عرض مشاركة واحدة
  #10  
قديم 27-04-2023, 02:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,050
الدولة : Egypt
افتراضي رد: كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر

كتاب مداخل إعجاز القرآن للأستاذ محمود محمد شاكر
صفية الشقيفي

(6) تولد لفظ الإعجاز عند المتكلمين

قال أبو فهر محمود بن محمد شاكر الحسيني (ت: 1418هـ): (6)
ولفظ (التحدي) وضعه المتكلمون واصطلحوا عليه لتصوير موقف مشركي العربي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين تلا عليهم القرآن، وجاهرهم بأنه كلام الله يوحى به إليه، وأنه هو وحده الدليل على أنه نبي لله أرسله إليهم. فلما أكثر عليهم
[مداخل إعجاز القرآن: 29]

سألوه أن يأتي بآية كآيات الرسل من قبله، فأبى الله أن يجيبهم إلى ما سألوه، وأمره أن يقول لهم: {إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر} [المدثر: 24، 25] لكن الذي كان يتلى عليهم، حيرهم، فلم يملكوا إلا أن يكذبوه في أصل دعواه أن هذا الذي يتلوه عليهم آية من آيات الله كسائر آيات الأنبياء في الدلالة على صدق نبوته، فقال قائل منهم في حيرته يصف هذا القرآن: (إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر) فأقر بحيرته حين قال إنه (سحر) وما دام سحرًا فهو مما يقدر عليه بعض البشر، وهمه السحرة، وإذن فهو من قول البشر، وليس هو (كلام الله) كما يدعى هذا الساحر! فقال آخرون منهم بعد ذلك: إنه ليس كلام الله، بل هو كلام افتراه، فعندئذ جاء (التحدي) بمثل قوله تعالى: {أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين} [يونس: 38]، فلما انقضت ثلاث وعشرون سنة، ولم يأت أحد من مشركي العرب بما طولبوا به، صار تركهم الإتيان بسورة مثله، (عجزًا) من مشركي العرب عن معارضة القرآن بسورة من مثله. فكان ظاهرًا جدًا أن يقال: إن هذا التحدي قد (أعجزهم إعجازًا) أي كشف عجزهم، أو أوقعهم في العجز عن معارضة هذا القرآن. فاستخرج المتكلمون
[مداخل إعجاز القرآن: 30]
لفظ (الإعجاز) للدلالة على هذا المعنى المقارن للتحدي وكان نتيجة له، وهو عجزهم عن فعل ما تحداهم به!
وبين جدًا أن (الإعجاز) وهو ما كان من إظهار (عجز) مشركي العربي عن الإتيان بسورة من مثل هذا القرآن، منوط كله بلفظ (التحدي) الذي وضعه المتكلمون للدلالة على ما كان من أمر مشركي العرب، حين طولبوا بالإتيان بسورة من مثله، فانقضت السنون فلم يأتوا بشيء مما طولبوا به، فإذ لم يفعلوا، فقد ظهر منهم (العجز). فلما جرى على ألسنتهم قولهم: (إعجاز القرآن) كان تعبيرًا موجزًا عن صورة موقف مركب واضح: هو مجيء (التحدي) في القرآن يطالبهم بالإتيان بسورة من مثل هذا القرآن من ناحية، وإبلاس المشركين وانقطاعهم عن فعل ما طولبوا به في ناحية أخرى. وإذن، فقولهم: (إعجاز القرآن) صفة لهذا الموقف المركب، ولما يؤدى إليه من أنه أظهر (عجز) المشركين عن فعل ما طولبوا به ليس غير، وبلا زيادة أو نقصان.
ولكن المتكلمين حين بلغوا هذا المبلغ، وهم في طريقهم إلى استخراج لفظ (إعجاز القرآن) للدلالة على صفة موجزة لهذا الموقف المركب، لم يلبثوا طويلاً حتى أخرجوه عن حيزه، لسبب ظاهر كل الظهور. فهم أهل كلام وجدل وتشقيق، ويرون أنفسهم
[مداخل إعجاز القرآن: 31]
أصحاب فحص وتقص واستنباط وتعليل، فلا تقنعهم صفة الموقف، بل لا بد أن يطلبوا السبب الذي من أجله كان (التحدي) مظهرًا (عجز) العرب عن فعل طولبوا به فنظروا في القرآن نفسه يتطلبون فيه الوجوه التي يمكن أن تكون كانت سببًا في إظهار (عجز) العرب بعد أن تحداهم بما تحداهم به فلما ظفروا ببعض ما ظنوا أنهمه أصابوه من هذه الوجوه، التمسوا له اسما جامعًا فكان أقرب شيء أن يسموه (إعجاز القرآن)، فنقلوا اللفظ من حيزه الأول، وجعلوه صفة للقرآن نفسه، وهو كلام الله الذي أنزله ليكون (آية) لنبيه صلى الله عليه وسلم، لا صفة للموقف المركب من (التحدي) وظهور (العجز).
بيد أن هذا السياق المختصر الذي ارتكبته في البيان عن تولد هذه الألفاظ على ألسنة المتكلمين، ليس دقيقًا كل الدقة، ولا يدل على حقيقتها ولا على خطرها كل الدلالة. وسبب ذلك أني عزلتها عن منابتها عزلاً عنيفًا يكاد يكون ضارًّا بها وبمعانيها، لأنه أخفى كثيرًا من جذورها التي قامت عليها. ولكني لم أجد من هذا العزل بدا، طلبًا لإيضاح ما كان قائمًا في نفسي وأنا ألتمس المخرج من محنة الشعر الجاهلي، وهو الشعر الذي نزل القرآن على أصحابه، يطالبهم أن يتبينوا أنه (كلام الله)، وأن التاليه
[مداخل إعجاز القرآن: 32]
عليهم رسول من عند الله أمر أن يتلوه عليهم، وأنه هو وحده آية هذا الرسول الدالة على صدق نبوته، وأنه آية ملزمة بتصديقه كسائر آيات الأنبياء من قبله: من ناقة صالح، إلى نار إبراهيم، إلى عصا موسى، إلى إبراء عيسى الأكمه والأبرص وأحيائه الموتى، بلا فرق بين هذه الآيات كلها في الدلالة على صدق من أتى بها في دعواه أنه نبي مرسل.
فأنا، إذن، غير منصف ولا محسن، إذا أنا تركتها في هذا العزل الذي فرضته عليها قسرًا، فواجب علي أن أردها إلى منابتها حيث نمت واستوت وأثمرت. ففي منتصف القرن الثاني للهجرة، انبثق أول بثق فاض منه ما نعرفه اليوم باسم (علم الكلام)، وهو باب من أبواب الرأي والنظر والفحص والاستدلال، أراد أصحابه بكلامهم فيه ونظرهم: إثبات الحجج في أصول الدين، ورد الشبه التي يوردها عليه الطاعنون والمخاصمون. ثم اتسع البثق وسال السيل على الأيام، وتميز (المتكلمون) بآرائهم وأقوالهم، يوم ظهرت رؤوس المعتزلة كأبي الهذيل العلاف، وأبي إسحق النظام، وأبي عثمان الجاحظ، ونبتت معهم نوابت زمانهم من الزنادقة المجادلين المشاغبين الطاعنين في النبوة وفي القرآن، من أمثال عبد الكريم بن أبي
[مداخل إعجاز القرآن: 33]
العوجاء، وإسحق بن طالوت، والنعمان بن المنذر، و(أشباههم من الأرجاس)، كما يقول أبو عثمان الجاحظ. احتدم الجدال والنظر والمحاورة والخلاف والرد والدفع بين هؤلاء المتكلمين أنفسهم، وبينهم وبين المشاغبين الطاعنين في النبوة وفي القرآن، وبينهم جميعًا وبين أهل الملل والنحل من اليهود والنصارى والبراهمة وغيرهم من الطوائف. وفي خلال هذا الجدال الساطع غباره، تولدت أربعة ألفاظ تتعلق بالنبوة وبالقرآن وهي: (طلب المعارضة) و(التحدي)، ثم (ترك المعارضة) و(العجز) فتلاقحت هذه الأربعة بضروب مختلفة من وجوه الرأي والنظر والفحص والاستدلال، متخاصمة في لدد أحيانًا، ومتصالحة على مضض أحيانًا أخرى = ثم قاصدة مشرفة على سمت من الهدى تارة، وجائرة طاعنة في تيه من الضلال تارة أخرى ثم لم تكد حتى بشر مخاضها جميعًا يدنو ولادة ثلاثة ألفاظ عظيمة الخطر، سيكون لها شأن أي شأن فيما بعد، وهي: (الإعجاز) و(إعجاز القرآن) و(المعجزة).
كانت نشأة هذه الألفاظ التي نحن بصددها في حومة جدال مر وخصومة مستعرة، بين دفع ورد، وإثبات ونفي. لم تنشأ في بقعة منفردة معزولة، بل نشأت في تربة خصيبة أرفع خصب وأطيبه
[مداخل إعجاز القرآن: 34]

وألينه، تنبت مئات متنوعة من الألفاظ ذوات المعاني والدلالات المتشابهة والمتنافرة، فتداخلت واشتجرت، وتشابكت فروعها الظاهرة، وتعانقت جذورها الباطنة، وأخذ هذا من هذا، وهذا من هذا: أخذ من رائحته، من طعمه، من لونه، فهي تسقى بماء واحد، ماء الجدال والخصومة، والعنف والجرأة، وطلب الغلبة والظهور على الخصم، وجاء ثمرها متشابهًا وغير متشابه. لم تنشأ هذه الألفاظ إذن، في عزلة كالتي ضربتها أنا عليها، ولا نشأت مقصورة على بحث محرر، يراد به تصوير الموقف المركب من مجيء (التحدي) أو (طلب المعارضة) في ناحية، و(ترك المعارضة) أو (العجز) عنها في ناحية أخرى، بل نشأت في تربة سوف أحاول وصفها على وجه التقريب والاختصار، وإلا خرج الأمر من يدي ودخلت أنا وأنت في مثل التيه الذي حار في أرجائه المتكلمون!). [مداخل إعجاز القرآن: 29-35]



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 19.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 18.91 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.21%)]