
20-03-2023, 09:38 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,222
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 211 الى صــ 218
الحلقة (289)
الرابعة والثلاثون : قوله تعالى : أو تحرير رقبة التحرير الإخراج من الرق ; [ ص: 211 ] ويستعمل في الأسر والمشقات وتعب الدنيا ونحوها ، ومنه قول أم مريم : إني نذرت لك ما في بطني محررا أي : من شغوب الدنيا ونحوها ، ومن ذلك قول الفرزدق بن غالب :
أبني غدانة إنني حررتكم فوهبتكم لعطية بن جعال
أي : حررتكم من الهجاء ، وخص الرقبة من الإنسان ، إذ هو العضو الذي يكون فيه الغل والتوثق غالبا من الحيوان ، فهو موضع الملك فأضيف التحرير إليها .
الخامسة والثلاثون : لا يجوز عندنا إلا إعتاق رقبة مؤمنة كاملة ليس فيها شرك لغيره ، ولا عتاقة بعضها ، ولا عتق إلى أجل ، ولا كتابة ولا تدبير ، ولا تكون أم ولد ولا من يعتق عليه إذا ملكه ، ولا يكون بها من الهرم والزمانة ما يضر بها في الاكتساب ، سليمة غير معيبة ; خلافا لداود في تجويزه إعتاق المعيبة . وقال أبو حنيفة : يجوز عتق الكافرة ; لأن مطلق اللفظ يقتضيها . ودليلنا أنها قربة واجبة فلا يكون الكافر محلا لها كالزكاة ; وأيضا فكل مطلق في القرآن من هذا فهو راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في القتل الخطأ . وإنما قلنا : لا يكون فيها شرك ، لقوله تعالى : فتحرير رقبة وبعض الرقبة ليس برقبة . وإنما قلنا لا يكون فيها عقد عتق ; لأن التحرير يقتضي ابتداء عتق دون تنجيز عتق مقدم . وإنما قلنا : سليمة ; لقوله تعالى : فتحرير رقبة والإطلاق يقتضي تحرير رقبة كاملة والعمياء ناقصة ، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما من مسلم يعتق امرأ مسلما إلا كان فكاكه من النار كل عضو منه بعضو منها حتى الفرج بالفرج وهذا نص ، وقد روي في الأعور قولان في المذهب ، وكذلك في الأصم والخصي .
السادسة والثلاثون : من أخرجه مالا ليعتق رقبة في كفارة فتلف كانت الكفارة باقية عليه ، بخلاف مخرج المال في الزكاة ليدفعه إلى الفقراء ، أو ليشتري به رقبة فتلف ، لم يكن عليه غيره لامتثال الأمر .
السابعة والثلاثون : اختلفوا في الكفارة إذا مات الحالف ; فقال الشافعي وأبو ثور : كفارات الأيمان تخرج من رأس مال الميت ، وقال أبو حنيفة : تكون في الثلث ; وكذلك قال مالك إن أوصى بها .
الثامنة والثلاثون : من حلف وهو موسر فلم يكفر حتى أعسر ، أو حنث وهو معسر فلم [ ص: 212 ] يكفر حتى أيسر ، أو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق ، فالمراعاة في ذلك كله بوقت التكفير لا وقت الحنث .
التاسعة والثلاثون : روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والله لأن يلج أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي فرض الله اللجاج في اليمين هو المضي على مقتضاه ، وإن لزم من ذلك حرج ومشقة ، وترك ما فيه منفعة عاجلة أو آجلة ; فإن كان شيء من ذلك فالأولى به تحنيث نفسه وفعل الكفارة ، ولا يعتل باليمين كما ذكرناه في قوله تعالى : ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم وقال عليه السلام : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير أي الذي هو أكثر خيرا .
الموفية أربعين : روى مسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليمين على نية المستحلف قال العلماء : معناه أن من وجبت عليه يمين في حق وجب عليه فحلف وهو ينوي غيره لم تنفعه نيته ، ولا يخرج بها عن إثم تلك اليمين ، وهو معنى قوله في الحديث الآخر : يمينك على ما يصدقك عليه صاحبك ، وروي يصدقك به صاحبك خرجه مسلم أيضا . قال مالك : من حلف لطالبه في حق له عليه ، واستثنى في يمينه ، أو حرك لسانه أو شفتيه ، أو تكلم به ، لم ينفعه استثناؤه ذلك ; لأن النية نية المحلوف له ; لأن اليمين حق له ، وإنما تقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم لا على اختيار الحالف ; لأنها مستوفاة منه . هذا تحصيل مذهبه وقوله .
الحادية والأربعون : قوله تعالى : فمن لم يجد معناه لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاثة ; من الإطعام أو الكسوة أو عتق الرقبة بإجماع ; فإذا عدم هذه الثلاثة الأشياء صام ، والعدم يكون بوجهين إما بمغيب المال عنه أو عدمه ; فالأول أن يكون في بلد غير بلده فإن وجد من يسلفه لم يجزه الصوم ، وإن لم يجد من يسلفه فقد اختلف فيه ; فقيل : ينتظر إلى بلده ; قال ابن العربي : وذلك لا يلزمه بل يكفر بالصيام ; لأن الوجوب قد تقرر في الذمة والشرط من العدم قد تحقق فلا وجه لتأخير الأمر ; فليكفر مكانه لعجزه عن الأنواع الثلاثة ; لقوله تعالى : فمن لم يجد ، وقيل : من لم يكن له فضل عن رأس ماله الذي يعيش به فهو الذي لم يجد ، وقيل : هو من لم يكن له إلا قوت يومه وليلته ، وليس عنده فضل يطعمه ; [ ص: 213 ] وبه قال الشافعي واختاره الطبري ، وهو مذهب مالك وأصحابه ، وروي عن ابن القاسم أن من تفضل عنه نفقة يومه فإنه لا يصوم ; قال ابن القاسم في كتاب ابن مزين : إنه إن كان للحانث فضل عن قوت يومه أطعم إلا أن يخاف الجوع ، أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه . وقال أبو حنيفة : إذا لم يكن عنده نصاب فهو غير واجد ، وقال أحمد وإسحاق : إذا كان عنده قوت يوم وليلة أطعم ما فضل عنه ، وقال أبو عبيد : إذا كان عنده قوت يومه وليلته وعياله ، وكسوة تكون لكفايتهم ، ثم يكون بعد ذلك مالكا لقدر الكفارة فهو عندنا واجد . قال ابن المنذر : قول أبي عبيد حسن .
الثانية والأربعون : قوله تعالى : فصيام ثلاثة أيام قرأها ابن مسعود ( متتابعات ) فيقيد بها المطلق ; وبه قال أبو حنيفة والثوري ، وهو أحد قولي الشافعي واختاره المزني قياسا على الصوم في كفارة الظهار ، واعتبارا بقراءة عبد الله ، وقال مالك والشافعي في قوله الآخر : يجزئه التفريق ; لأن التتابع صفة لا تجب إلا بنص أو قياس على منصوص وقد عدما .
الثالثة والأربعون : من أفطر في يوم من أيام الصيام ناسيا فقال مالك : عليه القضاء ، وقال الشافعي : لا قضاء عليه ; على ما تقدم بيانه في الصيام في " البقرة " .
الرابعة والأربعون : هذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم باتفاق . واختلفوا فيما يجب منها على العبد إذا حنث ; فكان سفيان الثوري والشافعي وأصحاب الرأي يقولون : ليس عليه إلا الصوم ، لا يجزئه غير ذلك ; واختلف فيه قول مالك ، فحكى عنه ابن نافع أنه قال : لا يكفر العبد بالعتق ; لأنه لا يكون له الولاء ، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ; وأصوب ذلك أن يصوم .
وحكى ابن القاسم عنه أنه قال : إن أطعم أو كسا بإذن السيد فما هو بالبين ، وفي قلبي منه شيء .
الخامسة والأربعون : قوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم أي : تغطية أيمانكم ; وكفرت الشيء غطيته وسترته وقد تقدم ، ولا خلاف أن هذه الكفارة في اليمين بالله تعالى ، وقد ذهب بعض التابعين إلى أن كفارة اليمين فعل الخير الذي حلف في تركه ، وترجم ابن ماجه في سننه ( من قال كفارتها تركها ) حدثنا علي بن محمد حدثنا عبد الله بن نمير عن حارثة بن أبي الرجال عن عمرة عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف في قطيعة رحم أو فيما لا يصح فبره ألا يتم على ذلك وأسند عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليتركها فإن تركها كفارتها .
[ ص: 214 ] قلت : ويعتضد هذا بقصة الصديق رضي الله عنه حين حلف ألا يطعم الطعام ، وحلفت امرأته ألا تطعمه حتى يطعمه ، وحلف الضيف - أو الأضياف - ألا يطعمه أو لا يطعموه حتى يطعمه ، فقال أبو بكر : كان هذا من الشيطان ; فدعا بالطعام فأكل وأكلوا . خرجه البخاري ، وزاد مسلم قال : فلما أصبح غدا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله ، بروا وحنثت ; قال : فأخبره ; قال : بل أنت أبرهم وأخيرهم قال : ولم تبلغني كفارة .
السادسة والأربعون : واختلفوا في كفارة غير اليمين بالله عز وجل ; فقال مالك : من حلف بصدقة ماله أخرج ثلثه ، وقال الشافعي : عليه كفارة يمين ; وبه قال إسحاق وأبو ثور ، وروي عن عمر وعائشة رضي الله عنهما ، وقال الشعبي وعطاء وطاوس : لا شيء عليه ، وأما اليمين بالمشي إلى مكة فعليه أن يفي به عند مالك وأبي حنيفة ، وتجزئه كفارة يمين عند الشافعي وأحمد بن حنبل وأبي ثور ، وقال ابن المسيب والقاسم بن محمد : لا شيء عليه ; قال ابن عبد البر : أكثر أهل العلم بالمدينة وغيرها يوجبون في اليمين بالمشي إلى مكة كفارة مثل كفارة اليمين بالله عز وجل ; وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وجمهور فقهاء المسلمين ، وقد أفتى به ابن القاسم ابنه عبد الصمد ، وذكر له أنه قول الليث بن سعد ، والمشهور عن ابن القاسم أنه لا كفارة عنده في المشي إلى مكة إلا بالمشي لمن قدر عليه ; وهو قول مالك . وأما الحالف بالعتق فعليه عتق من حلف عليه بعتقه في قول مالك والشافعي وغيرهما ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة أنه يكفر كفارة يمين ولا يلزمه العتق - وقال عطاء : يتصدق بشيء . قال المهدوي : وأجمع من يعتمد على قوله من العلماء على أن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث .
السابعة والأربعون : قوله تعالى : واحفظوا أيمانكم أي : بالبدار إلى ما لزمكم من الكفارة إذا حنثتم ، وقيل : أي : بترك الحلف ; فإنكم إذا لم تحلفوا لم تتوجه عليكم هذه التكليفات . لعلكم تشكرون تقدم معنى الشكر و ( لعل ) في البقرة ، والحمد لله .
قوله : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين
[ ص: 215 ] فيه سبع عشرة مسألة :
الأولى : قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا خطاب لجميع المؤمنين بترك هذه الأشياء ; إذا كانت شهوات وعادات تلبسوا بها في الجاهلية وغلبت على النفوس ، فكان نفي منها في نفوس كثير من المؤمنين . قال ابن عطية : ومن هذا القبيل هوى الزجر بالطير ، وأخذ الفأل في الكتب ونحوه مما يصنعه الناس اليوم ، وأما الخمر فكانت لم تحرم بعد ، وإنما نزل تحريمها في سنة ثلاث بعد وقعة أحد ، وكانت وقعة أحد في شوال سنة ثلاث من الهجرة ، وتقدم اشتقاقها . وأما الميسر فقد مضى في " البقرة " القول فيه ، وأما الأنصاب فقيل : هي الأصنام . وقيل : هي النرد والشطرنج ; ويأتي بيانهما في سورة " يونس " عند قوله تعالى : فماذا بعد الحق إلا الضلال ، وأما الأزلام فهي القداح ، وقد مضى في أول السورة القول فيها . ويقال كانت في البيت عند سدنة البيت وخدام الأصنام ; يأتي الرجل إذا أراد حاجة فيقبض منها شيئا ; فإن كان عليه أمرني ربي خرج إلى حاجته على ما أحب أو كره .
الثانية : تحريم الخمر كان بتدريج ونوازل كثيرة ; فإنهم كانوا مولعين بشربها ، وأول ما نزل في شأنها يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس أي : في تجارتهم ; فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها فنزلت هذه الآية لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يشغلنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة حتى نزلت : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس الآية - فصارت حراما عليهم حتى صار يقول بعضهم : ما حرم الله شيئا أشد من الخمر ، وقال أبو ميسرة : نزلت بسبب عمر بن الخطاب ; فإنه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم عيوب الخمر ، وما ينزل بالناس من أجلها ، ودعا الله في تحريمها وقال : اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت هذه الآيات ، فقال عمر : انتهينا انتهينا ، وقد مضى في " البقرة " و " النساء " ، وروى أبو داود عن ابن عباس قال : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ، [ ص: 216 ] و يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس نسختها التي في المائدة . إنما الخمر والميسر والأنصاب ، وفي صحيح مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه قال : نزلت في آيات من القرآن ; وفيه قال : وأتيت على نفر من الأنصار ; فقالوا : تعال نطعمك ونسقيك خمرا ، وذلك قبل أن تحرم الخمر ; قال : فأتيتهم في حش - والحش البستان - فإذا رأس جزور مشوي عندهم وزق من خمر ; قال : فأكلت وشربت معهم ; قال : فذكرت الأنصار والمهاجرين عندهم فقلت : المهاجرون خير من الأنصار ; قال : فأخذ رجل لحيي جمل فضربني به فجرح أنفي - وفى رواية ففزره وكان أنف سعد مفزورا فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ; فأنزل الله تعالى في - يعني نفسه شأن الخمر - إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه .
الثالثة : هذه الأحاديث تدل على أن شرب الخمر كان إذ ذاك مباحا معمولا به معروفا عندهم بحيث لا ينكر ولا يغير ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أقر عليه ، وهذا ما لا خلاف فيه ; يدل عليه آية النساء لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى على ما تقدم ، وهل كان يباح لهم شرب القدر الذي يسكر ؟ حديث حمزة ظاهر فيه حين بقر خواصر ناقتي علي رضي الله عنهما وجب أسنمتهما ، فأخبر علي بذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى حمزة فصدر عن حمزة للنبي صلى الله عليه وسلم من القول الجافي المخالف لما يجب عليه من احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعزيره ، ما يدل على أن حمزة كان قد ذهب عقله بما يسكر ; ولذلك قال الراوي : فعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ثمل ; ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينكر على حمزة ولا عنفه ، لا في حال سكره ولا بعد ذلك ، بل رجع لما قال حمزة : وهل أنتم إلا عبيد لأبي على عقبيه القهقرى وخرج عنه ، وهذا خلاف ما قاله الأصوليون وحكوه فإنهم قالوا : إن السكر حرام في كل شريعة ; لأن الشرائع مصالح العباد لا مفاسدهم ، وأصل المصالح العقل ، كما أن أصل المفاسد ذهابه ، فيجب المنع من كل ما يذهبه أو يشوشه ، إلا أنه يحتمل حديث حمزة أنه لم يقصد بشربه السكر لكنه أسرع فيه فغلبه ، والله أعلم .
الرابعة : قوله تعالى : رجس قال ابن عباس في هذه الآية : رجس سخط ، وقد يقال للنتن والعذرة والأقذار رجس ، والرجز بالزاي العذاب لا غير ، والركس العذرة لا غير . والرجس يقال للأمرين ، ومعنى من عمل الشيطان أي : بحمله عليه وتزيينه . وقيل : هو الذي كان عمل مبادئ هذه الأمور بنفسه حتى اقتدي به فيها .
الخامسة : قوله تعالى : فاجتنبوه يريد أبعدوه واجعلوه ناحية ; فأمر الله تعالى باجتناب هذه الأمور ، واقترنت بصيغة الأمر مع نصوص الأحاديث وإجماع الأمة ، فحصل [ ص: 217 ] الاجتناب في جهة التحريم ; فبهذا حرمت الخمر ، ولا خلاف بين علماء المسلمين أن سورة " المائدة " نزلت بتحريم الخمر ، وهي مدنية من آخر ما نزل ، وورد التحريم في الميتة والدم ولحم الخنزير في قوله تعالى : ( قل لا أجد ) وغيرها من الآي خبرا ، وفي الخمر نهيا وزجرا ، وهو أقوى التحريم وأوكده . روى ابن عباس قال : لما نزل تحريم الخمر ، مشى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم إلى بعض ، وقالوا حرمت الخمر ، وجعلت عدلا للشرك ; يعني أنه قرنها بالذبح للأنصاب وذلك شرك . ثم علق لعلكم تفلحون فعلق الفلاح بالأمر ، وذلك يدل على تأكيد الوجوب . والله أعلم .
السادسة : فهم الجمهور من تحريم الخمر ، واستخباث الشرع لها ، وإطلاق الرجس عليها ، والأمر باجتنابها ، الحكم بنجاستها ، وخالفهم في ذلك ربيعة والليث بن سعد والمزني صاحب الشافعي ، وبعض المتأخرين من البغداديين والقرويين فرأوا أنها طاهرة ، وأن المحرم إنما هو شربها . وقد استدل سعيد بن الحداد القروي على طهارتها بسفكها في طرق المدينة ; قال : ولو كانت نجسة لما فعل ذلك الصحابة رضوان الله عليهم ، ولنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه كما نهى عن التخلي في الطرق ، والجواب ; أن الصحابة فعلت ذلك ; لأنه لم يكن لهم سروب ولا آبار يريقونها فيها ، إذ الغالب من أحوالهم أنهم لم يكن لهم كنف في بيوتهم ، وقالت عائشة رضي الله عنها إنهم كانوا يتقذرون من اتخاذ الكنف في البيوت ، ونقلها إلى خارج المدينة فيه كلفة ومشقة ، ويلزم منه تأخير ما وجب على الفور ، وأيضا فإنه يمكن التحرز منها ; فإن طرق المدينة كانت واسعة ، ولم تكن الخمر من الكثرة بحيث تصير نهرا يعم الطريق كلها ، بل إنما جرت في مواضع يسيرة يمكن التحرز عنها - هذا - مع ما يحصل في ذلك من فائدة شهرة إراقتها في طرق المدينة ، ليشيع العمل على مقتضى تحريمها من إتلافها ، وأنه لا ينتفع بها ، وتتابع الناس وتوافقوا على ذلك ، والله أعلم . فإن قيل : التنجيس حكم شرعي ولا نص فيه ، ولا يلزم من كون الشيء محرما أن يكون نجسا ; فكم من محرم في الشرع ليس بنجس ; قلنا : قوله تعالى : رجس يدل على نجاستها ; فإن الرجس في اللسان النجاسة ، ثم لو التزمنا ألا نحكم بحكم إلا حتى نجد فيه نصا لتعطلت الشريعة ; فإن النصوص فيها قليلة ; فأي نص يوجد على تنجيس البول والعذرة والدم والميتة وغير ذلك ؟ وإنما هي الظواهر والعمومات والأقيسة ، وسيأتي في سورة " الحج " ما يوضح هذا المعنى إن شاء الله تعالى .
السابعة : قوله : فاجتنبوه يقتضي الاجتناب المطلق الذي لا ينتفع معه بشيء بوجه [ ص: 218 ] من الوجوه ; لا بشرب ولا بيع ولا تخليل ولا مداواة ولا غير ذلك ، وعلى هذا تدل الأحاديث الواردة في الباب ، وروى مسلم عن ابن عباس أن رجلا أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل علمت أن الله حرمها قال : لا ، قال : فسار رجلا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : بم ساررته ؟ قال : أمرته ببيعها ; فقال : إن الذي حرم شربها حرم بيعها ، قال : ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها ; فهذا حديث يدل على ما ذكرناه ; إذ لو كان فيها منفعة من المنافع الجائزة لبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال في الشاة الميتة . هلا أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به الحديث .
الثامنة : أجمع المسلمون على تحريم بيع الخمر والدم ، وفي ذلك دليل على تحريم بيع العذرات وسائر النجاسات وما لا يحل أكله ; ولذلك - والله أعلم - كره مالك بيع زبل الدواب ، ورخص فيه ابن القاسم لما فيه من المنفعة ; والقياس ما قاله مالك ، وهو مذهب الشافعي ، وهذا الحديث شاهد بصحة ذلك .
التاسعة : ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد ، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها ; لأن الخل مال وقد نهي عن إضاعة المال ، ولا يقول أحد فيمن أراق خمرا على مسلم أنه أتلف له مالا ، وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمرا ليتيم ، واستؤذن صلى الله عليه وسلم في تخليلها فقال : لا ونهى عن ذلك . ذهب إلى هذا طائفة من العلماء من أهل الحديث والرأي ، وإليه مال سحنون بن سعيد ، وقال آخرون : لا بأس بتخليل الخمر ولا بأس بأكل ما تخلل منها بمعالجة آدمي أو غيرها ; وهو قول الثوري والأوزاعي والليث بن سعد والكوفيين ، وقال أبو حنيفة : إن طرح فيها المسك والملح فصارت مربى وتحولت عن حال الخمر جاز ، وخالفه محمد بن الحسن في المربى وقال : لا تعالج الخمر بغير تحويلها إلى الخل وحده .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|