عرض مشاركة واحدة
  #428  
قديم 30-04-2023, 05:41 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ اَلنَّحْلِ
المجلد العاشر
صـ 3841 الى صـ 3855
الحلقة (428)


[ ص: 3841 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[78-79] والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون .

والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا عطف على قوله تعالى : والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا منتظم معه في سلك أدلة التوحيد من قوله تعالى : والله أنـزل من السماء ماء وقوله تعالى : والله خلقكم وقوله تعالى : والله فضل بعضكم على بعض أفاده أبو السعود . و ( شيئا ) منصوب على المصدرية أو مفعول ( تعلمون ) والنفي منصب عليه . أي : لا تعلمون شيئا أصلا من حق المنعم وغيره .

وجعل لكم السمع أي : فتدركون به الأصوات : والأبصار فتحسون المرئيات : والأفئدة أي : العقول : لعلكم تشكرون أي : لتصرفوها فيما خلقت له من التوحيد والاعتبار بها ، والمشي على السنن الكونية . ثم نبه تعالى على آيته في خلقه الطير بقوله :

ألم يروا إلى الطير مسخرات أي : مذللات : في جو السماء ما يمسكهن إلا الله أي : ما يمسكهن في الجو من غير تعلق بمادة ولا اعتماد على جسم ثقيل إلا هو سبحانه : إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون قال الحجة الغزالي في " الحكمة في خلق المخلوقات " ، في حكمة الطير ، في هذه الآية ، ما مثاله :

اعلم رحمك الله أن الله تعالى خلق الطير وأحكمه حكمة تقتضي الخفة للطيران . ولم يخلق فيه ما يثقله . وخلق فيه ما يحتاج إليه وما فيه قوامه وصرف غذائه ، فقسم لكل عضو منه ما يناسبه . فإن كان رخوا أو يابسا أو بين ذلك ، انصرف إلى كل عضو من غذائه ما هو لائق به . [ ص: 3842 ] فخلق للطير الرجلين دون اليدين لضرورة مشيه وتنقله ، وإعانة له في ارتفاعه عن الأرض وقت طيرانه ، واسعة الأسفل ليثبت في موطن على الأرض وهي خف فيه . أو بعض أصابع مخلوقة من جلد رقيق صلب من نسبة جلد ساقيه . وجعل جلد ساقيه غليظا متقنا جدا ليستغني به عن الريش في الحر والبرد . وكان من الحكمة ، خلقه على هذه الصفة ؛ لأنه في رعيه وطلب قوته لا يستغني عن مواضع فيها الطين والماء ، فلو كسيت ساقاه بريش لتضرر ببلله وتلويثه . فأغناه سبحانه عن الريش في موضع لا يليق به حتى يكون مخلصا للطيران . وما خلق من الطير ذا أرجل طوال جعلت رقبته طويلة لينال غذاءه من غير حرج بها . إذ لو طالت رجله وقصر عنقه لم يمكنه الرعي في البراري ولا في البحائر حتى ينكب على صدره . وكثيرا ما يعان بطول المنقار أيضا مع طول العنق ؛ ليزداد مطلبه عليه سهولة . ولو طال عنقه وقصرت رجلاه أثقله عنقه واختل رعيه . وخلق صدره ودائره ملفوفا على عظم كهيئة نصف دائرة ، حتى يخرق في الهواء بغير كلفة ، وكذلك رؤوس أجنحته مدورة إعانة له على الطيران . وجعل لكل جنس من الطير منقارا يناسب رعيه ويصلح لما يغتذي به من تقطيع ولقط وحفر وغير ذلك . فمنه مخلب لتقطيع خص به الكواسر وما قوته اللحم . ومنه عريض مشرشر جوانبه تنطبق على ما يلتقطه انطباقا محكما . ومنه معتدل اللقط وأكل الخضر . ومنه طويل المنقار جعله صلبا شديدا شبه العظم وفيه ليونة ، وما هي في العظم ؛ لكثرة الحاجة إلى استعماله . وهو مقام الأسنان في غير الطير من الحيوان . وقوى سبحانه أصل الريش وجعله قصبا منسوبا فيما يناسبه من الجلد الصلب في الأجنحة ولأجل كثرة الطيران ، ولأن حركة الطيران قوية فهو محتاج إلى الإتقان لأجل الريش . وجعل ريشه وقاية مما يضره من حر أو برد . ومعونة متخللة الهواء للطيران . وخص الأجنحة بأقوى الريش وأثبته وأتقنه ؛ لكثرة دعاء الحاجة إليه . وجعل في سائر بدنه ريشا غيره كسوة ووقاية وجمالا له . وجعل في ريشه من الحكمة ، أن البلل لا يفسده والأدران لا توسخه . فإن أصابه ماء كان أيسر انتفاض [ ص: 3843 ] يطرد عنه بلله ، فيعود إلى خفته . وجعل له منفذا واحدا للولادة وخروج فضلاته لأجل خفته . وخلق ريش ذنبه معونة له على استقامته في طيرانه ، فلولاه لما مالت به الأجنحة في حال الطيران يمينا وشمالا ، فكان له بمنزل رجل السفينة الذي يعدل بها سيرها . وخلق في طباعه الحذر وقاية لسلامته . ولما كان طعامه يبتلعه بلعا بلا مضغ ، جعل لبعضه منقارا صلبا يقطع به اللحم ويقوم له مقام ما يقطع بالمدية . وصار يزدرد ما يأكله صحيحا . وأعين بفضل حرارة في جوفه تطحن الطعام طحنا يستغني به عن المضغ وثقل الأسنان . واعتبر ذلك بحب العنب وغيره . فإنه يخرج من بطون الحيوان صحيحا ، وينسحق في أجواف الطير . ثم إنه خلقه يبيض ولا يلد ، لئلا يثقل عن الطيران . فإنه لو خلقت فراخه في جوفه حتى يكمل خلقها لثقل بها وتعوق عن النهوض للطيران . أفلا ترى كيف دبر كل شيء من خلقه بما يليق به من الحكمة ؟ ! انتهى ملخصا .
ثم بين تعالى نعمته على البشر ليستدل به على وحدانيته ، بقوله ، عطفا على ما مر :

القول في تأويل قوله تعالى :

[80] والله جعل لكم من بيوتكم سكنا وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا ومتاعا إلى حين .

والله جعل لكم من بيوتكم سكنا أي : موضعا تسكنون فيه وتأوون إليه لما لا يحصى من وجوه منافعكم : وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتا أي : بيوتا أخرى وهي الخيام والفساطيط والقباب المتخذة من الجلود نفسها ، أو من الوبر والصوف [ ص: 3844 ] والشعر أيضا . فإنها من حيث كونها نابتة على جلودها يصدق عليها أنها من جلودها أو الجلود مجاز عن المجموع : تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم أي : تجدونها خفيفة المحمل وقت ترحالكم ووقت نزولكم في مراحلكم . لا يثقل عليكم ضربها . أو هي خفيفة عليكم في أوقات السفر والحضر جميعا . قيل : والأول أولى ؛ لأن ظهور المنة في خفتها إنما يتحقق في حال السفر . وأما المستوطن فغير مثقل : ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أي : وجعل لكم من أصواف الضأن وأوبار الإبل وأشعار المعز : أثاثا ومتاعا إلى حين الأثاث ما يتخذ للاستعمال بلبس أو فرش . والمتاع ما يتخذه للتجارة . وقيل هما بمعنى . ومعنى ( إلى حين ) أي : إلى أن تقضوا منه أوطاركم . أو إلى أن يبلى ويفنى . أو إلى أن تموتوا .

تنبيه :

استدل بالآية على طهارة جلود المأكولات وأصوافها وأوبارها وأشعارها ، إذا خرجت في الحياة أو بعد التذكية .

واستدل بعموم الآية من أباحها مطلقا ولو من غير مذكاة . كذا في (" الإكليل ") .
القول في تأويل قوله تعالى :

[81] والله جعل لكم مما خلق ظلالا وجعل لكم من الجبال أكنانا وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر وسرابيل تقيكم بأسكم كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون .

والله جعل لكم مما خلق أي : من الشجر والجبال والأبنية وغيرها : ظلالا أي : أفياء تستظلون بها من حر الشمس : وجعل لكم من الجبال أكنانا أي : بيوتا ومعاقل وحصونا تستترون بها : وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر جمع سربال ، وهو كل [ ص: 3845 ] ما يلبس من القطن والصوف ونحوها . وإنما خص الحر ؛ اكتفاء بذكر أحد الضدين عن ذكر الآخر . أو لأن الوقاية من الحر أهم عند العرب ؛ لشدته بأكثر بلادهم وخصوصا قطان الحجاز وهم الأصل في هذا الخطاب . قيل : يبعده ذكر وقاية البرد سابقا في قوله : لكم فيها دفء وهو وجه الاقتصار على الحر هنا ، لتقدم ذكر خلافه : وسرابيل تقيكم بأسكم كالدروع من الحديد والزرد ونحوها ، التي يتقى بها سلاح العدو في الحرب : كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون أي : إرادة أن تنظروا فيما أسبغ عليكم من النعم الظاهرة والباطنة والأنفسية والآفاقية ، فتسلموا وجوهكم إليه تعالى ، وتؤمنوا به وحده .

قال أبو السعود : وإفراد النعمة ، إما لأن المراد بها المصدر ، أو لإظهار أن ذلك بالنسبة إلى جانب الكبرياء شيء قليل . وقرئ ( تسلمون ) بفتح اللام أي : من العذاب أو الجراح .
القول في تأويل قوله تعالى :

[82-84] فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين يعرفون نعمت الله ثم ينكرونها وأكثرهم الكافرون ويوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون .

فإن تولوا أي : بعد هذا البيان وهذا الامتنان : فإنما عليك البلاغ المبين

يعرفون نعمت الله أي : التي عددت ، وأنها بخلقه : ثم ينكرونها أي : بعبادتهم غير المنعم بها ، وقولهم : هي من الله ، ولكنها بشفاعة آلهتنا : وأكثرهم الكافرون

[ ص: 3846 ] ثم أخبر تعالى عن شأنهم في معادهم بقوله :

ويوم نبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته من إيمان وكفر فيما بلغها : ثم لا يؤذن للذين كفروا أي : في الاعتذار ؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه ، كقوله : هذا يوم لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون ولا هم يستعتبون أي : لا يطلب منهم العتبى . أي : إزالة عتب ربهم وغضبه . ) والعتبى ) بالضم : الرضا وهو الرجوع عن الإساءة إلى ما يرضي العاتب . يقال : استعتبه : أعطاه العتبى بالرجوع إلى مسرته . والعتب : لومك الرجل على إساءة كانت له إليك ، والمرء إنما يطلب العتاب من خصمه ؛ ليزيل ما في نفسه عليه من الموجدة والغضب ويرجع إلى الرضا عنه ، فإذا لم يطلب العتاب منه ، دل ذلك على أنه ثابت على غضبه عليه .
القول في تأويل قوله تعالى :

[85-86] وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون .

وإذا رأى الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم ولا هم ينظرون أي : يؤخرون .

وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يعني أوثانهم التي عبدوها : قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك أي : أربابا أو نعبدها : فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون أي : أجابوهم بالتكذيب في تسميتهم شركاء وآلهة ؛ تنزيها لله عن الشرك . أو بالتكذيب في دعواهم أنهم حملوهم على عبادتهم .

قال أبو مسلم الأصفهاني : مقصود المشركين إحالة هذا الذنب على هذه الأصنام . وظنوا [ ص: 3847 ] أن ذلك ينجيهم من عذاب الله تعالى أو ينقص من عذابهم . فعند هذا تكذبهم بتلك الأصنام . وهذه الآية كقوله تعالى : ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين وقال تعالى : واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزا كلا سيكفرون بعبادتهم ويكونون عليهم ضدا وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[87] وألقوا إلى الله يومئذ السلم وضل عنهم ما كانوا يفترون .

وألقوا أي : وألقى الذين ظلموا : إلى الله يومئذ السلم أي : الاستسلام لحكمه بعد إبائهم في الدنيا : وضل عنهم ما كانوا يفترون

أي من أن لله شركاء ، وأنهم يشفعون لهم عند الله تعالى . فإن قيل : قد جاء إنكارهم كقوله تعالى : يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم والجواب ( كما قال القاشاني ) : إن ذلك بحسب المواقف . فالإنكار في الموقف الأول وقت قوة هيئات الرذائل وشدة شكيمة النفس في الشيطنة وغاية البعد عن النور الإلهي ، للاحتجاب بالحجب الغليظة والغواشي المظلمة حتى لا يعلم أنه كان يراه ويطلع عليه . ونهاية تكدر نور الفطرة حتى يمكنه إظهار خلاف مقتضاه ، والاستسلام في الموقف الثاني بعد مرور أحقاب كثيرة من ساعات اليوم ، الذي كان مقداره خمسين ألف سنة ، حين زالت الهيئات ورقت ، وضعفت شراشر النفس في رذائلها ، وقرب من عالم النور ، لرقة الحجب ولمعان نور فطرته الأولى ، فيعترف وينقاد . هذا إذا كان الاستسلام والإنكار لنفوس بعينها . وقد يكون الاستسلام للبعض الذين لم ترسخ هيئات رذائلهم ولم تغلظ حجبهم ولم ينطفئ نور استعدادهم . [ ص: 3848 ] والإنكار لمن رسخت فيه الهيئات وقويت وغلبت عليه الشيطنة واستقرت ، وكثف الحجاب وبطل الاستعداد ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[88-89] الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وجئنا بك شهيدا على هؤلاء ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين .

الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون أي : يضاعف لهم العذاب كما ضاعفوا كفرهم بصدهم غيرهم عن الإيمان ، كقوله تعالى : وهم ينهون عنه وينأون عنه وفي الآية دليل على تفاوت الكفار في عذابهم ، كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم . كما قال تعالى : لكل ضعف ولكن لا تعلمون

ويوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم وهو نبيهم : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء أي : اذكر ذلك اليوم ، وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع . وما يلحق الكافرين فيه من تمني كونهم ترابا ، لهول المطلع .

وقد ذكر ذلك في آية النساء في قوله تعالى : فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول [ ص: 3849 ] لو تسوى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثا وقوله تعالى : ونـزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين مستأنف ، أو حال بتقدير ( قد ) .

قال الرازي : وجه تعلق هذا الكلام بما قبله ، أنه تعالى لما قال : وجئنا بك شهيدا على هؤلاء بين أنه أزاح علتهم فيما كلفوا . فلا حجة لهم ولا معذرة .

وقال ابن كثير في وجه ذلك : إن المراد ، والله أعلم ، إن الذي فرض عليك تبليغ الكتاب الذي أنزله عليك ، سائلك عن ذلك يوم القيامة : فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم قالوا لا علم لنا إنك أنت علام الغيوب وقال تعالى : إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد أي : إن الذي أوجب عليك تبليغ القرآن لرادك إليه ومعيدك يوم القيامة وسائلك عن أداء ما فرض عليك . هذا أحد الأقوال ، وهو متجه حسن . انتهى .

و ( التبيان ) من المصادر التي بنيت على هذه الصيغة ؛ لتكثير الفعل والمبالغة فيه . أي : تبيينا لكل علم نافع من خبر ما سبق وعلم ما سيأتي وكل حلال وحرام ، وما الناس محتاجون إليه في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم : وهدى أي : هداية لمن استسلم وانقاد لسلامة فطرته إلى كماله : ورحمة أي : له بتبليغه إلى ذلك الكمال بالتربية والإمداد ، ونجاته من العذاب ، وبشارة له بالسعادة الأبدية . وقوله تعالى :

[ ص: 3850 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[90] إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون .

إن الله يأمر أي : فيما نزله تبيانا لكل شيء : بالعدل وهو القسط والتسوية في الحقوق فيما بينكم . وترك الظلم وإيصال كل ذي حق حقه : والإحسان أي : التفضيل بأن يقابل الخير بأكثر منه ، والشر بأن يعفو عنه : وإيتاء ذي القربى أي : إعطاء القرابة ما يحتاجون إليه : وينهى عن الفحشاء أي : عما فحش من الذنوب وأفرط قبحها ، كالزنى : والمنكر أي : كل ما أنكره الشرع : والبغي أي : العدوان على الناس : يعظكم أي : بما يأمركم وينهاكم : لعلكم تذكرون أي : تتعظون بمواعظ الله ، فتعملون بما فيه رضا الله تعالى .

وروى ابن جرير عن ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن ، لخير وشر ، هذه الآية . وروى الإمام أحمد : أن عثمان بن مظعون مر على النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس بفناء بيته . فكشر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال له : « ألا تجلس ؟ » فقال : بلى . فجلس . ثم أوحي إليه هذه الآية فقرأها عليه . قال عثمان : فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم .

ولما تليت الآية على أكثم بن صيفي قال لقومه : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى [ ص: 3851 ] عن ملائمها . فكونوا في هذا الأمر رؤساء ولا تكونوا فيه أذنابا . وعن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على الوليد بن المغيرة هذه الآية فقال له : يا ابن أخي ! أعد علي ، فأعادها . فقال له الوليد : والله إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر .

وقد نقل أن بني أمية كانوا يسبون عليا ، كرم الله وجهه ، في خطبهم . فلما آلت الخلافة إلى عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، أسقط ذلك منها ، وأقام هذه الآية مقامه . وهو من أعظم مآثره .

قال الناصر : ولعل المعوض بهذه الآية عن تلك الهنات ، لاحظ التطبيق بين ذكر النهي عن البغي فيها ، وبين الحديث الوارد في أن المناصب لعلي باغ . حيث يقول صلى الله عليه وسلم لعمار ( وكان من حزب علي ) : « تقتلك الفئة الباغية » . فقتل مع علي يوم صفين. انتهى .

ولما فيها أيضا من العدل والإحسان إلى ذوي القربى ، وكونها أجمع آية ؛ لاندراج ما ذكر فيها . والله أعلم .

ثم بين تعالى أمره بالوفاء بالعهد والميثاق ، والمحافظة على الأيمان المؤكدة بقوله :

القول في تأويل قوله تعالى :

[91] وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون .

وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله يعلم ما تفعلون

[ ص: 3852 ] روى ابن جرير عن بريدة قال : نزلت في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم . كان من أسلم بايع النبي على الإسلام ، فأمروا بالوفاء بهذه البيعة وأن لا ينقصوها بعد توكيدها بالأيمان . أي : لا يحملنكم قلة المؤمنين وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وظاهر أن العهد يتناول كل أمر يجب الوفاء بمقتضاه ، مما يلتزمه المرء باختياره ، كالمبايعة على الإسلام ، وعهد الجهاد ، وما التزمه من نذر وما أكده بحلف . وعلى هذا ، فتخصيص اليمين بالذكر ؛ للتنبيه على أنه أولى أنواع العهد بوجوب الرعاية . و ( التوكيد والتأكيد ) ، لغتان فصيحتان . والأصل الواو ، والهمزة بدل منها . والواو في قوله : وقد جعلتم الله عليكم كفيلا للحال من فاعل : تنقضوا أو من فاعل المصدر وإن كان محذوفا . ومعنى : كفيلا شهيدا رقيبا . و ( الجعل ) مجاز ، فإن من حلف به تعالى وهو مطلع عليه فكأنه جعله شاهدا . قال الشهاب : ولو أبقى ( الكفيل ) على ظاهره ، وجعل تمثيلا لعدم تخلصهم من عقوبته ، وأنه يسلمهم لها كما يسلم الكفيل من كفله ، كما يقال : ( من ظلم فقد أقام كفيلا بظلمه ) تنبيها على أنه لا يمكنه التخلص من العقوبة كما ذكره الراغب ؛ لكان معنى بليغا جدا . وقوله تعالى : إن الله يعلم ما تفعلون كالتفسير لما قبله . وفيه ترغيب وترهيب .

تنبيه :

في الآية الحث على البر في الأيمان . وجلي أنها فيما فيه طاعة وبر وتقوى . وأما فيما عدا ذلك فالخير في نقضها . وقد دل عليه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين أنه قال : « إني ، والله ، لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها ، إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها » . وفي رواية : « وكفرت عن يميني » . فالحديث في معنى ، والآية في معنى آخر . فلا تعارض ، كما وهم . وقوله تعالى :

[ ص: 3853 ]

القول في تأويل قوله تعالى :

[92] ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون .

ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تأكيد لوجوب الوفاء وتحريم النقص . أي : لا تكونوا في نقص الأيمان كالمرأة التي أنحت على غزلها ، بعد أن أحكمته وأبرمته ، فجعلته أنكاثا ، أي : أنقاضا ، جنونا منها وحمقا .

ففي التمثيل إشارة إلى أن ناقض يمينه خارج من الرجال الكمل ، داخل في زمرة النساء . بل في أدناهن ، وهي الخرقاء .

وقوله تعالى : تتخذون أيمانكم دخلا بينكم حال من الضمير في : { ولا تكونوا } أي : لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها ، حال كونكم متخذين أيمانكم مفسدة بينكم : أن تكون أمة هي أربى من أمة أي : سبب أن تكون جماعة ، كقريش ، هي أزيد عددا وأوفر مالا من جماعة كالمؤمنين : إنما يبلوكم الله به أي : يعاملكم معاملة من يختبركم بكونهم أربى ؛ لينظر أتتمسكون بحبل الوفاء بعهد الله وما عقدتم على أنفسكم ووكدتم من أيمان البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، أم تغترون بكثرة قريش وثروتهم وقوتهم ، وقلة المؤمنين وفقرهم وضعفهم ؟ : وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون أي : فيتميز المحق من المبطل ، بما يظهر من درجات الثواب والعقاب . وهو إنذار وتحذير من مخالفة ملة الإسلام .

تنبيه :

قال أبو علي الزجاجي ، من أئمة الشافعية : في هذه الآية أصل لما يقوله أصحابنا ، من إبطال الدور ؛ لأن الله تعالى ذم من أعاد على الشيء بالإفساد بعد إحكامه . نقله في (" الإكليل ") .

[ ص: 3854 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[93] ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون .

ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة أي : حنيفة مسلمة: ولكن يضل من يشاء ويهدي من يشاء ولتسألن عما كنتم تعملون أي : في الدنيا ، سؤال تبكيت ومجازاة ، لا استفسار وتفهم . وهو المنفي في غير هذه الآية . أو في موقف دون موقف كما مر .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[94] ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم .

ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم تصريح بالنهي عنه ، بعد أن نهى عنه ضمنا ، لأخذه فيما تقدم قيدا للمنهي عنه ، تأكيدا عليهم ومبالغة في قبح المنهي : فتزل قدم بعد ثبوتها أي : فتزل أقدامكم عن محجة الحق ، بعد رسوخها فيه : وتذوقوا السوء أي : ما يسوءكم في الدنيا : بما صددتم أي : بصدودكم عن الوفاء ، أو بصدكم غيركم : عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم أي : في الآخرة .

لطيفة :

تنكير (قدم) للإيذان بأن زلل قدم واحدة عظيم ، فكيف بأقدام كثيرة ؟ وأشار في (" البحر ") إلى نكتة أخرى : قال : الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع فيؤتى بما هو له مجموعا . وتارة يلاحظ فيه كل فرد فرد فيفرد ماله كقوله : وأعتدت [ ص: 3855 ] لهن متكأ أي : لكل واحدة منهن متكئا . ولما كان المعنى : لا يفعل هذا كل واحد منكم ؛ أفرد : { قدم } مراعاة لهذا المعنى . ثم قال : وتذوقوا مراعاة للفظ الجمع .

قال الشهاب : هذا توجيه للإفراد من جهة العربية ، فلا ينافي النكتة الأولى .
القول في تأويل قوله تعالى :

[95] ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا إنما عند الله هو خير لكم إن كنتم تعلمون .

ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا أي : لا تستبدلوا بعهد الله وبيعة رسوله عرضا من الدنيا يسيرا . وهو ما كانت قريش يعدونهم ويمنونهم ، إن ارتدوا : إنما عند الله هو خير لكم أي : من إظهاركم في الدنيا وإثابتكم في الآخرة : إن كنتم تعلمون أي : من ذوي العلم والتمييز . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[96] ما عندكم ينفد وما عند الله باق ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون .

ما عندكم ينفد وما عند الله باق تعليل للخيرية بطريق الاستئناف . أي : ما عندكم مما تتمتعون به ، يفرغ وينقص ، فإنه إلى أجل معدود محصور مقدر متناه . وما عنده تعالى من ثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع له . فإنه دائم لا يحول ولا يزول : ولنجزين الذين صبروا أجرهم أي : على أذى المشركين ومشاق الإسلام : بأحسن ما كانوا يعملون أي : بجزاء أحسن من أعمالهم .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.32%)]