
08-05-2023, 10:05 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (534)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 27 إلى صـ 34
[ ص: 27 ] وهكذا اليهود : إن داءهم الدفين هو الحسد ، والعجب بالنفس ، فجرهم إلى الكفر ، ووقعوا في الخيانة ، وكانت النتيجة القتل ، والطرد .
وقد بين الشيخ - رحمه الله - أن مشاقة اليهود هذه هي من الإفساد في الأرض الذي نهاهم الله عنه ، وعاقبهم عليه مرتين ، وتهددهم إن هم عادوا للثالثة عاد للانتقام منهم ، وهاهم قد عادوا ، وشاقوا الله ورسوله ، فسلط عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين .
قال - رحمه الله - في سورة " الإسراء " عند قوله تعالى : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] ، لما بين تعالى أن بني إسرائيل قضي إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين - وبين نتائج هاتين المرتين - بين تعالى أيضا : أنهم إن عادوا للإفساد في المرة الثالثة ، فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ، وذلك في قوله : وإن عدتم عدنا ، ولم يبين هنا هل عادوا للإفساد في المرة الثالثة أم لا ؟ .
ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكتم صفاته ، ونقض عهوده ، ومظاهرة عدوه عليه ، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة ، فعاد الله - جل وعلا - للانتقام منهم تصديقا لقوله : وإن عدتم عدنا ، فسلط عليهم نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين ، وجرى على بني قريظة ، وبني النضير ، وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسلب والإجلاء ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
ومن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [ 2 \ 89 - 90 ] ، وقوله : الفاسقون أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم [ 2 \ 100 ] ، وقوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم [ 5 \ 13 ] ونحو ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد إلى الانتقام منهم قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ ص: 28 ] [ 59 \ 2 - 4 ] ، وقوله : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم الآية [ 33 \ 26 - 27 ] ا هـ منه .
فهذا منه - رحمه الله - بيان ودليل إلى مغايرة المشاقة الواقعة من اليهود للمشاقة الواقعة من غيرهم ، فكان تخلف الحكم عمن شاقوا الله ورسوله من غير اليهود ؛ لتخلف بعض العلة في الحكم كما قدمنا ، والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
اللينة هنا ، قيل : اسم عام للنخل ، وهذا اختيار ابن جرير .
وقيل : نوع خاص منه ، وهو ما عدا البرني والعجوة فقط .
ونقل ابن جرير عن بعض أهل البصرة يقول : اللينة من اللون ، وقال : وإنما سميت لينة ؛ لأنها فعلة من فعل وهو اللون ، وهو ضرب من النخل ، ولكن لما انكسر ما قبلها انقلبت إلى ياء إلخ ، وهذا الأخير قريب مما عليه أهل المدينة اليوم ، حيث يطلقون كلمة : لونة على ما لا يعرفون له اسما خاصا ، ولعل كلمة لونة محرفة عن كلمة لينة ، ويوجد عند أهل المدينة من أنواع النخيل ما يقرب من سبعين نوعا .
وقيل : إن اللينة كل شجرة لليونتها بالحياة .
وقد نزلت هذه الآية في تقطيع وتحريق بعض النخيل لبني النضير عند حصارهم وقطع من البستان المعروف بالبويرة ، كما روى ابن كثير عن صاحبي الصحيحين ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرق نخل بني النضير ، وقطع ، وهي البويرة فأنزل الله عز وجل : ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله الآية .
وقال حسان رضي الله عنه :
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
والبويرة معروفة اليوم ، وهي بستان يقع في الجنوب الغربي من مسجد قباء .
[ ص: 29 ] وقيل في سبب نزولها : إن اليهود قالوا : يا محمد إنك تنهى عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار ؟ فأنزل الله الآية .
وقيل : إن المسلمين نهى بعضهم بعضا عن قطع النخيل ، وقالوا : إنما هو مغانم المسلمين فنزل القرآن بتصديق من نهى عن قطعه ، وتحليل من قطع من الإثم ، وأن قطع ما قطع وترك ما ترك : فبإذن الله وليخزي الفاسقين .
وعلى هذه الأقوال قال ابن كثير وغيره : إن قوله تعالى : فبإذن الله أي : الإذن القدري والمشيئة الإلهية ، أي كما في قوله تعالى : وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن الله [ 3 \ 166 ] ، وقوله : ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه [ 3 \ 152 ] .
والذي يظهر - والله تعالى أعلم - أن الإذن المذكور في الآية هو إذن شرعي ، وهو ما يؤخذ من عموم الإذن في قوله تعالى : أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير [ 22 \ 39 ] ؛ لأن الإذن بالقتال إذن بكل ما يتطلبه بناء على قاعدة : الأمر بالشيء أمر به وبما لا يتم إلا به .
والحصار نوع من القتال ، ولعل من مصلحة الحصار قطع بعض النخيل لتمام الرؤية ، أو لإحكام الحصار ، أو لإذلال وإرهاب العدو في حصاره وإشعاره بعجزه عن حماية أمواله ، وممتلكاته ، وقد يكون فيه إثارة له ؛ ليندفع في حمية للدفاع عن ممتلكاته وأمواله ، فينكشف عن حصونه ويسهل القضاء عليه ، إلى غير ذلك من الأغراض الحربية ، والتي أشار الله تعالى إليها في قوله : وليخزي الفاسقين أي : بعجزهم وإذلالهم وحسرتهم ، وهم يرون نخيلهم يقطع ، ويحرق فلا يملكون له دفعا .
وعلى كل فالذي أذن بالقتال وهو سفك الدماء ، وإزهاق الأنفس ، وما يترتب عليه من سبي وغنائم لا يمنع في مثل قطع النخيل إن لزم الأمر ، ويمكن أن يقال : إن ما أذن فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبإذن الله أذن .
وبهذا يمكن أن يقال : إذا حاصر المسلمون عدوا ، ورأوا أن من مصلحتهم أو من مذلة العدو إتلاف منشآته وأمواله ، فلا مانع من ذلك ، والله تعالى أعلم .
وغاية ما فيه ، أنه إتلاف بعض المال للتغلب على العدو وأخذ جميع ماله ، وهذا له [ ص: 30 ] نظير في الشرع ، كعمل الخضر في سفينة المساكين لما خرقها ، أي أعابها بإتلاف بعضها ؛ ليستخلصها من اغتصاب الملك إياها ، وقال : وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] .
وقد جاء اعتراض المشركين على المسلمين في قتالهم في الأشهر الحرم ، كما اعترض اليهود على المسلمين في قطع النخيل ، وذلك في قوله تعالى : يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل [ 2 \ 217 ] .
فقد تعاظم المشركون قتل المسلمين لبعض المشركين في وقعة نخلة ، ولم يتحققوا دخول الشهر الحرام ، واتهموهم باعتداء على حرمة الأشهر الحرم ، فأجابهم الله تعالى بموجب ما قالوا بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، ولكن ما ارتكبه المشركون من صد عن سبيل الله وكفر بالله ، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه وهم المسلمون أكبر عند الله ، والفتنة عن الدين أكبر من القتل ، أي : الذي استنكروه من المسلمين .
وهكذا هنا لئن تعاظم اليهود على المسلمين قطع بعض النخيل ، وعابوا على المسلمين إيقاع الفساد بإتلاف بعض المال فكيف بهم بغدرهم وخيانتهم نقضهم العهود ، وتمالئهم على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وقد سجل هذا المعنى كعب بن مالك يذكر إجلاء بني النضير ، وقتل ابن الأشرف :
لقد خزيت بغدرتها الحبور كذاك الدهر ذو صرف يدور
وذلك أنهم كفروا برب عظيم أمره أمر كبير
وقد أوتوا معا فهما وعلما وجاءهم من الله النذير
إلى أن قال :
فلما أشربوا غدرا وكفرا وحاد بهم عن الحق النفور
أرى الله النبي برأي صدق وكان الله يحكم لا يجور
فأيده وسلطه عليهم وكان نصيره نعم النصير
فقد أشار إلى أن خزي بني النضير بسبب غدرهم وكفرهم بربهم ، فكان الإذن في قطع النخيل هو إذن شرعي ، ويمكن أن يقال عنه هو عمل تشريعي إذا ما دعت الحاجة ، لمثل ما دعت الحاجة هنا إليه ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 31 ] قوله تعالى : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب .
الضمير في ( منهم ) هنا عائد على بني النضير .
والفيء : الغنيمة بدون قتال ، وقد جعله تعالى هنا على رسوله خاصة .
وقال : فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولكن الله يسلط رسله على من يشاء [ 59 \ 6 ] أي : لما كان إخراج اليهود مرده إلى الله تعالى بما قذف في قلوبهم الرعب ، وبما سلط عليهم رسوله - صلى الله عليه وسلم - فكان هذا الفيء لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يشاركه فيه غيره .
وقد جاء مصداق ذلك عن عمر - رضي الله عنه - الذي ساقه الشيخ تغمده الله برحمته عند آخر كلامه على مباحث " الأنفال " عند قوله : المسألة التاسعة : اعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذ نفقة سنته من فيء بني النضير لا من المغانم ، وساق حديث أنس بن أوس المتفق عليه عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في قصة مطالبة علي والعباس ميراثهما من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه قال لهما : إن الله كان خص رسوله - صلى الله عليه وسلم - في هذا بشيء لم يعطه أحدا غيره ، فقال عز وجل : وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم إلى قوله : قدير [ 59 \ 6 ] ، فكانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والله ما احتازها دونكم ولا استأثر بها عليكم ، لقد أعطاكموه وبثها فيكم ، حتى بقي منها هذا المال ، فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله من هذا المال نفقة سنته ، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مجعل ما لله إلخ . ا هـ .
وكانت هذه خاصة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن جاء بعدها ما هو أعم من ذلك في قوله تعالى : ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى أي : عموما فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل [ 59 \ 7 ] .
وهذه الآية لعمومها مصدرا ومصرفا ، فقد اشتملت على أحكام ومباحث عديدة ، وقد تقدم لفضيلة الشيخ تغمده الله برحمته الكلام على كل ما فيها عند أول سورة الأنفال على قوله تعالى : يسألونك عن الأنفال [ 8 \ 1 ] ، فاستوفى واستقصى وفصل وبين مصادر ومصارف الفيء والغنيمة والنفل ، وما فتح من البلاد صلحا أو عنوة ، ومسائل عديدة مما لا مزيد عليه ، ولا غنى عنه ، والحمد لله تعالى .
قوله تعالى : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
[ ص: 32 ] معنى الدولة والدولة بضم الدال في الأولى ، وفتحها في الثانية : يدور عند المفسرين على معنيين :
الدولة بالفتح : الظفر في الحرب وغيره ، وهي المصدر ، وبالضم اسم الشيء الذي يتداول من الأموال .
وقال الزمخشري : معنى الآية : كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى الفقراء ، ليكون لهم بلغة يعيشون بها جدا بين الأغنياء يتكاثرون به ، أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم .
ومعنى الدولة الجاهلية : أن الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة ؛ لأنهم أهل الرئاسة والغلبة والدولة ، وكانوا يقولون : من عز بز ، والمعنى : كيلا يكون أخذه غلبة أثرة جاهلية ، ومنه قول الحسن : اتخذوا عباد الله خولا ومال الله دولا ، يريد من غلب منهم أخذه واستأثر به ، إلخ .
والجدير بالذكر هنا : أن دعاة بعض المذاهب الاقتصادية الفاسدة ، يحتجون بهذا الآية على مذهبهم الفاسد ويقولون : يجوز للدولة أن تستولي على مصادر الإنتاج ورءوس الأموال ؛ لتعطيها أو تشرك فيها الفقراء ، وما يسمونهم طبقة العمال ، وهذا على ما فيه من كساد اقتصادي ، وفساد اجتماعي ، قد ثبت خطؤه ، وظهر بطلانه مجانبا لحقيقة الاستدلال .
لأن هذا المال ترك لمرافق المسلمين العامة من الإنفاق على المجاهدين ، وتأمين الغزاة في الحدود والثغور ، وليس يعطى للأفراد كما يقولون ، ثم هو أساسا مال جاء غنيمة للمسلمين ، وليس نتيجة كدح الفرد وكسبه .
ولما كان مال الغنيمة ليس ملكا لشخص ، ولا هو أيضا كسب لشخص معين ، تحقق فيه العموم في مصدره ، وهو الغنيمة ، والعموم في مصرفه ، وهو عموم مصالح الأمة ، ولا دخل ولا وجود للفرد فيه ، فشتان بين هذا الأصل في التشريع وهذا الفرع في التضليل .
ومن المؤسف أنهم يؤيدون دعواهم بإقحام الحديث في ذلك ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " الناس شركاء في ثلاثة : الماء والنار والكلأ " ، ومعلوم أن الشركة في هذه الثلاثة ما دامت على عمومها فالماء شركة بين الجميع ما دام في مورده من النهر أو البئر العام أو السيل أو الغدير . أما إذا انتقل من مورده العام ، وأصبح في حيازة ما فلا شركة لأحد فيه مع من حازه ، كمن ملأ إناء من النهر أو السيل ونحوه ، فما كان في إنائه فهو خاص به ، وهذا الكلأ [ ص: 33 ] ما دام عشبا في الأرض العامة لا في ملك إنسان معين فهو عام لمن سبق إليه ، فإذا ما احتشه إنسان وحازه فلا شركة لأحد فيه ، وكذلك ما كان منه نابتا في ملك إنسان بعينه فهو أحق به من غيره .
ويظهر ذلك بالحوت في البحر والنهر فهو مشاع للجميع ، والطير في الهواء يصاد . فإنه قدر مشترك بين جميع الصيادين ، فإذا ما صاده إنسان فقد حازه واختص به ، وهذا أمر تعترف فيه جميع النظم الاقتصادية ، وتعطى تراخيص رسمية لذلك .
وهناك العمل الجاري في تلك الدول ، مما يجعلهم يتناقضون في دعواهم الاشتراك في الماء والنار والكلأ ، وذلك في شركات المياه والنور ؛ فإنهم يجعلون في كل بيت عدادا يعد جالونات الماء التي استهلكها المنزل ويحاسبونه عليه ، وإذا تأخر قطعوا عليه الماء وحرموه من شربه .
وكذلك التيار الكهربائي ؛ فإنه نار ، وهو الطاقة الفعالة في المدن فإنهم يقيسونه بعداد يعد الكيلوات ، ويبيعونه على المستهلك ، فلماذا لا يجعلون الماء والكهرباء ، شركة بين المواطنين ؟ أم الناس شركاء فيما لا يعود على الدولة ، أما حق الدولة فخاص للحكام ؟ إنه عكس ما في قضية الفيء تماما .
حيث إن الفيء والغنيمة الذي جعله الله حلالا من مال العدو ، وهو كسب عام دخل على الأمة بمجهود الأمة كلها ، الماثل في الجيش الذي يقاتل باسمها ، وجعله تعالى في مصارف عامة في مصالح الأمة ( فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ) .
( فلله ) : أي الجهاد في سبيل الله .
( وللرسول ) : لقيامه بأمر الأمة ، وكان صلى الله عليه وسلم يأخذ نفقة أهله عاما ، وما بقي يرده في سبيل الله .
( ولذي القربى ) : من تلزمه نفقتهم .
[ ص: 34 ] ( واليتامى والمساكين ) : هذا هو التكافل الاجتماعي في الأمة .
( وابن السبيل ) : المنقطع في سفره ، وهذا تأمين للمواصلات .
فكان مصرفه بهذا العموم دون اختصاص شخص به أو طائفة : كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم .
وإنه لمن مواطن الإعجاز في القرآن أن يأتي بعد هذا التشريع قوله تعالى : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله الآية [ 59 \ 7 ] ؛ لأنه تشريع في أمر يمس الوتر الحساس في النفس ، وهو موطن الشح والحرص ألا وهو كسب المال الذي هو صنو النفس ، والذي تولى الله قسمته في أهم من ذلك ، وهو في الميراث .
قسمه تعالى مبينا فروضه ، وحصة كل وارث ؛ لأنه كسب بدون مقابل ، وكسب إجباري . والنفوس متطلعة إليه فتولاه الله تعالى ، وكذلك الفيء والغنيمة ، وحرم الغلول فيه قبل القسمة .
ومثل هذا المال هو الذي ألفوا قسمته مغنما ، والذي بذلوا النفوس والمهج قبل الوصول إليه ، فإذا بهم يمنعون منه ، ويحال بينهم وبينه ، فيقسم المنقول فقط ، ولا يقسم العقار الثابت ، ويقال لهم : حدث هذا كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم سواء الأغنياء بأبدانهم ، وقدرتهم على العمل ، وعلى الجهاد أو الأغنياء بأموالهم بما حصلوه من مغانم قبل ذلك .
وكان لابد لنفوسهم من أن تتحرك نحو هذا المال ، وفعلا ناقشوا عمر - رضي الله عنه فيه - ولكن هنا يأتي سوط الطاعة المسلت ، وأمر التشريع المسكت إنه عن الله أتاكم به رسول الله : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله فإن الآية وإن كانت عامة في جميع التشريع إلا أنها هنا أخص ، وهي به أقرب ، والمقام إليها أحوج .
وهنا ينتقل بنا القول إلى ما آتانا به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفي هذا المعنى بالذات أي : معنى المشاركة في الأموال .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|