
08-05-2023, 10:07 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,551
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (535)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 35 إلى صـ 42
لقد جاء صلى الله عليه وسلم إلى المدينة والأنصار يؤثرون المهاجرين على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وقد أعانهم الله على شح نفوسهم ، فمجتمعهم مجتمع بذل وإعطاء وتضحية [ ص: 35 ] وإيثار ، ومع هذا فقد كان منه - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيه الضيف فلا يجد له قرى في بيته ، فيقول لأصحابه : " من يضيف هذا ، الليلة وله الجنة ؟ " فيأخذه بعض أصحابه ، ويأتيه فقراء المهاجرين يطلبونه ما يحملهم عليه في الجهاد ، فيعتذر إليهم أنه لا يجد ما يحملهم عليه ، فيتولون وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما يحملهم عليه ، ويأتيه القدح من اللبن ، فيدعو : " يا أهل الصفة " ليشاركوه إياه لقلة ما عندهم ، وأبو هريرة يخرج من المسجد فيصرع على بابه من الجوع ، بينما العديد من أصحابه ذوو يسار ، منهم من يجهز الجيش من ماله ، ومنهم من يتصدق بالقافلة كاملة وما فيها ، ومنهم من يتصدق بخيار بساتين المدينة ، ومنهم ، فلم يأخذ قط ولا درهما واحدا ممن تصدق بقافلة كاملة وما تحمل لم يأخذ منه درهما بدون رضاه ، ليشارك معه فيه واحدا من أهل الصفة ، ولا ممن تصدق ببستانه صاع تمر يعطيه لأبي هريرة ، يسد مسغبته ، ولا بعيرا واحدا ممن جهز جيشا من ماله ليحمل عليه متطوعا في سبيل الله .
إنها أموال محترمة ، وأملاك مستقرة خاصة بأصحابها ، فهناك غنيمة وفيء أخذ بقوة الأمة ومددها للجيش ، جعل في مصارف عامة للأمة وللجيش ، وهنا أموال خاصة لم تمس ولم تلمس ، إلا برضى نفس وطيب خاطر ، ولذا كانوا يجودون ولا يبخلون ، ويعطون ولا يشحون ، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ، وكان مجتمعا متكافلا مؤتلفا متعاطفا وسيأتي زيادة إيضاح لهذا المجتمع عند الكلام على مجتمع المدينة على قوله تعالى : للفقراء المهاجرين [ 59 \ 8 ] ، وما بعدها من الآيات إن شاء الله تعالى .
وللشيخ - رحمه الله تعالى - كلام مقنع على هذه المسألة في سورة الزخرف على قوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا الآية [ 43 \ 32 ] ، نسوق نصه لأهميته :
قال رحمه الله : مسألة : دلت هذه الآية الكريمة المذكورة هنا كقوله تعالى : نحن قسمنا بينهم معيشتهم الآية ، وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض في الرزق الآية [ 16 \ 71 ] ، ونحو ذلك من الآيات على أن تفاوت الناس في الأرزاق والحظوظ سنة من سنن الله السماوية الكونية القدرية ، لا يستطيع أحد من أهل الأرض البتة تبديلها ، ولا تحويلها بوجه من الوجوه ، فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا [ 35 \ 43 ] وبذلك تحقق أن ما يتذرع به الآن الملاحدة المنكرون لوجود الله ولجميع [ ص: 36 ] النبوات والرسائل السماوية إلى ابتزاز ثروات الناس ونزع ملكهم الخاص عن أملاكهم ، بدعوى المساواة بين الناس في معايشهم ، أمر باطل لا يمكن بحال من الأحوال ، مع أنهم لا يقصدون ذلك الذي يزعمون ، وإنما يقصدون استئثارهم بأملاك جميع الناس ؛ لينعموا بها ويتصرفوا فيها كيف شاءوا تحت ستار كثيف من أنواع الكذب والغرور والخداع ، كما يتحققه كل عاقل مطلع على سيرتهم وأحوالهم مع المجتمع في بلادهم .
فالطغمة القليلة الحاكمة ومن ينضم إليها هم المتمتعون بجميع خيرات البلاد وغيرهم من عامة الشعب محرومون من كل خير ، مظلومون في كل شيء ، حتى ما كسبوه بأيديهم ، يعلفون ببطاقة كما تعلف البغال والحمير .
وقد علم الله - جل وعلا - في سابق علمه أنه يأتي ناس يغتصبون أموال الناس بدعوى أن هذا فقير ، وهذا غني ، وقد نهى جل وعلا عن اتباع الهوى بتلك الدعوى ، وأوعد من لم ينته عن ذلك بقوله تعالى : إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا [ 4 \ 135 ] ، وفي قوله : فإن الله كان بما تعملون خبيرا وعيد شديد لمن فعل ذلك . انتهى حرفيا .
والحق أن الأرزاق قسمة الخلاق ، فهو أرأف بالعباد من أنفسهم ، وليس في خزائنه من نقص ولكنها الحكمة لمصلحة عباده ، وفي الحديث القدسي : " إن من عبادي لمن يصلح له الفقر ، ولو أغنيته لفسد حاله ، وإن من عبادي لمن يصلح له الغنى ولو أفقرته لفسد حاله " ، فهو سبحانه يعطي بقدر ، ولا يمسك عن قتر .
ويكفي في هذا المقام سياق الآية الكريمة التي تكلم الشيخ - رحمة الله تعالى - عليه في أسلوبها في قوله تعالى : نحن قسمنا [ 43 \ 32 ] ، وهذا الضمير معلوم أنه للتعظيم والتفخيم ، ومثله الضمير في " قسمنا " ، فلا مجال لتدخل المخلوق ، ولا مكان لغير الله تعالى في ذلك . والقسمة إذا كانت من الله تعالى فلا تقوى قوة في الأرض على إبطالها ، ثم إن واقع الحياة يؤيد ذلك بل ويتوقف عليه ، كما قال تعالى ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا [ 43 \ 32 ] .
وهؤلاء المعتدون على أموال الناس يعترفون بذلك ، ويقرون نظام الطبقات عمالا وغير عمال ، إلخ ، فلا دليل في آية سورة " الحشر " هنا : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [ ص: 37 ] ولا حق لهم فيما فعلوا في أموال الناس بهذا المبدأ الباطل ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .
قال الشيخ - رحمه الله تعالى - في المقدمة : إن السنة كلها مندرجة تحت هذه الآية الكريمة ، أي : أنها ملزمة للمسلمين العمل بالسنة النبوية ، فيكون الأخذ بالسنة أخذا بكتاب الله ، ومصداق ذلك قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
وقد قال السيوطي : الوحي وحيان :
وحي أمرنا بكتابته ، وتعبدنا بتلاوته ، وهو القرآن الكريم .
ووحي لم نؤمر بكتابته ، ولم نتعبد بتلاوته وهو السنة .
وقد عمل بذلك سلف الأمة وخلفها ، كما جاء عن سعيد بن المسيب أنه قال في مجلسه بالمسجد النبوي : لعن الله في كتابه الواصلة والمستوصلة ، والواشمة والمستوشمة ، فقالت امرأة قائمة عنده ، وفي كتاب الله ؟ قال : نعم ، قالت : لقد قرأته من دفته إلى دفته ، فلم أجد هذا الذي قلت ، فقال لها : لو كنت قرأتيه لوجدتيه ، أو لم تقرئي قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة ، ومن لعنها رسول الله فقد لعنها الله ، فقالت له : لعل بعض أهلك يفعله ؟ فقال لها : ادخلي وانظري فدخلت بيته ، ثم خرجت ولم تقل شيئا ، فقال لها : ما رأيت ؟ قالت : خيرا ، وانصرفت .
وجاء الشافعي وقام في أهل مكة ، فقال : سلوني يا أهل مكة عما شئتم أجبكم عنه من كتاب الله ، فسأله رجل عن المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه في كتاب الله ؟ فقال : يقول الله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ، وقال صلى الله عليه وسلم : " عليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين " الحديث ، وحدثني فلان عن فلان ، وساق بسنده إلى عمر بن الخطاب ، سئل : المحرم يقتل الزنبور ماذا عليه ؟ فقال : لا شيء عليه .
فقد اعتبر سعيد بن المسيب السنة من كتاب الله ، والشافعي اعتبر سنة الخلفاء الراشدين من سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ، واعتبر كل منهما جوابه من كتاب الله بناء على هذه الآية الكريمة .
[ ص: 38 ] وهذا ما عليه الأصوليون يخصصون بها عموم الكتاب ، ويقيدون مطلقه .
فمن الأول : قوله صلى الله عليه وسلم : " أحلت لنا ميتتان ودمان ، أما الميتتان : فالجراد والحوت ، وأما الدمان : فالكبد والطحال " فخص بهذا الحديث عموم قوله تعالى : حرمت عليكم الميتة والدم [ 5 \ 3 ] ، وكذلك في النكاح : " لا تنكح المرأة على عمتها ، ولا المرأة على خالتها " ، وخص بها عموم : وأحل لكم ما وراء ذلكم [ 4 \ 24 ] ، ونحوه كثير .
ومن الثاني : قطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع تقييدا لمطلق : فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكذلك مسح الكفين في التيمم تقييدا أو بيانا لقوله تعالى : فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه [ 5 \ 6 ] ، ونحو ذلك كثير ، وكذلك بيان المجمل كبيان مجمل قوله تعالى : وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة [ 2 \ 43 ] ، فلم يبين عدد الركعات لكل وقت ، ولا كيفية الأداء فصلى - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وهم ينظرون ، ثم قال لهم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " وحج وقال لهم : " خذوا عني مناسككم " .
وقد أجمعوا على أن السنة أقوال ، وأفعال ، وتقرير ، وقد ألزم العمل بالأفعال قوله تعالى : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة [ 33 \ 21 ] ، والتأسي يشمل القول والفعل ، ولكنه في الفعل أقوى ، والتقرير مندرج في الفعل ؛ لأنه ترك الإنكار على أمر ما ، والترك فعل عند الأصوليين ، كما قال صاحب مراقي السعود :
والترك فعل في صحيح المذهب
تنبيه
تنقسم أفعاله - صلى الله عليه وسلم - إلى عدة أقسام :
أولا : ما كان يفعله بمقتضى الجبلة ، وهو متطلبات الحياة من أكل ، وشرب ، ولبس ، ونوم ، فهذا كله يفعله استجابة لمتطلبات الحياة ، وكان يفعله قبل البعثة ويفعله كل إنسان ، فهو على الإباحة الأصلية ، وليس فيه تشريع جديد ، ولكن صورة الفعل ، وكيفيته ككون الأكل والشراب باليمين إلخ ، وكونه من أمام الآكل ، فهذا هو موضع التأسي به - صلى الله عليه وسلم - وكذلك نوع المأكول أو تركه ما لم يكن لمانع كعدم أكله - صلى الله عليه وسلم - للضب والبقول المطبوخة ، وقد بين السبب في ذلك ، فالأول : لأنه ليس في أرض قومه فكان يعافه ، والثاني : لأنه يناجي من لا نناجي ، وقد قال صاحب المراقي :
وفعله المركوز في الجبلة كالأكل والشرب فليس مله [ ص: 39 ] من غير لمح الوصف . . .
ثانيا : ما كان مترددا بين الجبلة والتشريع كوقوفه - صلى الله عليه وسلم - بعرفة راكبا على ناقته ، ونزوله بالمحصب منصرفه من منى ، فالوقوف الذي هو ركن الحج يتم بالتواجد في الموقف بعرفة على أية حالة ، فهل كان وقوفه - صلى الله عليه وسلم - راكبا من تمام نسكه ، أم أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله دون قصد إلى النسك ؟ خلاف بين الأصوليين ، ولا يبعد من يقول : قد يكون فعله - صلى الله عليه وسلم - هذا ؛ ليكون أبرز لشخصه في مثل هذا الجمع ، تسهيلا على من أراده لسؤال أو رؤية أو حاجة ، فيكون تشريعا لمن يكون في منزلته في المسئولية .
ثالثا : ما ثبتت خصوصيته به مثل جواز جمعه بين أكثر من أربع نسوة بالنكاح لقوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك [ 33 \ 50 ] ، وكن أكثر من أربع ، ونكاح الواهبة نفسها لقوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين [ 33 \ 50 ] فهذا لا شركة لأحد معه فيه .
رابعا : ما كان بيانا لنص قرآني ، كقطعه - صلى الله عليه وسلم - يد السارق من الكوع بيانا لقوله تعالى والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [ 5 \ 38 ] ، وكأعمال الحج والصلاة ، فهما بيان لقوله تعالى وأقيموا الصلاة [ 2 \ 43 ] ، وقوله : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا [ 3 \ 97 ] ، ولذا قال صلى الله عليه وسلم : " صلوا كما رأيتموني أصلي " ، وقال : " خذوا عني مناسككم " ، فهذا القسم حكمه للأمة ، حكم المبين بالفتح ، ففي الوجوب واجب ، وفي غيره بحسبه .
خامسا : ما فعله - صلى الله عليه وسلم - لا لجبلة ولا لبيان ، ولم تثبت خصوصيته له ، فهذا على قسمين : أحدهما : أن يعلم حكمه بالنسبة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - من وجوب ، أو ندب ، أو إباحة ، فيكون حكمه للأمة كذلك كصلاته - صلى الله عليه وسلم - في الكعبة ، وقد علمنا أنها في حقه - صلى الله عليه وسلم - جائزة ، فهي للأمة على الجواز . ثانيهما : ألا يعلم حكمه بالنسبة إليه - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا القسم أربعة أقوال :
أولها : الوجوب عملا بالأحوط ، وهو قول أبي حنيفة ، وبعض الشافعية ، ورواية عن أحمد .
ثانيها : الندب لرجحان الفعل على الترك ، وهو قول بعض الشافعية ، ورواية عن أحمد أيضا .
[ ص: 40 ] ثالثها : الإباحة ؛ لأنها المتيقن ، ولكن هذا فيما لا قربة فيه ، إذ القرب لا توصف بالإباحة .
رابعها : التوقف لعدم معرفة المراد ، وهو قول المعتزلة ، وهذا أضعف الأقوال ؛ لأن التوقف ليس فيه تأس .
فتحصل لنا من هذه الأقوال الأربعة أن الصحيح الفعل تأسيا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجوبا أو ندبا ، ومثلوا لهذا الفعل بخلعه - صلى الله عليه وسلم - نعله في الصلاة ، فخلع الصحابة كلهم نعالهم ، فلما انتهى - صلى الله عليه وسلم - سألهم عن خلعهم نعالهم قالوا : رأيناك فعلت ففعلنا ، فقال لهم : " أتاني جبريل وأخبرني أن في نعلي أذى فخلعتها " ، فإنه أقرهم على خلعهم تأسيا به ، ولم يعب عليهم مع أنهم لم يعلموا الحكم قبل إخباره إياهم ، وقد جاء هنا ما تقولون بصيغة العموم .
وقال الشيخ - رحمه الله - في دفع الإيهام في سورة " الأنفال " عند قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم [ 8 \ 24 ] ، ما نصه : وهذه الآية تدل بظاهرها على أن الاستجابة للرسول التي هي طاعته لا تجب إلا إذا دعانا لما يحيينا ، ونظيرها قوله تعالى : ولا يعصينك في معروف .
وقد جاء في آيات أخر ما يدل على وجوب اتباعه مطلقا من غير قيد ، كقوله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا [ 59 \ 7 ] .
وقوله : قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله الآية [ 3 \ 31 ] ، و من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] .
والظاهر : أن وجه الجمع والله تعالى أعلم : أن آيات الإطلاق مبينة أنه - صلى الله عليه وسلم - لا يدعونا إلا لما يحيينا من خيري الدنيا والآخرة ، فالشرط المذكور في قوله : إذا دعاكم ، متوفر في دعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لمكان عصمته ، كما دل عليه قوله تعالى : وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى [ 53 \ 3 - 4 ] .
والحاصل : أن آية : إذا دعاكم لما يحييكم ، مبينة أنه لا طاعة إلا لمن يدعو إلى ما يرضي الله ، وأن الآيات الأخر بينت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يدعو أبدا إلا إلى ذلك ، صلوات [ ص: 41 ] الله وسلامه عليه ، انتهى .
وقد بينت السنة كذلك حقيقة ومنتهى ما جاء به - صلى الله عليه وسلم - في قوله : " ما تركت خيرا يقربكم إلى الله إلا بينته لكم وأمرتكم به ، وما تركت شرا يباعدكم عن الله إلا بينته لكم ، وحذرتكم منه ونهيتكم عنه " .
تنبيه
الواقع أن العمل بهذه الآية الكريمة هو من لوازم نطق المسلم بالشهادتين ؛ لأن قوله : أشهد أن لا إله إلا الله ، اعتراف لله تعالى بالألوهية وبمستلزماتها ، ومنها إرسال الرسل إلى خلقه ، وإنزال كتبه وقوله : أشهد أن محمدا رسول الله ، اعتراف برسالة محمد - صلى الله عليه وسلم - من الله لخلقه ، وهذا يستلزم الأخذ بكل ما جاء به هذا الرسول الكريم من الله سبحانه وتعالى ، ولا يجوز أن يعبد الله إلا بما جاءه به رسول الله ، ولا يحق له أن يعصي الله بما نهاه عنه رسول الله ، فهي بحق مستلزم للنطق بالشهادتين .
ويؤيد هذا قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [ 4 \ 59 ] فربط مرد الخلاف إلى الله والرسول بالإيمان بالله واليوم الآخر .
وقال الشيخ - رحمه الله - عند هذه الآية في " سورة النساء " : أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين وفروعه ، أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] انتهى .
فاتضح بهذا كله أن ما أتانا به - صلى الله عليه وسلم - فهو من عند الله ، وأنه بمنزلة القرآن في التشريع ، وأن السنة تستقل بالتشريع كما جاءت بتحريم لحوم الحمر الأهلية . وكل ذي مخلب من الطير وناب من السباع ، وبتحريم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ، أو هي مع ابنة أخيها أو ابنة أختها ونحو ذلك ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " لا ألفين أحدكم متكئا على أريكة أهله يقول : ما وجدنا في كتاب الله أخذناه ، وما لم نجده في كتاب الله تركناه ، ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه " .
والنص هنا عام في الأخذ بكل ما أتانا به ، وترك ما نهانا عنه ، وقد جاء تخصيص هذا [ ص: 42 ] العموم في قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها [ 2 \ 286 ] ، وقوله : ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج [ 24 \ 61 ] ، وقوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] .
وجاء الحديث ففرق بين عموم النهي في قوله صلى الله عليه وسلم : " ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ، وما نهيتكم عنه فانتهوا " ، وقد جاء هذا التذييل على هذه الآية بقوله تعالى : واتقوا الله إن الله شديد العقاب [ 5 \ 2 ] ، إيذانا بأن هذا التكليف لا هوادة فيه ، وأنه ملزم للأمة سرا وعلنا ، وأن من خالف شيئا منه يتوجه إليه هذا الإنذار الشديد ؛ لأن معصيته معصية لله ، وطاعته من طاعة الله : من يطع الرسول فقد أطاع الله ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون .
في هذه الآية الكريمة وصف شامل للمهاجرين في دوافع الهجرة ، أنهم : يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، وغايتها ، وهي : وينصرون الله ورسوله ، والحكم لهم بأنهم : أولئك هم الصادقون .
ومنطوق هذه الأوصاف يدل بمفهومه أنه خاص بالمهاجرين ، مع أنه جاءت نصوص أخرى تدل على مشاركة الأنصار لهم فيه ، منها قوله تعالى : إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض [ 8 \ 72 ] ، وقوله تعالى بعدها : والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا [ 8 \ 74 ] .
فذكر المهاجرين بالجهاد بالمال والنفس ، وذكر معهم الأنصار بالإيواء والنصر ، ووصف الفريقين معا بولاية بعضهم لبعض ، وأثبت لهم معا حقيقة الإيمان : أولئك هم المؤمنون حقا ، أي : الصادقون في إيمانهم ، فاستوى الأنصار مع المهاجرين في عامل النصرة وفي صدق الإيمان .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|