
07-05-2023, 10:53 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة :
|
|
رد: مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية
مراجعات ابن كثير ونقده لمتون مرويات السيرة النبوية في كتابه البداية والنهاية
عبدالرحمن بن علي السنيدي
مقاييس ابن كثير في نقد المتن:
راجع ابن كثير متون المرويات والأقوال في موضوع السيرة آخذًا بعين الاعتبار الخطوات التي كان العلماء يقومون بها وهم ينقدون النصوص والمرويات.
ومن هذه القواعد عرض المتن على القرآن الكريم ثم على السنة المتواترة ثم على الإجماع ثم على العقل[126].
إن ممارسة هذا الفن وقراءة النصوص واستظهارها عوامل مكنت العلماء الراسخين من رد روايات وأحاديث بالنظر إلى المروي وألفاظ الحديث، قال ابن دقيق العيد (ت207هـ): "وأهل الحديث كثيرًا ما يحكمون بذلك أي بالوضع باعتبار أمور ترجع إلى المروي وألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم، وحاصله يرجع إلى أَنَّه حصلت لهم لكثرة محاولة ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم هيئة نفاسية أو ملكة يعرفون بها ما يجوز من ألفاظ الرسول صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز أن يكون من ألفاظه"[127]، ويعد ابن القيم (وهو ممن نهل من المدرسة نفسها التي نهل منها ابن كثير) من أوائل العلماء الذين أصَّلوا بعض القواعد التي يمكن بواسطتها نقد متن الحديث[128].
لم يُهْمِل العلماء المسلمون إذن نقد المتن من خلال استخدام بعض القواعد والمقاييس والتي رصدها بعض الباحثين أمثال، مسفر غرم الله الدميني في كتابه مقاييس نقد متون السنة[129]، وعصام البشير في كتابه أصول منهج النقد عند أهل الحديث[130]، ومحمد طاهر الجوابي في كتابه (جهود المحدثين في نقد متن الحديث النبوي)[131] لكن هذا النوع من النقد ليس كلأً مباحاً لكل طالب وليس باباً مفتوحاً لكل طارق، قال ابن القيم في إجابة على سؤال فحواه هل يمكن معرفة الحديث الموضوع دون النظر في سنده: (إنما يعلم ذلك من تضلع في معرفة السنن الصحيحة واختلطت بلحمه ودمه. وصار له فيها ملكة، وصار له اختصاص شديد بمعرفة السنن والآثار، ومعرفة سيرة رسول الله وهديه فيما يأمر به وينهى عنه ويخبر عنه ويدعو إليه، ويحبه ويكرهه ويشرعه للأمة، بحيث كأنه مخالط للرسول صلى الله عليه وسلم كواحد من أصحابه)[132].
على أي حال جاء نقد ابن كثير للمتن – كما سيتضح لاحقاً – في ضوء القواعد الموضوعة في هذا الباب، تلك القواعد التي جاءت حصيلة جهد تراكم عبر السنين والعصور، وفي السطور الآتية نأتي على أبرز المعايير التي سلكها ابن كثير وهو ينقد متون مروياته في مجال السيرة النبوية.
1 – عرض الرواية على رواية أصح منها:
ثمة روايات انتقدها ابن كثير مشيراً إلى معارضتها ماهو أصح منها كرواية ابن إسحاق في إسلام أبي طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل وفاته قال ابن كثير: بعد أن نقد الرواية من جهة الإسناد:
(عارضه ماهو أصح منه وهو ما رواه البخاري رحمه الله...)، ثم ساق روايته وفيها حتى قال آخر شيء كلمهم به: على ملة عبدالمطلب[133]، ثم أورد روايات أخرى معارضة لمضمون رواية ابن إسحاق من الصحيحين ومسند الإمام أحمد ومسند البزار وسنن الترمذي ومغازي يونس بن بكير[134].
كذلك راجع ابن كثير رواية ابن إسحاق وفيها أن أبا موسى الأشعري ممن هاجر من مكة إلى الحبشة، وما ورد في المسند عند الإمام أحمد من أن أبا موسى كان من المهاجرين إلى الحبشة من مكة وكذلك رواية أبي نعيم والبيهقي في الدلائل، وفيها عن أبي موسى: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر بن أبي طالب إلى أرض النجاشي) وهي مروية بإسناد صحيح، وقارن تلك الروايات برواية البخاري ومسلم في هجرة أبي موسى الأشعري وفيها أنهم بلغهم مخرج رسول الله (وهم باليمن فخرجوا مهاجرين في بضع وخمسين رجلاً في سفينة فألقتهم سفينتهم إلى النجاشي.
ونقل ابن كثير عن البيهقي قوله: (ولعل الراوي قد وهم في قوله أمرنا رسول الله أنْ ننطلق والله أعلم)[135].
وقد رد ابن كثير روايات لابن إسحاق وموسى بن عقبة، معارضاً إياها بروايات صاحبي الصحيح مثل رواية ابن إسحاق في وقت نزول سورة (الضحى)[136]، وقول موسى بن عقبة، عن جميع من استشهد يوم أحد من المهاجرين والأنصار إنهم تسعة وأربعون رجلاً.
حيث عقب على ذلك بقوله: ثبت في الحديث الصحيح عند البخاري عن البراء أنهم قتلوا من المسلمين سبعين رجلاً[137].
لا غرابة أن يستخدم ابن كثير هذا المقياس الأصيل الذي يتجلى في مراجعة الرواية في ضوء الروايات الأخرى في الموضوع نفسه، إذ إن لهذا المنهج أثراً في كشف مميزات المتن وعيوبه والإسناد، فالمقارنة بين الروايات سنداً ومتناً وسيلة لسبر غور الرواية[138] وتصنيفها بحسب ما يكتنفها من قوة أو ضعف ومن ثم الباسها المسمى المناسب لحالها.
2 – استدعاء تاريخ التشريع:
بوسعنا أن نجد في سيرة ابن كثير أمثلة تدل على متابعته لتواري التشريعات وما نزل من الأحكام، ويهمنا هنا أن نذكر أن ابن كثير بحكم ثقافته في هذا الجانب نقد بعض المتون مستخدماً معرفته بتواريخ نزول هذا الحكم أو ذاك.
فقد ناقش ابن كثير رواية ابن هشام في خبر قدوم الأعشى الشاعر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سياق أحداث العهد المكي، فمما ناقشه ابن كثير فيه ما جاء في الرواية أن أهل مكة ذكروا له أنّه يحرم الخمر، ومعلوم أن تحريمها بالمدينة بعد وقعة بني النضير.
وفي الرواية أن الأعشى خرج إلى رسول الله يريد الإسلام وقال يمدح النبي قصيدة مطلعها:
ألم تَغْتَمِضْ عيناك ليلة أَرمدَا وبِتَّ كما باتَ السليم مسهدا
قال ابن هشام فلما كان قريباً من مكة اعترضه بعض المشركين من قريش فسأله عن أمره فأخبره أنه يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيُسلَم فقال له يا أبا بصير إنه يحرم الزنا فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر مالي فيه من أرب فقال يا أبا بصير: إنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات[139] ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا ثم آتيه فأسلم.
قال ابن كثير: هكذا أورد ابن هشام هذه القصة هنا (في سياق أحداث العهد المكي) وهو كثير المؤاخذات لمحمد بن إسحاق رحمه الله، وهذا مما يؤاخذ به ابن هشام رحمه الله فالخمر إنما حرمت بالمدينة بعد وقعة النضير كما سيأتي بيانه فالظاهر أن عزم الأعشى على القدوم للإسلام إنما كان بعد الهجرة وفي شعره ما يدل على ذلك، وهو قوله:
ألا أيُّهذا السائلي أينَ يَمَّمتْ فإِنَّ لها في أهلِ يَثرِب مَوعِدا
وكان الأنسب والأليق بابن هشام أن يؤخر ذكر هذه القصة إلى ما بعد الهجرة ولا يوردها هنا والله أعلم[140].
وعند البحث في تاريخ غزوة بني لحيان التي صلى فيها المسلمون صلاة الخوف بعسفان وقد ساقها بعض كتاب السيرة قبل غزوة الخندق.
وهنا يستدعي ابن كثير تشريع صلاة الخوف، فيذكر أنَّ صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق ولو كانت صلاة الخوف مشروعة يوم الخندق لفعلوها. وكأَنّ ابن كثير هنا يرجح ما ذكره ابن إسحاق وغيره من أهل المغازي في أن غزوة بني لحيان إنما كانت سنة ست من الهجرة تلك القرينة التي أشرنا إليها[141].
وكذلك تاريخ غزوة ذات الرقاع حيث يرى ابن إسحاق أنها في السنة الرابعة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها صلاة الخوف[142].
ويرى الواقدي أنها في محرم سنة خمس وقد ذهب البخاري إلى أنها في سنة سبع بعد خيبر[143] وفي معرض ترجيحه لكون ذات الرقاع بعد الخندق سنة خمس أشار ابن كثير إلى أن صلاة الخوف إنما شرعت بعد الخندق[144].
ويستدعي ابن كثير تاريخ تشريع تحريم المسلمات على المشركين عندما يناقش قول ابن إسحاق، وكان رسول الله بمكة لا يُحل ولا يحرم مغلوباً على أمره وأنه لم يقدر على أن يفرق بين ابنته زينب وبين زوجها أبي العاص بن الربيع حيث يعقب ابن كثير على ذلك بالقول: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة[145].
كذلك استدعى ابن كثير تاريخ تحريم الكلام في الصلاة وتاريخ فرض الحجاب عند مناقشته لبعض الروايات[146]، ورد ابن كثير رواية من روى أن ملكاً من وراء الحجاب أذن ليلة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الملك قَدَّم النبي صلى الله عليه وسلم فأم بأهل السماء ومنهم آدم ونوح، لأَنَّهُ لو كان النبي سمع الأذان ليلة الإسراء لأوشك أَنْ يأمر به بعد الهجرة في الدعوة إلى الصلاة. والله أعلم[147]، ولا جدال في أَنَّ ابن كثير هنا وضع نصب عينيه ما ورد من روايات في تشريع الأذان بعد الهجرة وقد ورد فيها أنَّ المسلمين هموا أنْ يتخذوا ناقوساً ليضرب به للناس لجمعهم عند الصلاة، كما ورد، أنهم تشاوروا في المناداة للصلاة[148].
3 – استدعاء الحقائق والمعلومات التاريخية:
ثمة حقائق ومعلومات تاريخية، مشهورة مقررة عند كتاب السير والمغازي وغيرهم من المحدثين والمؤرخين يظهرها ابن كثير مواجهاً به روايات وأقوال، تنطق بضد ما يفهم من تلك الحقائق وقد مر بنا رواية شريك بن عبدالله ورواية ابن عباس في عرض أبي سفيان ابنته أم حبيبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الروايات التي أنكرها ابن كثير استناداً إلى أن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مشهورة ومعروفة تلك المرويات المنكرة التي لا تتوافق مع أحوال نبوية مقطوع بوقوعها بكيفية محددة ومن ذلك ما روي عن أبي سعيد أنه قال: حج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشاة من المدينة إلى مكة قد ربطوا أوساطهم ومشيهم خليط من الهرولة قال ابن كثير – حديث منكر ضعيف الإسناد، ثم علق على ما قاله البزار[149]: (معناه أنهم كانوا في عمرة إن ثبت الحديث لأنه عليه السلام: إنما حج حجة واحدة وكان راكباً وبعض أصحابه مشاة).
قلت (ابن كثير): (لم يعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في شيء من عُمره ماشياً لا في الحديبية ولا في القضاء ولا الجعرانة ولا في حجة الوداع وأحواله عليه الصلاة والسلام أشهر وأعرف من أن تخفى على الناس بل هذا الحديث منكر شاذ لا يثبت مثله)[150].
كذلك عقب ابن كثير على رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: إنما قرن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع خشية أن يصد عن البيت، قال ابن كثير: هذا حديث غريب سنداً ومتناً، ثم انبرى يناقش متنه قائلاً: من الذي يصده عليه الصلاة والسلام وقد أظهر الله الإسلام وفتح البلد الحرام وقد نودي برحاب منى أيام الموسم الماضي أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوفن بالبيت عريان، وقد كان معه عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع قريب من أربعين ألفاً[151].
وراجع ابن كثير رواية بعض المفسرين التي مالت إلى القول بأن أبا طالب هو المقصود بقوله تعالى: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ}.
قال ابن كثير: وفيه نظر ثم اختار القول بأن المراد هم المشركين الذين ينهون الناس عن محمد، وأبو طالب لم يكن بهذه المثابة بل كان يصد الناس عن أذية رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بكل ما يقدر عليه من فعال ومقال ونفس ومال ولكن مع هذا لم يقدر الله له الإيمان لما له تعالى في ذلك من الحكمة.
وواضح من هذا الكلام أن ابن كثير يستند في تعقيبه على الرواية المذكورة إلى حقيقة مشهورة في مصادر السيرة الأصلية فحواها أن أبا طالب كان يذود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جانب قرائن أخرى منها أنّ الخطاب قصد به جماعة من المشركين المذمومين كما جاء في نهاية الآية[152].
وثمة روايات عقب عليها ابن كثير لمناقضتها ومخالفتها لحقائق تاريخية مشهورة في مصادر السيرة والمغازي، كرواية مسلم في أن سعد بن عبادة هو المشير على رسول الله يوم بدر بالمضي لمواجهة قريش[153]، والصواب سعد بن معاذ ويذكر ابن كثير أن المشهور أن سعد بن عبادة رده صلى الله عليه وسلم من الطريق قيل لاستنابته على المدينة وقيل لدغته حية[154].
وراجع قول أبي بكر بن أبي شيبة أن أول من كتب الوحي بين يدي رسول الله أبي بن كعب، قال ابن كثير: كأَنَّه يعني بالمدينة وإلا فالسور المكية لم يكن أبي بن كعب حال نزولها، وقد كتبها الصحابة بمكة[155].
واعتبر ما ورد في رواية المعتمر بن سليمان عن أبيه عن السميط عن أنس، من أن عدد المسلمين يوم حنين كانوا ستة آلاف، وأنهم حاصروا الطائف (40) ليلة من غرائب هذه الرواية والصواب أنّ عدد المسلمين (اثنا عشر ألفاً) كما في الروايات المشهورة وأن حصار الطائف لم يصل إلى شهر بل كان دون العشرين ليلة[156].
وفي كتاب دلائل النبوة في باب إخباره عليه الصلاة والسلام عن الغيوب المستقبلة عقب ابن كثير على رواية البيهقي بسنده إلى ثعلبة بن يزيد وفيها أن أصحاب علي – رضي الله عنه – سألوه، أن يستخلف فقال: (أترككم كما ترككم رسول الله).
قال ابن كثير: المشهور أن علي لما طعن أوصى إلى أبنه الحسن وأمره أنْ يركب الجنود[157] وهو بهذا يلمح إلى بطلان تلك الرواية وتهافتها.
ووقف ابن كثير كما وقف غيره من العلماء عند الكتاب المزعوم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع الجزية على اليهود الخيابرة، وهو كتاب اغتر به بعض العلماء ومنهم أبو علي بن خيرون فقال بإسقاط الجزية عنهم.
يذكر ابن كثير أنه وقف على الكتاب فإذا هو مكذوب فإن فيه شهادة سعد بن معاذ وقد مات قبل خيبر وفيه شهادة معاوية بن أبي سفيان ولم يكن أسلم يومذاك، وفيه وضع الجزية ولم تكن قد شرعت بعد[158].
وهكذا يضع ابن كثير يده على تناقضات يحملها هذا الكتاب المزعوم مع حقائق تاريخية مقررة مما يؤكد زيف الكتاب.
4 – المحاكمة العقلية للمتون:
في أثناء مراجعته لبعض المتون والأقوال يقوم ابن كثير بمحاكمة عقلية لبعض النصوص، التي يرد في متونها ألفاظ وعبارات لا تدخل، في دائرة التصور، وتأتي مراجعته تلك في ضوء ما اكتسبه من علوم وفي ضوء مسلمات عقلية يؤكدها الحس والمشاهدة، وهنا لابد من التنبيه إلى أن ما ثبت في الحديث من معجزات ونحوها لا تدخل أساساً تحت طائلة المراجعة والنظر، كما أن العقل الخالي من علوم الشرع ليس بوسعه النظر في المتون من هذه الزاوية.
وضع ابن كثير عدداً من المتون تحت دائرة المراجعة العقلية، والتساؤل الذي يفضي إلى الرد والاستبعاد، ففي فصل "ذكر أول من أسلم ثم ذكر متقدمي الإسلام من الصحابة" يقول عن الحديث المنسوب إلى علي رضوان الله عليه (أنا الصديق الأكبر صليت قبل الناس بسبع سنين) الحديث منكر بكل حال، ولا يقوله علي رضي الله عنه وكيف يمكن أنْ يصلي قبل الناس بسبع سنين هذا لا يتصور أصلاً[159].
ويقول ابن كثير تعليقاً على رواية أبي داود الطيالسي في حفر الخندق (كان الناس يحملون لبنة لبنة) حمل اللبن في حفر الخندق لا معنى له والظاهر أنَّه اشتبه على الناقل[160].
ويراجع قول من قال: إن تأخير الصلاة يوم الخندق وقع نسياناً، فيذكر أنّه يبعد أن يقع هذا (النسيان) من جمع كبير، من شدة حرصهم على المحافظة على الصلاة، كيف وقد روي أنهم تركوا يومئذ الظهر والعصر والمغرب حتى صلوا الجميع في وقت العشاء؟[161].
وحيث إن مجموعة من المصنفين في الخصائص والمعجزات انساقوا وراء الأحاديث غير الصحيحة والموضوعة، فثمة أحاديث وروايات نشط قلم ابن كثير في تفنيدها سنداً ومتناً، وكان من وسائله النقدية المناقشة العقلية وإثارة التساؤل حول الرواية وهذا ينطبق على رواية رد الشمس بعد مغيبها لعلي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث تطرق إليها في باب (دلائل النبوة الحسية).
وبعدما ذكر ابن كثير أن الحديث ضعيف ومنكر من جميع طرقه، قال: "ومثل هذا الحديث فيه خبر واحد إذا اتصل سنده، لأنه من باب ما تتوفر الدواعي على نقله فلابد من نقله بالتواتر والاستفاضة لا أقل من ذلك، ونحن لا ننكر هذا في قدرة الله تعالى"[162].
ومما أورده ابن كثير التساؤل التالي إزاء متن الرواية المتضمن أن الموجب لرد الشمس هو فوات صلاة العصر على علي – رضي الله عنه -:
(أيجوز أن ترد الشمس لأبي الحسن حين فاتته صلاة العصر ولا ترد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولجميع المهاجرين والأنصار وعلي فيهم حين فاتتهم صلاة الظهر والعصر والمغرب يوم الخندق؟ وأيضاً مرة أخرى حين عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين والأنصار حين قفل من غزوة خيبر فذكر نومهم عن صلاة الصبح وصلاتهم لها بعد طلوع الشمس فلم يرد الليل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه – رضي الله عنهم -[163].
وفي باب ما أخبر به (من الكائنات المستقبلة في حياته وبعدها فوقعت طبق ما أخبر سواءً بسواء) يقف ابن كثير مراجعاً للرواية الواردة عند أبي داود الطيالسي ومما جاء فيها رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لبني أمية يخطبون على منبره فساءه ذلك فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} ونزلت {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} وفي الرواية حمل المقصود بألف شهر على مدة ملك بني أمية قال القاسم[164]: فحسبنا ذلك فإذا هو ألف شهر لا يزيد يوماً ولا ينقص[165].
وهو حديثٌ منكر كما صرح بذلك الحافظ المزي وفي معرض نقده لمتن الرواية وضح ابن كثير أن مجموع سنوات الدولة الأموية لا يطابق ألف شهر كما يزعم الفضل بن القاسم وأشار إلى أنه يلزم مما ذكره أن تكون دولة عمر بن عبدالعزيز مذمومة وهذا لا يقوله أحد من أئمة الإسلام فإنهم مصرحون بأنه أحد الخلفاء الراشدين ونبه ابن كثير إلى أَنَّ تفضيل ليلة القدر – وهي ليلة عظيمة القدر – على دولتهم لا يلزم منه ذم تلك الدولة، فليتأمل هذا، فإنه دقيق يدل على أن الحديث في صحته نظر، لأَنَّه إنما سيق لذم أيامهم[166].
ويراجع ابن كثير بعض مقررات واجتهادات العلماء قبله من كتاب السيرة مدخلاً إياها دائرة المناقشة العقلية.
ومن ذلك: تعقيبه على السهيلي (ت185هـ) ذلك أنه بعد إيراده حديث (أحد جبل يحبنا ونحبه وهو على باب من أبواب الجنة، عير يبغضنا ونبغضه وهو على باب من أبواب النار).
قال السهيلي مقوياً لهذا الحديث وقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام قال: (المرء مع من أحب) قال ابن كثير في (غزوة أحد) هذا من غريب صنع السهيلي فإن هذا الحديث إنما يراد به الناس ولا يسمى الجبل أمرءاً[167].
ويرد على بعض أقوال كتاب السيرة قبله مما ينوه على اجتهادهم البيهقي عندما يقول (هذه الرواية تدل على أن قبورهم "الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبيه" مسطحة لأن الحصباء لا تثبت إلا على المسطح) يعقب ابن كثير: هذا عجيب من البيهقي رحمه الله فإنه ليس في الرواية ذكر الحصباء بالكلية وبتقدير ذلك فيمكن أن يكون مسطحاً وعليه الحصباء مغروزة بالطين ونحوه[168].
5 – أقوال شيوخه:
مر بنا القول بأن ابن كثير ينتمي إلى مدرسة شامية عنيت بعلوم الحديث والسنة وجعلت نقد الرواية في مقدمة أولوياتها، ولذلك لا غرابة أنّ يعول ابن كثير على آراء شيوخه من أعلام هذه المدرسة في نقد بعض الروايات، خاصة العلماء الثلاثة: ابن تيمية والمزي والذهبي.
فقد أورد ابن كثير رأي ابن تيمية فيما ورد عند أبي داود وغيره أن من كتاب النبي صلى الله عليه وسلم – كاتب اسمه (السجل) وهو رأي يذهب إلى أن الخبر موضوع وإن كان في سنن أبي داود، وقد عرض ابن كثير هذا الرأي على شيخه المزي فقال: وأنا أقوله[169].
قال ابن القيم: سمعت شيخنا أبا العباس بن تيمية، يقول هذا الحديث موضوع ولا يعرف لرسول الله كاتب اسمه السجل فقط، وليس في الصحابة من اسمه السجل وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم معروفون، لم يكن فيهم من اسمه السجل[170].
وأورد ابن كثير رأي شيخه المزي فيما أورده القاضي عياض في كتابه (الشفا) حيث ذكر أنه كان للنبي صلى الله عليه وسلم حمار يسمى (زياد بن شهاب وأن رسول الله كان يبعثه ليطلب بعض الصحابة) حيث أنكر المزي ذلك إنكاراً شديداً[171] كما عرض عليه ما أورده السهيلي من حكاية الحمار الذي كلم النبي صلى الله عليه وسلم وأنه من نسل سبعين حماراً كل منها ركبه نبي.
فقال الشيخ المزي – رحمه الله – : (ليس له أصل وهو ضحكة)[172].
وبعد أن يناقش رواية رد الشمس يذكر أن ممن صرح بوضعه شيخنا الحافظ أبو الحجاج المزي والعلامة أبو العباس ابن تيمية[173] وفي موضع آخر يقول (صرح بوضعه شيخاي الحافظان الكبيران أبو الحجاج المزي وأبو عبدالله الذهبي[174].
وللموضوع تتمة
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|