عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 29-04-2023, 06:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الرَّعْدِ
المجلد التاسع
صـ 3651 الى صـ 3665
الحلقة (416)





وأكثر القراء على حذف ياء المتعال تخفيفا، وصلا ووقفا، وقرئ بإثباتها فيهما على الأصل.
[ ص: 3651 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 10 ] سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار

سواء منكم من أسر القول أي في نفسه ومن جهر به أي لغيره ومن هو مستخف بالليل أي: طالب الخفاء في مختبأ بالليل في ظلمته وسارب بالنهار أي: ذاهب في سربه، أي في طريقه يبصره كل أحد.

لطيفة:

قيل: إن (سواء) بمعنى الاستواء، وهو يقتضي ذكر شيئين، وهنا إذا كان (سارب) معطوفا على جزء الصلة أو الصفة; يكون شيئا واحدا.

وأجيب عنه بوجهين: (الأول) أن (سارب) معطوف على (من هو) لا على (مستخف) كأنه قيل: سواء منكم إنسان هو مستخف وآخر هو سارب. و(الثاني) أنه عطف على (مستخف)، إلا أن (من) في معنى الاثنين، كقوله:


نكن مثل من يا ذئب يصطحبان


كأنه قيل: سواء منكم اثنان هما مستخف وسارب. وعلى الوجهين (من) موصوفة لا موصولة. فيحمل الأولان على ذلك ليتوافق الكل.

وهناك وجه آخر وهو أن يكون الموصول محذوفا وصلته باقية، والمعنى: ومن هو مستخف بالليل ومن هو سارب بالنهار. وحذف الموصول المعطوف وبقاء صلته شائع، خصوصا وقد [ ص: 3652 ] تكرر الموصول في الآية ثلاثا. ومنه قوله تعالى: وما أدري ما يفعل بي ولا بكم والأصل: ولا ما يفعل بكم. وإلا كان حرف النفي دخيلا في غير موضعه; لأن الجملة الثانية لو قدرت داخلة في صلة الأول بواسطة العاطف، لم يكن للنفي موقع، وإنما صحب في الأول الموصول لا الصلة، ومنه قول حسان رضي الله عنه:


فمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء!


أي: ومن يمدحه وينصره.

وهذا الأخير نقله الناصر في (الانتصاف) وهو وجيه جدا. وأما تضعيف غيره له بلزوم حذف الموصول وصدر الصلة معا، وأن النجاة، وإن ذكروا جواز كل منهما، لكن اجتماعهما منكر; فهو المنكر; لأن أسلوب التنزيل هو الحجة، وإليه التحاكم في كل فن ومحجة. والجمود على القواعد ورد ما خالفها، إليها -من التعصب واللجاج، والغفلة عن مقام التنزيل في الاحتجاج!.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 11 ] له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال

له معقبات أي: لمن أسر أو جهر أو استخفى أو سرب، ملائكة يتعاقبون عليه [ ص: 3653 ] من بين يديه ومن خلفه أي: من جوانبه كلها، أو من أعماله، ما قدم وأخر يحفظونه من أمر الله أي يراقبون ما يلفظ من قول وما يأتي من عمل، خيرا أو شرا، بأمره وإذنه، أو من أجل أمره لهم بحفظه. فـ (من) تعليلية أو بمعنى باء السببية، ولا فرق بين العلة والسبب عند النحاة، وإن فرق بينهما أهل المعقول.

وفي (الصحيح): « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار. ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر. فيصعد إليه الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: أتيناهم وهم يصلون وتركناهم وهم يصلون » .

وفي الحديث الآخر: « إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء، وعند الجماع، فاستحيوهم وأكرموهم » .

و (المعقبات) جمع معقبة من (عقب) مبالغة في (عقب) فالتفعيل للمبالغة والزيادة في التعقيب فهو تكثير للفعل أو الفاعل، لا للتعدية; لأن ثلاثيه متعد بنفسه. أصل معنى (العقب) مؤخر الرجل، ثم تجوز به عن كون الفعل بغير فاصل ومهلة، كأن أحدهم يطأ عقب الآخر. قال الراغب: عقبه إذا تلاه نحو دبره وقفاه. وقيل: هو من (اعتقب) أدغمت التاء في القاف; وردوه بأن التاء لا تدغم في القاف من كلمة أو كلمتين. وقد قال أهل التصريف: إن القاف والكاف، كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما. والتاء في (معقبة) واحدة (المعقبات) للمبالغة لا للتأنيث; لأن الملائكة لا توصف به. مثل نسابة وعلامة. [ ص: 3654 ] أو هي صفة جماعة وطائفة. و من بين يديه ظرف مستقر صفة معقبات أو ظرف لغو متعلق بها. و (من) لابتداء الغاية أو حال من الضمير الذي في الظرف الواقع خبرا. والكلام على هذه الأوجه يتم عند قوله ومن خلفه ويجوز أن يكون ظرفا لـ يحفظونه أي: معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، أي تحفظ ما قدم وأخر من الأعمال، كناية عن حفظ جميع أعماله. ويجوز أن يكون يحفظونه صفة لـ معقبات أو حالا من الظرف قبله، بمعنى أن المعقبات محيطة بجميع جوانبه.

تنبيهات:

الأول: ما قدمناه في معنى الآية هو الأشهر. وعن ابن عباس: هو السلطان الذي له حرس من بين يديه ومن خلفه.

قال الزمخشري: أي يحفظونه في توهمه وتقديره من أمر الله. أي من قضاياه ونوازله، أو على التهكم به.

قال الرازي: وهذا القول اختاره أبو مسلم الأصفهاني. والمعنى: أنه يستوي في علم الله تعالى السر والجهر، والمستخفي بظلمة الليل والسارب المستظهر بالأعوان والأنصار، وهم الملوك والأمراء. فمن لجأ إلى الليل فلن يفوت الله أمره، ومن سار نهارا بالمعقبات، وهم الحراس والأعوان الذين يحفظونه; لم ينجه حرسه من الله تعالى! والمعقب العون; لأنه إذا أبصر هذا ذاك فلا بد أن يبصر ذاك هذا، فتصير بصيرة كل واحد منهم معاقبة لبصيرة الآخر، فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله ومن قدره! وهم وإن ظنوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله ومن قضائه، فإنهم لا يقدرون على ذلك البتة!. والمقصود من هذه الجملة: بعث السلاطين والأمراء والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره، عن حفظ الله وعصمته، ولا يعولوا في دفعها على الأعوان والأنصار، ولذلك قال تعالى بعد: وإذا أراد الله بقوم سوءا الآية.

[ ص: 3655 ] الثاني: قدمنا أن الضمير في له معقبات لمن أسر أو جهر.. إلخ. وأرجعه بعضهم لله، وما بعده (لمن). قال الشهاب: فيه تفكيك للضمائر من غير داع. وقيل: الضمير (لمن) الأخير، وقيل: للنبي لأنه معلوم من السياق.

الثالث: أشار الرازي في معنى الآية الأشهر إلى سر اختصاص الحفظة ببني آدم، ما ملخصه: إنهم يدعون إلى الخيرات والطاعات بما يجده المرء من الدواعي القلبية إليها، وإن الإنسان إذا علم أن الملائكة تحصي عليه أعماله كان إلى الحذر من المعاصي أقرب; لأن من آمن يعتقد جلالة الملائكة وعلو مراتبهم، فإذا حاول الإقدام على معصية واعتقد أنهم يشاهدونها ; زجره الحياء منهم عن الإقدام عليها، كما يزجره عنه إذا حضره من يعظمه من البشر. وإذا علم أن الملائكة تحصي عليه تلك الأعمال; كان ذلك أيضا رادعا له عنها. وإذا علم أن الملائكة يكتبونها كان الردع أكمل.!

إن الله لا يغير ما بقوم أي: من العافية والنعمة: حتى يغيروا ما بأنفسهم أي: من الأعمال الصالحة أو ملكاتها، التي هي فطرة الله التي فطر الناس عليها إلى أضدادها: وإذا أراد الله بقوم سوءا أي: لسوء اختيارهم واستحقاقهم لذلك فلا مرد له أي: فلا رد لقضائه فيهم وما لهم من دونه من وال أي: يلي أمرهم فيدفع عنهم السوء الذي أراده الله بهم بما قدمت أيديهم من تغيير ما بهم. وفيه دلالة على أن تخلف مراده تعالى محال. وإيذان بأنهم بما باشروه من إنكار البعث واستعجال السيئة واقتراح الآية، قد غيروا ما بأنفسهم من الفطرة، واستحقوا لذلك حلول غضب الله تعالى وعذابه -أفاده أبو السعود-.

تنبيه:

في هذه الآية وعيد شديد وإنذار رهيب قاطع، بأنه إذا انحرف الآخذون بالدين والمنتمون إليه عن جادته المستقيمة، ومالوا مع الأهواء، وتركوا التمسك بآدابه وسنته القويمة; حل بهم ما ينقلهم إلى المحن والبلايا، ويفرق كلمتهم، ويوهي قوتهم، ويسلط عدوهم!.

[ ص: 3656 ] وفي حديث قدسي عند ابن أبي حاتم: « ليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله، فيتحولون منها إلى معصية الله، إلا حول الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون » .

ولابن أبي شيبة: « ما من قرية ولا أهل بيت، كانوا على ما كرهت من معصيتي، ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت من طاعتي، إلا تحولت لهم عما يكرهون من عذابي، إلى ما يحبون من رحمتي » .

وقال القاشاني: لا بد في تغيير النعم إلى النقم، من استحقاق جلي أو خفي.

وعن بعض السلف: إن الفأرة مزقت خفي، وما أعلم ذلك إلا بذنب أحدثته، وإلا ما سلطها الله علي! وتمثل بقول الشاعر:


لو كنت من مازن لم تستبح إبلي


أقول: المنقول عن بعض السلف محمول على شدة الخوف منه تعالى، وإلا فالتحقيق الفرق بين ما ينال الشخص والقوم، كما أشارت له الآية. وقد جود الكلام في ذلك، الإمام مفتي مصر في (رسالة التوحيد) في بحث الدين الإسلامي فقال:

كشف الإسلام عن العقل غمة من الوهم فيما يعرض من حوادث الكون الكبير (العالم) والكون الصغير (الإنسان). فقرر أن آيات الله الكبرى في صنع العالم إنما يجري أمرها على السنن الإلهية، التي قدرها الله في علمه الأزلي، لا يغيرها شيء من الطوارئ الجزئية. غير أنه لا يجوز أن يغفل شأن الله فيها. بل ينبغي أن يحيي ذكره عند رؤيتها، فقد جاء على لسان النبي صلى الله عليه وسلم: « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، [ ص: 3657 ] فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله » . وفيه التصريح بأن جميع آيات الكون تجري على نظام واحد لا يقضي فيها إلا العناية الأزلية على السنن التي أقامته عليها. ثم أماط اللثام عن حال الإنسان في النعم التي يتمتع بها الأشخاص أو الأمم، والمصائب التي يرزؤن بها; ففصل بين الأمرين (الأشخاص والأمم) فصلا لا مجال معه للخلط بينهما.

فأما النعم التي يمتع الله بها بعض الأشخاص في هذه الحياة، والرزايا التي يرزأ بها في نفسه; فكثير منها كالثروة والجاه، والقوة والبنين، أو الفقر والضعة والضعف والفقد، وقد لا يكون كاسبها أو جالبها ما عليه الشخص في سيرته من استقامة وعوج أو طاعة وعصيان. وكثيرا ما أمهل الله بعض الطغاة البغاة، أو الفجرة الفسقة، وترك لهم متاع الحياة الدنيا; إنظارا لهم حتى يتلقاهم ما أعد لهم من العذاب المقيم في الحياة الأخرى!. وكثيرا ما امتحن الله الصالحين من عباده، وأثنى عليهم في الاستسلام لحكمه، وهم الذين إذا أصابتهم مصيبة، عبروا عن إخلاصهم في التسليم بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون ! فلا غضب زيد، ولا رضا عمرو، ولا إخلاص سريرة، ولا فساد عمل مما يكون له دخل في هذه الرزايا، ولا في تلك النعم الخاصة، اللهم إلا فيما ارتباطه بالعمل ارتباط المسبب بالسبب على جاري العادة، كارتباط الفقر بالإسراف، والذل بالجبن، وضياع السلطان بالظلم. وكارتباط الثروة بحسن التدبير في الأغلب، والمكانة عند الناس بالسعي في مصالحهم على الأكثر، وما يشبه ذلك مما هو مبين في علم آخر...!.

أما شأن الأمم فليس على ذلك ; فإن الروح الذي أودعه الله جميع شرائعه الإلهية: من تصحيح الفكر، وتسديد النظر، وتأديب الأهواء، وتحديد مطامح الشهوات، والدخول [ ص: 3658 ] إلى كل أمر من بابه، وطلب كل رغيبة من أسبابها، وحفظ الأمانة، واستشعار الأخوة، والتعاون على البر، والتناصح في الخير والشر، وغير ذلك من أصول الفضائل، ذلك الروح هو مصدر حياة الأمم، ومشرق سعادتها في هذه الدنيا قبل الآخرة: ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ولن يسلب الله عنها نعمته ما دام هذا الروح فيها. يزيد الله النعم بقوته وينقصها بضعفه، حتى إذا فارقها ذهبت السعادة على أثره وتبعته الراحة إلى مقره! واستبدل الله عزة القوم بالذل، وكثرهم بالقل، ونعيمهم بالشقاء، وراحتهم بالعناء، وسلط عليهم الظالمين أو العادلين فأخذهم بهم وهم في غفلة ساهون: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا أمرناهم بالحق ففسقوا عنه إلى الباطل، ثم لا ينفعهم الأنين، ولا يجديهم البكاء، ولا يفيدهم ما بقي من صور الأعمال، ولا يستجاب منهم الدعاء، ولا كاشف لما نزل بهم إلا أن يلجأوا إلى ذلك الروح الأكرم فيستنزلوه من سماء الرحمة، برسل الفكر والذكر والصبر والشكر: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا وما أجل ما قاله العباس بن عبد المطلب في استسقائه. اللهم! إنه لم ينزل بلاء إلا بذنب ولم يرفع إلا بتوبة..!.

[ ص: 3659 ] على هذه السنن، جرى سلف الأمة، فبينما كان المسلم يرفع روحه بهذه العقائد السامية، ويأخذ نفسه بما يتبعها من الأعمال الجليلة; كان غيره يظن أنه يزلزل الأرض بدعائه، ويشق الفلك ببكائه، وهو ولع بأهوائه، ماض في غلوائه، وما كان يغني عنه ظنه من الحق شيئا..!.

ولما خوف تعالى العباد بإنزال ما لا مرد له; أتبعه ببيان آيات قدرته وقهره وجلاله. فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 12 ] هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشئ السحاب الثقال [ 13 ] ويسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال

هو الذي يريكم البرق خوفا أي: من الصواعق وطمعا أي بالمطر أن يحيي النبات وينشئ السحاب الثقال أي بالماء. ويسبح الرعد بحمده أي يسبح سامعوه من العباد الراجين للمطر متلبسين بحمده، أي: يضجون بـ (سبحان الله والحمد لله) فيكون على حذف مضاف أو إسنادا مجازيا للحامل والسبب، أو يسبح الرعد نفسه، بمعنى دلالته على وحدانيته تعالى وفضله، المستوجب لحمده. فيكون الإسناد على حقيقته والتجوز في التسبيح والتحميد. إذ شبه دلالته بنفسه على تنزيهه عن الشرك والعجز بالتسبيح والتنزيه اللفظي. ودلالته على فضله ورحمته، بحمد الحامد لما فيها من الدلالة على صفات الكمال.

قال الرازي: الرعد اسم لهذا الصوت المخصوص. والتسبيح والتقديس وما يجري مجراهما ليس إلا وجود لفظ يدل على حصول التنزيه والتقديس لله سبحانه وتعالى. فلما كان حدوث [ ص: 3660 ] هذا الصوت دليلا على وجود متعال عن النقص والإمكان; كان ذلك في الحقيقة تسبيحا. وهو معنى قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده

والملائكة من خيفته أي: وتسبح الملائكة من خوف الله تعالى وخشيته وإجلاله ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء أي: فيهلك بها من يشاء. وقوله تعالى: وهم يجادلون في الله يعني الكفرة المخاطبين في قوله تعالى هو الذي يريكم البرق وقد التفت إلى الغيبة إيذانا بإسقاطهم عن درجة الخطاب وإعراضا عنهم، وتعديدا لجناياتهم لدى كل من يستحق الخطاب. كأنه قيل: هو الذي يفعل أمثال هذه الأفاعيل العجيبة، من إراءة البرق، وإنشاء السحاب الثقال، وإرسال الصواعق الدالة على كمال علمه وقدرته، ويعقلها من يعقلها من المؤمنين، أو الرعد نفسه والملائكة. ويعملون بموجب ذلك من التسبيح والحمد والخوف من هيبته تعالى، و (هم) أي الكفرة الذين حكيت هناتهم مع ذلهم وهوانهم وحقارة شأنهم، يجادلون في شأنه تعالى، بإنكار البعث واستعجال العذاب، استهزاء، واقتراح الآيات. فالواو لعطف الجملة على ما قبلها من قوله تعالى: هو الذي يريكم أفاده أبو السعود.

أي: يريكم ما ذكر من الآيات الباهرة الدالة على القدرة والوحدانية. وأنتم تجادلون فيه، و (الجدال) أشد الخصومة، من (الجدل) بالسكون، وهو فتل الحبل ونحوه; لأنه يقوى به وتشتد طاقته وهو شديد المحال أي: والحال أنه شديد المماحلة والمماكرة والمكايدة لأعدائه، يأتيهم بالهلكة من حيث لا يحتسبون، من (محله) إذا كاده وعرضه للهلاك، ومنه (تمحل لكذا) إذا تكلف استعمال الحيلة واجتهد فيه.

تنبيه:

ذكر في العلم الطبيعي: أن الصواعق شرارات تنطلق دفعة واحدة من تموجات السحب [ ص: 3661 ] ومصادمتها لبعضها; فيحصل في الهواء اهتزاز قوي. وأما الرعد فهو الصوت الذي يحصل من ذلك الانطلاق ويصل إلينا ببطء على حسب بعد السحب الحاملة للصواعق عنا. وعلى حسب اتساع السحب، يطول سماعنا لصوت الرعد. وإذا لمع البرق من السحابة، فقد تمت نتائج الصاعقة، فمتى مضت برهة لطيفة بين لمعان البرق وسماع الرعد، فقد أمن ضررها. فإن لم يمض بينهما شيء، بأن كان الإنسان قريبا من محل الصاعقة وسمع الرعد مع مشاهدة البرق في آن واحد; أمكن أن يصاب بالصاعقة في مرورها. وأما سبب انفجار الصاعقة فقالوا: من المعلوم أن انطلاق الكهربائية إنما يحصل باتحاد كهربائية الأجسام مع بعضها، فإذا قرب السحاب من الأجسام الأرضية طلبت الكهربائية السحابية أن تتحد بالكهربائية الأرضية فتنبجس بينهما شرارة كهربائية هي البرق. وحينئذ يقال: إن الأجسام الأرضية صعقت. هذا مجمل ما قالوه.

وقد حاول الرازي الجمع بين ما روي عن بعض السلف: أن الرعد ملك، وبين ما ثبت في العلم الطبيعي بما يدفع المنافاة فقال: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، فللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره؛ وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية. قال: وهذا عين ما نقلناه من أن الرعد اسم ملك من الملائكة يسبح الله، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء. فكيف يليق بالعاقل الإنكار؟! انتهى.

وقوله تعالى:
[ ص: 3662 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[ 14 ] له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه وما دعاء الكافرين إلا في ضلال

له دعوة الحق أي" الدعاء الحق بالعبادة والتضرع والإنابة؛ وتوجيه الوجه ثابت له تعالى لا لغيره. لأنه الذي يجيب المضطر ويكشف السوء فهو الحقيق بأن يعبد وحده بالدعاء والالتجاء. فإضافة الدعوة للحق من إضافة الموصوف للصفة.

وفيها إيذان بملابستها للحق، واختصاصها به، وكونها بمعزل من شائبة البطلان والضياع والضلال، كما يقال: كلمة الحق.

ثم بين تعالى مثال من يعبد من الأصنام ويدعي في عدم النفع والجدوى بقوله: والذين يدعون من دونه أي: الأصنام الذين يدعوهم المشركون من دونه تعالى لا يستجيبون لهم بشيء أي: من مطلوباتهم إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه أي: إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه، أي كاستجابة الماء لمن مد يديه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بظمئه وحاجته إليه، فلا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه، وكذلك ما يدعونه، جماد لا يحس بدعائهم ولا يستطيع إجابتهم ولا يقدر على نفعهم!. والغرض نفي الاستجابة على القطع بتصوير أنهم أحوج ما يكونون إليها لتحصيل مباغيهم; أخيب ما يكون أحد في سعيه لما هو مضطر إليه فضلا عن مجرد الحاجة. وحاصله: أنه شبه آلهتهم حين استكفائهم إياهم ما أهمهم بلسان الاضطرار في عدم الشعور فضلا عن الاستطاعة للاستجابة، وبقائهم لذلك في الخسران- بحال ماء بمرأى من عطشان باسط كفيه إليه يناديه عبارة وإشارة. فهو لذلك في زيادة ظمأ وشدة خسران! والتشبيه على هذا من المركب التمثيلي في الأصل، أبرز في معرض التهكم، حيث أثبت [ ص: 3663 ] للماء استجابة، زيادة في التخسير والتحسير. فالاستثناء مفرغ من أعم عام المصدر، أي: لا يستجيبون شيئا من الاستجابة، والضمير في (هو) للماء و (بالغه) للفم، وقيل: الأول للباسط والثاني للماء. وبسط الكف: نشر الأصابع ممدودة كما في قوله:


تعود بسط الكف حتى لو أنه أراد انقباضا لم تطعه أنامله


وما دعاء الكافرين أي: عبادتهم والتجاؤهم لآلهتهم إلا في ضلال أي: في ضياع لا منفعة فيه لعدم إمكان إجابتهم.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 15 ] ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال

ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال إخبار عن عظمته تعالى وسلطانه الذي قهر كل شيء، بأنه ينقاد لجلاله وإرادته وتصريفه المكونات بأسرها من أهل الملأ الأعلى والأسفل، طائعين وكارهين لا يقدرون أن يمتنعوا عليه، وكذا تنقاد له تعالى ظلالهم حيث تتصف على مشيئته في الامتداد والتقلص والفيء [ ص: 3664 ] والزوال!. وقوله بالغدو والآصال إما ظرف لـ (يسجد) والباء بمعنى (في) والمراد بهما الدوام; لأنه يذكر مثله للتأييد، وإما حال من (الظلال) والمراد ما ذكر. أو يقال التخصيص; لأن امتدادها وتقلصها فيهما أظهر. هذا ما جرى عليه الأكثر في معنى (السجود) فيكون استعارة للانقياد المذكور، أو مجازا مرسلا لاستعماله في لازم معناه; لأن الانقياد مطلقا لازم للسجود.

وفي (تنوير الاقتباس): تأويل السجود بالصلاة والعبادة وجعل (طوعا وكرها) نشرا على ترتيب اللف. قال (طوعا) أهل السماء من الملائكة لأن عبادتهم بغير مشقة و (كرها) أهل الأرض; لأن عبادتهم بالمشقة، ثم قال: ويقال (طوعا) لأهل الإخلاص و (كرها) لأهل النفاق. ثم قال: (وظلالهم) يعني وظلال من يسجد لله أيضا، وتسجد غدوة عن أيمانهم، وعشية عن شمائلهم.

قال أبو السعود: وقد قيل: إن المراد حقيقة السجود، فإن الكفرة حال الاضطرار وهو المعني بقوله تعالى (وكرها) يخصون السجود به سبحانه. قال تعالى: فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ولا يبعد أن يخلق الله تعالى في الظلال أفهاما وعقولا بها تسجد لله سبحانه، كما خلقها للجبال حتى اشتغلت بالتسبيح وظهر فيها آثار التجلي كما قاله ابن الأنباري. ويجوز أن يراد بسجودها: ما يشاهد فيها من هيئة السجود تبعا لأصحابها. وأنت خبير بأن اختصاص سجود الكافر، حالة الضرورة والشدة، بالله سبحانه لا يجدي، فإن سجودهم لأصنامهم حالة الرخاء مخل بالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور، فالوجه حمل السجود على الانقياد، ولأن تحقيق انقياد الكل في الإبداع، والإعدام له تعالى، أدخل في التوبيخ على اتخاذ أولياء من دونه مع تحقيق سجودهم له تعالى. وتخصيص انقياد العقلاء بالذكر مع كون غيرهم أيضا كذلك لأنهم العمدة. وانقيادهم دليل انقياد غيرهم. انتهى.

[ ص: 3665 ] وهذه الآية كقوله تعالى: وله أسلم من في السماوات والأرض وقوله: أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله الآية.

تنبيه:

هذه السجدة من عزائم سجود التلاوة، فيسن للقارئ والمستمع أن يسجد عقب قراءته واستماعه لهذه السجدة. كذا في (اللباب).
القول في تأويل قوله تعالى:

[ 16 ] قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار

قل من رب السماوات والأرض أي خالقهما قل الله أمر بالجواب من قبله صلى الله عليه وسلم; إشعارا بتعينه للجواب، فهو والخصم في تقريره سواء. أو أمره بحكاية اعترافهم; إيذانا بأنه أمر لا بد لهم منه. كأنه قيل: احك اعترافهم، فبكتهم بما يلزمهم من الحجة قل أي: إلزاما لهم وتبكيتا: أفاتخذتم من دونه أولياء أي: أبعد أن علمتموه رب السماوات والأرض، عبدتم من دونه غيره، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبب التوحيد من علمكم وإقراركم سبب الإشراك؟ أفاده الزمخشري.

لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا أي: لا يقدرون على نفع أنفسهم ولا على دفع الضر عنها، فكيف يستطيعونه لغيرهم؟! فإذن عبادتهم محض العبث والسفه! قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور لما بين ضلالهم وفساد




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.63 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.00 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]