
08-05-2023, 11:40 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,020
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (541)
سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
صـ 83 إلى صـ 90
قوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون .
( يثقفوكم ) أي : يدركوكم ، وأصل الثقف الحذق في إدراك الشيء وفعله ، والرمح المثقف المقوم .
قال الراغب : ثم يتجوز به فيستعمل في الإدراك وإن لم تكن معه ثقافة ، قال تعالى : واقتلوهم حيث ثقفتموهم [ 2 \ 191 ] ، وقال : فإما تثقفنهم في الحرب [ 8 \ 57 ] ا هـ .
فهذه نصوص القرآن في أن الثقافة بمعنى الإدراك ، وقوله تعالى : إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء الآية ، نص على أن العداوة وبسط اليد واللسان بالسوء يكون بعد أن يثقفوهم مع أن العداء سابق بإخراجهم إياهم من ديارهم ، فيكون هذا من باب التهييج وشدة التحذير ، وأن الذي يكون بعد الشرط هو بسط الأيدي بالسوء ؛ لأنهم الآن لا يقدرون عليهم بسبب الهجرة ، ومن أدلة القرآن على وجود العداوة بالفعل لدى عموم من دون المؤمنين في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر [ 3 \ 118 ] فقوله : من دونكم يشمل المشركين ، والمنافقين ، وأهل الكتاب ، وقوله : ودوا ما عنتم ، أي : في الحاضر ، وقوله : قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر لم يتوقف على الشرط المذكور في إن يثقفوكم ، فهم أعداء ، وقد بدت منهم البغضاء قولا وفعلا .
وعلى هذا تكون الآية إعلان المقاطعة بين المؤمنين ، ومن دونهم وقوله : وودوا لو تكفرون ، قد بين تعالى سبب ذلك بأنه الحسد كما في قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] .
وقال تعالى : فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا إلى قوله : [ ص: 84 ] ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء [ 4 \ 88 - 89 ] .
قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم .
الأرحام تستعمل في القرآن لعموم القرابة ، كقوله تعالى : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض [ 8 \ 75 ] ، وقوله تعالى : يفصل بينكم أي : بتقطع الأنساب بينهم ، كما بينه تعالى بقوله : فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون [ 23 \ 101 ] .
وقد بين تعالى نتيجة هذا الفصل بينهم يوم القيامة في قوله تعالى : يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه [ 80 \ 34 - 37 ] ، وقوله في موضع آخر : وصاحبته وأخيه وفصيلته التي تؤويه [ 70 \ 12 ] ، فعمت جميع الأقارب وبينت سبب الفصل بينهم ، وما يترتب عليه .
وهذه الآية خطاب للمؤمنين في ذوي أرحامهم من المشركين ، كما في قصة سبب النزول في أمر حاطب بن أبي بلتعة في إرساله الخطاب لأهل مكة قبيل الفتح بأمر التجهز لهم .
ومفهوم الوصف في أول السياق عدوي وعدوكم ، وقد كفروا بما جاءكم من الحق ، يدل بمفهوم المخالفة أن أولي الأرحام من المؤمنين قد لا يفصل بينهم يوم القيامة .
ويدل لهذا المفهوم قوله تعالى : والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء [ 52 \ 21 ] ، وقوله تعالى في دعاء الملائكة من حملة العرش للمؤمنين : ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم [ 40 \ 8 ] .
وهذه الآية بيان واضح في أن روابط الدين أقوى وألزم من روابط النسب .
وهذا المعنى بالذات تقدم للشيخ - رحمة الله تعالى عليه - الكلام عليه عند قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم [ 17 \ 9 ] والآية الآتية بيان واضح لحقيقة هذا المعنى وشموله في جميع الأمم .
[ ص: 85 ] قوله تعالى : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك .
الأسوة كالقدوة ، وهي اتباع الغير على الحالة التي يكون عليها حسنة أو قبيحة ، ولذا قال تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، وهنا أيضا : قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه [ 60 \ 4 ] .
وقد بين تعالى هذا التأسي المطلوب ، وذلك بقوله : إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله الآية .
فالتأسي هنا في ثلاثة أمور :
أولا : التبرؤ منهم ومما يعبدون من دون الله .
ثانيا : الكفر بهم .
ثالثا : إبداء العداوة والبغضاء وإعلانها وإظهارها أبدا إلى الغاية المذكورة حتى يؤمنوا بالله وحده ، وهذا غاية في القطيعة بينهم وبين قومهم ، وزيادة عليها إبداء العداوة والبغضاء أبدا ، والسبب في ذلك هو الكفر ، فإذا آمنوا بالله وحده انتفى كل ذلك بينهم .
وهنا سؤال ، هو موضع الأسوة إبراهيم والذين معه بدليل العطف بينهما .
وقوله تعالى : في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم فقائل القول لقومهم إبراهيم والذين مع إبراهيم ، وهذا محل التأسي بهم فيما قالوه لقومهم .
وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك ، فهذا القول من إبراهيم ليس موضع التأسي ، وموضع التأسي المطلوب في إبراهيم - عليه السلام - هو ما قاله مع قومه المتقدم جملة ، وما فصله تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين [ 43 \ 26 - 27 ] وهذا التبرؤ جعله باقيا في عقبه ، كما قال تعالى : وجعلها كلمة باقية في عقبه [ 43 \ 28 ] .
وقوله تعالى : إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك الآية ، لم يبين هنا سبب هذا [ ص: 86 ] الاستثناء وهل هو خاص بإبراهيم لأبيه ، أم لماذا ؟
وقد بينه تعالى في موضع آخر في قوله تعالى : وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه إن إبراهيم لأواه حليم [ 9 \ 114 ] ، تلك الموعدة التي كانت له عليه في بادئ دعوته حينما قال له أبوه : أراغب أنت عن آلهتي ياإبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا [ 19 \ 46 - 47 ] ، فكان قد وعده ووفى بعهده ، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ، فكان محل التأسي في إبراهيم في هذا التبرؤ من أبيه ، لما تبين له أنه عدو لله .
وقد جاء ما يدل على أنها قضية عامة وليست خاصة في إبراهيم - عليه السلام - كما في قوله تعالى : ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم [ 9 \ 113 ] ، وفي هذه الآية وما قبلها أقوى دليل على أن دين الإسلام ليست فيه تبعية أحد لأحد ، بل كل نفس بما كسبت رهينة ، ولا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى .
ومن عجب أن يأتي نظير موقف إبراهيم من أبيه مواقف مماثلة في أمم متعددة ، منها موقف نوح - عليه السلام - من ابنه لما قال : رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين [ 11 \ 45 ] ، فلما تبين له أمره أيضا من قوله تعالى : يانوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح [ 11 \ 46 ] قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم الآية [ 11 \ 47 ] ، فكان موقف نوح من ولده كموقف إبراهيم من أبيه .
ومنها : موقف نوح ولوط من أزواجهما في قوله تعالى : ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله شيئا الآية [ 66 \ 10 ] .
ومنها : موقف زوجة فرعون من فرعون في قوله تعالى : وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون إذ قالت رب ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين [ 66 \ 11 ] ، فتبرأت الزوجة من زوجها ، وهذا التأسي قد بين تمام البيان معنى قوله تعالى : لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم [ 60 \ 3 ] أي : ولا آباؤكم ، ولا أحد من أقربائكم ، يوم القيامة يفصل بينكم ، وقول إبراهيم لأبيه : وما أملك لك من الله من شيء [ ص: 87 ] بينه ما قدمنا من أن الإسلام ليس فيه تبعية ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ، وكل نفس بما كسبت رهينة .
وقوله : يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا [ 6 \ 158 ] ، وقوله : يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله [ 82 \ 19 ] .
وقد سمعت من الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - محاضرة في كنو بنيجيريا في مجتمع فيه من يتعلق ببعض الأشخاص في اعتقاداتهم ، فعرض هذا الموضوع ، وبين عدم استطاعة أحد نفع أحد فكان لها وقع عظيم الأثر في النفوس ، ولعل الله ييسر طبعها مع طبع جميع محاضراته في تلك الرحلة الميمونة .
مسألة
جعل بعض المفسرين هذه الآية دليلا على أن شرع من قبلنا شرع لنا بدليل التأسي بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه ، وتحقيق هذه المسألة في كتب الأصول ، وهذه الآية وإن كانت دالة في الجملة على أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إلا أنها ليست نصا في محل النزاع .
وقد قسم الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - حكم المسألة إلى ثلاثة أقسام :
قسم هو شرع لنا قطعا ، وهو ما جاء في شرعنا أنه شرع لنا كآية الرجم ، وكهذه الآية في العداوة والموالاة ، وإما ليس بشرع لنا قطعا كتحريم العمل يوم السبت ، وتحريم بعض الشحوم ، إلخ .
وقسم ثالث : وهو محل النزاع ، وهو ما ذكر لنا في القرآن ، ولم نؤمر به ولم ننه عنه .
فالجمهور على أنه شرع لنا لذكره لنا ، لأنه لو لم يكن شرعا لنا لما كان لذكره لنا فائدة ، واستدلوا بقوله تعالى : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه [ 42 \ 13 ] ، وبهذه الآية أيضا ، والشافعي يعارض في هذا القسم ويقول : الآية في العقائد لا في الفروع ، ويستدل بقوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا [ 5 \ 48 ] ، وعلى هذا التقسيم [ ص: 88 ] المذكور ، فالآية ليست نصا في محل النزاع ؛ لأننا أمرنا بالتأسي به في معين جاء في شرعنا الأمر به في أول السورة .
تنبيه
يظهر لي في هذه المسألة والله تعالى أعلم أن الخلاف بين الشافعي ، والجمهور يكاد يكون شكليا ، وكل محجوج بما حج به الآخر ، وذلك كالآتي :
أولا : قوله تعالى : لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ، يدل على وجود شرعة وعلى وجود منهاج ، فإذا جئنا لاستدلال الجمهور : شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا ، لم نجد فيه ذكر المنهاج ، ونجد واقع التشريع ، أن منهاج ما شرع لنا يغاير منهاج ما شرع لمن قبلنا كما في مشروعية الصيام قال تعالى : كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم [ 2 \ 183 ] ، وهذا يتفق في أصل الشرعة ، ولكن جاء ما يبين الاختلاف في المنهاج في قوله تعالى : أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم [ 2 \ 187 ] ومعنى ذلك أنه كان محرما ، وهو ضمن منهاج من قبلنا وشرعتهم فاتفقنا معهم في الشرعة ، واختلف منهجنا عن منهجهم بإحلال ما كان منه حراما ، وهذا ملزم للجمهور ، وهكذا بقية أركان الإسلام في الصلاة فهي مشروعة للجميع ، كما في قوله تعالى : أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود [ 2 \ 125 ] ، وقوله : ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم [ 14 \ 37 ] وقوله عن عيسى : وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا [ 19 \ 31 ] ، وغير ذلك .
وفي الحج : ولله على الناس حج البيت [ 3 \ 97 ] ، وقوله : وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا الآية [ 22 \ 27 ] ، فجميع الأركان ، وهي فروع لا عقائد مشروعة في جميع الأديان على جميع الأمم ، فاشتركنا معهم في المشروعية ، ولكن هل كانت كلها كمنهجها عندنا في أوقاتها وأعدادها وكيفياتها ، لقد وجدنا المغايرة في الصوم واضحة ، وهكذا في غيرها ، فالشرعة عامة للجميع والمنهاج خاص كما يقول الشافعي ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد .
[ ص: 89 ] إعادة هذه الآية تأكيد على معنى الآية الأولى .
وقوله : لمن كان يرجو الله واليوم الآخر يفسره ما تقدم من قوله : إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي [ 60 \ 1 ] ؛ لأنها تساويها في الماصدق ، وهنا جاء بهذا اللفظ ليدل على العموم ، وتكون قضية عامة فيما بعد لكل من يرجو الله واليوم الآخر ، أن يتأسى بإبراهيم - عليه السلام - والذين معه في موقفهم المتقدم .
وقوله تعالى : ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد ، التولي هنا الإعراض عن أوامر الله عموما .
وهنا يحتمل تولي الكفار وموالاتهم ، فإن الله غني عنه حميد .
قال ابن عباس : كمل في غناه ، ومثله قوله تعالى : فكفروا وتولوا واستغنى الله [ 64 \ 6 ] .
وقد جاء بيان استغناء الله عن طاعة الطائعين عموما وخصوصا فجاء في خصوص الحج : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين [ 3 \ 97 ] .
وجاء في العموم قوله تعالى : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد [ 14 \ 8 ] ؛ لأن أعمال العباد لأنفسهم ، كما قال تعالى : ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين [ 29 \ 6 ] .
وكما في الحديث القدسي : " لو أن أولكم وآخركم ، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا " .
وقد بين تعالى غناه المطلق بقوله : لله ما في السماوات والأرض إن الله هو الغني الحميد [ 31 \ 26 ] .
قوله تعالى : عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم .
لم يبين هنا هل جعل المودة بالفعل بينهم ، وبين من عادوهم وأمروا بمقاطعتهم وعدم موالاتهم من ذوي أرحامهم أم لا ؟ ولكن عسى من الله للتأكيد ، والتذييل بقوله تعالى : [ ص: 90 ] والله قدير يشعر بأنه فاعل ذلك لهم ، وقد جاء ما يدل على أنه فعله فعلا في سورة " النصر " حين دخل الناس في دين الله أفواجا ، وقد فتح الله عليهم مكة وكانوا طلقاء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكذلك موقف أبي سفيان وغيره ، وعام الوفود إلى المدينة بعد الفتح ، وفي التذييل بأن الله قدير ، يشعر بأن تأليف القلوب ومودتها إنما هو من قدرة الله تعالى وحده ، كما بينه قوله تعالى : لو أنفقت ما في الأرض جميعا الآية [ 8 \ 63 ] .
ولأن المودة المتوقعة بسبب هداية الكفار ، والهداية منحة من الله : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون .
اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة من الآية في أول السورة ، ولكن في هاتين الآيتين صنفان من الأعداء وقسمان من المعاملة :
الصنف الأول : عدو لم يقاتلوا المسلمين في دينهم ولم يخرجوهم من ديارهم ، فهؤلاء تعالى في حقهم : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم .
والصنف الثاني : قاتلوا المسلمين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وظاهروا على إخراجهم ، وهؤلاء يقول تعالى فيهم : إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم .
إذا فهما قسمان مختلفان وحكمان متغايران ، وإن كان القسمان لم يخرجا عن عموم عدوي وعدوكم المتقدم في أول السورة ، وقد اعتبر بعض المفسرين الآية الأولى رخصة بعد النهي المتقدم ، ثم إنها نسخت بآية السيف أو غيرها على ما سيأتي .
واعتبر الآية الثانية تأكيدا للنهي الأول ، وناقش بعض المفسرين دعوى النسخ في الأولى ، واختلفوا فيمن نزلت ومن المقصود منها ، والواقع أن الآيتين تقسيم لعموم العدو المتقدم في قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء [ 60 \ 1 ] ، مع بيان كل قسم وحكمه ، كما تدل له قرائن في الآية الأولى ، وقرائن في هاتين الآيتين على ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|