
08-05-2023, 09:03 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثامن
الحلقة (533)
سُورَةُ الْحَشر
صـ 19 إلى صـ 26
فقد نص - رحمه الله - على أن آية : فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره مرتبطة بآية : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا ، هذه كما قدمنا : أن هذا هو الأمر الموعود به ، وقد أتاهم به من حيث لم يحتسبوا ، ويشهد لهذا كله القراءة الثانية ( فآتاهم ) بالمد بمعنى : أعطاهم وأنزل بهم ، ويكون الفعل متعديا والمفعول محذوفا دل عليه قوله : [ ص: 19 ] من حيث لم يحتسبوا أي : أنزل بهم عقوبة وذلة ومهانة جاءتهم من حيث لم يحتسبوا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وقذف في قلوبهم الرعب .
منطوقه أن الرعب سبب من أسباب هزيمة اليهود ، ومفهوم المخالفة يدل على أن العكس بالعكس أي : أن الطمأنينة وهي ضد الرعب ، سبب من أسباب النصر ، وهو ضد الهزيمة .
وقد جاء ذلك المفهوم مصرحا به في آيات من كتاب الله تعالى ، منها قوله تعالى : لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا [ 48 \ 18 ] ، ومنها قوله تعالى : لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين [ 009 026 ] ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين [ 9 \ 25 - 26 ] ، فقد ولوا مدبرين بالهزيمة ، ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا من الملائكة فكان النصر لهم ، وهزيمة أعدائهم المشار إليها بقوله تعالى : وعذب الذين كفروا [ 9 \ 25 ] أي : بالقتل ، والسبي في ذلك اليوم .
ومنها قوله تعالى : إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم [ 9 \ 40 ] .
وهذا الموقف آية من آيات الله ، اثنان أعزلان يتحديان قريشا بكاملها ، بعددها وعددها ، فيخرجان تحت ظلال السيوف ، ويدخلان الغار في سدفة الليل ، ويأتي الطلب على فم الغار بقلوب حانقة ، وسيوف مصلتة ، وآذان مرهفة حتى يقول الصديق رضي الله عنه : والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت نعليه لأبصرنا ، فيقول - صلى الله عليه وسلم - وهو في غاية الطمأنينة ، ومنتهى السكينة : " ما بالك باثنين الله ثالثهما " ؟ .
ومنها : وفي أخطر المواقف في الإسلام في غزوة بدر ، حينما التقى الحق بالباطل وجها لوجه ، جاءت قوى الشر في خيلائها وبطرها وأشرها ، وأمامها جند الله في تواضعهم [ ص: 20 ] وإيمانهم ، وضراعتهم إلى الله : فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام [ 8 \ 9 - 11 ] .
فما جعل الله الإمداد بالملائكة إلا ؛ لتطمئن به قلوبهم ، وما غشاهم النعاس إلا أمنة منه ، وتم كل ذلك بما ربط على قلوبهم ، فقاوموا بقلتهم قوى الشر على كثرتهم ، وتم النصر من عند الله بمدد من الله ، كما ربط على قلوب أهل الكهف : وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا [ 18 \ 14 ] .
هذه آثار الطمأنينة والسكينة والربط على القلوب المدلول عليه بمفهوم المخالفة من قوله تعالى : فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، وقد جمع الله تعالى الأمرين المنطوق والمفهوم في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب [ 8 \ 12 ] ، فنص على الطمأنينة بالتثبيت في قوله : فثبتوا الذين آمنوا ، ونص على الرعب في قوله : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فكانت الطمأنينة تثبيتا للمؤمنين ، والرعب زلزلة للكافرين .
وقد جاء في الحديث أن جبريل - عليه السلام - لما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتوجه إلى بني قريظة ، قال : " إني متقدمكم ؛ لأزلزل بهم الأقدام " ، ومما يدل على أسباب هذه الطمأنينة في هذه المواقف قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين [ 8 \ 45 ، 46 ] .
فذكر الله تعالى أربعة أسباب للطمأنينة :
الأولى : الثبات ، وقد دل عليها قوله تعالى : إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص [ 61 \ 4 ] .
[ ص: 21 ] والثانية : ذكر الله كثيرا ، وقد دل عليه قوله تعالى : ألا بذكر الله تطمئن القلوب [ 13 \ 28 ] .
والثالثة : طاعة الله ورسوله ، ويدل لها قوله تعالى : فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت فأولى لهم طاعة وقول معروف [ 47 \ 20 - 21 ] .
والرابعة : عدم التنازل والاعتصام والألفة ، ويدل عليها قوله تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا [ 3 \ 103 ] .
ومن ذكر أسباب الهزيمة من رعب القلوب ، وأسباب النصر من السكينة والطمأنينة ، تعلم مدى تأثير الدعايات في الآونة الأخيرة ، وما سمي بالحرب الباردة من كلام وإرجاف مما ينبغي الحذر منه أشد الحذر ، وقد حذر الله تعالى منه في قوله تعالى : قد يعلم الله المعوقين منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا ولا يأتون البأس إلا قليلا [ 33 \ 18 ] ، وقد حذر تعالى من السماع لهؤلاء في قوله تعالى : لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين [ 9 \ 47 ] .
ولما اشتد الأمر على المسلمين في غزوة الأحزاب ، وبلغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن اليهود نقضوا عهدهم أرسل إليهم - صلى الله عليه وسلم - من يستطلع خبرهم ، وأوصاهم إن هم رأوا غدرا ألا يصرحوا بذلك ، وأن يلحنوا له لحنا حفاظا على طمأنينة المسلمين ، وإبعادا للإرجاف في صفوفهم .
كما بين تعالى أثر الدعاية الحسنة في قوله تعالى : وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم [ 8 \ 60 ] ، وقد كان بالفعل لخروج جيش أسامة بعد انتقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى ، وعند تربص الأعراب كان له الأثر الكبير في إحباط نوايا المتربصين بالمسلمين ، وقالوا : ما أنفذوا هذا البعث إلا وعندهم الجيوش الكافية ، والقوة اللازمة .
وما أجراه الله في غزوة بدر من هذا القبيل أكبر دليل عملي ، إذ يقلل كل فريق في أعين الآخرين ، كما قال تعالى : إذ يريكهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا وإلى الله ترجع الأمور [ ص: 22 ] [ 8 \ 43 - 44 ] ، وهذا كله مما ينبغي الاستفادة منه اليوم على العدو في قضية الإسلام والمسلمين .
قوله تعالى : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله .
المشاقة : العصيان ، ومنه شق العصا ، والمخالفة .
وهذا يدل على أن الله تعالى أوقع ما أوقعه ببني النضير من إخراجهم من ديارهم وتخريب بيوتهم ؛ بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله ، وأن المشاقة المذكورة هي علة العقوبة الحاصلة بهم ، ولا شك أن مشاقة الله ورسوله من أعظم أسباب الهلاك .
وفي الآية مبحث أصولي مبني على أن المشاقة قد وقعت من غير اليهود ، فلم تقع بهم تلك العقوبة كما وقع من المشركين المنصوص عليها في قوله تعالى : إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان [ 8 \ 12 ] ، وهذا في بدر قطعا ، ثم قال : ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 8 \ 13 ] ، ولما قدر صلى الله عليه وسلم على أهل مكة لم يوقع بهم ما أوقع باليهود من قتل بل قال : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " فوجد الوصف الذي هو المشاقة الذي هو علة الحكم ، ولم يوجد الحكم الذي هو الإخراج من الديار وتخريب البيوت .
قال الفخر الرازي : فإن قيل : لو كانت المشاقة علة لهذا التخريب لوجب أن يقال : أينما حصلت هذه المشاقة حصل التخريب ، ومعلوم أنه ليس كذلك قلنا : هذا أحد ما يدل على أن تخصيص العلة المنصوصة لا يقدح في صحتها . ا هـ .
وقد بحث الشيخ - رحمه الله - هذه المسألة في آداب البحث والمناظرة ، وفي مذكرة الأصول في مبحث النقض ، وعنون له في آداب البحث بقوله : تخلف الحكم ليس بنقض سواء لوجود مانع أو تخلف شرط .
ومثل لتخلف الحكم بوجود مانع بقتل الوالد ولده عمدا ، مع عدم قتله قصاصا به ؛ لأن علة القصاص موجودة ، وهي القتل العمد ، والحكم وهو القصاص متخلف .
ومثل لتخلف الشرط بسرقة أقل من نصاب أو من غير الحرز .
[ ص: 23 ] ثم قال : النوع الثالث : تخلف حكمها عنها لا لسبب من الأسباب التي ذكرنا ، ومثل له بعضهم بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار [ 59 \ 3 ] ، قالوا : فهذه العلة ، التي هي مشاقة الله ورسوله ، قد توجد في قوم يشاقون الله ورسوله مع تخلف حكمها عنها ، وهذه الآية الكريمة تؤيد قول من قال : إن النقض في فن الأصول تخصيص للعلة مطلقا ، لا نقض لها ، وعزاه في مراقي السعود للأكثرين في قوله في مبحث القوادح في الدليل في الأصول :
منها وجود الوصف دون الحكم سماه بالنقض وعاة العلم والأكثرون عندهم لا يقدح
بل هو تخصيص وذا مصحح إلى قوله :
ولست فيما استنبطت بضائر إن جاء لفقد شرط أو لمانع
وقد أطلعني بعض الإخوان على شرح لفضيلة الشيخ - رحمه الله - على مراقي السعود في أوائله على قول المؤلف :
ذو فترة بالفرع ولا يراع
وتكلم على حكم أهل الفترة ، ثم على تخصيص بعض الآيات ، ومن ثم إلى تخصيص العلة .
وجاء في هذا المخطوط ما نصه : ورجح الحافظ ابن كثير في تفسير سورة " الحشر " أن تخصيص العلة كتخصيص النص مطلقا ، مستدلا بقوله تعالى : ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء الآية [ 59 \ 3 ] ، وقد فعل ذلك غير بني النضير ، فلم يفعل لهم مثل ما فعل لهم ، والله أعلم ا هـ .
إلا أني طلبت هذا الترجيح في ابن كثير عند الآية ، فلم أقف عليه فليتأمل ، ولعله في غير التفسير .
أما ما ذكره - رحمه الله تعالى - عن البعض في آداب البحث والمناظرة ، وهو أنه : قد يتخلف الحكم عن العلة ، لا لشيء من الأسباب التي ذكرنا ، فالذي يظهر لي والله تعالى أعلم أن تخلف الحكم عن العلة في غير اليهود ، وإنما هو لتخلف جزء منها ، وأن العلة [ ص: 24 ] مركبة ، أي هي في اليهود مشاقة وزيادة ، تلك الزيادة لم توجد في غير اليهود ، فوقع الفرق ، وذلك أن مشاقة غير اليهود كانت ؛ لجهلهم وشكهم ، كما أشار تعالى لذلك عنهم بقوله تعالى : وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم [ 36 \ 78 - 79 ] إلى آخر السورة فهم في حاجة إلى زيادة بيان ، وكذلك في قوله في أول سورة " ص " : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب وانطلق الملأ منهم أن امشوا واصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلا اختلاق أؤنزل عليه الذكر من بيننا بل هم في شك من ذكري [ 38 \ 4 - 8 ] .
فهم في عجب ودهشة ، واستبعاد أن ينزل عليه - صلى الله عليه وسلم - الذكر من بينهم ، وهم في شك من أمرهم ، فهم في حاجة إلى إزالة الشك والتثبت من الأمر ، ولذا لما زال عنهم شكهم وتبينوا من أمرهم ، وراحوا يدخلون في دين الله أفواجا ، بينما كان كفر اليهود جحودا بعد معرفة ، فكانوا يعرفونه - صلى الله عليه وسلم - كما يعرفون أبناءهم وإن فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون [ 2 \ 146 ] ، وقد سمي لهم فيما أنزل كما قال عيسى عليه السلام : ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد [ 61 \ 6 ] فلم ينفعهم بيان ، ولكنه الحسد والجحود كما بين تعالى أمرهم بقوله عنهم : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق [ 2 \ 109 ] ، وقوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم [ 3 \ 69 ] ، وقوله : وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، وقوله : ياأهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون [ 3 \ 71 ] .
فقد كانوا جبهة تضليل للناس ، وتحريف للكتاب ، وتلبيس للحق بالباطل ، كل ذلك عن قصد وعلم ، بدافع الحسد ومناصبة العداء وخصم هذا حاله فلا دواء له ؛ لأن المدلس لا يؤمن جانبه ، والمضلل لا يصدق ، والحاسد لا يشفيه إلا زوال النعمة عن المحسود ، ومن جانب آخر فقد قطع الله الطمع عن إيمانهم أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون [ 2 \ 75 ] ، كما أيأس من إيمانهم بعد إقرارهم على أنفسهم بتغلف قلوبهم عن سماع الحق ورؤية النور : وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون [ ص: 25 ] [ 2 \ 88 ] .
وكل هذه الصفات لم تكن موجودة في كل من شاق الله ورسوله من غير اليهود ، وقد صرح تعالى بأنهم استحقوا هذا الحكم للأسباب التي اختصوا بها دون غيرهم في قوله تعالى : وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض [ 2 \ 84 - 85 ] .
فكل ذلك من نقض الميثاق ، والغدر في الصلح ، وسفك الدماء ، والتظاهر بالإثم والعدوان ، والإيمان ببعض الكتاب والكفر ببعضه ، كان خاصا باليهود ، فكانت العلة مركبة من المشاقة ، ومن هذه الصفات التي اختصوا بها ، وكان الحكم صريحا هنا بقوله عنهم : فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب [ 2 \ 85 ] ، وكان خزيهم في الدنيا هو ما وقع بهم من إخراج ، وتخريب ، وتقتيل .
وإن من كانت هذه حاله كما تقدم ، لم يكن لهم الاستئصال الكلي بإخراجهم أو تقتيلهم ، فلم يعد يصلح فيهم استصلاح ولا يتوقع منهم صلاح ، ويكفي شاهدا على ذلك أن بني قريظة لم يتعظوا ، ولم يستفيدوا ، ولم يعتبروا كما أمرهم الله : فاعتبروا ياأولي الأبصار [ 59 \ 2 ] .
ما اتعظ بنو قريظة بما وقع بإخوانهم بني النضير ، فلجئوا بعد عام واحد إلى ما وقع فيه بنو النضير من غدر وخيانة ، فكان اختصاص اليهود بالحكم لتلك العلة المشتركة ؛ لأنهم وإن شاركهم غيرهم في المشاقة فلم يشاركهم غيرهم في الجانب الآخر مما قدمنا من دوافع المشاقة .
وللدوافع تأثير في الحكم ، كما في قصة آدم وإبليس ، فقد اشترك آدم وإبليس في عموم علة العصيان ، إذ نهي آدم عن قربان الشجرة ، وأمر إبليس بالسجود لآدم مع الملائكة ، فأكل آدم مما نهي عنه ، وامتنع إبليس عما أمر به فاشتركا في العصيان كما قال تعالى عن آدم : وعصى آدم ربه فغوى [ 20 \ 121 ] ، وقال عن إبليس : ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك [ 7 \ 12 ] ، ولكن السبب كان مختلفا ، فآدم نسي ووقع تحت وسوسة [ ص: 26 ] الشيطان فخدع بقسم إبليس بالله تعالى : وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين [ 7 \ 21 ] ، وكانت معصية عن إغواء ووسوسة : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه [ 2 \ 36 ] .
أما إبليس ، فكان عصيانه عن سبق إصرار ، وعن حسد واستكبار كما قال تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين [ 2 \ 34 ] ، ولما خاطبه الله تعالى بقوله : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، قال في إصراره وحسده وتكبره : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] .
فاختلفت الدوافع وكان لدى إبليس ما ليس لدى آدم في سبب العصيان وبالتالي اختلفت النتائج ، فكانت النتيجة مختلفة تماما . أما آدم فحين عاتبه على أكله من الشجرة في قوله تعالى : وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين [ 7 \ 22 ] رجعا حالا ، واعترفا بذنبهما قائلين : قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين [ 7 \ 23 ] ، وكانت العقوبة لهما قوله تعالى : قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين [ 7 \ 24 ] .
فكان هبوط آدم مؤقتا ، ولحقه قوله تعالى : قلنا اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون [ 2 \ 38 ] ، فأدركته هداية الله ، ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى : فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم [ 2 \ 37 ] .
أما نتيجة إبليس فلما عاتبه تعالى في معصيته في قوله تعالى : قال ياإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي أأستكبرت أم كنت من العالين [ 38 \ 75 ] ، كان جوابه استعلاء ، وتعاظما ، على النقيض مما كان في جواب آدم إذ قال : قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين [ 38 \ 76 ] ، فكان جوابه كذلك عكس ما كان جوابا على آدم : قال فاخرج منها فإنك رجيم وإن عليك لعنتي إلى يوم الدين [ 38 \ 77 - 78 ] .
ولقد قالوا : إن الذي جر على إبليس هذا كله هو الحسد ، حسد آدم على ما أكرمه الله به فاحتقره ، وتكبر عليه ، فوقع في العصيان ، وكانت نتيجته الطرد .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|