عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 08-05-2023, 10:14 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (537)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 51 إلى صـ 58


أما في الآجل وفي الآخرة ، فإنها تصحب صاحبها ابتداء إلى أبواب الجنة كما في قوله تعالى : وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبتم فادخلوها خالدين [ 39 \ 73 ] ، فإذا ما دخلوها آخت بينهم وجددت روابطهم فيما بينهم وآنستهم من كل خوف ، كما في قوله تعالى : الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ياعباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم تحبرون [ ص: 51 ] إلى قوله : لكم فيها فاكهة كثيرة منها تأكلون [ 43 \ 67 - 73 ] إلى أن تنتهي بهم إلى أعلى عليين ، وتحلهم مقعد صدق ، كما في قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر [ 54 \ 54 - 55 ] .

فتبين بهذا كله منزلة التقوى من التشريع الإسلامي وفي كل شريعة سماوية ، وأنها هنا في معرض الحث عليها وتكرارها ، وقد جعلها الشاعر السعادة كل السعادة كما في قوله ، وهو لجرير :


ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد فتقوى الله خير الزاد ذخرا
وعند الله للأتقى مزيد


والتقوى دائما هي الدافع على كل خير ، الرادع عن كل شر ، روى ابن كثير في تفسيره عن الإمام أحمد في مجيء قوم من مضر ، مجتابي الثمار والعباءة ، حفاة عراة متقلدي السيوف ، فيتمعر وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدخل ثم خرج ، فأمر بلالا ينادي للصلاة ، فصلى ثم خطب الناس وقرأ قوله تعالى : ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة [ 4 \ 1 ] إلى آخر الآية ، وقرأ الآية التي في سورة " الحشر " : ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد الآية [ 59 \ 18 ] تصدق رجل من ديناره من درهمه من ثوبه من صاع بره من صاع تمره حتى قال ولو بشق تمرة قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها بل قد عجزت قال ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه كأنه مذهبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء " الحديث . فكانت التقوى دافعا على سن سنة حسنة تهلل لها وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كما أنها تحول دون الشر ، من ذلك قوله تعالى : وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا [ 2 \ 282 ] ، وقوله : فليؤد الذي اؤتمن أمانته وليتق الله ربه [ 2 \ 283 ] ، فإن التقوى مانعة من بخس الحق ومن ضياع الأمانة ، وكقوله عن مريم في طهرها وعفتها لما أتاها جبريل وتمثل لها بشرا سويا : قالت إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا [ 19 \ 18 ] .

[ ص: 52 ] وكما في حديث النفر الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى الغار ، ومنهم الرجل مع ابنة عمه لما قالت له : اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه ، فقام عنها وترك لها المال .

وهكذا في تصرفات العبد كما في قوله تعالى : ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب [ 22 \ 32 ] .

والخطاب في قوله تعالى : ولتنظر نفس [ 59 \ 18 ] ، لكل نفس كما في قوله تعالى : ثم توفى كل نفس ما كسبت [ 2 \ 281 ] وقوله : ووفيت كل نفس ما كسبت [ 3 \ 25 ] .

فالنداء أولا بالتقوى لخصوص المؤمنين ، والأمر بالنظر لعموم كل نفس ؛ لأن المنتفع بالتقوى خصوص المؤمنين كما أوضحه الشيخ - رحمة الله عليه - في أول سورة البقرة ، والنظر مطلوب من كل نفس فالخصوص للإشفاق ، والعموم للتحذير .

ويدل للأول قوله تعالى : وكان بالمؤمنين رحيما [ 33 \ 43 ] .

ويدل للثاني قوله : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد [ 3 ] ، وما في قوله تعالى : ما قدمت [ 59 \ 18 ] عامة في الخير والشر ، وفي القليل والكثير .

ويدل للأول قوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .

ويدل للثاني قوله تعالى : فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره [ 99 \ 7 - 8 ] ، والحديث " اتقوا النار ولو بشق تمرة " .

وغدا تطلق على المستقبل المقابل للماضي ، كما قال الشاعر :


وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم


وعليه أكثر استعمالاتها في القرآن ، كقوله تعالى عن إخوة يوسف : أرسله معنا غدا يرتع ويلعب [ 12 \ 12 ] ، وقوله : ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله [ 18 \ 23 - 24 ] .

[ ص: 53 ] وتطلق على يوم القيامة كما هنا في هذه الآية لدلالة القرآن على ذلك ، من ذلك قوله تعالى في نفس المعنى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .

والقرائن في الآية منها : اكتنافها بالحث على تقوى الله قبله وبعده .

ومنها : التذييل بالتحذير في قوله : إن الله خبير بما تعملون [ 59 \ 18 ] أي : بالمقاصد في الأعمال وبالظواهر والبواطن ، ولأن يوم القيامة هو موضع النسيان ، فاحتاج التنبيه عليه .

ويكون التعبير عن يوم القيامة بغد لقرب مجيئه وتحقق وقوعه كقوله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر [ 54 \ 1 ] ، وقوله : وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب إن الله على كل شيء قدير [ 16 \ 77 ] .

ومن ناحية أخرى ، فإن الغد لكل إنسان بمعنى يوم القيامة يتحقق بيوم موته ، لأنه يعاين ما قد قدم يوم موته ، وقد نكر لفظ نفس وغد هنا فقيل في الأول لقلة من الناظرين ، وفي الثاني لعظم أمره وشدة هوله .

وهنا قد تكرر الأمر بتقوى الله كما أسلفنا مرتين ، فقيل للتأكيد ، قاله ابن كثير ، وقيل للتأسيس ، قاله الزمخشري وغيره .

فعلى أنه للتأكيد ظاهر وعلى التأسيس يكون الأول لفعل المأمور والثاني لترك المحظور ، مستدلين بمجيء موجب الفعل أولا : ولتنظر نفس ما قدمت ، ومجيء موجب التحذير ثانيا : إن الله خبير بما تعملون .

وهذا وإن كان له وجه ، ويشهد للتأكيد قوله تعالى : اتقوا الله حق تقاته [ 3 \ 102 ] ، وإن كانت نسخت بقوله : فاتقوا الله ما استطعتم [ 64 \ 16 ] ، فيدل لمفهومه قوله : وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا [ 9 \ 102 ] أي : بترك بعض المأمور ، وفعل بعض المحظور .

وعليه فلا تتحقق التقوى إلا بمراعاة الجانبين ، ولكن مادة التقوى وهي اتخاذ الوقاية مما يوجب عذاب الله تشمل شرعا الأمرين معا لقوله تعالى في عموم اتخاذ الوقاية : قوا أنفسكم وأهليكم نارا [ ص: 54 ] [ 66 \ 6 ] .

فكان أحد الأمرين بالتقوى يكفي لذلك ويشمله ، ويكون الأمر بالتقوى الثاني لمعنى جديد ، وفي الآية ما يرشد إليه ، وهو قوله تعالى : ما قدمت ، لأن " ما " عامة كما قدمنا وصيغة " قدمت " على الماضي يكون الأمر بتقوى الله أولا بالنسبة لما مضى وسبق من عمل تقدم بالفعل ، ويكون النظر بمعنى المحاسبة والتأمل على معنى الحديث : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " فقد ذكره ابن كثير .

فإذا ما نظر في الماضي وحاسب نفسه ، وعلم ما كان من تقصير أو وقوع في محظور ، جاءه الأمر الثاني بتقوى الله لما يستقبل من عمل جديد ومراقبة الله تعالى عليه : والله بما تعملون خبير [ 2 \ 234 ] ، فلا يكون هناك تكرار ، ولا يكون توزيع ، بل بحسب مدلول عموم " ما " وصيغة الماضي " قدمت " والنظر للمحاسبة .
تنبيه

مجيء " قدمت " بصيغة الماضي حث على الإسراع في العمل ، وعدم التأخير ؛ لأنه لم يملك إلا ما قدم في الماضي ، والمستقبل ليس بيده ، ولا يدري ما يكون فيه : وما تدري نفس ماذا تكسب غدا [ 31 \ 34 ] ، وكما في قوله صلى الله عليه وسلم : " حجوا قبل ألا تحجوا " ، وقوله تعالى : وسارعوا إلى مغفرة من ربكم [ 3 \ 133 ] ، وقوله تعالى : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون [ 59 \ 19 ] .

بعد الحث على تقوى الله ، وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذا النسيان ، وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا .

وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة " التوبة " : المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إن المنافقين هم الفاسقون [ 9 \ 67 ] ، وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة " الحشر " وقوله تعالى : فنسيهم أي : أنساهم أنفسهم ؛ لأن الله تعالى لا ينسى : لا يضل ربي ولا ينسى [ 2 \ 52 ] ، وما كان ربك نسيا [ ص: 55 ] [ 19 \ 64 ] .

وقد جاء أيضا وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة ، ففي اليهود يقول تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 13 ] .

وفي النصارى يقول تعالى : ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به [ 5 \ 14 ] .

وفي المشركين يقول تعالى : الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] ، فيكون التحذير منصبا أصالة على المنافقين وشاملا معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعا في أصل النسيان .

أما النسيان هنا ، فهو بمعنى الترك ، وقد نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - عند الكلام على قوله تعالى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي [ 20 \ 126 ] .

فذكر وجهين ، وقال : العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمدا ، ومنه قوله تعالى : قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى [ 20 \ 126 ] .

فالمراد من هذه الآية الترك قصدا .

وكقوله : فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون [ 7 \ 51 ] .

وقوله : ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم الآية [ 59 \ 19 ] ، انتهى .

أما النسيان الذي هو ضد الذكر ، وهو الترك عن غير قصد ، فليس داخلا هنا ؛ لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه ، كما في قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا الآية [ 2 \ 286 ] .

وفي الحديث أن الله تعالى قال : " قد فعلت ، قد فعلت " أي : عندما تلاها صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 56 ] وجاء في السنة : " إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه " .

وقد بين الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم ، هل كان عن قصد أو عن غير قصد ، وإذا كان عن غير قصد فكيف يؤاخذ ؟ وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب - رحمة الله تعالى عليه - فليرجع إليه .

وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان ، وتبين معنى النسيان ، فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟ وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان :

قال ابن كثير رحمه الله : لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح ؛ فإن الجزاء من جنس العمل .

وقال القرطبي : نسوا الله أي : تركوا أمره ، فأنساهم أنفسهم أن يعملوا لها خيرا .

وقال أبو حيان : الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله ، وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ، وهذا من المجازات على الذنب بالذنب . . . إلخ .

وقال ابن جرير : تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ، وهذا من باب الجزاء من جنس العمل .

أما الزمخشري ، والفخر الرازي فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثا كلاميا حيث قالا في معنى : نسوا الله ، كما قال الجمهور ، أما في معنى : فأنساهم أنفسهم ، فذكرا وجهين : الأول : كالجمهور ، والثاني : بمعنى أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى : لا يرتد إليهم طرفهم وأفئدتهم هواء [ 14 \ 43 ] ، وقوله : وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد [ 22 \ 2 ] ا هـ .

وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما ؛ لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة ، وليس خاصا بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها : وترى الناس سكارى [ ص: 57 ] فهو عام في جميع الناس .

وقوله : يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت [ 22 \ 2 ] ، والذهول أخو النسيان ، وهو هنا عام في كل مرضعة : وتضع كل ذات حمل حملها [ 22 \ 2 ] وهو أيضا عام ، وذلك من شدة الهول يوم القيامة ، ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه ، هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله ، وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى .

ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى : وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره [ 18 \ 63 ] ، وكما في قوله تعالى : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] وقوله : عن صاحب يوسف : فأنساه الشيطان ذكر ربه [ 12 \ 42 ] .

ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني ، وأنها كلها من الله : قل كل من عند الله [ 4 \ 78 ] ، قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا [ 9 \ 51 ] ، فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى : فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه [ 2 \ 102 ] ، ثم قال : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [ 2 \ 102 ] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام : وإذا مرضت فهو يشفين [ 26 \ 80 ] تأدبا في الخطاب مع الله تعالى ، ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم ، فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم ، فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] .

تنبيهان

الأول : جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى : وقيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] .

وقوله : فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] .

وقوله : نسوا الله فنسيهم [ 9 \ 67 ] ، وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع [ ص: 58 ] الإشكال مع قوله تعالى : وما كان ربك نسيا [ 19 \ 64 ] وقوله : لا يضل ربي ولا ينسى [ 20 \ 52 ] .

وقد أجاب الشيخ - رحمة الله عليه - عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب ، بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم ، والمنفي عنه تعالى هو الذي بمعنى السهو ؛ لأنه محال على الله تعالى .

التنبيه الثاني : مما نص عليه الشيخ - رحمة الله تعالى عليه - في مقدمة الأضواء أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد ، وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى : اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا [ 45 \ 34 ] ، وهذا القول يكون يوم القيامة ، وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال ، ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة ، وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة ، وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد ، أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة ، فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل ، فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك ، وكان قوله تعالى : فأنساهم أنفسهم [ 59 \ 19 ] مفسرا ومبينا لمعنى : اليوم ننساكم [ 45 \ 34 ] ولقوله إنا نسيناكم [ 32 \ 14 ] ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون . دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين : أصحاب النار وأصحاب الجنة ، وهذا أمر معلوم بداهة ، ولكن جاء التنبيه عليه لشدة غفلة الناس عنه ، ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية ، كمن يسيء إلى أبيه فتقول له : إنه أبوك ، قاله بعض المفسرين .

وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر ، أي : يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة : لينالوا الفوز .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 35.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.78%)]