
08-05-2023, 08:17 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,288
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (527)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ
صـ 523 إلى صـ 530
والمعنى على هذا واضح ، وهو أنهم أنكروا بعثهم أنفسهم بأداة الإنكار التي هي الهمزة ، وعطفوا على ذلك بالواو إنكارهم بعث آبائهم الأولين بأداة الإنكار التي هي [ ص: 523 ] الهمزة المقدمة عن محلها لفظا لا رتبة ، وهذا القول هو قول الأقدمين من علماء العربية ، واختاره أبو حيان في البحر المحيط وابن هشام في مغني اللبيب ، وهو الذي صرنا نميل إليه أخيرا بعد أن كنا نميل إلى غيره . الوجه الثاني : هو أن همزة الاستفهام في محلها الأصلي ، وأنها متعلقة بجملة محذوفة ، والجملة المصدرة بالاستفهام معطوفة على المحذوفة بحرف العطف الذي بعد الهمزة ، وهذا الوجه يميل إليه الزمخشري في أكثر المواضع من كشافه ، وربما مال إلى غيره .
وعلى هذا القول فالتقدير : أمبعوثون نحن وآباؤنا الأولون ؟
وما ذكره الزمخشري هنا من أن قوله : " آباؤنا " معطوف على واو الرفع في قوله : لمبعوثون ، وأنه ساغ العطف على ضمير رفع متصل من غير توكيد بالضمير المنفصل لأجل الفصل بالهمزة - لا يصح ، وقد رده عليه أبو حيان وابن هشام وغيرهما .
وهذا الوجه الأخير مال إليه ابن مالك في الخلاصة في قوله :
وحذف متبوع بدا هنا استبح وعطفك الفعل على الفعل يصح وقرأ هذا الحرف قالون وابن عامر " أو آباؤنا " بسكون الواو ، والذي يظهر لي على قراءتهما " أو " بمعنى الواو العاطفة ، وأن قوله : " آباؤنا " ، معطوف على محل المنصوب الذي هو اسم " إن " ، لأن عطف المرفوع على منصوب " إن " بعد ذكر خبرها جائز بلا نزاع ، لأن اسمها وإن كان منصوبا فأصله الرفع لأنه مبتدأ في الأصل ، كما قال ابن مالك في الخلاصة :
وجائز رفعك معطوفا على منصوب إن بعد أن تستكملا وإنما قلنا : إن " أو " بمعنى الواو ، لأن إتيانها بمعنى الواو معروف في القرآن وفي كلام العرب ، فمنه في القرآن : فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا [ 775 - 6 \ ] ; لأن الذكر الملقى للعذر ، والنذر معا لا لأحدهما ، لأن المعنى أنها أتت للذكر إعذارا وإنذارا . وقوله تعالى : ولا تطع منهم آثما أو كفورا [ 76 \ 24 ] ، أي ولا كفورا ، وهو كثير في كلام العرب ، ومنه قول عمرو بن معدي كرب :
قوم إذا سمعوا الصريخ رأيتهم ما بين ملجم مهره أو سافع [ ص: 524 ] فالمعنى ما بين الملجم مهره وسافع : أي آخذ بناصيته ليلجمه ، وقول نابغة ذبيان :
قالت ألا ليت ما هذا الحمام لنا إلى حمامتنا أو نصفه فقد فحسبوه فألفوه كما زعمت
ستا وستين لم تنقص ولم تزد فقوله : أو نصفه بمعنى ونصفه كما هو ظاهر من معنى البيتين المذكورين ، لأن مرادها أنها تمنت أن يكون الحمام المار بها هو ونصفه معه لها مع حمامتها التي معها ، ليكون الجميع مائة حمامة ، فوجدوه ستا وستين ، ونصفها ثلاث وثلاثون فيكون المجموع تسعا وتسعين ، والمروي في ذلك عنها أنها قالت :
ليت الحمام ليه إلى حمامتيه
ونصفه قديه تم الحمام مايه
وقول توبة بن الحمير :
قد زعمت ليلى بأني فاجر لنفسي تقاها أو عليها فجورها
وقوله تعالى : أئذا متنا وكنا ترابا وعظاما أئنا لمبعوثون أجمع عامة القراء على إثبات همزة الاستفهام في قوله : أئذا متنا وأثبتها أيضا عامة السبعة غير نافع والكسائي في قوله : أئنا ، وقرأه نافع والكسائي : " إنا لمبعوثون " ، بهمزة واحدة مكسورة على الخبر ، كما عقده صاحب الدرر اللوامع في أصل مقرأ الإمام نافع بقوله :
فصل واستفهام إن تكررا فصير الثاني منه خبرا
واعكسه في النمل وفوق الروم . . . . . . . . . . . . إلخ
والقراءات في الهمزتين في أئذا و أئنا معروفة ، فنافع يسهل الهمزة الثانية بين بين ، ورواية قالون عنه هي إدخال ألف بين الهمزتين الأولى المحققة والثانية المسهلة .
ورواية قالون هذه عن نافع بالتسهيل والإدخال مطابقة لقراءة أبي عمرو ، فأبو عمرو وقالون عن نافع يسهلان ويدخلان ، ورواية ورش عن نافع هي تسهيل الأخيرة منهما بين بين من غير إدخال ألف . وهذه هي قراءة ابن كثير وورش ، فابن كثير وورش يسهلان ولا يدخلان .
[ ص: 525 ] وقرأ هشام عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين ، وبينهما ألف الإدخال .
وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيق الهمزتين من غير ألف الإدخال ، هذه هي القراءات الصحيحة في مثل أئذا و أئنا ونحو ذلك في القرآن .
تنبيه :
اعلم - وفقني الله وإياك - أن ما جرى في الأقطار الإفريقية من إبدال الأخيرة من هذه الهمزة المذكورة وأمثالها في القرآن هاء خالصة من أشنع المنكر وأعظم الباطل ، وهو انتهاك لحرمة القرآن العظيم ، وتعد لحدود الله ، ولا يعذر فيه إلا الجاهل الذي لا يدري ، الذي يظن أن القراءة بالهاء الخالصة صحيحة ، وإنما قلنا هذا لأن إبدال الهمزة فيما ذكر هاء خالصة لم يروه أحد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم ينزل عليه به جبريل البتة ، ولم يرو عن صحابي ولم يقرأ به أحد من القراء ، ولا يجوز بحال من الأحوال ، فالتجرؤ على الله بزيادة حرف في كتابه ، وهو هذه الهاء التي لم ينزل بها الملك من السماء البتة ، هو كما ترى . وكون اللغة العربية قد سمع فيها إبدال الهمزة هاء لا يسوغ التجرؤ على الله بإدخال حرف في كتابه لم يأذن بإدخاله الله ولا رسوله .
ودعوى أن العمل جرى بالقراءة بالهاء لا يعول عليها ، لأن جريان العمل بالباطل باطل ، ولا أسوة في الباطل بإجماع المسلمين ، وإنما الأسوة في الحق ، والقراءة سنة متبعة مروية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا لا خلاف فيه .
وقوله تعالى : متنا ، وقرأه ابن عامر وابن كثير وأبو عمرو وشعبة عن عاصم " متنا " بضم الميم وقرأه نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم متنا بكسر الميم ، وقد قدمنا مسوغ كسر الميم لغة في سورة مريم في الكلام على قوله تعالى : ياليتني مت قبل هذا [ 19 \ 23 ] .
قوله تعالى : قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم .
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين في الآية المتقدمة ؛ أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن [ ص: 526 ] يخبرهم خبرا مؤكدا بأن الأولين والآخرين كلهم مجموعون يوم القيامة للحساب والجزاء بعد بعثهم .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من بعث الأولين والآخرين وجمعهم يوم القيامة - جاء موضحا في آيات كثيرة كقوله : يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن [ 64 \ 9 ] ، وقوله تعالى : الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة [ 4 \ 87 ] ، وقوله تعالى : ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه الآية [ 3 \ 9 ] ، وقوله تعالى : ذلك يوم مجموع له الناس [ 11 \ 103 ] ، وقوله تعالى : هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين [ 77 \ 38 ] ، وقوله تعالى : وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا [ 18 \ 47 ] .
وقد قدمنا هذا موضحا في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وحفظناها من كل شيطان رجيم [ 15 \ 17 ] .
قوله تعالى : ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم .
قد قدمنا إيضاح هذا وتفسيره في سورة الصافات في الكلام على قوله تعالى : ثم إن لهم عليها لشوبا من حميم [ 37 \ 67 ] .
قوله تعالى : هذا نزلهم يوم الدين .
النزل بضمتين : هو رزق الضيف الذي يقدم له عند نزوله إكراما له ، ومنه قوله تعالى : إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا [ 18 \ 107 ] ، وربما استعملت العرب النزول في ضد ذلك على سبيل التهكم والاحتقار ، وجاء القرآن باستعمال النزول فيما يقدم لأهل النار من العذاب كقوله هنا في عذابهم المذكور في قولهم : لآكلون من شجر من زقوم إلى قوله : شرب الهيم هذا نزلهم [ 56 \ 52 - 56 ] ، أي هذا العذاب المذكور هو ضيافتهم ورزقهم المقدم لهم عند نزولهم في دارهم التي هي النار ، كقوله تعالى للكافر الحقير الذليل : ذق إنك أنت العزيز الكريم [ 44 \ 49 ] .
وما تضمنته هذه الآية الكريمة من إطلاق النزول على عذاب أهل النار ، جاء موضحا [ ص: 527 ] في غير هذا الموضع كقوله في آخر هذه السورة الكريمة : فنزل من حميم وتصلية جحيم [ 56 \ 93 - 94 ] ، وقوله تعالى في آخر الكهف : إنا أعتدنا جهنم للكافرين نزلا [ 18 \ 102 ] ، ونظير ذلك من كلام العرب قول أبي السعد الضبي :
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا جعلنا القنا والمرهفات له نزلا وقوله : يوم الدين ، أي يوم الجزاء كما تقدم مرارا .
قوله تعالى : نحن خلقناكم فلولا تصدقون .
لما أنكر الكفار بعثهم وآباءهم الأولين ، وأمر الله رسوله أن يخبرهم أنه تعالى باعث جميع الأولين والآخرين ، وذكر جزاء منكري البعث بأكل الزقوم وشرب الحميم - أتبع ذلك بالبراهين القاطعة الدالة على البعث فقال : نحن خلقناكم هذا الخلق الأول فلولا تصدقون ، أي : فهلا تصدقون بالبعث الذي هو الخلق الثاني ، لأن إعادة الخلق لا يمكن أن تكون أصعب من ابتدائه كما لا يخفى .
وهذا البرهان على البعث بدلالة الخلق الأول على الخلق الثاني - جاء موضحا في آيات كثيرة جدا كقوله تعالى : وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه [ 30 \ 27 ] ، وقوله : كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين [ 21 \ 104 ] ، وقوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة [ 36 \ 79 ] ، وقوله تعالى : فسيقولون من يعيدنا قل الذي فطركم أول مرة [ 17 \ 51 ] ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة ، وقد ذكرناها بإيضاح وكثرة في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك في سورة البقرة والنحل والحج والجاثية ، وغير ذلك من المواضع وأحلنا عليها كثيرا .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : فلولا تصدقون " لولا " حرف تحضيض ، ومعناه الطلب بحث وشدة ، فالآية تدل على شدة حث الله للكفار وحضه لهم على التصديق بالبعث لظهور برهانه القاطع الذي هو خلقه لهم أولا .
قوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون .
قد قدمنا قريبا كلام أهل العلم في همزة الاستفهام المتبوعة بأداة عطف ، وذكرناه قبل [ ص: 528 ] هذا مرارا ، وقوله تعالى : أفرأيتم ما تمنون يعني أفرأيتم ما تصبونه من المني في أرحام النساء ، فلفظة " ما " موصولة ، والجملة الفعلية صلة الموصول ، والعائد إلى الصفة محذوف ، لأنه منصوب بفعل ، والتقدير : أفرأيتم ما تمنونه ، والعرب تقول : أمنى النطفة بصيغة الرباعي ، يمنيها بضم حرف المضارعة ، إذا أراقها في رحم المرأة ، ومنه قوله تعالى : من نطفة إذا تمنى [ 53 \ 46 ] ، ومنى يمنى بصيغة الثلاثي لغة صحيحة ، إلا أن القراءة بها شاذة .
وممن قرأ " تمنون " بفتح التاء مضارع في الثلاثي المجرد - أبو السمال وابن السميقع ، وقوله تعالى : أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون استفهام تقرير ، فإنهم لا بد أن يقولوا : أنتم الخالقون ، فيقال لهم : إذا كنا خلقنا هذا الإنسان الخصيم المبين من تلك النطفة التي تمنى في الرحم ، فكيف تكذبون بقدرتنا على خلقه مرة أخرى ، وأنتم تعلمون أن الإعادة لا يمكن أن تكون أصعب من الابتداء ، والضمير المنصوب في " تخلقونه " عائد إلى الموصول أي تخلقون ما تمنونه من النطف علقا ، ثم مضغا إلى آخر أطواره .
وهذا الذي تضمنته هذه الآية من البراهين القاطعة على كمال قدرة الله على البعث وغيره ، وعلى أنه المعبود وحده ، ببيان أطوار خلق الإنسان - جاء موضحا في آيات أخر ، وقد قدمنا الكلام على ذلك مستوفى بالآيات القرآنية ، وبينا ما يتعلق بكل طور من أطواره من الأحكام الشرعية في سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] .
وذكرنا أطوار خلق الإنسان في سورة الرحمن أيضا في الكلام على قوله تعالى : خلق الإنسان علمه البيان [ 55 \ 3 - 4 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
وبينا الآيات الدالة على أطوار خلقه جملة وتفصيلا في الحج .
تنبيه :
هذا البرهان الدال على البعث الذي هو خلق الإنسان من نطفة مني تمنى - يجب على كل إنسان النظر فيه ، لأن الله - جل وعلا - وجه صفة الأمر بالنظر فيه إلى مني الإنسان ، والأصل في صيغة الأمر على التحقيق الوجوب إلا لدليل صارف عنه ، وذلك في قوله تعالى : فلينظر الإنسان مم خلق خلق من ماء دافق الآية [ 86 \ 5 - 6 ] ، وقد قدمنا [ ص: 529 ] شرحها في أول سورة النحل ، وقرأ هذا الحرف نافع أفرأيتم بتسهيل الهمزة بعد الراء بين بين .
والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عنه إبدال الهمزة ألفا وإشباعها لسكون الياء بعدها .
وقرأ الكسائي : " أفريتم " بحذف الهمزة ، وقرأه باقي السبعة بتحقيق الهمزة .
وقوله تعالى : أأنتم قرأه نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر في إحدى الروايتين بتسهيل الهمزة الثانية . والرواية المشهورة التي بها الأداء عن ورش عن نافع إبدال الثانية ألفا مشبعا مدها لسكون النون بعدها ، وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وهشام عن ابن عامر في الرواية الأخرى بتحقيق الهمزتين ، وقالون ، وأبو عمرو وهشام بألف الإدخال بين الهمزتين والباقون بدونها .
قوله تعالى : نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون .
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير ابن كثير قدرنا بتشديد الدال ، وقرأه ابن كثير بتخفيفها ، وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك أن الآية الكريمة قد يكون فيها وجهان أو أكثر من التفسير ، ويكون كل ذلك صحيحا ، وكله يشهد له قرآن ، فنذكر الجميع وأدلته من القرآن ، ومن ذلك هذه الآية الكريمة .
وإيضاح ذلك أن قوله : قدرنا [ 56 \ 60 ] وجهان من التفسير ، وفيما تتعلق به : على أن نبدل [ 56 \ 61 ] وجهان أيضا ، فقال بعض العلماء : وهو اختيار ابن جرير أن قوله : قدرنا بينكم الموت أي قدرنا لموتكم آجالا مختلفة وأعمارا متفاوتة فمنكم من يموت صغيرا ومنكم من يموت شابا ، ومنكم من يموت شيخا .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة من كتاب الله كقوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر [ 22 \ 5 ] ، وقوله تعالى : ثم لتكونوا شيوخا ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون [ 40 \ 67 ] ، وقوله تعالى : وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب [ 35 \ 11 ] ، وقوله تعالى : ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقوله : [ ص: 530 ] وما نحن بمسبوقين [ 56 \ 6 ] ، أي ما نحن بمغلوبين . والعرب تقول : سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه ، أي : وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلا أخرناه ولا يؤخر أجلا قدمناه .
وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى : فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقوله تعالى : إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [ 71 \ 4 ] ، وقوله تعالى : وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول ، فقوله تعالى : على أن نبدل أمثالكم [ 56 \ 61 ] ، ليس متعلقا بـ " مسبوقين " بل بقوله تعالى : نحن قدرنا بينكم الموت [ 56 \ 60 ] ، والمعنى : نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالا لهم نوجدهم .
وعلى هذا ، فمعنى تبديل أمثالهم - إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا ، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير ، وقراءة " قدرنا " بالتشديد مناسبة لهذا الوجه ، وكذلك لفظة " بينكم " .
الوجه الثاني : أن " قدرنا " بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق ، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى : كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88 ] ، وقوله تعالى : كل نفس ذائقة الموت [ 21 \ 35 ] ، وقوله تعالى : وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58 ] ، وعلى هذا القول فقوله : على أن نبدل [ 56 \ 61 ] ، متعلق بـ " مسبوقين " ، أي : ما نحن مغلوبين ، والمعنى : وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا ، فنحن قادرون على إهلاككم ، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلا منكم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|