
20-03-2023, 09:35 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,649
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (6)
سُورَةُ الْمَائِدَةِ
من صــ 203 الى صــ 210
الحلقة (288)
الحادية عشرة لا تنعقد اليمين بغير الله تعالى وأسمائه وصفاته ، وقال أحمد بن حنبل : إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه ; لأنه حلف بما لا يتم الإيمان إلا به فتلزمه الكفارة كما لو حلف بالله ، وهذا يرده ما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وعمر يحلف بأبيه ، فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا [ ص: 203 ] بآبائكم فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت وهذا حصر في عدم الحلف بكل شيء سوى الله تعالى وأسمائه وصفاته كما ذكرنا ، ومما يحقق ذلك ما رواه أبو داود والنسائي وغيرهما عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد ولا تحلفوا بالله إلا وأنتم صادقون ثم ينتقض عليه بمن قال : وآدم وإبراهيم فإنه لا كفارة عليه ، وقد حلف بما لا يتم الإيمان إلا به .
الثانية عشرة : روى الأئمة واللفظ لمسلم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من حلف منكم فقال في حلفه باللات فليقل لا إله إلا الله ومن قال لصاحبه تعال أقامرك فليتصدق . وخرج النسائي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : كنا نذكر بعض الأمر وأنا حديث عهد بالجاهلية فحلفت باللات والعزى ، فقال لي بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : بئس ما قلت : وفي رواية قلت هجرا ; فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقال : قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير وانفث عن يسارك ثلاثا وتعوذ بالله من الشيطان ثم لا تعد . قال العلماء : فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من نطق بذلك أن يقول بعده لا إله إلا الله تكفيرا لتلك اللفظة ، وتذكيرا من الغفلة ، وإتماما للنعمة ، وخص اللات بالذكر لأنها أكثر ما كانت تجري على ألسنتهم ، وحكم غيرها من أسماء آلهتهم حكمها إذ لا فرق بينها ، وكذا من قال لصاحبه : تعال أقامرك فليتصدق فالقول فيه كالقول في اللات ; لأنهم كانوا اعتادوا المقامرة وهي من أكل المال بالباطل .
الثالثة عشرة : قال أبو حنيفة في الرجل يقول : هو يهودي أو نصراني أو بريء من الإسلام أو من النبي أو من القرآن أو أشرك بالله أو أكفر بالله : إنها يمين تلزم فيها الكفارة ، ولا تلزم فيما إذا قال : واليهودية والنصرانية والنبي والكعبة وإن كانت على صيغة الأيمان ، ومتمسكه ما رواه الدارقطني عن أبي رافع أن مولاته أرادت أن تفرق بينه وبين امرأته فقالت : هي يوما يهودية ، ويوما نصرانية ، وكل مملوك لها حر ; وكل مال لها في سبيل الله ، وعليها مشي إلى بيت الله إن لم تفرق بينهما ، فسألت عائشة وحفصة وابن عمر وابن عباس وأم سلمة فكلهم قال لها : أتريدين أن تكوني مثل هاروت وماروت ؟ وأمروها أن تكفر عن يمينها وتخلي بينهما ، وخرج [ ص: 204 ] أيضا عنه قال : قالت مولاتي لأفرقن بينك وبين امرأتك ، وكل مال لها في رتاج الكعبة وهي يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية إن لم أفرق بينك وبين امرأتك ; قال : فانطلقت إلى أم المؤمنين أم سلمة فقلت : إن مولاتي تريد أن تفرق بيني وبين امرأتي ; فقالت انطلق إلى مولاتك فقل لها : إن هذا لا يحل لك ; قال : فرجعت إليها ; قال ثم أتيت ابن عمر فأخبرته فجاء حتى انتهى إلى الباب فقال : هاهنا هاروت وماروت ; فقالت : إني جعلت كل مال لي في رتاج الكعبة . قال : فمم تأكلين ؟ قالت : وقلت أنا يوما يهودية ويوما نصرانية ويوما مجوسية ; فقال : إن تهودت قتلت وإن تنصرت قتلت وإن تمجست قتلت ; قالت : فما تأمرني ؟ قال : تكفرين عن يمينك ، وتجمعين بين فتاك وفتاتك ، وأجمع العلماء على أن الحالف إذا قال : أقسم بالله أنها يمين ، واختلفوا إذا قال أقسم أو أشهد ليكونن كذا وكذا ولم يقل بالله فإنها تكون أيمانا عند مالك إذا أراد بالله ، وإن لم يرد بالله لم تكن أيمانا تكفر ، وقال أبو حنيفة والأوزاعي والحسن والنخعي : هي أيمان في الموضعين ، وقال الشافعي : لا تكون أيمانا حتى يذكر اسم الله تعالى ; هذه رواية المزني عنه ، وروى عنه الربيع مثل قول مالك .
الرابعة عشرة : إذا قال : أقسمت عليك لتفعلن ; فإن أراد سؤاله فلا كفارة فيه وليست بيمين ; وإن أراد اليمين كان ما ذكرناه آنفا .
الخامسة عشرة : من حلف بما يضاف إلى الله تعالى مما ليس بصفة كقوله : وخلق الله ورزقه وبيته لا شيء عليه ; لأنها أيمان غير جائزة ، وحلف بغير الله تعالى .
السادسة عشرة : إذا انعقدت اليمين حلتها الكفارة أو الاستثناء ، وقال ابن الماجشون : الاستثناء بدل عن الكفارة وليست حلا لليمين . قال ابن القاسم : هي حل لليمين ; وقال ابن العربي : وهو مذهب فقهاء الأمصار وهو الصحيح ; وشرطه أن يكون متصلا منطوقا به لفظا ; لما رواه النسائي وأبو داود عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من حلف فاستثنى فإن شاء مضى وإن شاء ترك عن غير حنث فإن نواه من غير نطق أو قطعه من غير عذر لم ينفعه ، وقال محمد بن المواز : يكون الاستثناء مقترنا باليمين اعتقادا ولو بآخر حرف ; قال : فإن فرغ منها واستثنى لم ينفعه ذلك ; لأن اليمين فرغت عارية من الاستثناء ، فورودها بعده لا يؤثر كالتراخي ; وهذا يرده الحديث من حلف فاستثنى ، والفاء للتعقيب وعليه جمهور أهل العلم ، وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تنحل يمين ابتدئ عقدها وذلك باطل ، وقال ابن خويز منداد : واختلف أصحابنا متى استثنى في نفسه تخصيص ما حلف عليه ، فقال بعض أصحابنا : [ ص: 205 ] يصح استثناؤه وقد ظلم المحلوف له . وقال بعضهم : لا يصح حتى يسمع المحلوف له ، وقال بعضهم : يصح إذا حرك به لسانه وشفتيه وإن لم يسمع المحلوف له . قال ابن خويز منداد : وإنما قلنا يصح استثناؤه في نفسه ، فلأن الأيمان تعتبر بالنيات ، وإنما قلنا لا يصح ذلك حتى يحرك به لسانه وشفتيه ، فإن من لم يحرك به لسانه وشفتيه لم يكن متكلما ، والاستثناء من الكلام يقع بالكلام دون غيره ; وإنما قلنا لا يصح بحال فلأن ذلك حق للمحلوف له ، وإنما يقع على حسب ما يستوفيه له الحاكم ، فلما لم تكن اليمين على اختيار الحالف بل كانت مستوفاة منه ، وجب ألا يكون له فيها حكم ، وقال ابن عباس : يدرك الاستثناء اليمين بعد سنة ; وتابعه على ذلك أبو العالية والحسن وتعلق بقوله تعالى : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر الآية ; فلما كان بعد عام نزل إلا من تاب ، وقال مجاهد : من قال بعد سنتين إن شاء الله أجزأه ، وقال سعيد بن جبير : إن استثنى بعد أربعة أشهر أجزأه ، وقال طاوس : له أن يستثني ما دام في مجلسه ، وقال قتادة : إن استثنى قبل أن يقوم أو يتكلم فله ثنياه . وقال أحمد بن حنبل وإسحاق : يستثني ما دام في ذلك الأمر ، وقال عطاء : له ذلك قدر حلب الناقة الغزيرة .
السابعة عشرة : قال ابن العربي : أما ما تعلق به ابن عباس من الآية فلا متعلق له فيها ; لأن الآيتين كانتا متصلتين في علم الله وفي لوحه ، وإنما تأخر نزولها لحكمة علم الله ذلك فيها ، أما إنه يتركب عليها فرع حسن ; وهو أن الحالف إذا قال والله لا دخلت الدار ، وأنت طالق إن دخلت الدار ، واستثنى في يمينه الأول إن شاء الله في قلبه ، واستثنى في اليمين الثانية في قلبه أيضا ما يصلح للاستثناء الذي يرفع اليمين لمدة أو سبب أو مشيئة أحد ، ولم يظهر شيئا من الاستثناء إرهابا على المحلوف له ، فإن ذلك ينفعه ولا تنعقد اليمينان عليه ; وهذا في الطلاق ما لم تحضره البينة ; فإن حضرته بينة لم تقبل منه دعواه الاستثناء ، وإنما يكون ذلك نافعا له إذا جاء مستفتيا .
قلت : وجه الاستثناء أن الله تعالى أظهر الآية الأولى وأخفى الثانية ، فكذلك الحالف إذا حلف إرهابا وأخفى الاستثناء ، والله أعلم . قال ابن العربي : وكان أبو الفضل المراغي يقرأ بمدينة السلام ، وكانت الكتب تأتي إليه من بلده ، فيضعها في صندوق ولا يقرأ منها واحدا مخافة أن يطلع فيها على ما يزعجه ويقطع به عن طلبه ; فلما كان بعد خمسة أعوام وقضى غرضا من الطلب وعزم على الرحيل ، شد رحله وأبرز كتبه وأخرج تلك الرسائل ، فقرأ فيها ما لو أن واحدا منها يقرؤه بعد وصوله ما تمكن بعده من تحصيل حرف من العلم ، فحمد الله ورحل [ ص: 206 ] على دابة قماشه وخرج إلى باب الحلبة طريق خراسان ، وتقدمه الكري بالدابة وأقام هو على فامي يبتاع منه سفرته ، فبينما هو يحاول ذلك معه إذ سمعه يقول لفامي آخر : أما سمعت العالم يقول - يعني الواعظ - إن ابن عباس يجوز الاستثناء ولو بعد سنة ، لقد اشتغل بذلك بالي منذ سمعته فظللت فيه متفكرا ، ولو كان ذلك صحيحا لما قال الله تعالى لأيوب : وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث وما الذي يمنعه من أن يقول : قل إن شاء الله ! فلما سمعه يقول ذلك قال : بلد يكون فيه الفاميون بهذا الحظ من العلم وهذه المرتبة أخرج عنه إلى المراغة ؟ لا أفعله أبدا ; واقتفى أثر الكري وحلله من الكراء وأقام بها حتى مات .
الثامنة عشرة : الاستثناء إنما يرفع اليمين بالله تعالى إذ هي رخصة من الله تعالى ، ولا خلاف في هذا ، واختلفوا في الاستثناء في اليمين بغير الله ; فقال الشافعي وأبو حنيفة : الاستثناء يقع في كل يمين كالطلاق والعتاق وغير ذلك كاليمين بالله تعالى : قال أبو عمر : ما أجمعوا عليه فهو الحق ، وإنما ورد التوقيف بالاستثناء في اليمين بالله عز وجل لا في غير ذلك .
التاسعة عشرة : قوله تعالى : فكفارته اختلف العلماء في تقديم الكفارة على الحنث هل تجزئ أم لا ؟ - بعد إجماعهم على أن الحنث قبل الكفارة مباح حسن وهو عندهم أولى - على ثلاثة أقوال :
أحدها : يجزئ مطلقا وهو مذهب أربعة عشر من الصحابة وجمهور الفقهاء وهو مشهور مذهب مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يجزئ بوجه ، وهي رواية أشهب عن مالك ; وجه الجواز ما رواه أبو موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وإني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني وأتيت الذي هو خيرخرجه أبو داود ; ومن جهة المعنى أن اليمين سبب الكفارة ; لقوله تعالى : ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم فأضاف الكفارة إلى اليمين والمعاني تضاف إلى أسبابها ; وأيضا فإن الكفارة بدل عن البر فيجوز تقديمها قبل الحنث . ووجه المنع ما رواه مسلم عن عدي بن حاتم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من حلف على يمين ثم رأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير زاد النسائي وليكفر عن يمينه ومن جهة المعنى أن الكفارة إنما هي لرفع الإثم ، وما لم يحنث لم يكن هناك ما يرفع فلا معنى لفعلها ; وكان معنى قوله تعالى : إذا حلفتم أي : إذا حلفتم وحنثتم ، وأيضا فإن كل عبادة فعلت قبل وجوبها لم تصح اعتبارا بالصلوات وسائر العبادات ، وقال الشافعي : تجزئ بالإطعام والعتق والكسوة ، ولا تجزئ بالصوم ; لأن عمل البدن لا يقوم قبل وقته ، ويجزئ في غير ذلك تقديم الكفارة ; وهو القول الثالث .
[ ص: 207 ] الموفية عشرين : ذكر الله سبحانه في الكفارة الخلال الثلاث فخير فيها ، وعقب عند عدمها بالصيام ، وبدأ بالطعام لأنه كان الأفضل في بلاد الحجاز لغلبة الحاجة إليه وعدم شبعهم ، ولا خلاف في أن كفارة اليمين على التخيير ; قال ابن العربي : والذي عندي أنها تكون بحسب الحال ; فإن علمت محتاجا فالطعام أفضل ; لأنك إذا أعتقت لم تدفع حاجتهم وزدت محتاجا حادي عشر إليهم ، وكذلك الكسوة تليه ، ولما علم الله الحاجة بدأ بالمقدم المهم .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : إطعام عشرة مساكين لا بد عندنا وعند الشافعي من تمليك المساكين ما يخرج لهم ، ودفعه إليهم حتى يتملكوه ويتصرفوا فيه ; لقوله تعالى : وهو يطعم ولا يطعم وفي الحديث أطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجد السدس ; ولأنه أحد نوعي الكفارة فلم يجز فيها إلا التمليك ; أصله الكسوة ، وقال أبو حنيفة : لو غداهم وعشاهم جاز ; وهو اختيار ابن الماجشون من علمائنا ; قال ابن الماجشون : إن التمكين من الطعام إطعام ، قال الله تعالى : ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا فبأي وجه أطعمه دخل في الآية .
الثانية والعشرون : قوله تعالى : من أوسط ما تطعمون أهليكم قد تقدم في " البقرة " أن الوسط بمعنى الأعلى والخيار ، وهو هنا منزلة بين منزلتين ونصف بين طرفين ، ومنه الحديث خير الأمور أوسطها ، وخرج ابن ماجه ; حدثنا محمد بن يحيى ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا سفيان بن عيينة ، عن سليمان بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : كان الرجل يقوت أهله قوتا فيه سعة وكان الرجل يقوت أهله قوتا فيه شدة ; فنزلت : من أوسط ما تطعمون أهليكم ، وهذا يدل على أن الوسط ما ذكرناه وهو ما كان بين شيئين .
الثالثة والعشرون : الإطعام عند مالك مد لكل واحد من المساكين العشرة ، إن كان بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم ; وبه قال الشافعي وأهل المدينة . قال سليمان بن يسار : أدركت الناس وهم إذا أعطوا في كفارة اليمين أعطوا مدا من حنطة بالمد الأصغر ، ورأوا ذلك مجزئا عنهم ; وهو قول ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وبه قال عطاء بن أبي رباح ، واختلف إذا كان بغيرها ; فقال ابن القاسم : يجزئه المد بكل مكان ، وقال ابن المواز : أفتى ابن وهب بمصر بمد ونصف ، وأشهب بمد وثلث ; قال : وإن مدا وثلثا لوسط من عيش الأمصار في الغداء والعشاء ، [ ص: 208 ] وقال أبو حنيفة : يخرج من البر نصف صاع ، ومن التمر والشعير صاعا ; على حديث عبد الله بن ثعلبة بن صعير عن أبيه قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبا فأمر بصدقة الفطر صاع من تمر ، أو صاع من شعير عن كل رأس ، أو صاع بر بين اثنين ، وبه أخذ سفيان وابن المبارك ، وروي عن علي وعمر وابن عمر وعائشة ، رضي الله عنهم وبه قال سعيد بن المسيب ، وهو قول عامة فقهاء العراق ; لما رواه ابن عباس قال : كفر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس بذلك ، فمن لم يجد فنصف صاع من بر من أوسط ما تطعمون أهليكم ; خرجه ابن ماجه في سننه .
الرابعة والعشرون : لا يجوز أن يطعم غنيا ولا ذا رحم تلزمه نفقته ، وإن كان ممن لا تلزمه نفقته فقد قال مالك : لا يعجبني أن يطعمه ، ولكن إن فعل وكان فقيرا أجزأه ، فإن أطعم غنيا جاهلا بغناه ففي " المدونة " وغير كتاب لا يجزئ ، وفي " الأسدية " أنه يجزئ .
الخامسة والعشرون : ويخرج الرجل مما يأكل ; قال ابن العربي : وقد زلت هنا جماعة من العلماء فقالوا : إنه إذا كان يأكل الشعير ويأكل الناس البر فليخرج مما يأكل الناس ; وهذا سهو بين فإن المكفر إذا لم يستطع في خاصة نفسه إلا الشعير لم يكلف أن يعطي لغيره سواه ; وقد قال صلى الله عليه وسلم : صاعا من طعام صاعا من شعير ففصل ذكرهما ليخرج كل أحد فرضه مما يأكل ; وهذا مما لا خفاء فيه .
السادسة والعشرون : قال مالك : إن غدى عشرة مساكين وعشاهم أجزأه ، وقال الشافعي : لا يجوز أن يطعمهم جملة واحدة ; لأنهم يختلفون في الأكل ، ولكن يعطي كل مسكين مدا ، وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : لا يجزئ إطعام العشرة وجبة واحدة ; يعني غداء دون عشاء ، أو عشاء دون غداء ، حتى يغديهم ويعشيهم ; قال أبو عمر : وهو قول أئمة الفتوى بالأمصار .
السابعة والعشرون : قال ابن حبيب : ولا يجزئ الخبز قفارا بل يعطي معه إدامه زيتا أو كشكا أو كامخا أو ما تيسر ; قال ابن العربي : هذه زيادة ما أراها واجبة أما إنه يستحب له أن يطعم مع الخبز السكر - نعم - واللحم ، وأما تعيين الإدام للطعام فلا سبيل إليه ; لأن اللفظ لا يتضمنه .
قلت : نزول الآية في الوسط يقتضي الخبز والزيت أو الخل ، وما كان في معناه من [ ص: 209 ] الجبن والكشك كما قال ابن حبيب ، والله أعلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم الإدام الخل وقال الحسن البصري : إن أطعمهم خبزا ولحما ، أو خبزا وزيتا مرة واحدة في اليوم حتى يشبعوا أجزأه ، وهو قول ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول ، وروي ذلك عن أنس بن مالك .
الثامنة والعشرون : لا يجوز عندنا دفع الكفارة إلى مسكين واحد ، وبه قال الشافعي ، وأصحاب أبي حنيفة يمنعون صرف الجميع إلى واحد دفعة واحدة ، ويختلفون فيما إذا صرف الجميع في يوم واحد بدفعات مختلفة ; فمنهم من أجاز ذلك ، وأنه إذا تعدد الفعل حسن أن يقال في الفعل الثاني لا يمنع من الذي دفعت إليه أولا ; فإن اسم المسكين يتناوله ، وقال آخرون : يجوز دفع ذلك إليه في أيام ، وإن تعدد الأيام يقوم مقام أعداد المساكين ، وقال أبو حنيفة : يجزئه ذلك ; لأن المقصود من الآية التعريف بقدر ما يطعم ، فلو دفع ذلك القدر لواحد أجزأه ، ودليلنا نص الله تعالى على العشرة فلا يجوز العدول عنهم ، وأيضا فإن فيه إحياء جماعة من المسلمين وكفايتهم يوما واحدا ، فيتفرغون فيه لعبادة الله تبارك وتعالى ولدعائه ، فيغفر للمكفر بسبب ذلك ، والله أعلم .
التاسعة والعشرون : قوله تعالى : فكفارته الضمير على الصناعة النحوية عائدا على ( ما ) ويحتمل في هذا الموضع أن تكون بمعنى الذي ، ويحتمل أن تكون مصدرية . أو يعود على إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن المعنى يقتضيه .
الموفية ثلاثين : قوله تعالى : أهليكم هو جمع أهل على السلامة ، وقرأ جعفر بن محمد الصادق : ( أهاليكم ) وهذا جمع مكسر ; قال أبو الفتح : أهال بمنزلة ليال واحدها أهلات وليلات ; والعرب تقول : أهل وأهلة . قال الشاعر ( هو أبو الطمحان القيني ) :
وأهلة ود قد تبريت ودهم وأبليتهم في الجهد حمدي ونائلي
يقول : تعرضت لودهم ; قاله ابن السكيت .
الحادية والثلاثون : قوله تعالى : أو كسوتهم قرئ بكسر الكاف وضمها هما لغتان مثل إسوة وأسوة . وقرأ سعيد بن جبير ومحمد بن السميقع اليماني : ( أو كإسوتهم ) يعني كإسوة أهلك ، والكسوة في حق الرجال الثوب الواحد الساتر لجميع الجسد ; فأما في حق النساء فأقل [ ص: 210 ] ما يجزئهن فيه الصلاة ، وهو الدرع والخمار ، وهكذا حكم الصغار . قال ابن القاسم في ( العتبية ) : تكسى الصغيرة كسوة كبيرة ، والصغير كسوة كبير ، قياسا على الطعام ، وقال الشافعي وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي : أقل ما يقع عليه الاسم وذلك ثوب واحد ; وفي رواية أبي الفرج عن مالك ، وبه قال إبراهيم النخعي ومغيرة : ما يستر جميع البدن ; بناء على أن الصلاة لا تجزئ في أقل من ذلك . وروي عن سلمان رضي الله عنه أنه قال : نعم الثوب التبان ; أسنده الطبري . وقال الحكم بن عتيبة تجزئ عمامة يلف بها رأسه ، وهو قول الثوري . قال ابن العربي : وما كان أحرصني على أن يقال : إنه لا يجزئ إلا كسوة تستر عن أذى الحر والبرد كما أن عليه طعاما يشبعه من الرجوع فأقول به ، وأما القول بمئزر واحد فلا أدريه ; والله يفتح لي ولكم في المعرفة بعونه .
قلت : قد راعى قوم معهود الزي والكسوة المتعارفة ; فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا مما قد يتزيا به كالكساء والملحفة ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب وإزار ، أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء ، وروي عن أبي موسى الأشعري أنه أمر أن يكسي عنه ثوبين ثوبين ; وبه قال الحسن وابن سيرين وهذا معنى ما اختاره ابن العربي والله أعلم .
الثانية والثلاثون : لا تجزئ القيمة عن الطعام والكسوة ; وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : تجزئ ; وهو يقول : تجزئ القيمة في الزكاة فكيف في الكفارة ! قال ابن العربي : وعمدته أن الغرض سد الخلة ، ورفع الحاجة ; فالقيمة تجزئ فيه . قلنا : إن نظرتم إلى سد الخلة فأين العبادة ؟ وأين نص القرآن على الأعيان الثلاثة ، والانتقال بالبيان من نوع إلى نوع ؟ !
الثالثة والثلاثون : إذا دفع الكسوة إلى ذمي أو إلى عبد لم يجزه ، وقال أبو حنيفة : يجزئه ; لأنه مسكين يتناوله لفظ المسكنة ، ويشتمل عليه عموم الآية . قلنا : هذا يخصه بأن يقول : جزء من المال يجب إخراجه للمساكين فلا يجوز دفعه للكافر ; أصله الزكاة ; وقد اتفقنا على أنه لا يجوز دفعه للمرتد ; فكل دليل خص به المرتد فهو دليلنا في الذمي ، والعبد ليس بمسكين لاستغنائه بنفقة سيده فلا تدفع إليه كالغني .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|