالية لم تكن فيه صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي كان يدعو: ((اللهم اجعل رزق آل محمد قوتًا))؛ أي: ما يسد الجوع؛ [صحيح ابن ماجه]، لكنَّ نساءه هؤلاء اللائي جاء معظمهن من بيت ترفٍ؛ كصفية بنت حيي، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وجويرية بنت الحارث، أو حتى من بيت لا يعاني متربة الفقر كعائشة؛ إن هؤلاء الزوجات لم يكنَّ على القدر نفسه من تحمل لَأْوَاء الحياة، وشَظَفِ العيش، فتظاهر نساؤه، وتولى كِبر هذه المظاهرة عائشة وحفصة، متحصنتين بما لهما من حظوة، فهما ابنتا حبِيبَيه صلى الله عليه وسلم؛ أبي بكر وعمر، وبقية نسائه تابعنهما في تلك التظاهرة الأسرية.

ذكر علماء التفسير عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا مع حفصة فتشاجرا بينهما، فقال لها: هل لكِ أن أجعل بيني وبينكِ رجلًا؟
قالت: نعم.
فأرسل إلى عمر، فلما أن دخل عليهما قال لها: تكلمي.
فقالت: يا رسول الله، تكلَّم ولا تقل إلا حقًّا.
فرفع عمر يده، فوجأ وجهها - دفعه أو ضربه - ثم رفع يده فوجأ وجهها.
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: كُفَّ.
فقال عمر: يا عدوة الله، النبي لا يقول إلا حقًّا، والذي بعثه بالحق لولا مجلسه ما رفعت يدي حتى تموتي.
فقام النبي صلى الله عليه وسلم، فصعِد إلى غرفة، فمكث فيها شهرًا لا يقرب شيئًا من نسائه، يتغدَّى ويتعشَّى فيها؛ فأنزل الله تعالى هذه الآيات.


﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 28، 29].


فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة، فقال: ((إني ذاكرٌ لكِ أمرًا، فلا عليكِ ألَّا تستعجلي حتى تستأمري أبويكِ، وقد علِم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الآية.
قالت عائشة رضي الله عنها: ففي أي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة)).

وعلى الرغم من أن له إحدى عشرة زوجة، وأنه جمع بين تسع منهن في وقت واحد، وعلى الرغم من مواقفهن التي قد تضطره كزوج للغضب، كما أسلفنا بعضًا منها - فإنه لم يضرب إحداهن ولو مرة واحدة، حتى في الأوقات الصعاب؛ وقت أن رُميت عائشة بالإفك، ووقت أن تظاهرن عليه، أقصى ما كان يفعله أن يغضب؛ فيعظ، ثم يهجر.

وكان يتعجب من صنيع هؤلاء الأزواج الضراب لزوجاتهم: ((أما يستحي أحدكم أن يضرب امرأته كما يضرب العبد؛ يضربها أول النهار ثم يضاجعها آخره؟ أما يستحي؟))؛ [صحيح البخاري].

إن رجلًا بهذا النبل والشهامة والتواضع لَهو إنسان عظيم متحضر، وماذا عساها أن تكون الحضارة أكبر من ذلك؟!


(*) أ.د. زكريا محمد هيبة: أستاذ بجامعة العريش مصر.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.38 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.75 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]