عرض مشاركة واحدة
  #7  
قديم 29-04-2023, 06:26 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,140
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرَّعْدِ
المجلد التاسع
صـ 3666 الى صـ 3680
الحلقة (417)



[ ص: 3666 ] رأيهم في الحجة المذكورة; بين أن الجاهل بها يكون كالأعمى، والعالم بها كالبصير، والجهل بمثلها كالظلمات، والعلم بها كالنور. وكما أن كل أحد يعلم بالضرورة أن الأعمى لا يساوي البصير، والظلمة لا تساوي النور، كذلك كل أحد يعلم بالضرورة أن الجاهل بهذه الحجة لا يساوي العالم بها أم جعلوا لله شركاء أي: بل أجعلوا، والهمزة للإنكار، وقوله: خلقوا كخلقه صفة لـ (شركاء) داخلة في حكم الإنكار فتشابه الخلق عليهم أي: خلق الله وخلقهم. والمعنى: أنهم ما اتخذوا لله شركاء خالقين مثله حتى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا هؤلاء خلقوا كما خلق الله فاستحقوا العبادة كما استحقها، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عما يقدر عليه الخالق.

قال الناصر: وفي قوله تعالى: خلقوا كخلقه في سياق الإنكار، تهكم بهم; لأن غير الله لا يخلق خلقا البتة، لا بطريق المشابهة والمساواة لله، تقدس عن التشبيه، ولا بطريق الانحطاط والقصور، فقد كان يكفي في الإنكار عليهم، أن الشركاء التي اتخذوها لا تخلق مطلقا، ولكن جاء في قوله تعالى كخلقه تهكم يزيد الإنكار تأكيدا!.

قل الله خالق كل شيء أي: لا خالق غير الله، ولا يستقيم أن يكون له شريك في الخلق، فلا يكون له شريك في العبادة! وهو الواحد أي: المتوحد بالربوبية القهار الذي لا يغالب، وما عداه مربوب ومقهور!.

ثم ضرب تعالى مثلين للحق في ثباته وبقائه، والباطل في اضمحلاله وفنائه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 17 ] أنـزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال

أنـزل من السماء أي المزن ماء أي مطرا فسالت أودية بقدرها أي: [ ص: 3667 ] بمقدار ملئها في الصغر والكبر، أي: أخذ كل واحد بحسبه، فهذا كبير وسع كثيرا من الماء، وهذا صغير وسع بقدره فاحتمل السيل زبدا رابيا أي: فحمل ورفع، من قوة الجيشان، زبدا عاليا على وجه الماء: ومما يوقدون عليه في النار أي: من نحو الذهب والفضة والنحاس، مما يسبك في النار ابتغاء حلية أي: طلب زينة أو متاع كالآواني وآلات الحرب والحرث زبد مثله أي: مثل زبد السيل. وهو خبثه الذي ينفيه الكير كذلك يضرب الله الحق والباطل أي مثلهما، أي: إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ولا دوام، كما أن الزبد لا يثبت مع الماء ولا مع الذهب والفضة ونحوهما، مما يسبك في النار، بل يذهب ويضمحل. وقد بين ذلك بقوله تعالى فأما الزبد فيذهب جفاء أي مقذوفا مرميا به، أي: فلا ينتفع به، بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح. وكذلك خبث ما يوقد عليه من المعادن يذهب ولا يرجع منه شيء، ولا يبقى إلا ما ينتفع به من الماء والمعدن كما قال: وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض أي: يبقى فيها منتفعا به كذلك يضرب الله الأمثال أي: يبين أمثال الحق والباطل.

تنبيهات:

الأول: قدمنا أن هذه الآية مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير والظلمات والنور مثلا لهما. فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزله من السماء فتسيل به أودية الناس، فيحيون به وينفعهم بأنواع المنافع. وبالمعدن الذي ينتفعون به في صوغ الحلي منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، وأن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهرا، يثبت الماء في مناقعه ويسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون والقنى والآبار. وكذلك المعدن يبقى أزمنة متطاولة. وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة، بزبد السيل وخبث المعدن، فإنه -وإن علا وارتفع وانتفخ- إلا أنه أخيرا يضمحل. [ ص: 3668 ] وكذلك الشبهات والتمويهات الزائفة قد تقوى وتعظم، إلا أنها في الآخرة تبطل وتضمحل وتزول، ويبقى الحق ظاهرا لا يشوبه شيء من الشبهات; لأنه لا بقاء إلا للنافع، وما تصارع الحق والباطل، إلا وفاز الحق بقرنه...!

الثاني: قوله تعالى بقدرها صفة (أودية)، أو متعلق بـ (سالت) أو (أنزل). وقرأ عامة القراء بفتح الدال، وقرأ زيد بن علي والأشهب وأبو عمرو في رواية، بسكونها.

الثالث: قوله تعالى احتمل بمعنى حمل، فالمزيد بمعنى المجرد- كذا قيل. ويظهر لي: أن إيثاره عليه لزيادة في معناه، وقوة في مبناه!.

الرابع: الأودية جمع واد، وهو مفرج بين جبال أو تلال أو آكام. والإسناد إليه مجاز عقلي، كما في (جرى النهر).

قال السمين: وإنما نكر الأودية وعرف السيل; لأن المطر ينزل في البقاع على المناوبة فيسيل في بعض أودية الأرض دون بعض. وتعريف السيل لأنه قد فهم من الفعل قبله وهو (فسالت)، وهو لو ذكر لكان نكرة. فلما أعيد أعيد بلفظ التعريف نحو: رأيت رجلا فأكرمت الرجل. انتهى.

وأصله لأبي حيان حيث قال: عرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل. والذي يتضمنه الفعل من المصدر وإن كان نكرة، إلا أنه إذا عاد في الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة. وكذا يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو: من كذب كان شرا له، أي الكذب. ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من (فسالت). وأورد عليه: أنه كيف يجوز أن يعني به ما فهم من الفعل وهو حدث، والمذكور المعرف عين، فإن المراد به الماء السائل؟ وأجيب: بأنه بطريق الاستخدام.

قال الشهاب: وهو غير صحيح، لا تكلف -كما قيل- لأن الاستخدام أن يذكر لفظ بمعنى ويعاد عليه ضمير بمعنى آخر. سواء كان حقيقيا أو مجازيا، وهذا ليس كذلك، لأن الأول [ ص: 3669 ] مصدر، أي حدث في ضمن الفعل، وهذا اسم عين ظاهر يتصف بذلك الحدث، فكيف يتصور فيه الاستخدام؟ نعم، ما ذكروه أغلبي لا مختص بما ذكر، فإن مثل الضمير اسم الإشارة، وكذا اسم الظاهر كما في قول بعضهم:


أخت الغزالة إشرافا وملتفتا


فالحق أنه إنما عرف لكونه معهودا مذكورا بقوله أودية وإنما لم يجمع لأنه مصدر بحسب الأصل.

الخامس: قوله تعالى ومما يوقدون عليه في النار جملة أخرى معطوفة على الجملة الأولى، لضرب مثل آخر. و (زبد) مبتدأ قدم عليه خبره، (من) في (مما) للابتداء أي: نشأ منه، وجوز كونها للتبعيض، أي: هو بعضه؛ ورده أبو السعود بأنه يخل بالتمثيل. وقوله في النار صفة مؤسسة; لأن الموقد عليه يكون في النار وملاصقا لها، وقيل: إنها مؤكدة. وقال أبو السعود: في زيادة النار إشعار بالمبالغة في الاعتمال للإذابة وحصول الزبد. وعدم التعرض لإخراجه من الأرض لعدم دخل ذلك العنوان في التمثيل، كما أن لعنوان إنزال الماء من السماء دخلا فيه حسبما فصل فيما سلف، بل له إخلال بذلك. وسر التعبير بالموصول في قوله ومما يوقدون إلخ، الإيجاز بجمعه لأنواع المعادن مع إظهار الكبرياء بالتهاون بها، كأن أشرف الجواهر خسيس عنده تعالى; إذا عبر عن سبكه بإيقاد النار به، المشعر بأنه كالحطب الخسيس، وصوره بحالة هي أحط حالاته. وهذا لا ينافي كونه ضرب مثلا للحق. لأن مقام الكبرياء يقتضي التهاون به، مع الإشارة إلى كونه مرغوبا فيه منتفعا به بقوله ابتغاء حلية أو متاع فوفى كلا من المقامين حقه.

السادس: قدمنا أن قوله تعالى: كذلك يضرب الله الحق والباطل على حذف مضاف، أي: مثلهما، وسر الحذف الإنباء عن إكمال التماثل بين الممثل والممثل به، كأن المثل المضروب عين الحق والباطل.

[ ص: 3670 ] السابع: بدأ بالزبد في البيان في قوله فأما الزبد وهو متأخر في الكلام السابق; لأن في التقسيم يبدأ بالمؤخر كما في قوله: يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت إلخ، وقد راعى الترتيب فيه، ولك أن تقول النكتة فيه أن الزبد هو الظاهر المنظور أولا، وغيره باق متأخر في الوجود لاستمراره. والآية من الجمع والتقسيم على ما فصله الطيبي. كذا في (العناية).

الثامن: قوله تعالى كذلك يضرب الله الأمثال تفخيم لشأن هذا التمثيل وتأكيد لقوله كذلك يضرب الله الحق والباطل إما باعتبار ابتناء هذا على التمثيل الأول; أو بجعل ذلك إشارة إليهما. كذا في أبي السعود.

التاسع: أشار الحافظ ابن كثير إلى كثرة ضرب الأمثال النارية والمائية في التنزيل والسنة، قال:

وقد ضرب سبحانه وتعالى في أول سورة البقرة للمنافقين مثلين -ناري ومائي- وهو قوله: مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله الآية، ثم قال: أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق الآية، وهكذا ضرب للكافرين في سورة النور مثلين أحدهما قوله: والذين كفروا أعمالهم كسراب الآية، والسراب إنما يكون في شدة الحر، ولهذا جاء في (الصحيحين): « فيقال لليهود يوم القيامة: فما تريدون؟ فيقولون؟ أي ربنا! عطشنا فاسقنا. فيقال: ألا تردون؟ فيردون [ ص: 3671 ] النار، فإذا هي كسراب يحطم بعضها بعضا » . ثم قال تعالى في المثل الآخر أو كظلمات في بحر لجي الآية، وفي (الصحيحين) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إن مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا، فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير. وكانت منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا. وأصابت طائفة منها أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ! فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني، ونفع به فعلم وعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسا، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به، فهذا مثل الماء » . وفي (مسند الإمام أحمد) عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: « مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي يقعن في النار، يقعن فيها، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها. قال: فذلكم مثلي ومثلكم. أنا آخذ بحجزكم عن النار، هلم عن النار! فتغلبوني فتتقحمون فيها... » وأخرجاه في (الصحيحين) أيضا. فهذا مثل ناري. انتهى.

ولما بين سبحانه شأن كل من الحق والباطل حالا ومآلا، تأثره ببيان حال أهل كل منهما مآلا، ترغيبا وترهيبا، بقوله:
[ ص: 3672 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 18 ] للذين استجابوا لربهم الحسنى والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أولئك لهم سوء الحساب ومأواهم جهنم وبئس المهاد

للذين استجابوا لربهم الحسنى أي: للمؤمنين الذين استجابوا لربهم بطاعته وطاعة رسوله، المثوبة الحسنى كما قال تعالى: للذين أحسنوا الحسنى وزيادة فالحسنى مبتدأ قدم عليه خبره الموصول والذين لم يستجيبوا له وهم الكفرة لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أي: بما في الأرض ومثله معه من أصناف الأموال; ليتخلصوا عما بهم. وفيه من تهويل ما يلقاهم ما لا يحيط به البيان، ولأجله عدل عن أن يقال: وللذين لم يستجيبوا السوأى، كما تقتضيه المقابلة أولئك لهم سوء الحساب أي: في الدار الآخرة، فيناقشون على الجليل والحقير ومأواهم جهنم وبئس المهاد أي: المستقر. وفي قوله ومأواهم جهنم إشعار بتفسير الحسنى بالجنة; لانفهامها من مقابلتها.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 19 ] أفمن يعلم أنما أنـزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب

أفمن يعلم أي يصدق أنما أنـزل إليك من ربك يعني القرآن الحق كمن هو أعمى أي: كمن لا يعلم ذلك، إلا أنه أريد تقبيح حاله فعبر عنه بالأعمى إنما يتذكر أولو الألباب أي: العقول المبرأة عن مشايعة الإلف ومتابعة الوهم.
[ ص: 3673 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 20 ] الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق

الذين يوفون بعهد الله أي: مما كلفهم به ولا ينقضون الميثاق أي: ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله وغيره من المواثيق بينهم وبين العباد، وهو تعميم بعد تخصيص، وفيه تأكيد للاستمرار المفهوم من صيغة المستقبل. أفاده أبو السعود.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 21 ] والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب

والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل أي: من أرحامهم وقراباتهم وإخوانهم المؤمنين، بالإحسان إليهم على حسب الطاقة، ونصرتهم، والذب عنهم، والشفقة عليهم، والنصيحة لهم، وكف الأذى عنهم ويخشون ربهم أي: يعملون له أو يخافون وعيده فلا يعصونه فيما أمر ويخافون سوء الحساب

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 22 ] والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبى الدار

والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أي: يدفعون بالكلام الحسن الكلام السيئ إذا خاطبهم به الجاهلون، كما قال تعالى: ادفع بالتي هي أحسن الآية، أو يتبعون [ ص: 3674 ] السيئة الحسنة لتمحوها أولئك لهم عقبى الدار أي: عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها مرجع أهلها. فتعريف الدار للعهد.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 23 ] جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب [ 24 ] سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار

جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم أي: آمن ووحد وعمل صالحا من هؤلاء.

قال أبو السعود: وفي التقييد بالصلاح قطع للأطماع الفارغة لمن يتمسك بمجرد حبل الأنساب.

وأصله للزجاج حيث قال: بين تعالى أن الأنساب لا تنفع إذا لم يحصل معها أعمال صالحة، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصالحة.

وقرئ -شاذا- بضم لام (صلح). قال الزمخشري: والفتح أفصح.

والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار
ثم بين تعالى مآل مقابل الفريق الأول بقوله:

القول في تأويل قوله تعالى:

[ 25 ] والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار

والذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل [ ص: 3675 ] ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار أي: عذاب جهنم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 26 ] الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع

الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وفرحوا بالحياة الدنيا وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع هذا كقوله تعالى: أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين نسارع لهم في الخيرات بل لا يشعرون وتنكير (متاع) للتقليل كما في آية: قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا وقال: بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 27 ] ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب

ويقول الذين كفروا لولا أنـزل عليه آية من ربه كقولهم: فليأتنا بآية كما أرسل الأولون وتقدم الكلام على هذا غير مرة. وقوله تعالى: قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب جملة جرت مجرى التعجب من قولهم، مشيرة إلى أنه من باب العناد والاقتراح لما لا تقتضيه الحكمة من الآيات المحسوسة التي لا يمهل أحد بعد مجيئها، لا من باب طلب الهداية. وإلا فلو كان بغيتهم طلب الهداية بآية لكفاهم إنزال هذا الكتاب من مثله، صلوات الله عليه، آية، فإنه آية الآيات...!. ولكنهم قوم [ ص: 3676 ] آثروا الضلال على الهدى، زاغوا عنه فأزاغ الله قلوبهم. فطوى ما دل عليه هذه الجملة; إيجازا للعلم بها.

قال أبو السعود: قل إن الله يضل من يشاء إضلاله مشيئة تابعة للحكمة الداعية إليها، أي يخلق فيه الضلال لصرفه اختياره إلى تحصيله، ويدعه منهمكا فيه; لعلمه بأنه لا ينجع فيه اللطف ولا ينفعه الإرشاد، كمن كان على صفتكم في المكابرة والعناد، والغلو في الفساد. فلا سبيل له إلى الاهتداء، ولو جاءته كل آية.

ثم قال: ويهدي إليه من أناب أي: أقبل إلى الحق، وتأمل في تضاعيف ما نزل من دلائله الواضحة. وحقيقة الإنابة الدخول في نوبة الخير. وإيثار إيرادها في الصلة على إيراد المشيئة، كما في الصلة الأولى; للتنبيه على الداعي إلى الهداية بل إلى مشيئتها، والإشعار بما دعا إلى المشيئة الأولى المكابرة. وفيه حث للكفرة على الإقلاع عما هم عليه من العتو والعناد. وإيثار صيغة الماضي للإيماء إلى استدعاء الهداية لسابقة الإنابة، كما أن إيثار صيغة المضارع في الصلة الأولى للدلالة على استمرار المشيئة حسب استمرار مكابرتهم. انتهى.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 28 ] الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب

الذين آمنوا بدل من (من أناب) أي: آمنوا بالله ورسوله وكتابه وتطمئن قلوبهم بذكر الله أي تسكن وتخشى عند ذكره، وترضى به مولى ونصيرا. والعدول إلى صيغة المضارع لإفادة دوام الاطمئنان واستمراره ألا بذكر الله تطمئن القلوب أي: بذكره دون غيره تسكن القلوب أنسا به، واعتمادا عليه، ورجاء منه. وقدر بعضهم مضافا، أي بذكر رحمته ومغفرته، أو بذكر دلائله الدالة على وحدانيته. ورأى آخرون أن المراد [ ص: 3677 ] بذكر الله القرآن; لأنه يسمى ذكرا، كما قال تعالى: وهذا ذكر مبارك أنـزلناه وقال سبحانه: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون لأنه آية بينة تسكن القلوب، وتثبت اليقين فيها. وهذا المعنى يناسب قوله: لولا أنـزل عليه آية من ربه أي: هؤلاء ينكرون كونه آية، والمؤمنون يعلمون أنه أعظم آية تطمئن لها قلوبهم ببرد اليقين. قال الشهاب: وهو أنسب الوجوه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 29 ] الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب

الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب الموصول إما مبتدأ، و طوبى لهم مبتدأ ثان وخبر في موضع الخبر الأول، وإما خبر لمحذوف، أي هم، وإما بدل من أناب وجملة طوبى لهم دعائية أو خبرية.

قال الزمخشري: (طوبى) مصدر من (طاب) كبشرى وزلفى. ومعنى (طوبى لك) أصبت خيرا وطيبا، ومحلها النصب أو الرفع.كقولك: طيبا لك، وطيب لك، وسلاما لك وسلام لك. والقراءة في قوله " وحسن مآب" بالرفع والنصب تدلك على محليها. واللام في لهم للبيان مثلها في (سقيا لك)، والواو في (طوبى) منقلبة عن ياء، لضمة ما قبلها. قال ثعلب: قرئ ((طوبى لهم)) بالتنوين.

قال الفاسي: ومن نون طوبى جعله مصدرا بغير ألف، كسقيا. وزعم بعضهم أنها كلمة أعجمية، وفي (لسان العرب) عن قتادة، أنها كلمة عربية، تقول العرب: طوبى لك إن فعلت كذا وكذا، وأنشد:
طوبى لمن يستبدل الطود بالقرى ورسلا بيقطين العراق وفومها

الرسل: اللبن، والطود: الجبل، والفوم: الخبز والحنطة. كذا في (تاج العروس).
[ ص: 3678 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 30 ] كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب

كذلك أرسلناك في أمة قد خلت أي مضت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك أي: لتبلغهم هذا الوحي العظيم والذكر الحكيم، كما بلغ من خلا قبلك من المرسلين أممهم. وقوله: وهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أو مستأنفة، أي: يكفرون بالبليغ الرحمة، الذي وسعت رحمته كل شيء، والعدول إلى المظهر الدال على الرحمة، إشارة إلى أن الإرسال ناشئ منها، كما قال تعالى: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين وإلى أنهم لم يشكروا نعمة هذا الوحي الذي هو مدار المنافع الدينية والدنيوية، وإلى أن الرحمن من أسمائه الحسنى ونعوته العليا، وقد كانوا يتجافون هذا الاسم الكريم. ولهذا لم يرضوا يوم الحديبية أن يكتبوا (بسم الله الرحمن الرحيم) وقالوا: ما ندري ما الرحمن الرحيم؟ كما في الصحيح. وقد قال تعالى: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن وفي (صحيح مسلم) عن ابن عمر مرفوعا: « أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » .

قل هو أي: الرحمن الذي كفرتم به وأنكرتم معرفته: ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب أي: توبتي وإنابتي. فإنه لا يستحق ذلك غيره. ثم أشار تعالى إلى عظمة هذا الوحي وتفضيله على ما سواه بقوله:
[ ص: 3679 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 31 ] ولو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد

ولو أن قرآنا أي قرآنا ما سيرت به أي: بإنزاله أو بتلاوته الجبال أي أذهبت عن مقارها، وزعزعت عن أماكنها أو قطعت به الأرض أي: شققت حتى تتصدع وتصير قطعا أو كلم به الموتى أي خوطبت بعد أن أحييت بتلاوته عليها، والجواب محذوف، أي: لكان هذا القرآن; لكونه غاية في الهداية والتذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف. وعلى هذا التقدير، فالقصد بيان عظم شأن القرآن وفساد رأي الكفرة حيث لم يقدروا قدره العلي ولم يعدوه من قبيل الآيات، فاقترحوا غيره مما أوتي موسى وعيسى عليهما السلام. وقدر الزجاج الجواب (لما آمنوا به) كقوله: ولو أننا نـزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى الآية، وعليه فالقصد بيان غلوهم في المكابرة والعناد وتماديهم في الضلال والفساد.

ونقل عن الفراء; أن الجواب مقدم عليه وهو قوله: وهم يكفرون بالرحمن وما بينهما اعتراض، وفيه بعد وتكلف. وأشار بعضهم إلى أن مراده أنها دليل الجواب، والتذكير في (كلم) لتغليب المذكر من الموتى على غيره.

وقوله تعالى: بل لله الأمر جميعا أي: له الأمر الذي عليه يدور فلك الأكوان وجودا وعدما، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد لما يدعو إليه من الحكم البالغة، وهو إضراب عما تضمنته (لو) من معنى النفي، أي: لو أن قرآنا فعل به ما ذكر لكان هذا القرآن، [ ص: 3680 ] ولكن لم يفعل، بل فعل ما عليه الشأن الآن; لأن الأمر كله له وحده، وعلى تقدير الزجاج السالف، فالإضراب متوجه إلى ما سلف من اقتراحهم مع كونهم في العناد على ما شرح. أي: فليس لهم ذلك بل لله الأمر جميعا، إن شاء أتى بما اقترحوا وإن شاء لم يأت به حسبما تستدعيه الحكمة، من غير أن يكون لأحد عليه تحكم أو اقتراح. كذا في أبي السعود.

وقوله تعالى: أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا أي: أفلم يعلم ويتبين كقوله:


ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا


وقوله:


أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم


أي: ألم تعلموا! وييسرونني من إيسار الجزور، أي يقسمونني، ويروى: يأسرونني من (الأسر). أي: أفلم يعلموا أنه تعالى لو شاء هدايتهم لهداهم ; لأن الأمر له. ولكن قضت الحكمة أن يكون بناء التكليف على الاختيار.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 47.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.33%)]