عرض مشاركة واحدة
  #419  
قديم 29-04-2023, 07:21 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,216
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
المجلد العاشر
صـ 3706 الى صـ 3720
الحلقة (419)



القول في تأويل قوله تعالى :

[2] الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض وويل للكافرين من عذاب شديد .

الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض قرئ لفظ الجلالة بالرفع على الابتداء وخبره ما بعده . أو على الخبرية لمحذوف . وقرئ بالجر ، عطف بيان لـ : العزيز الحميد وويل للكافرين أي : بما أنزلناه إليك : من عذاب شديد يوم القيامة وهو عذاب النار .

[ ص: 3706 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[3] الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا أولئك في ضلال بعيد .

الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة أي : يؤثرونها عليها : ويصدون عن سبيل الله بتعويق الناس عن الإيمان : ويبغونها عوجا أي : يصفونها بالانحراف عن الحق والصواب ، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالردة ، أو يبغون لها اعوجاجا ، أي : يطلبون أن يروا فيها عوجا قادحا ، على الحذف والإيصال : أولئك في ضلال بعيد أي : ضلوا عن طريق الحق ووقفوا دونه بمراحل ، والبعد في الحقيقة للضال نفسه ، وصف به فعله للمبالغة بجعل الضلال نفسه ضالا . وفي إيثار الظرف على )أولئك ضالون ضلالا بعيدا) دلالة على تمكنهم فيه ، باشتماله عليهم اشتمال المحيط على المحاط ، مبالغة في إثبات وصف الضلال . وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[4] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم .

وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم أي : ليفقهوا عنه ما يدعوهم إليه ، فلا يكون لهم حجة على الله ولا يقولوا : لم نفهم ما خوطبنا به كما قال : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته

* فإن قلت * : لم يبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العرب وحدهم ، وإنما بعث إلى الناس جميعا : قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا بل إلى الثقلين وهم على ألسنة مختلفة . فإن لم تكن للعرب حجة ، فلغيرهم الحجة . [ ص: 3707 ] وإن لم تكن لغيرهم حجة، فلو نزل بالعجمية لم تكن للعرب حجة أيضا ؟ ( قلت) : لا يخلو إما أن ينزل بجميع الألسنة أو بواحد منها ، فلا حاجة إلى نزوله بجميع الألسنة ; لأن الترجمة تنوب عن ذلك وتكفي التطويل; فبقي أن ينزل بلسان واحد فكان أولى الألسنة لسان قوم الرسول ; لأنهم أقرب إليه . فإذا فهموا عنه وتبينوه وتنوقل عنهم وانتشر ; قامت التراجم ببيانه وتفهيمه ، كما ترى الحال وتشاهدها من نيابة التراجم في كل أمة من أمم العجم ، مع ما في ذلك من اتفاق أهل البلاد المتباعدة والأقطار المتنازحة والأمم المختلفة والأجيال المتفاوتة على كتاب واحد ، واجتهادهم في تعلم لفظه وتعلم معانيه ، وما يتشعب من ذلك من جلائل الفوائد ، وما يتكاثر في إتعاب النفوس وكد القرائح فيه ، من القرب والطاعات المفضية إلى جزيل الثواب ، ولأنه أبعد من التحريف والتبديل وأسلم من التنازع والاختلاف ، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها مع اختلافها وكثرتها ، وكان مستقلا بصفة الإعجاز في كل واحد منها ، وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها ، كما كلم أمته التي هو منها يتلوه عليهم معجزا ; لكان ذلك أمرا قريبا من الإلجاء . ومعنى : بلسان قومه بلغة قومه - كذا في (" الكشاف ") - .

وقال بعض المحققين : يقول قائل : ألا تدل هذه الآية على أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت للعرب خاصة ؟ نقول : لا ; لأنه جرت سنة الله أن يختار أمة واحدة ويعدها لتهذيب الأمم الأخرى ، كما يعد فردا واحدا منها لتهذيب سائر أفرادها . ولما كانت الأمة العربية هي المختارة لتهذيب الأمم وتعديل عوجها وإقامة منار العدل في ذلك العالم المظلم ; فقد وجب أن التهذيب الإلهي ينزل بلغتها خاصة حتى تستعد وتتهيأ لأداء وظيفتها . وقد أتم الله نعمته عليها ، فقامت بما عهد إليها بما أدهش العالم أجمع ، ولله في خلقه شؤون .

تنبيه :

استدل بالآية من ذهب إلى أن اللغات اصطلاحية . قال : لأنها لو كانت توقيفية لم تعلم إلا بعد مجيء الرسول ، والآية صريحة في علمها قبله .

[ ص: 3708 ] وقوله تعالى : فيضل الله من يشاء أي : لمباشرته أسبابه المؤدية إليه ، أو يخذله ولا يلطف به لعلمه أنه لا ينجع فيه الإلطاف : ويهدي من يشاء لما فيه من الإنابة والإقبال إلى الحق . (والفاء) فصيحة ، كأنه قيل : فبينوه ، فأضل الله من شاء إضلاله وهدى من شاء . والحذف للإيذان بأن مسارعة كل رسول إلى ما أمر به ، وجريان كل من أهل الخذلان والهداية على سنته ، أمر محقق غني عن الذكر والبيان : وهو العزيز الحكيم أي : فلا يغالب ، ولا يقضي إلا بما فيه الحكمة .

ثم أشير إلى تفصيل ما أجمل في قوله تعالى : وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه بقوله سبحانه :
القول في تأويل قوله تعالى :

[5] ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور .

ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله أي : أنذرهم بوقائعه التي وقعت على الأمم قبلهم ، كقوم نوح ولوط . ومنه : أيام العرب ; لحروبها وملاحمها ; لأنها تعظم بها الأيام . وقيل : أيامه : نعماؤه عليهم . فتكون الآية بعدها تفصيلا لها . وقيل : هي أعم من النعماء والبلاء . والوجه الأول أولى فيما أراه ; لاختصاص كل آية بمقام ، والتأسيس خير من التأكيد . وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة ، بالإضافة إلى الاسم الجليل ، إيذان بفخامة شأنها . قال أبو بكر ابن العربي : هذه الآية في الوعظ المرقق للقلوب .

إن في ذلك أي : في التذكير بها : لآيات لكل صبار شكور أي : يصبر على بلائه ويشكر نعماءه . فإذا سمع بما أنزل الله من البلاء على الأمم ، أو أفاض عليهم من النعم ، تنبه على ما يجب عليه من الصبر والشكر . وقيل : أراد (لكل مؤمن) لأن الشكر [ ص: 3709 ] والصبر عنوان المؤمن . وتقديم ( الصبار) على (الشكور ) لتقدم متعلق الصبر - أعني الإيمان على متعلق الشكر - أعني النعماء - وكون الشكر عاقبة الصبر .
القول في تأويل قوله تعالى :

[6] وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ويذبحون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم .

وإذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب أي : يبغونكم إياه : ويذبحون أبناءكم أي : المولودين صغارا : ويستحيون نساءكم أي : يبقونهن في الحياة : وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم الإشارة إلى فعل آل فرعون. ونسبته إليه تعالى للخلق أو الإقدار والتمكين . قيل : كون قتل الأبناء ، ابتلاء ظاهر . وأما استحياء النساء ، وهن البنات أي : استبقاؤهن ، فلأنهم كانوا يستخدمونهن ويفرقون بينهن وبين الأزواج ، أو لأن بقاءهن دون البنين رزية في نفسه كما قيل :


ومن أعظم الرزء فيما أرى بقاء البنات وموت البنينا


ويجوز أن تكون الإشارة إلى الإلجاء من ذلك . و (البلاء) : الابتلاء بالنعمة ، وهو بلاء عظيم .

قال الزمخشري : البلاء يكون ابتلاء بالنعمة والمحنة جميعا . قال تعالى : ونبلوكم بالشر والخير فتنة وقال زهير :


فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو


ولذا جوز أن تكون الإشارة إلى جميع ما مر ، الشامل للنعمة والنقمة .

[ ص: 3710 ] لطيفة :

أشار أهل المعاني إلى نكتة مجيء : ويذبحون هنا بالواو ، وفي سورة البقرة : يذبحون وفي الأعراف : يقتلون بدونها. والقصة واحدة - بأنه حيث طرح الواو قصد تفسير العذاب وبيانه - ، فلم يعطف لما بينهما من كمال الاتصال . وحيث عطف - كما هنا - لم يقصد ذلك . والعذاب ، إن كان المراد منه الجنس ، فالتذبيح لكونه أشد أنواعه ، عطف عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيها على أنه لشدته كأنه ليس من ذلك الجنس . وإن كان المراد به غيره ، كاسترقاقهم واستعمالهم في الأعمال الشاقة ، فهما متغايران ، والمحل محل العطف . وجوز أيضا كون العطف هنا للتفسير وكأن التفسير - لكونه أوفى بالمراد وأظهر - بمنزلة المغاير فلذا عطف .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[7] وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد .

وإذ تأذن ربكم أي : آذن وأعلم إعلاما بليغا - من جملة ما قال موسى لقومه - : لئن شكرتم أي : نعمه ، بصرفها إلى ما خلقت له . كالعقل إلى تصحيح الاعتقاد فيه واستعمال سائر النعم بمقتضاه : لأزيدنكم أي : من النعم : ولئن كفرتم إن عذابي لشديد فيصيبكم منه ما يسلب تلك النعم ويحل أشد النقم .

[ ص: 3711 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[8] وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد .

وقال موسى أي : لقومه : إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد أي : غني عن شكر عباده ، المحمود بأجل المحامد . وإن كفره من كفره . وهو تعليل لما حذف من جواب (إن) أي : إن تكفروا لم يرجع وباله إلا عليكم ، فإن الله لغني عن شكر الشاكرين .

وفي " صحيح مسلم " عن أبي ذر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل : أنه قال : « يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ، ما زاد ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي ! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ، ما نقص ذلك في ملكي شيئا . يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر » فسبحانه من غني حميد .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[9] ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب .

ألم يأتكم أي : في مؤاخذة من كفر : نبأ الذين من قبلكم قوم نوح [ ص: 3712 ] أي : مع كثرتهم : وعاد أي : مع غاية قوتهم : وثمود مع كثرة تحصنهم وصنائعهم : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جاءتهم رسلهم بالبينات فردوا أيديهم في أفواههم وقالوا إنا كفرنا بما أرسلتم به وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه مريب

قال ابن جرير : هذا من تمام قول موسى لقومه ، يعني : وتذكاره إياهم بأيام الله بانتقامه من الأمم المكذبة بالرسل .

قال ابن كثير : وفيما قال ابن جرير نظر ; والظاهر أنه خبر مستأنف من الله تعالى لهذه الأمة ; فإنه قد قيل : إن قصة عاد وثمود ليست في التوراة ، فلو كان هذا من كلام موسى لقومه لقصه عليهم ، ولا شك حينئذ أن تكون هاتان القصتان في التوراة ، والله أعلم .

وقوله تعالى : والذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله جملة من مبتدأ وخبر وقعت اعتراضا ، أو عطف {الذين } على قوم نوح ، و : { لا يعلمهم } إلخ اعتراض ، ومعنى الاعتراض على الثاني : ألم يأتكم أنباء الجم الغفير الذي لا يحصى كثرة فتعتبروا بها ؟ إن في ذلك لمعتبرا . وعلى الأول : فهو ترق ، ومعناه : ألم يأتكم نبأ هؤلاء ومن لا يحصى بعدهم ؟ كأنه يقول : دع التفصيل فإنه لا مطمع فيه ، وفيه لطف لإيهام الجمع بين الإجمال والتفصيل .

وقوله تعالى : فردوا أيديهم في أفواههم يحتمل الأيدي والأفواه أن يكونا الجارحتين المعروفتين . وأن يكونا من مجاز الكلام . وفي الأول وجوه :

أي : ردوا أيديهم في أفواههم فعضوها غيظا وضجرا مما جاءت به الرسل ، كقوله : عضوا عليكم الأنامل من الغيظ أو وضعوها على أفواههم ضحكا واستهزاء كمن غلبه الضحك. أو وضعوها على أفواههم مشيرين بذلك إلى الأنبياء أن يكفوا ويسكتوا . أو أشاروا بأيديهم [ ص: 3713 ] إلى أفواه الرسل أن اسكتوا . و (في) بمعنى (إلى) أو وضعوا أيديهم على أفواه الرسل منعا لهم من الكلام ، أو أنهم أخذوا أيدي الرسل ووضعوها على أفواههم ليقطعوا كلامهم . ومن بالغ في منع غيره من الكلام ; فقد يفعل به ذلك . أو أشاروا بأيديهم إلى جوابهم وهو قولهم : إنا كفرنا أي : هذا جوابنا الذي نقوله بأفواهنا ، والمراد إشارتهم إلى كلامهم كما يقع في كلام المتخاطبين ، أنهم يشيرون إلى أن هذا هو الجواب ثم يقررونه ، أو يقررون ثم يشيرون بأيديهم إلى أن هذا هو الجواب . قيل : وهو أقوى الوجوه المتقدمة ; لأنهم لما حاولوا الإنكار على الرسل كل الإنكار ، جمعوا في الإنكار بين الفعل والقول . ولذا أتى بالفاء تنبيها على أنهم لم يمهلوا ، بل عقبوا دعوتهم بالتكذيب . وفي تصديرهم الجملة بـ ( أن ) ومواجهة الرسل بضمائر الخطاب وإعادة ذلك مبالغة في التأكيد .

وفي الثاني - أعني المعنى المجازي - وجوه :

قال أبو مسلم الأصفهاني : المراد باليد ما نطقت به الرسل من الحجج ، وذلك لأن إسماع الحجة إنعام عظيم ، والإنعام يسمى يدا ، يقال : لفلان عندي يد ، إذا أولاه معروفا . وقد تذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد ، كقوله تعالى : إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فالبينات التي كان الأنبياء عليهم السلام يذكرونها ويقررونها نعم وأياد ، وأيضا العهود التي كانوا يأتون بها مع القوم أياد ، وجمع اليد في العدد القليل هو الأيدي ، وفي العدد الكثير الأيادي. فثبت أن بيانات الأنبياء عليهم السلام وعهودهم صح تسميتها بالأيدي . وإذا كانت النصائح والعهود إنما تظهر من الفم ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت ، ونظير قوله تعالى : إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم فلما كان القبول تلقيا بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردا في الأفواه . انتهى .

[ ص: 3714 ] وفي (" الرازي ") تتمة الأوجه فانظرها إن شئت .

قال في (" العناية ") : فإن قلت : قولهم : إنا كفرنا جزم بالكفر لا سيما وقد أكد بـ ( إن) ، فقولهم : وإنا لفي شك ينافيه ، قلت : أجيب بأن الواو بمعنى أو ، أي : أحد الأمرين لازم وهو : إنا كفرنا جزما فإن لم نجزم فلا أقل من أن نكون شاكين فيه . وأيا ما كان ، فلا سبيل إلى الإقرار . وقيل : إن الكفر عدم الإيمان عمن هو من شأنه ، فكفرنا بمعنى لم نصدق ، وذلك لا ينافي الشك ، أو متعلق الكفر الكتب والشرائع ، ومتعلق الشك وما يدعونهم إليه من التوحيد مثلا . انتهى . أي : فلا ينافي شكهم في ذلك كفرهم القطعي بالأول .

وقوله تعالى : مريب بمعنى موقع في الريبة ، من (أرابه ) أوقعه فيها ; أو ذي ريبة ، من (أراب) : صار ذا ريبة وهي صفة مؤكدة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[10] قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين .

قالت رسلهم أفي الله شك فاطر السماوات والأرض أي : وهو مما لا مجال للشك فيه لغاية ظهوره .

قال ابن كثير : هذا يحتمل معنيين : أحدهما : أفي وجوده شك ؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به . فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعض الفطر شك واضطراب فيحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت لهم الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه فاطر السماوات والأرض - أي : الذي خلقهما وابتدعهما [ ص: 3715 ] على غير مثال سبق - فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما . فلا بد لهما من صانع وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء وإلهه ومليكه . والمعنى الثاني : أفي إلهيته وتفرده بوجوب العبادة له ، شك ؟ وهو الخالق لجميع الموجودات ولا يستحق العبادة إلا هو وحده لا شريك له ، فإن غالب الأمم كانت مقرة بالصانع ، ولكن تعبد معه غيره من الوسائط التي يظنونها تنفعهم أو تقربهم من الله زلفى . انتهى .

وسبق لنا في سورة الأعراف البحث في أن معرفته تعالى ضرورية أو نظرية فارجع إليه .

وفي إدخال همزة الإنكار على الظرف إيذان بأن مدار الإنكار ليس نفس الشك بل وقوعه فيما لا يكاد يتوهم فيه الشك أصلا ، وفي العدول عن تطبيق الجواب على كلام الكفرة بأن يقولوا : (أأنتم في شك مريب من الله) مبالغة في تنزيه ساحة جلاله عن شائبة الشك وتسجيل عليهم بسخافة العقول .

وقوله تعالى : يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم أي : يدعوكم إلى الإيمان بإرساله إيانا ، لا أنا ندعوكم إليه من تلقاء أنفسنا كما يوهمه قولكم : مما تدعوننا إليه ولام ( ليغفر) متعلقة بـ (يدعو) أي : لأجل المغفرة لا لفائدته ، تعالى وتقدس . أو للتعدية أي : يدعوكم إلى المغفرة ، كقولك : دعوتك لزيد . و (من) إما تبعيضية أي : بعض ذنوبكم وهو ما بينهم وبين الله تعالى دون المظالم ، أو صلة على مذهب الأخفش وغيره ، من زيادتها في الإيجاب ، أو للبدل أي : بدل عقوبة ذنوبكم ، أو على تضمين (يغفر ) معنى (يخلص) .

وادعى الزمخشري مجيئه بـ (من ) هكذا في خطاب الكافرين دون المؤمنين في جميع القرآن . قال : وكان ذلك للتفرقة بين خطابين ، ولئلا يسوى بين الفريقين في الميعاد .

قال في (" الكشاف ") : وللتخصيص فائدة أخرى وهي التفرقة بين الخطابين بالتصريح [ ص: 3716 ] بمغفرة الكل ، وإبقاء البعض في حق الكفرة مسكوتا عنه لئلا يتكلوا على الإيمان .

وقوله تعالى : ويؤخركم إلى أجل مسمى أي : يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى : قالوا إن أنتم إلا بشر مثلنا تريدون أن تصدونا عما كان يعبد آباؤنا فأتونا بسلطان مبين أي : آية مما نقترحه تدل على فضلكم علينا بالنبوة .
القول في تأويل قوله تعالى :

[11] قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون .

قالت لهم رسلهم إن نحن إلا بشر مثلكم ولكن الله يمن على من يشاء من عباده أي : بالرسالة والنبوة : وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله أي : بأمره وإرادته ، وهو لم يرد ذلك ، لقوله : وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون

وعلى الله فليتوكل المؤمنون قال الزمخشري : أمر منهم للمؤمنين كافة بالتوكل ، وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا : ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم وما يجري علينا منكم . ألا ترى إلى قوله :
القول في تأويل قوله تعالى :

[12] وما لنا ألا نتوكل على الله وقد هدانا سبلنا ولنصبرن على ما آذيتمونا وعلى الله فليتوكل المتوكلون .

وما لنا ألا نتوكل على الله ومعناه : وأي عذر لنا في أن لا نتوكل عليه : [ ص: 3717 ] وقد هدانا سبلنا أي : أرشد كلا منا سبيله ومنهاجه الذي شرع له ، وأوجب عليه سلوكه في الدين . وحيث كانت أذية الكفار مما يوجب القلق والاضطراب القادح في التوكل ، قالوا على سبيل التوكيد القسمي ، مظهرين لكمال العزيمة : ولنصبرن على ما آذيتمونا أي : من الكلام السيئ والأفعال السخيفة . وقوله : وعلى الله فليتوكل المتوكلون فيه اهتمام بالتوكل عليه سبحانه ; لأن مقام الدعوة يقتضيه . ولذا أعيد ذكره .
القول في تأويل قوله تعالى :

[ 13 - 14 ] وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد .

ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد يخبر تعالى عما توعد به الكافرون رسلهم ، لما رأوهم صابرين متوكلين ، لا يهمهم شأنهم من الإخراج من الأرض ، والنفي من بين أظهرهم ، أو العود في ملتهم . والمعنى : ليكونن أحد الأمرين .

والسبب في هذا التوعد - كما قال الرازي - أن أهل الحق في كل زمان يكونون قليلين ، وأهل الباطل يكونون كثيرين . والظلمة والفسقة يكونون متعاونين متعاضدين . فلهذه الأسباب قدروا على هذه السفاهة . فإن قيل : يتوهم من لفظ (العود ) أنهم كانوا في ملة الكفر قبل ! أجيب : بأن ( عاد) بمعنى صار . وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى ، أو الكلام على ظنهم وزعمهم [ ص: 3718 ] أنهم كانوا من أهل ملتهم قبل إظهار الدعوة . أو الخطاب للرسل ولقومهم ، فغلبوا عليهم في نسبة العود إليهم .

وقوله تعالى : فأوحى إليهم ربهم إلخ وعد صادق للرسل ، وبشارة حقة . كما قال تعالى : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون وقال تعالى : وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها والآيات في ذلك كثيرة . والإشارة في (ذلك) إلى الموحى به وهو إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين . وقوله : لمن خاف إلخ ، أي : للمتقين ; لأنهم الموصوفون بما ذكر كقوله : والعاقبة للمتقين و (المقام) إما موقف الحساب ، فهو اسم مكان ، وإضافته إليه سبحانه لكونه بين يديه ، أو مصدر ميمي ، بمعنى : حفظي وقيامي لأعمالهم ليجازوا عليها . أو مقحم للتفخيم والتعظيم كما يقال : المقام العالي . وياء المتكلم في (وعيد) محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف .

قال السمين: أثبت الياء هنا وفي (ق) في موضعين : كل كذب الرسل فحق وعيد فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وصلا ، وحذفها وقفا ورش عن نافع . وحذفها الباقون وصلا ووقفا .

وقوله تعالى :
القول في تأويل قوله تعالى :

[15] واستفتحوا وخاب كل جبار عنيد .

واستفتحوا أي : سألوا من الله الفتح على أعدائهم ، أو القضاء بينهم وبين أعدائهم .

[ ص: 3719 ] من (الفتاحة) وهي الحكومة كقوله : ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق فالضمير : للرسل ، وقيل : للكفرة ، وقيل : للفريقين ، فإنهم سألوا أن ينصر المحق ويهلك المبطل . وقوله : وخاب كل جبار عنيد أي: فنصروا عند استفتاحهم وأفلحوا : وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم . أو استفتح الكفار على الرسل وخابوا ولم يفلحوا . وإنما قيل : وخاب كل جبار عنيد ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد . أو استفتحوا جميعا فنصر الرسل وأنجز لهم الوعد ، وخاب أعداؤهم . و (الجبار) المتكبر على طاعة الله تعالى وعبادته . و (العنيد) المعاند للحق ، كخليط بمعنى مخالط .
القول في تأويل قوله تعالى :

[16] من ورائه جهنم ويسقى من ماء صديد

من ورائه جهنم جملة في محل جر صفة لـ (جبار) كناية عن تطلبها له وترصدها إياه ، ومن تطلب شيئا وترصده أدركه لا محالة . وقيل : على تقدير مضاف ، أي : من وراء حياته وانقضاء عمره ويسقى من ماء صديد وهو ما يسيل من جوف أهل النار ، قد خالط القيح والدم .
القول في تأويل قوله تعالى :

[17] يتجرعه ولا يكاد يسيغه ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ

يتجرعه أي : يتكلف تجرعه لقهره عليه : ولا يكاد يسيغه لخبثه : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت أي : تحيط به أسبابه من الأهوال ، وما هو بمستريح مما نزل به : ومن ورائه عذاب غليظ أي : شديد متصل لا ينقطع .

[ ص: 3720 ]
القول في تأويل قوله تعالى :

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد .

[18] مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد

المثل مستعار للصفة التي فيها غرابة. شبه تعالى أعمالهم اللاتي كانوا يعملونها لأوثانهم أو يراؤون بها - كإنفاق الأموال وعقر الإبل للضيفان ، في حبوطها ; لكونها على غير تقوى وإيمان - برماد طيرته الريح العاصف . وقوله تعالى : لا يقدرون إلخ ، مستأنف ، فذلك للتمثيل بمعنى المقصود منه ومحصل وجهه ، أي : لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء منها ، أي : لا يرون له أثرا من ثواب ، كما لا يقدر ، من الرماد المطير في الريح ، على شيء .

قال أبو السعود : الاكتفاء ببيان عدم رؤية الأثر لأعمالهم للأصنام ، مع أن لها عقوبات هائلة ; للتصريح ببطلان اعتقادهم وزعمهم أنها شفعاء لهم عند الله تعالى ، وفيه تهكم بهم . وفي توصيف الضلال بالبعد ، إشارة إلى بعد ضلالهم عن طريق الحق أو عن الثواب .

و (اشتد به) من ( شد ) بمعنى عد والباء للتعدية أو ملابسة . أو من ( الشدة ) بمعنى القوة ، أي : قويت بملابسة حمله . و (العصف ) قوة هبوب الريح ، وصف به زمانها على الإسناد المجازي ، كـ (نهاره صائم) وخبر (مثل) محذوف أي : فيما يتلى عليكم . وجملة : أعمالهم كرماد مستأنفة جوابا لسؤال : كيف مثلهم ؟ أو ( أعمالهم ) بدل من ( مثل) و ( كرماد ) الخبر .

وهذه الآية كقوله تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا وقوله تعالى : مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.96 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 47.33 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.31%)]