
20-03-2023, 09:44 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 227 الى صــ 234
الحلقة (291)
الثانية : اختلف العلماء من المخاطب بهذه الآية على قولين : أحدهما : أنهم المحلون ; قاله مالك . الثاني : أنهم المحرمون قاله ابن عباس ; وتعلق بقوله تعالى : ليبلونكم فإن [ ص: 227 ] تكليف الامتناع الذي يتحقق به الابتلاء هو مع الإحرام . قال ابن العربي : وهذا لا يلزم ; فإن التكليف يتحقق في المحل بما شرط له من أمور الصيد ، وما شرع له من وصفه في كيفية الاصطياد ، والصحيح أن الخطاب في الآية لجميع الناس محلهم ومحرمهم ; لقوله تعالى : ليبلونكم الله أي : : ليكلفنكم ، والتكليف كله ابتلاء وإن تفاضل في الكثرة والقلة ، وتباين في الضعف والشدة .
الثالثة : قوله تعالى : بشيء من الصيد يريد ببعض الصيد ، فمن للتبعيض ، وهو صيد البر خاصة ; ولم يعم الصيد كله لأن للبحر صيدا ، قاله الطبري وغيره ، وأراد بالصيد المصيد ; لقوله : تناله أيديكم .
الرابعة : قوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم بيان لحكم صغار الصيد وكباره .
وقرأ ابن وثاب والنخعي : " يناله " بالياء منقوطة من تحت . قال مجاهد : الأيدي تنال الفراخ والبيض وما لا يستطيع أن يفر ، والرماح تنال كبار الصيد ، وقال ابن وهب قال مالك قال الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم وكل شيء يناله الإنسان بيده أو برمحه أو بشيء من سلاحه فقتله فهو صيد كما قال الله تعالى .
الخامسة : خص الله تعالى الأيدي بالذكر لأنها عظم التصرف في الاصطياد ; وفيها تدخل الجوارح والحبالات ، وما عمل باليد من فخاخ وشباك ; وخص الرماح بالذكر لأنها عظم ما يجرح به الصيد ، وفيها يدخل السهم ونحوه ; وقد مضى القول فيما يصاد به من الجوارح والسهام في أول السورة بما فيه الكفاية والحمد لله .
السادسة : ما وقع في الفخ والحبالة فلربها ، فإن ألجأ الصيد إليها أحد ولولاها لم يتهيأ له أخذه فربها فيه شريكه ، وما وقع في الجبح المنصوب في الجبل من ذباب النحل فهو كالحبالة والفخ ، وحمام الأبرجة ترد على أربابها إن استطيع ذلك ، وكذلك نحل الجباح ; وقد روي عن مالك ، وقال بعض أصحابه : إنه ليس على من حصل الحمام أو النحل عنده أن يرده ، ولو ألجأت الكلاب صيدا فدخل في بيت أحد أو داره فهو للصائد مرسل الكلاب دون صاحب البيت ، ولو دخل في البيت من غير اضطرار الكلاب له فهو لرب البيت .
[ ص: 228 ] السابعة : احتج بعض الناس على أن الصيد للآخذ لا للمثير بهذه الآية ; لأن المثير لم تنل يده ولا رمحه بعد شيئا ، وهو قول أبي حنيفة .
الثامنة : كره مالك صيد أهل الكتاب ولم يحرمه ، لقوله تعالى : تناله أيديكم ورماحكم يعني أهل الإيمان ، لقوله تعالى في صدر الآية : يا أيها الذين آمنوا فخرج عنهم أهل الكتاب ، وخالفه جمهور أهل العلم ، لقوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا وهو عندهم مثل ذبائحهم ، وأجاب علماؤنا بأن الآية إنما تضمنت أكل طعامهم ، والصيد باب آخر فلا يدخل في عموم الطعام ، ولا يتناوله مطلق لفظه .
قلت : هذا بناء على أن الصيد ليس مشروعا عندهم فلا يكون من طعامهم ، فيسقط عنا هذا الإلزام ; فأما إن كان مشروعا عندهم في دينهم فيلزمنا أكله لتناول اللفظ له ، فإنه من طعامهم ، والله أعلم .
قوله : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما ليذوق وبال أمره عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه والله عزيز ذو انتقام .
فيه ثلاثون مسألة :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين هذا خطاب عام لكل مسلم ذكر وأنثى ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد الآية ، وروي أن أبا اليسر واسمه عمرو بن مالك الأنصاري كان محرما عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت فيه لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم .
الثانية : قوله تعالى : ( لا تقتلوا الصيد ) القتل هو كل فعل يفيت الروح ، وهو أنواع : منها النحر والذبح والخنق والرضخ وشبهه ; فحرم الله تعالى على المحرم في الصيد كل فعل يكون مفيتا للروح .
[ ص: 229 ] الثالثة : من قتل صيدا أو ذبحه فأكل منه فعليه جزاء واحد لقتله دون أكله ; وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : عليه جزاء ما أكل ; يعني قيمته ، وخالفه صاحباه فقالا : لا شيء عليه سوى الاستغفار ; لأنه تناول الميتة كما لو تناول ميتة أخرى ; ولهذا لو أكلها محرم آخر لا يلزمه إلا الاستغفار ، وحجة أبي حنيفة أنه تناول محظور إحرامه ; لأن قتله كان من محظورات الإحرام ، ومعلوم أن المقصود من القتل هو التناول ، فإذا كان ما يتوصل به إلى المقصود - محظور إحرامه - موجبا عليه الجزاء فما هو المقصود كان أولى .
الرابعة : لا يجوز عندنا ذبح المحرم للصيد ، لنهي الله سبحانه المحرم عن قتله ; وبه قال أبو حنيفة . وقال الشافعي : ذبح المحرم للصيد ذكاة ; وتعلق بأنه ذبح صدر من أهله وهو المسلم ، مضاف إلى محله وهو الأنعام ; فأفاد مقصوده من حل الأكل ; أصله ذبح الحلال . قلنا : قولكم ذبح صدر من أهله فالمحرم ليس بأهل لذبح الصيد ; إذ الأهلية لا تستفاد عقلا ، وإنما يفيدها الشرع ; وذلك بإذنه في الذبح ، أو بنفيها وذلك بنهيه عن الذبح ، والمحرم منهي عن ذبح الصيد ; لقوله : لا تقتلوا الصيد فقد انتفت الأهلية بالنهي ، وقولكم أفاد مقصوده فقد اتفقنا على أن المحرم إذا ذبح الصيد لا يحل له أكله ، وإنما يأكل منه غيره عندكم ; فإذا كان الذبح لا يفيد الحل للذابح فأولى وأحرى ألا يفيده لغيره ، لأن الفرع تبع للأصل في أحكامه ; فلا يصح أن يثبت له ما لا يثبت لأصله .
الخامسة : قوله تعالى : الصيد مصدر عومل معاملة الأسماء ، فأوقع على الحيوان المصيد ; ولفظ الصيد هنا عام في كل صيد بري وبحري حتى جاء قوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فأباح صيد البحر إباحة مطلقة ; على ما يأتي بيانه في الآية بعد هذا إن شاء الله تعالى .
السادسة : اختلف العلماء في خروج السباع من صيد البر وتخصيصها منه ; فقال مالك : كل شيء لا يعدو من السباع مثل الهر والثعلب والضبع وما أشبهها فلا يقتله المحرم ، وإن قتله فداه . قال : وصغار الذئاب لا أرى أن يقتلها المحرم ، فإن قتلها فداها ; وهي مثل فراخ الغربان ، ولا بأس بقتل كل ما عدا على الناس في الأغلب ; مثل الأسد والذئب والنمر والفهد ; وكذلك لا بأس عليه بقتل الحيات والعقارب والفأرة والغراب والحدأة . قال إسماعيل : إنما [ ص: 230 ] ذلك لقوله عليه السلام : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحديث ; فسماهن فساقا ; ووصفهن بأفعالهن ; لأن الفاسق فاعل للفسق ، والصغار لا فعل لهن ، ووصف الكلب بالعقور وأولاده لا تعقر ; فلا تدخل في هذا النعت . قال القاضي إسماعيل : الكلب العقور مما يعظم ضرره على الناس . قال : ومن ذلك الحية والعقرب ; لأنه يخاف منهما ، وكذلك الحدأة والغراب ; لأنهما يخطفان اللحم من أيدي الناس . قال ابن بكير : إنما أذن في قتل العقرب لأنها ذات حمة ; وفي الفأرة لقرضها السقاء والحذاء اللذين بهما قوام المسافر ، وفي الغراب لوقوعه على الظهر ونقبه عن لحومها ; وقد روي يطعم قاتله شيئا ; وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه ، وقال أصحاب الرأي : لا شيء على قاتل هذه كلها . وقال أبو حنيفة : لا يقتل المحرم من السباع إلا الكلب العقور والذئب خاصة ، سواء ابتدآه أو ابتدأهما ; وإن قتل غيره من السباع فداه . قال : فإن ابتدأه غيرهما من السباع فقتله فلا شيء عليه ; قال : ولا شيء عليه في قتل الحية والعقرب والغراب والحدأة ، هذه جملة قول أبي حنيفة وأصحابه إلا زفر ; وبه قال الأوزاعي والثوري والحسن ; واحتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم خص دوابا بأعيانها وأرخص للمحرم في قتلها من أجل ضررها ; فلا وجه أن يزاد عليها إلا أن يجمعوا على شيء فيدخل في معناها .
قلت : العجب من أبي حنيفة رحمه الله يحمل التراب على البر بعلة الكيل ، ولا يحمل السباع العادية على الكلب بعلة الفسق والعقر ، كما فعل مالك والشافعي رحمهما الله ! وقال زفر بن الهذيل : لا يقتل إلا الذئب وحده ، ومن قتل غيره وهو محرم فعليه الفدية ، سواء ابتدأه أو لم يبتدئه ; لأنه عجماء فكان فعله هدرا ; وهذا رد للحديث ومخالفة له ، وقال الشافعي : كل ما لا يؤكل لحمه فللمحرم أن يقتله ; وصغار ذلك وكباره سواء ، إلا السمع وهو المتولد بين [ ص: 231 ] الذئب والضبع ، قال : وليس في الرخمة والخنافس والقردان والحلم وما لا يؤكل لحمه شيء ; لأن هذا ليس من الصيد ، لقوله تعالى : وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما فدل أن الصيد الذي حرم عليهم ما كان لهم قبل الإحرام حلالا ; حكى عنه هذه الجملة المزني والربيع ; فإن قيل : فلم تفدى القملة وهي تؤذي ولا تؤكل ؟ قيل له : ليس تفدى إلا على ما يفدى به الشعر والظفر ولبس ما ليس له لبسه ; لأن في طرح القملة إماطة الأذى عن نفسه إذا كانت في رأسه ولحيته ، فكأنه أماط بعض شعره ; فأما إذا ظهرت فقتلت فإنها لا تؤذي ، وقول أبي ثور في هذا الباب كقول الشافعي ; قاله أبو عمر .
السابعة : روى الأئمة عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور . اللفظ للبخاري ; وبه قال أحمد وإسحاق ، وفي كتاب مسلم عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم الحية والغراب الأبقع والفأرة والكلب العقور والحديا ، وبه قالت طائفة من أهل العلم قالوا : لا يقتل من الغربان إلا الأبقع خاصة ; لأنه تقييد مطلق . وفي كتاب أبي داود عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم : ويرمي الغراب ولا يقتله ، وبه قال مجاهد ، وجمهور العلماء على القول بحديث ابن عمر ، والله أعلم ، وعند أبي داود والترمذي : والسبع العادي ; وهذا تنبيه على العلة .
الثامنة : قوله تعالى : وأنتم حرم عام في النوعين من الرجال والنساء ، الأحرار والعبيد ; يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وجمع ذلك حرم ; كقولهم : قذال وقذل . وأحرم الرجل دخل في الحرم ; كما يقال : أسهل دخل في السهل ، وهذا اللفظ يتناول الزمان والمكان وحالة الإحرام بالاشتراك لا بالعموم . يقال : رجل حرام إذا دخل في الأشهر الحرم أو في الحرم ، أو تلبس بالإحرام ; إلا أن تحريم الزمان خرج بالإجماع عن أن يكون معتبرا ، وبقي تحريم المكان وحالة الإحرام على أصل التكليف ; قاله ابن العربي .
التاسعة : حرم المكان حرمان ، حرم المدينة وحرم مكة وزاد الشافعي الطائف ، فلا يجوز عنده قطع شجره ، ولا صيد صيده ، ومن فعل ذلك فلا جزاء عليه فأما حرم المدينة فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة ، فإن فعل أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعي وأصحابهما ، وقال ابن أبي ذئب : عليه الجزاء ، وقال سعد : جزاؤه أخذ سلبه ، وروي عن الشافعي . وقال أبو حنيفة : صيد المدينة غير محرم ، وكذلك قطع شجرها ، واحتج [ ص: 232 ] له بعض من ذهب مذهبه بحديث سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من وجدتموه يصيد في حدود المدينة أو يقطع شجرها فخذوا سلبه ، وأخذ سعد سلب من فعل ذلك . قال : وقد اتفق الفقهاء على أنه لا يؤخذ سلب من صاد في المدينة ، فدل ذلك على أنه منسوخ ، واحتج لهم الطحاوي أيضا بحديث أنس - ما فعل النغير ; فلم ينكر صيده وإمساكه - وهذا كله لا حجة فيه . أما الحديث الأول فليس بالقوي ، ولو صح لم يكن في نسخ أخذ السلب ما يسقط ما صح من تحريم المدينة ، فكم من محرم ليس عليه عقوبة في الدنيا ، وأما الحديث الثاني فيجوز أن يكون صيد في غير الحرم ، وكذلك حديث عائشة ; أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحش فإذا خرج لعب واشتد وأقبل وأدبر ، فإذا أحس برسول الله صلى الله عليه وسلم ربض ، فلم يترمرم كراهية أن يؤذيه ، ودليلنا عليهم ما رواه مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : لو رأيت الظباء ترتع بالمدينة ما ذعرتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بين لابتيها حرام فقول أبي هريرة ما ذعرتها دليل على أنه لا يجوز ترويع الصيد في حرم المدينة ، كما لا يجوز ترويعه في حرم مكة ، وكذلك نزع زيد بن ثابت النهس - وهو طائر - من يد شرحبيل بن سعد كان صاده بالمدينة ; دليل على أن الصحابة فهموا مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحريم صيد المدينة ، فلم يجيزوا فيها الاصطياد ولا تملك ما يصطاد . ومتعلق ابن أبي ذئب قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة ومثله معه لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولأنه حرم منع الاصطياد فيه فتعلق الجزاء به كحرم مكة . قال القاضي عبد الوهاب : وهذا قول أقيس عندي على أصولنا ، لا سيما أن المدينة عند أصحابنا أفضل من مكة ، وأن الصلاة فيها أفضل من الصلاة في المسجد الحرام ، ومن حجة مالك والشافعي في ألا يحكم عليه بجزاء ولا أخذ سلب - في المشهور من قول الشافعي - عموم قوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح : المدينة حرم ما بين عير إلى ثور فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا فأرسل صلى الله عليه وسلم الوعيد الشديد ولم يذكر كفارة . وأما ما ذكر عن سعد فذلك مذهب له مخصوص به ; لما روي عنه في الصحيح أنه ركب إلى قصره بالعقيق ، فوجد عبدا يقطع شجرا - أو يخبطه - فسلبه ، فلما رجع سعد جاءه أهل العبد فكلموه أن يرد على غلامهم أو عليهم ما أخذ [ ص: 233 ] من غلامهم ; فقال : معاذ الله أن أرد شيئا نفلنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبى أن يرد عليهم ; فقوله : ( نفلنيه ) ظاهره الخصوص ، والله أعلم .
العاشرة : قوله تعالى : ومن قتله منكم متعمدا ذكر الله سبحانه المتعمد ولم يذكر المخطئ والناسي ; والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام ، والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا ، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه ، واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال : الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا . الثاني : أن قوله : " متعمدا " خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة . الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي ; وبه قال الطبري وأحمد بن حنبل في إحدى روايتيه ، وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، وبه قال طاوس وأبو ثور ، وهو قول داود ، وتعلق أحمد بأن قال : لما خص الله سبحانه المتعمد بالذكر ، دل على أن غيره بخلافه ، وزاد بأن قال : الأصل براءة الذمة فمن ادعى شغلها فعليه الدليل . الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ; قاله ابن عباس ، وروي عن عمر وطاوس والحسن وإبراهيم والزهري ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم . قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة ; قال ابن العربي : إن كان يريد بالسنة الآثار التي وردت عن ابن عباس وعمر فنعما هي ، وما أحسنها أسوة . الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه - وهو قول مجاهد - لقوله تعالى بعد ذلك : ومن عاد فينتقم الله منه . قال : ولو كان ذاكرا لإحرامه لوجبت عليه العقوبة لأول مرة ، قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإحرامه ; قال مجاهد : فإن كان ذاكرا لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه ، فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة ، أو أحدث فيها ; قال : ومن أخطأ فذلك الذي يجزئه ، ودليلنا على مجاهد أن الله سبحانه أوجب الجزاء ولم يذكر الفساد ، ولا فرق بين أن يكون ذاكرا للإحرام أو ناسيا له ، ولا يصح اعتبار الحج بالصلاة فإنهما مختلفان ; وقد روي عنه أنه لا حكم عليه في قتله متعمدا ، ويستغفر الله ، وحجه تام ; وبه قال ابن زيد ، ودليلنا على داود أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الضبع فقال : هي صيد وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ . وقال ابن بكير من علمائنا : قوله سبحانه : متعمدا لم يرد به التجاوز عن الخطأ ، وإنما أراد متعمدا ليبين أنه ليس كابن آدم الذي لم يجعل في قتله متعمدا كفارة ، وأن الصيد فيه كفارة ، ولم يرد به إسقاط الجزاء في قتل الخطأ ، والله أعلم .
الحادية عشرة : فإن قتله في إحرامه مرة بعد مرة حكم عليه كلما قتله في قول مالك [ ص: 234 ] والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم ; لقول الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فالنهي دائم مستمر عليه ما دام محرما فمتى قتله فالجزاء لأجل ذلك لازم له ، وروي عن ابن عباس قال : لا يحكم عليه مرتين في الإسلام ، ولا يحكم عليه إلا مرة واحدة ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ; لقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه ، وبه قال الحسن وإبراهيم ومجاهد وشريح ، ودليلنا عليهم ما ذكرناه من تمادي التحريم في الإحرام ، وتوجه الخطاب عليه في دين الإسلام .
الثانية عشرة : قوله تعالى : متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم فيه أربع قراءات ; " فجزاء مثل " برفع ( جزاء ) وتنوينه ، و " مثل " على الصفة ، والخبر مضمر ، التقدير فعليه جزاء مماثل واجب أو لازم من النعم ، وهذه القراءة تقتضي أن يكون المثل هو الجزاء بعينه . و " جزاء " بالرفع غير منون و " مثل " بالإضافة أي : فعليه جزاء مثل ما قتل ، و " مثل " مقحمة كقولك أنا أكرم مثلك ، وأنت تقصد أنا أكرمك ، ونظير هذا قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات التقدير كمن هو في الظلمات ; وقوله : ليس كمثله شيء أي : ليس كهو شيء ، وهذه القراءة تقتضي أن يكون الجزاء غير المثل ; إذ الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وقال أبو علي : إنما يجب عليه جزاء المقتول ، لا جزاء مثل المقتول ، والإضافة توجب جزاء المثل لا جزاء المقتول . وهو قول الشافعي على ما يأتي ، وقوله : من النعم صفة لجزاء على القراءتين جميعا ، وقرأ الحسن " من النعم " بإسكان العين وهي لغة ، وقرأ عبد الرحمن " فجزاء " بالرفع والتنوين " مثل " بالنصب ; قال أبو الفتح : " مثل " منصوبة بنفس الجزاء ; والمعنى أن يجزى مثل ما قتل ، وقرأ ابن مسعود والأعمش " فجزاؤه مثل " بإظهار ( هاء ) ; ويحتمل أن يعود على الصيد أو على الصائد القاتل .
الثالثة عشرة : الجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه كما قال تعالى ، وفي ( المدونة ) : من اصطاد طائرا فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال : لا جزاء عليه . قال وكذلك لو قطع يد صيد أو رجله أو شيئا من أعضائه وسلمت نفسه وصح ولحق بالصيد فلا شيء عليه ، وقيل : عليه من الجزاء بقدر ما نقصه . ولو ذهب ولم يدر ما فعل فعليه جزاؤه ، ولو زمن الصيد ولم يلحق الصيد ، أو تركه مخوفا عليه فعليه جزاؤه كاملا .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|