
08-05-2023, 07:42 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,935
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (522)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ
صـ 483 إلى صـ 490
[ ص: 483 ] وقد تضمنت إيضاح قصة لوط وقومه في سورة هود وسورة الحجر في الكلام على القصة المذكورة في السورتين .
قوله تعالى : ولقد جاء آل فرعون النذر كذبوا بآياتنا كلها فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر . تضمنت هاتان الآيتان ثلاثة أمور :
الأول : أن آل فرعون جاءتهم النذر .
الثاني : أنهم كذبوا بآيات الله .
الثالث : أن الله أخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وهذه الأمور الثلاثة المذكورة هنا جاءت موضحة في آيات أخر من كتاب الله .
أما الأول منها وهو أن آل فرعون وقومه جاءهم النذر ، فقد أوضحه تعالى في آيات كثيرة من كتابه .
اعلم أولا أن قوله : جاء آل فرعون النذر ، قيل : هو جمع نذير وهو الرسول ، وقيل : هو مصدر بمعنى الإنذار ، فعلى أنه مصدر فقد بينت الآيات القرآنية بكثرة أن الذي جاءهم بذلك الإنذار هو موسى وهارون . وعلى أنه جمع نذير أي منذر ، فالمراد به موسى وهارون ، وقد جاء في آيات كثيرة إرسال موسى وهارون لفرعون كقوله تعالى في طه فأتياه فقولا إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك [ 20 \ 47 ] .
ثم بين تعالى إنذارهما له في قوله : إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى [ 20 \ 48 ] ، ونحوها من الآيات . وفي هذه الآية سؤال معروف ، وهو أن الله تبارك وتعالى أرسل لفرعون نبيين هما موسى وهارون ، كما قال تعالى : فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين [ 26 \ 16 ] ، وهنا جمع النذر في قوله : ولقد جاء آل فرعون النذر ، وللعلماء عن هذا أجوبة ، أحدها أن أقل الجمع اثنان كما هو المقرر في أصول مالك بن أنس رحمه الله ، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله :
أقل معنى الجمع في المشتهر لاثنان في رأي الإمام الحميري [ ص: 484 ] قالوا : ومنه قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما [ 66 \ 4 ] ، ولهما قلبان فقط وقوله : فإن كان له إخوة فلأمه السدس [ 4 \ 11 ] ، والمراد بالإخوة اثنان فصاعدا كما عليه الصحابة فمن بعدهم خلافا لابن عباس ، وقوله : وأطراف النهار [ 20 \ 130 ] ، وله طرفان . ومنها ما ذكره الزمخشري وغيره من أن المراد بالنذر موسى وهارون وغيرهما من الأنبياء ، لأنهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون . ومنها أن النذر مصدر بمعنى الإنذار .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : التحقيق في الجواب - أن من كذب رسولا واحدا فقد كذب جميع المرسلين ، ومن كذب نذيرا واحدا فقد كذب جميع النذر ، لأن أصل دعوة جميع الرسل واحدة ، وهي مضمون لا إله إلا الله كما أوضحه تعالى بقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله تعالى : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 43 \ 45 ] .
وأوضح تعالى أن من كذب بعضهم فقد كذب جميعهم في قوله تعالى : ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا [ 4 \ 150 ] ، ، وأشار إلى ذلك في قوله : لا نفرق بين أحد من رسله [ 2 \ 285 ] ، وقوله : لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون [ 2 \ 136 ] ، وقوله تعالى : والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم الآية [ 4 \ 152 ] .
وقد أوضح تعالى في سورة الشعراء أن تكذيب رسول واحد تكذيب لجميع الرسل ، وذلك في قوله : كذبت قوم نوح المرسلين [ 26 \ 105 ] ، ثم بين أن تكذيبهم للمرسلين إنما وقع بتكذيبهم نوحا وحده ، حيث أفرد ذلك بقوله : إذ قال لهم أخوهم نوح ألا تتقون إلى قوله : قال رب إن قومي كذبون [ 26 \ 106 - 107 ] ، وقوله تعالى : كذبت عاد المرسلين [ 26 \ 123 ] ، ثم بين أن ذلك بتكذيب هود وحده ، حيث أفرده بقوله : إذ قال لهم أخوهم هود ألا تتقون [ 26 \ 124 ] ، ونحو ذلك في قوله تعالى في [ ص: 485 ] قصة صالح وقومه ، ولوط وقومه ، وشعيب وأصحاب الأيكة ، كما هو معلوم ، وهو واضح لا خفاء فيه ، ويزيده إيضاحا قوله - صلى الله عليه وسلم : " إنا معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد " يعني أنهم كلهم متفقون في الأصول وإن اختلفت شرائعهم في بعض الفروع .
وأما الأمر الثاني : وهو كون فرعون وقومه كذبوا بآيات الله ، فقد جاء موضحا في آيات أخر كقوله تعالى : وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين [ 7 \ 132 ] ، وقوله تعالى : ولقد أريناه آياتنا كلها فكذب وأبى [ 20 \ 56 ] ، وقوله تعالى : فأراه الآية الكبرى فكذب وعصى [ 79 \ 20 - 21 ] ، وقوله تعالى : وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا فانظر كيف كان عاقبة المفسدين [ 27 \ 12 - 14 ] .
وأما الأمر الثالث وهو قوله تعالى : فأخذناهم أخذ عزيز مقتدر ، فقد جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : وفي موسى إذ أرسلناه إلى فرعون بسلطان مبين إلى قوله : فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم وهو مليم [ 51 \ 38 - 40 ] ، وقوله تعالى : فأتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم [ 20 \ 78 ] ، وقوله تعالى : وأغرقنا آل فرعون وأنتم تنظرون [ 2 \ 50 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله : أخذ عزيز مقتدر يوضحه قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد [ 11 \ 102 ] .
وقد روى الشيخان في صحيحيهما عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، ثم تلا قوله تعالى : وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى الآية [ 11 \ 102 ] ، " ، والعزيز الغالب ، والمقتدر : شديد القدرة عظيمها .
قوله تعالى : أكفاركم خير من أولئكم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الزخرف في الكلام على قوله تعالى : فأهلكنا أشد منهم بطشا [ 43 \ 8 ] ، وفي صدر سورة الروم ، وغير ذلك من المواضع .
[ ص: 486 ] قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الطور في الكلام على قوله تعالى : يوم يدعون إلى نار جهنم دعا [ 52 \ 13 ] .
قوله تعالى : إنا كل شيء خلقناه بقدر .
قد قدمنا الكلام عليه في سورة الزخرف في بعض المناقشات التي ذكرناها في الكلام على قوله تعالى : قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين [ 43 \ 81 ] .
قوله تعالى : وكل شيء فعلوه في الزبر وكل صغير وكبير مستطر .
الصحيح في معنى الآية أن كل شيء فعله الناس مكتوب عليهم في الزبر التي هي صحف الأعمال وكل صغير وكبير مستطر أي مكتوب عليهم لا يترك منه شيء .
وهذا المعنى جاء موضحا في آيات من كتاب الله كقوله تعالى : ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا [ 18 \ 49 ] ، وقوله تعالى : يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 - 30 ] .
والزبر : جمع زبور ، وهو الكتاب . والمستطر معناه المسطور ، أي المكتوب ، والآيات بمثل هذا كثيرة معلومة .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات ونهر .
أي في جنات وأنهار كما أوضح تعالى ذلك في قوله : تجري من تحتها الأنهار [ 2 \ 25 ] ، وقوله تعالى : فيها أنهار من ماء غير آسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى [ 47 \ 15 ] .
وقد ذكرنا كثيرا من أمثلة إطلاق المفرد ، وإرادة الجمع كما هنا في القرآن العظيم ، مع تنكير المفرد وتعريفه ، وإضافته ، وأكثرنا أيضا من الشواهد العربية على ذلك في سورة [ ص: 487 ] الحج في الكلام على قوله تعالى : ثم نخرجكم طفلا [ 22 \ 5 ] ، وفي غير ذلك من المواضع . والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 488 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .
سُورَةُ الرَّحْمَنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ .
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لَمَّا تَجَاهَلَ الْكُفَّارُ الرَّحْمَنَ - جَلَّ وَعَلَا - كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ [ 25 \ 60 ] ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفُرْقَانِ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى الرَّحْمَنِ وَأَدِلَّتَهُ مِنَ الْآيَاتِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : عَلَّمَ الْقُرْآنَ . أَيْ عَلَّمَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقُرْآنَ فَتَلَقَّتْهُ أُمَّتُهُ عَنْهُ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَتَضَمَّنُ رَدَّ اللَّهِ عَلَى الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِمْ : إِنَّهُ تَعَلَّمَ هَذَا الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [ 16 \ 10 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [ 74 \ 24 ] ، أَيْ يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ غَيْرِهِ .
وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [ 25 \ 4 - 5 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى هُنَا الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ أَنَّهُ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ مِنْ بَشَرٍ ، بَلِ الرَّحْمَنُ - جَلَّ وَعَلَا - هُوَ الَّذِي عَلَّمَهُ إِيَّاهُ ، وَالْآيَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [ 25 \ 6 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [ 11 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا [ 41 \ 1 - 4 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : [ ص: 489 ] وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [ 7 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا [ 20 \ 113 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا [ 25 \ 33 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [ 75 \ 17 - 19 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [ 42 \ 52 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ [ 12 \ 3 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا [ 4 \ 113 ] ، وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [ 2 \ 185 ] .
وَتَعْلِيمُهُ - جَلَّ وَعَلَا - هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ، قَدْ بَيَّنَ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ أَنَّهُ مَنْ أَعْظَمِ نِعَمِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ [ 35 \ 32 ] .
وَقَدْ عَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّاسَ أَنْ يَحْمَدُوهُ عَلَى هَذِهِ النِّعْمَةِ الْعُظْمَى الَّتِي هِيَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا [ 18 \ 1 ] ، وَبَيَّنَ أَنَّ إِنْزَالَهُ رَحْمَةٌ مِنْهُ لِخَلْقِهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 28 \ 86 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [ 44 \ 5 - 6 ] ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي الْكَهْفِ وَالزُّخْرُفِ .
عَلَّمَ الْقُرْآنَ حَذَفَ فِيهِ أَحَدَ الْمَفْعُولَيْنِ ، وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ الْمَحْذُوفَ هُوَ الْأَوَّلُ لَا الثَّانِي ، كَمَا ظَنَّهُ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ ، وَقَدْ رَدَّهُ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ ، وَالصَّوَابُ هُوَ مَا ذَكَرَهُ ، مِنْ أَنَّ الْمَحْذُوفَ الْأَوَّلُ ، وَتَقْدِيرُهُ : عَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ : جِبْرِيلَ ، وَقِيلَ : الْإِنْسَانَ .
قوله تعالى : خلق الإنسان علمه البيان .
اعلم أولا أن خلق الإنسان وتعليمه البيان من أعظم آيات الله الباهرة ، كما أشار تعالى لذلك بقوله في أول النحل : خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 16 \ 4 ] [ ص: 490 ] وقوله : في آخر " يس " أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين [ 36 \ 77 ] .
فالإنسان بالأمس نطفة واليوم هو في غاية البيان وشدة الخصام يجادل في ربه وينكر قدرته على البعث ، فالمنافاة العظيمة التي بين النطفة وبين الإبانة في الخصام ، مع أن الله خلقه من نطفة وجعله خصيما مبينا ؛ آية من آياته - جل وعلا - دالة على أنه المعبود وحده ، وأن البعث من القبور حق .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلق الإنسان لم يبين هنا أطوار خلقه للإنسان ، ولكنه بينها في آيات أخر كقوله تعالى في الفلاح : ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين [ 23 \ 12 - 14 ] ، والآيات المبينة أطوار خلق الإنسان كثيرة معلومة .
وقد بينا ما يتعلق بالإنسان من الأحكام في جميع أطواره قبل ولادته في أول سورة الحج في الكلام على قوله تعالى : ياأيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب الآية [ 22 \ 5 ] ، وبينا هناك معنى النطفة والعلقة والمضغة في اللغة .
وقوله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة علمه البيان التحقيق فيه أن المراد بالبيان الإفصاح عما في الضمير .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أنه علم الإنسان البيان قد جاء موضحا في قوله تعالى : فإذا هو خصيم مبين في سورة النحل [ 16 \ 4 ] ، و " يس " [ 36 \ 77 ] ، وقوله : مبين على أنه اسم فاعل " أبان " المتعدية ، والمفعول محذوف للتعميم ، أي مبين كل ما يريد بيانه وإظهاره بلسانه مما في ضميره ، وذلك لأنه ربه علمه البيان ، وعلى أنه صفة مشبهة من " أبان " اللازمة ، وأن المعنى فإذا هو خصيم مبين ، أي : بين الخصومة ظاهرها ، فكذلك أيضا ، لأنه ما كان بين الخصومة إلا لأن الله علمه البيان .
وقد امتن الله - جل وعلا - على الإنسان بأنه جعل له آلة البيان التي هي اللسان والشفتان ، وذلك في قوله تعالى : ألم نجعل له عينين ولسانا وشفتين [ 90 \ 9 ] .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|