عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 29-04-2023, 06:35 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,835
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ
المجلد العاشر
صـ 3681 الى صـ 3705
الحلقة (418)



ولا يزال الذين كفروا أي: من أهل مكة تصيبهم بما صنعوا قارعة أي: بسبب ما صنعوه من الكفر والتمادي فيه، وعدم بيانه لتهويله أو استهجانه. والقارعة: الداهية التي تقرع وتقلق، يعني: ما كان يصيبهم من أنواع البلايا والمصائب من القتل والأسر [ ص: 3681 ] والنهب والسلب أو تحل أي: تلك القارعة قريبا أي: مكانا قريبا من دارهم فيفزعون منها ويتطاير إليهم شررها حتى يأتي وعد الله أي: فتح مكة إن الله لا يخلف الميعاد أي: لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة، كما قال تعالى: فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله وفي الآية وجه آخر، وهو حمل " الذين كفروا" على جميع الكفار، أي: لا يزالون، بسبب تكذيبهم، تصيبهم القوارع في الدنيا، أو تصيب من حولهم ليعتبروا، كقوله تعالى: ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى وصرفنا الآيات لعلهم يرجعون وقوله: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 32 ] ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب

ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا أي: أمهلتهم وتركتهم ملاوة من الزمن، في أمن ودعة، كما يملى للبهيمة في المرعى: ثم أخذتهم فكيف كان عقاب أي: عقابي إياهم. وفيه من الدلالة على فظاعته ما لا يخفى. والآية تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما لقي من المشركين من التكذيب والاقتراح، على طريقة الاستهزاء به، ووعيد لهم.
[ ص: 3682 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 33 ] أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وجعلوا لله شركاء قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول بل زين للذين كفروا مكرهم وصدوا عن السبيل ومن يضلل الله فما له من هاد

أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أي: مراقب لأحوالها ومشاهد لها، لا يخفى عليه ما تكسبه من خير أو شر. فهو مجاز; لأن القائم على الشيء عالم به، ولذا يقال: وقف عليه، إذا علمه فلم يخف عليه شيء من أحواله، والخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وإنما حذف اكتفاء بدلالة السياق عليه وهو قوله: وجعلوا لله شركاء أي: عبدوها معه من أصنام وأنداد وأوثان، وقوله: قل سموهم تبكيت لهم إثر تبكيت، أي: سموهم من هم، وماذا أسماؤهم؟ فإنهم لا حقيقة لهم! أو صفوهم وانظروا هل لهم ما يستحقون به العبادة ويستأهلون الشركة؟.

وقال الرازي: إنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني: أنه أخس من يسمى ويذكر، ولكنك إن شئت أن تضع له اسما فافعل. فكأنه تعالى قال: سموهم بالآلهة، على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سميتموهم بهذا الاسم أو لم تسموهم به، فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها.

أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أي: بشركاء لا يعلمهم سبحانه. وإذا كان لا يعلمهم، وهو عالم بكل شيء مما كان ومما يكون، فهم لا حقيقة لهم. فهو نفي لهم بنفي لازمهم على طريق الكناية.

قال الناصر: وحقيقة هذا النفي أنهم ليسوا بشركاء وأن الله لا يعلمهم كذلك; لأنهم ليسوا كذلك، وإن كانت لهم ذوات ثابتة يعلمها الله، إلا أنها مربوبة حادثة لا آلهة معبودة. ولكن [ ص: 3683 ] مجيء النفي على هذا السنن المتلو بديع لا تكتنه بلاغته وبراعته. ولو أتى الكلام على الأصل غير محلى بهذا التصريف البديع لكان: وجعلوا لله شركاء وما هم بشركاء. فلم يكن بهذا الموقع الذي اقتضته التلاوة.

وقوله تعالى: أم بظاهر من القول أي: بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة، كتسمية الزنجي كافورا من غير بياض فيه ولا رائحة طيبة، لفرط الجهل وسخافة العقل، وهذا كقوله تعالى: ذلك قولهم بأفواههم ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها وعن الضحاك: إن الظاهر بمعنى الباطل، كقوله:


وذلك عار يا ابن ريطة ظاهر


تنبيه:

قال الزمخشري: هذا الاحتجاج وأساليبه العجيبة التي ورد عليها، مناد على نفسه بلسان طلق ذلق; أنه ليس من كلام البشر لمن عرف وأنصف من نفسه.

قال شارحوه: فإن قوله تعالى: أفمن هو قائم على كل نفس لما كان كافيا في هدم قاعدة الإشراك مع السابق واللاحق وما ضمن من زيادات النكت، وكان إبطالا من طريق حق، مذيلا بإبطال من طرف النقيض على معنى: ليتهم إذ أشركوا بمن لا يجوز أن يشرك به، أشركوا من يتوهم فيه ذلك أدنى توهم، وروعي فيه أنه لا أسماء للشركاء ولا حقيقة لها فضلا عن المسمى على الكناية الإيمائية. ثم بولغ بأنها لا تستأهل أن يسأل عنها على الكناية التلويحية استدلالا بنفي العلم عن نفي المعلوم. ثم منه إلى عدم الاستئهال مع التوبيخ، وتقدير أنهم يريدون أن ينبئوا عالم السر والخفيات بما لا يعلمه وهو محال على محال وفي جعل اتخاذهم شركاء، [ ص: 3684 ] ومجادلة الرسول عليه الصلاة والسلام إنباء له تعالى ; نكتة بل نكت سرية. ثم أضرب عن ذلك. وقيل: قد بين الشمس لذي عينين، وما تلك التسمية إلا بظاهر من القول لا طائل تحته بل هو صوت فارغ.

فمن تأمل حق التأمل، اعترف بأنه كلام خالق القوى والقدر، الذي تقف دون أستار أسراره أفهام البشر...!

وقوله تعالى: بل زين للذين كفروا مكرهم إضراب عن الاحتجاج عليهم. كأنه قيل: دع ذكر ما كنا فيه من الدلائل على فساد قولهم; لأنه زين لهم كفرهم ومكرهم، فلا ينتفعون بهذه الدلائل.

وقوله تعالى:

وصدوا عن السبيل أي: عن سبيل الله، وقرئ: بفتح الصاد أي: صدوا الناس ومن يضلل الله أي: يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، أو يخذله فما له من هاد أي: من أحد يهديه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 34 ] لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق

لهم عذاب في الحياة الدنيا وهو ما نالهم على أيدي المؤمنين، أو ما فيه من عذاب الحيرة والضلة. فإن نفس غير المؤمنين في نكد مستمر وداء دوي لا برء له إلا الإيمان، كما فصل في موضع آخر. ولعذاب الآخرة أشق أي: من عذاب الدنيا كما وكيفا وما لهم من الله من واق أي: حافظ يعصمهم من عذابه.
[ ص: 3685 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 35 ] مثل الجنة التي وعد المتقون تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

مثل الجنة التي وعد المتقون أي عن الكفر والمعاصي تجري من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار

في الآية وجوه من الإعراب:

(الأول): أن (مثل) مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يقص ويتلى عليكم صفة الجنة، وجملة (تجري) مفسرة أو مستأنفة استئنافا بيانيا أو حال من ضمير (وعد) أي: وعدها مقدرا جريان أنهارها. وهذا الوجه سالم من التكلف، مع ما فيه من الإيجاز والإجمال والتفصيل. وقدر الخبر فيه مقدما لطول ذيل المبتدأ، أو لئلا يفصل به بينه وبين ما يفسره، أو ما هو كالمفسر له.

(الثاني): أن خبره (تجري) -على طريقة قولك: صفة زيد أسمر- قيل: هو غير مستقيم معنى; لأنه يقتضي أن الأنهار في صفة الجنة، وهي فيها، لا في صفتها. مع تأنيث الضمير العائد على المثل حملا على المعنى.

(الثالث): أن ثمة موصوفا محذوفا، أي: مثل الجنة جنة تجري من تحتها الأنهار، وقوله (وظلها) مبتدأ محذوف الخبر أي: كذلك.
[ ص: 3686 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 36 ] والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك ومن الأحزاب من ينكر بعضه قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب

والذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنـزل إليك لأنه يحصل لهم به من المعاني والدلائل وكشف الشبهات ما لم يحصل لهم من تلك الكتب السالفة. قيل: عنى بهم الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام، فإنهم يفرحون بما أنزل من القرآن; لما يرون فيه من الشواهد على حقيته التي لا يمترى فيها، ومن المعارف والمزايا الباهرة التي لا تحصى، كما قال تعالى: الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته ومن الأحزاب يعني بقية أهل الكتاب والمشركين من ينكر بعضه وهو ما يخالف معتقدهم، وجوز أن يراد (بالموصول) من يفرح به منهم لمجرد تصديقه لما بين يديه وتعظيمه له وإن لم يؤمنوا. وبـ (الأحزاب) المشركون، خاصة المنكرين لما فيه من التوحيد. ولذا أمر برد إنكارهم بقوله تعالى: قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو أي: لا إلى غيره وإليه مآب أي: مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 37 ] وكذلك أنـزلناه حكما عربيا ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق

وكذلك أنـزلناه حكما عربيا أي: حاكما بالحق، أو حكمة عربية: ولئن اتبعت [ ص: 3687 ] أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق أي: لئن تابعتهم على دين، ما هو إلا أهواء بعد ثبوت العلم عندك بالبراهين والحجج; فلا ينصرك ناصر ولا يقيك واق. وهذا من باب الإلهاب والتهييج والبعث للسامعين على الثبات في الدين والتصلب، وأن لا يزل زال عند الشبهة بعد استمساكه بالحجة. وإلا فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من شدة الشكيمة بمكان -كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 38 ] ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب

ولقد أرسلنا رسلا من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية أي: مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب وغيرهم، وهو رد لقولهم: لو كان نبيا لكان من جنس الملائكة كما قالوا: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق وإعلام بأن ذلك سنة كثير من الرسل، فما جاز في حقهم لم لا يجوز في حقه؟ وقد قال تعالى له: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله أي: ما صح له ولا استقام ولم يكن في وسعه أن يأتي بما يقترح عليه، إلا بإرادته تعالى في وقته; لأن الآيات معينة بإزاء الأوقات التي تحدث فيها، من غير تغير وتبدل وتقدم وتأخر. فأمرها منوط بمشيئته تعالى، المبنية على الحكم والمصالح التي عليها يدور أمر الكائنات لكل أجل كتاب أي لكل وقت من الأوقات أمر مكتوب، مقدر معين أو مفروض في ذلك الوقت على الخلق حسبما تقتضيه الحكمة، فالشرائع معينة عند الله بحسب الأوقات، في كل وقت يأتي، بما هو صلاح ذلك الوقت، رسول من عنده. وكذا جميع الحوادث من الآيات [ ص: 3688 ] وغيرها، فليس الأمر على إرادة الكفار واقتراحاتهم، بل على حسب ما يشاؤه تعالى ويختاره، وفيه رد لاستعجالهم الآجال وإتيان الخوارق والعذاب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 39 ] يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

يمحو الله ما يشاء أي: ينسخ ما يشاء نسخه من الشرائع لما تقتضيه الحكمة بحسب الوقت ويثبت أي: بدله ما فيه المصلحة، أو يبقيه على حاله غير منسوخ وعنده أم الكتاب أي: أصله.

قال الرازي: العرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أما له، ومنه أم الرأس: للدماغ، وأم القرى لمكة. وكل مدينة فهي أم لما حولها من القرى. فكذلك أم الكتاب، هو الذي يكون أصلا لجميع الكتب. روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية يقول: يبدل الله ما يشاء فينسخه ويثبت ما يشاء فلا يبدله وعنده أم الكتاب يقول: وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ والمنسوخ. وما يبدل وما يثبت. كل ذلك في كتاب. وعن قتادة: أن هذه الآية كقوله تعالى: ما ننسخ من آية أو ننسها الآية.

تنبيه:

تمسك جماعة بظاهر قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت فقالوا: إنها عامة في كل شيء كما يقتضيه ظاهر اللفظ. قالوا: يمحو الله من الرزق ويزيد فيه. وكذا القول في الأجل والسعادة والشقاوة والإيمان والكفر.

قال الرازي: هو مذهب عمر وابن مسعود. والقائلون بهذا القول كانوا يدعون ويتضرعون إلى الله تعالى في أن يجعلهم سعداء لا أشقياء. انتهى.

[ ص: 3689 ] أشار بذلك إلى آثار أخرجها ابن جرير عن عمر وابن مسعود. وليس في الصحيح شيء منها.

ظهر لي في دمر في 12 ربيع الأول سنة 1324:

إن ما يستدل به الكثير من الآيات لمطلب ما، أن يدقق النظر فيه تدقيقا زائدا، فقد يكون سياق الآية لأمر لا يحتمل غيره، ويظن ظان أنه يستدل بها في بحث آخر، وقد يؤكده ما يراه من إطباق كثير من أرباب التصانيف على ذلك وإنما المدار على فهم الأسلوب والسياق والسباق.

خذ لك مثلا قوله تعالى: يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب فكم ترى من يستدل بها على العلم المعلق، ومحو ما في اللوح الذي يسمونه (لوح المحو والإثبات) ويوردون من الإشكالات والأجوبة ما لا يجد الواقف عليه مقنعا ولا مطمأنا.

مع أن هذه الآية، لو تمعن فيها القارئ; لعلم أنها في معنى غير ما يتوهمون. وذلك أنهم كانوا يقترحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل البعثة، أن يأتي بآية كآية موسى وعيسى; توهما أن ذلك هو أقصى ما يدل على نبوة النبي في كل زمان ومكان، فأعلمهم الله تعالى أن دور تلك الآيات الحسية انقضى دورها، وذهب عصرها. وقد استعد البشر للتنبه إلى الآية العقلية وهي آية الاعتبار والتبصر. وإن تلك الآيات محيت كما محي عصرها. وقد أثبت تعالى غيرها مما هو أجلى وأوضح وأدل على الدعوة، وهو قوله تعالى قبلها: وما كان [ ص: 3690 ] لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 40 ] وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب

وإن ما نرينك بعض الذي نعدهم أي: من إنزال العذاب في حياتك أو نتوفينك أي: قبل ذلك فإنما عليك البلاغ أي: تبليغ الوحي وعلينا الحساب أي: حسابهم وجزاؤهم. قال أبو حيان: جواب الشرط الأول (فذلك شافيك) والثاني (فلا لوم عليك)، وقوله تعالى فإنما عليك إلخ دليل عليهما.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 41 ] أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب

أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أي: أرض الكفرة، ننقصها عليهم بإظهار دين الإسلام في أطراف ممالكهم.

قال ابن عباس: أي: أولم يروا أنا نفتح للرسول الأرض بعد الأرض; يعني أن انتقاص أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أنه تعالى ينجز وعده، ونظيره قوله تعالى: أفلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أفهم الغالبون [ ص: 3691 ] وقوله: سنريهم آياتنا في الآفاق

قال الشهاب: هذا مرتبط بما قبله. يعني لم يؤخر عذابهم لإهمالهم، بل لوقته المقدر، أو ما ترى نقص ما في أيديهم من البلاد وزيادة ما لأهل الإسلام، ولم يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم به تعظيما له، وخاطبهم تهويلا وتنبيها عن سنة الغفلة. ومعنى نأتي الأرض يأتيها أمرنا وعذابنا. انتهى.

وقيل: ننقصها من أطرافها بموت أهلها وتخريب ديارهم وبلادهم. فهؤلاء الكفرة كيف أمنوا من أن يحدث فيهم أمثال هذه الوقائع؟.

تنبيه:

يذكرون -ها هنا- رواية عن ابن عباس ومجاهد: أن نقصها من أطرافها هو موت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها. ويؤيد من يعتمد ذلك بأن الجوهري حكى عن ثعلب: أن الأطراف يطلق على الأشراف، جمع طرف وهو الرجل الكريم، وشاهده قول الفرزدق:


واسأل بنا وبكم إذا وردت منى أطراف كل قبيلة من يتبع


يريد أشراف كل قبيلة. فمعنى الآية: أولم يروا ما يحدث في الدنيا من الاختلافات: موت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كان هذا مشاهدا محسوسا; فما الذي يؤمنهم من أن يقلب الله الأمر عليهم فيذلهم بعد العزة! ولا يخفاك أن هذا المعنى لا يذكره السلف تفسيرا للآية على أنه المراد منها، وإنما يذكرونه تهويلا لخطب موت العلماء بسبب [ ص: 3692 ] أنهم أركان الأرض وصلاحها وكمالها وعمرانها، فموتهم نقص لها وخراب منها. كما قال أحمد بن غزال:


الأرض تحيى إذا ما عاش عالمها متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيى إذا ما الغيث حل بها وإن أبى عاد في أكنافها التلف


ولذا قال الأزهري كما في (لسان العرب): أطراف الأرض نواحيها، الواحد طرف، و (ننقصها من أطرافها) أي نواحيها ناحية ناحية، وعلى هذا من فسر (نقصها من أطرافها) فتوح الأرضين. وأما من جعل (نقصها من أطرافها) موت علمائها فهو من غير هذا، قال: والتفسير على القول الأول.

وقوله تعالى: والله يحكم أي: ما يشاء كما يشاء، وقد حكم للإسلام بالعز والإقبال، وعلى الكفر بالذل والإدبار، حسبما يشاهد من المخايل والآثار. وفي الالتفات من التكلم إلى الغيبة، وبناء الحكم على الاسم الجليل، من الدلالة على الفخامة وتربية المهابة وتحقيق مضمون الخبر، بالإشارة إلى العلة، ما لا يخفى، وهو جملة اعتراضية جيء بها لتأكيد فحوى ما تقدمها.

وقوله تعالى: لا معقب لحكمه اعتراض في اعتراض; لبيان علو شأن حكمه تعالى، وقيل: نصب على الحالية كأنه قيل: والله يحكم نافذا حكمه، كما تقول: جاء زيد لا عمامة على رأسه، أي: حاسرا. و (المعقب) من يكر على الشيء فيبطله، وحقيقته من يعقبه ويقفيه بالرد والإبطال. أفاده أبو السعود.

وهو سريع الحساب أي: فعما قليل يحاسبهم ويجازيهم في الآخرة بعد عذاب الدنيا بالقتل والأسر.
[ ص: 3693 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 42 ] وقد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا يعلم ما تكسب كل نفس وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار

وقد مكر الذين من قبلهم أي: مكر الكفار الذين خلوا، إيقاع المكروه بأنبيائهم والمؤمنين كما مكر هؤلاء، وقوله: فلله المكر جميعا إشارة إلى ضعف مكرهم وكيدهم لاضمحلاله وذهاب أثره، وأنه مما لا يسوء، وأن المكر المرهوب هو ما سيؤخذون به من إيقاع فنون النكال، وهم نائمون على فرش الإمهال، مما لا يخطر لهم على بال، كما يومئ إليه قوله تعالى: يعلم ما تكسب كل نفس أي: فيوفيها جزاءها المعد لها على ما كسبت من فنون المعاصي التي منها مكرهم، من حيث لا يحتسبون وسيعلم الكفار لمن عقبى الدار أي العاقبة الحميدة، وعلى من تدور الدائرة، وهذا كقوله تعالى: ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون فانظر كيف كان عاقبة مكرهم أنا دمرناهم وقومهم أجمعين فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 43 ] ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب

ويقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم فإنه أظهر على رسالتي، من الحجج القاطعة والبينات الساطعة، ما فيه مندوحة عن شهادة شاهد آخر. قيل: جعل هذا شهادة (وهو فعل والشهادة قول) على سبيل الاستعارة; لأنه يغني عن الشهادة بل هو أقوى. انتهى. ولا يخفى أن الشهادة أعم من القول والفعل. على [ ص: 3694 ] أن المراد من تلك الحجج هي آيات القرآن والذكر الحكيم، وهي كلامه تعالى، وقد قال تعالى: ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي

وقوله تعالى: ومن عنده علم الكتاب أي: ومن هو من علماء أهل الكتاب فإنهم يجدون صفة النبي صلى الله عليه وسلم ونعته في كتابهم من بشارات الأنبياء به. كما قال تعالى: الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل وقال تعالى: أولم يكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل

ويروى عن مجاهد أنه عنى بـ ومن عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام. ونوقش بأن السورة مكية، وإسلامه كان بالمدينة. وأجاب البعض بأن بعض السور المكية ربما وجد في مدني وبالعكس، وكأن هذه الآية من ذلك.

وقد روى الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في (دلائل النبوة): أن عبد الله بن سلام أسلم قبل الهجرة، حيث رحل إلى مكة قبلها، واستيقن نبوته صلوات الله عليه. ثم آب إلى المدينة وكتم إسلامه إلى أن كانت الهجرة. والله أعلم.
[ ص: 3704 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ إِبْرَاهِيمَ

سُمِّيَتْ بِهِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى دَعَوَاتٍ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلسَّلَامُ، تَمَّتْ بِهَذِهِ اَلْمِلَّةِ.

كَالْحَجِّ وَجَعْلِ اَلْكَعْبَةَ قِبْلَةَ اَلصَّلَاةِ. مَعَ اَلدَّلَالَةِ عَلَى عَظَمَتِهَا، بِحَيْثُ صَارَتْ مِنَ اَلْمَطَالِبِ اَلْمُهِمَّةِ لِلْمُتَّفَقِ عَلَى غَايَةِ كَمَالِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ اَلصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَعَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا عَلَيْهِ أَكْمَلُ اَلتَّحِيَّاتِ وَأَفْضَلُ التَّسْلِيمَاتِ مَعَ غَايَةِ كَمَالِهِ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ مَقَاصِدِ اَلْقُرْآنِ! أَفَادَهُ الْمَهَايِمِيُّ.

وَهِيَ مَكِّيَّةُ اَلنُّزُولِ، قِيلَ: إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اَللَّهِ كُفْرًا . وَهِيَ اِثْنَتَانِ وَخَمْسُونَ آيَةً.

[ ص: 3705 ] بِسْمِ اَللَّهِ اَلرَّحْمَنِ اَلرَّحِيمِ

اَلْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[1] الر كِتَابٌ أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ .

الر كِتَابٌ خَبَرٌ لِـ )الر) عَلَى كَوْنِهِ مُبْتَدَأً. أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُضْمَرٍ ، أَوْ مَسْرُودًا عَلَى نَمَطِ اَلتَّعْدِيدِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : أَنْـزَلْنَاهُ إِلَيْكَ صِفَةٌ لَهُ : لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَيْ : مِنَ اَلضَّلَالِ إِلَى اَلْهُدَى : بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أَيْ : أَمَرِهِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى : إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ : { إِلَى اَلنُّورِ } بِتَكْرِيرِ اَلْعَامِلِ . أَوْ مُسْتَأْنَفٌ ، كَأَنَّهُ قِيلَ : إِلَى أَيِّ نُورٍ ؟ فَقِيلَ : { إِلَى صِرَاطِ} إلخ وَ: {اَلْعَزِيزِ} اَلَّذِي لَا يُغَالَبُ وَلَا يُمَانَعُ بَلْ هُوَ اَلْقَاهِرُ اَلْقَادِرُ. وَ : { اَلْحَمِيدِ} اَلْمَحْمُودُ فِي أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ لِإِنْعَامِهِ فِيهِمَا بِأَعْظَمِ اَلنِّعَمِ.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.23 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.60 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.36%)]