
16-03-2023, 11:01 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (516)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ .
صـ 435 إلى صـ 442
وَدَلَالَةُ بَعْضِ الْآيَاتِ عَلَيْهِ وَاضِحَةٌ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى صَرَّحَ بِأَنَّ الرِّيَاحَ تَحْمِلُ السَّحَابَ الثِّقَالَ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا كَانَتِ الرِّيَاحُ هِيَ الَّتِي تَحْمِلُ السَّحَابَ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ ، فَنِسْبَةُ حَمْلِ ذَلِكَ الْوِقْرِ إِلَيْهَا أَظْهَرُ مِنْ نِسْبَتِهِ إِلَى السَّحَابِ الَّتِي هِيَ مَحْمُولَةٌ لِلرِّيَاحِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ [ ص: 435 ] تَعَالَى : وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [ 7 \ 57 ] .
فَقَوْلُهُ تَعَالَى : حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا ، أَيْ حَتَّى إِذَا حَمَلَتِ الرِّيَاحُ سَحَابًا ثِقَالًا ، فَالْإِقْلَالُ الْحَمْلُ ، وَهُوَ مُسْنَدٌ إِلَى الرِّيحِ . وَدَلَالَةُ هَذَا عَلَى أَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا هِيَ الرِّيَاحُ - ظَاهِرَةٌ كَمَا تَرَى ، وَيَصِحُّ شُمُولُ الْآيَةِ لِجَمِيعِ ذَلِكَ .
وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّهُ هُوَ الْأَجْوَدُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِيهِ ، وَكَلَامَهُمْ فِي حَمْلِ الْمُشْتَرَكِ عَلَى مَعْنَيَيْهِ أَوْ مَعَانِيهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ النُّورِ وَغَيْرِهَا .
وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْحَامِلَاتِ وِقْرًا : هِيَ حَوَامِلُ الْأَجِنَّةِ مِنَ الْإِنَاثِ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَارِيَاتِ يُسْرًا : السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ يُسْرًا ، أَيْ : جَرْيًا ذَا يُسْرٍ أَيْ سُهُولَةٍ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ حَالٌ كَمَا قَدَّمْنَا نَحْوَهُ مِرَارًا : أَيْ فَالْجَارِيَاتِ فِي حَالِ كَوْنِهَا مُيَسَّرَةً مُسَخَّرًا لَهَا الْبَحْرٌ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ إِطْلَاقِ الْوَصْفِ بِالْجَرْيِ عَلَى السُّفُنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ [ 42 \ 32 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [ 69 \ 11 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [ 22 \ 65 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [ 45 \ 12 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ .
وَقِيلَ : الْجَارِيَاتُ الرِّيَاحُ ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ .
وَقَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا : هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُرْسِلُهَا اللَّهُ فِي شُئُونٍ وَأُمُورٍ مُخْتَلِفَةٍ ، وَلِذَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالْمُقَسِّمَاتِ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [ 79 \ 5 ] ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِتَسْخِيرِ الْمَطَرِ وَالرِّيحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِكِتَابَةِ الْأَعْمَالِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لَقَبْضِ الْأَرْوَاحِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُرْسَلُ لِإِهْلَاكِ الْأُمَمِ ، كَمَا وَقَعَ لِقَوْمِ صَالِحٍ .
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ قَوْلَهُ : " أَمْرًا " مَفْعُولٌ بِهِ لِلْوَصْفِ الَّذِي هُوَ الْمُقَسِّمَاتُ ، وَهُوَ مُفْرَدٌ أُرِيدَ بِهِ الْجَمْعُ .
وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَمْثِلَةَ ذَلِكَ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعَ تَنْكِيرِ الْمُفْرَدِ كَمَا [ ص: 436 ] هُنَا ، وَتَعْرِيفِهِ وَإِضَافَتِهِ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْحَجِّ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى : ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [ 22 \ 5 ] ، وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ بِهَذِهِ الْأَقْسَامِ هُوَ قَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ، وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّوْكِيدِ هُوَ شِدَّةُ إِنْكَارِ الْكُفَّارِ لِلْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ .
وَقَوْلُهُ : إِنَّمَا تُوعَدُونَ " مَا " فِيهِ مَوْصُولَةٌ ، وَالْعَائِدُ إِلَى الصِّلَةِ مَحْذُوفٌ ، وَالْوَصْفُ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ ، أَيْ : إِنَّ الَّذِي تُوعَدُونَهُ مِنَ الْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصِدْقٌ لَا كَذِبَ فِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ بِالْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ لَصَادِقٌ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : إِنَّ صِيغَةَ اسْمِ الْفَاعِلِ فِي " لَصَادِقٌ " بِمَعْنَى اسْمِ الْمَفْعُولِ ، أَيْ إِنَّ الْوَعْدَ أَوِ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمَصْدُوقٌ فِيهِ لَا مَكْذُوبٌ بِهِ ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [ 69 \ 21 ] ، أَيْ مَرْضِيَّةٍ . وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِدْقِ مَا يُوعَدُونَهُ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [ 3 \ 9 ] ، وَقَوْلِهِ : إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [ 6 \ 134 ] ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى : لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [ 56 \ 3 ] ، وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ مَعْلُومَةٌ .
وَالْمُرَادُ بِالدِّينِ هُنَا الْجَزَاءُ ، أَيْ وَإِنَّ الْجَزَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَوَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى : يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ [ 24 \ 25 ] ، أَيْ جَزَاءَهُمْ بِالْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى [ 53 \ 40 - 41 ] .
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ نَفْسَهُ عَنْ كَوْنِهِ خَلَقَ الْخَلْقَ لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ ظَنُّ الْكُفَّارِ ، وَهَدَّدَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الظَّنِّ السَّيِّئِ بِالْوَيْلِ مِنَ النَّارِ ، قَالَ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى مَنْ ظَنَّ عَدَمَ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ ، وَمُنَزِّهًا نَفْسَهُ عَنِ أَنَّهُ خَلَقَهُمْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ : أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [ 23 \ 115 - 116 ] .
وَقَالَ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ 38 \ 27 ] ، فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ " ص " هَذِهِ : بَاطِلًا أَيْ عَبَثًا لَا لِبَعْثٍ وَجَزَاءٍ .
قوله تعالى : والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يؤفك عنه من أفك .
[ ص: 437 ] قوله تعالى : ذات الحبك فيه للعلماء أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا ، فذهب بعض أهل العلم ، إلى أن الحبك جمع حبيكة أو حباك ، وعليه فالمعنى ذات الحبك أي ذات الطرائق ، فما يبدو على سطح الماء الساكن أو الرمل من الطرائق إذا ضربته الريح هو الحبك ، وهو جمع حبيكة أو حباك ، قالوا : ولبعد السماء لا ترى طرائقها المعبر عنها بالحبك ، ومن هذا المعنى قول زهير :
مكلل بأصول النجم تنسجه ريح خريق بضاحي مائة حبك وقول الراجز :
كأنما جللها الحواك طنفسة في وشيها حباك
وممن نقل عنه هذا القول الكلبي والضحاك .
وقال بعض أهل العلم : " ذات الحبك " أي ذات الخلق الحسن المحكم ، وممن قال به - ابن عباس وعكرمة وقتادة .
وهذا الوجه يدل عليه قوله تعالى : الذي خلق سبع سماوات طباقا ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئا وهو حسير [ 67 \ 3 - 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى هذا القول فالحبك مصدر ، لأن كل عمل أتقنه عامله وأحسن صنعه ، تقول فيه العرب : حبكه حبكا بالفتح على القياس . والحبك بضمتين بمعناه .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك : أي الزينة .
وممن روي عنه هذا سعيد بن جبير والحسن ، وعلى هذا القول فالآية كقوله : ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح [ 67 \ 5 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في " ق " في الكلام على قوله : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها [ 50 \ 6 ] .
وقال بعض العلماء : ذات الحبك أي ذات الشدة ، وهذا القول يدل له قوله تعالى : وبنينا فوقكم سبعا شدادا [ 78 \ 12 ] .
[ ص: 438 ] والعرب تسمي شدة الخلق حبكا ، ومنه قيل للفرس الشديد الخلق : محبوك .
ومنه قول امرئ القيس :
قد غدا يحملني في أنفه لاحق الإطلين محبوك ممر
والآية تشمل الجميع ، فكل الأقوال حق ، والمقسم عليه في هذه الآية هو قوله تعالى : إنكم لفي قول مختلف ، أي إنكم أيها الكفار لفي قول مختلف في شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - وشأن القرآن ، لأن بعضهم يقول : هو شعر ، وبعضهم يقول : سحر ، وبعضهم يقول : كهانة ، وبعضهم يقول : أساطير الأولين ، وقول من قال في قول مختلف أي لأن بعضهم مصدق ، وبعضهم مكذب - خلاف التحقيق .
ويدل على أن الاختلاف إنما هو بين المكذبين دون المصدقين - قوله تعالى في ق : بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج [ 50 \ 5 ] ، أي مختلط ، وقال بعضهم : مختلف ، والمعنى واحد .
وقوله تعالى : يؤفك عنه من أفك أظهر الأقوال فيه عندي ولا ينبغي العدول عنه في نظري ، أن لفظة " عن " في الآية سببية كقوله تعالى : وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك [ 11 \ 53 ] ، أي بسبب قولك ، ومن أجله ، والضمير المجرور بـ " عن " راجع إلى القول المختلف ، والمعنى : " يؤفك " أي يصرف عن الإيمان بالله ورسوله . " عنه " أي عن ذلك القول المختلف أي بسببه . " من أفك " أي من سبقت له الشقاوة في الأزل ، فحرم الهدى وأفك عنه ، لأن هذا القول المختلف يكذب بعضه بعضا ويناقضه .
ومن أوضح الأدلة على كذب القول وبطلانه اختلافه وتناقضه كما لا يخفى ، فهذا القول المختلف الذي يحاول كفار مكة أن يصدوا به الناس عن الإسلام ، الذي يقول فيه بعضهم : إن الرسول ساحر ، وبعضهم يقول شاعر ، وبعضهم يقول : كذاب - ظاهر البطلان لتناقضه وتكذيب بعضه لبعض ، فلا يصرف عن الإسلام بسببه إلا من صرف ، أي صرفه الله عن الحق لشقاوته في الأزل فمن لم يكتب عليه في سابق علم الله الشقاوة والكفر لا يصرفه عن الحق قول ظاهر الكذب والبطلان لتناقضه .
وهذا المعنى جاء موضحا في غير هذا الموضع كقوله تعالى : فإنكم وما تعبدون ما أنتم عليه بفاتنين إلا من هو صالي الجحيم [ 37 \ 161 - 163 ] .
[ ص: 439 ] ومعنى هذه الآية أن دين الكفار ، الذي هو الشرك بالله وعبادة الأوثان ، مع حرصهم على صد الناس عن دين الإسلام إليه " ما هم بفاتنين " أي ليسوا بمضلين عليه أحدا لظهور فساده وبطلانه " إلا من هو صال الجحيم " أي إلا من قدر الله عليه الشقاوة وأنه من أهل النار في سابق علمه ، هذا هو الظاهر لنا في معنى هذه الآية الكريمة .
وأكثر المفسرين على أن الضمير في قوله : يؤفك عنه راجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو القرآن ، أي يصرف عن الإيمان بالنبي أو القرآن ، من أفك أي صرف عن الحق ، وحرم الهدى لشدة ظهور الحق في صدق النبي - صلى الله عليه وسلم - وأن القرآن منزل من الله ، وهذا خلاف ظاهر السياق كما ترى .
وقول من قال : يؤفك عنه ، أي يصرف عن القول المختلف الباطل من أفك ، أي من صرف عن الباطل إلى الحق لا يخفى بعده وسقوطه .
والذين قالوا هذا القول يزعمون أن الإفك يطلق على الصرف عن الحق إلى الباطل ، وعن الباطل إلى الحق ، ويبعد هذا أن القرآن لم يرد فيه الإفك مراد به إلا الصرف عن الخير إلى الشر دون عكسه .
قوله تعالى : إن المتقين في جنات وعيون .
لا يخفى على من عنده علم بأصول الفقه أن هذه الآية الكريمة فيها الدلالة المعروفة عند أهل الأصول بدلالة الإيماء والتنبيه على أن سبب نيل هذه الجنات والعيون هو تقوى الله ، والسبب الشرعي هو العلة الشرعية على الأصح . وكون التقوى سبب دخول الجنات الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة - جاء موضحا في آيات أخر من كتاب الله كقوله تعالى : تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقيا [ 19 \ 63 ] ، وقد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة النحل في الكلام على قوله تعالى : لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين [ 16 \ 31 ] .
قوله تعالى : وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة الجاثية .
قوله تعالى : وفي السماء رزقكم وما توعدون .
[ ص: 440 ] اختلف العلماء في المراد بكون رزق الناس في السماء ، فذهبت جماعة من أهل العلم أن المراد أن جميع أرزاقهم منشؤها من المطر وهو نازل من السماء ، ويكثر في القرآن إطلاق اسم الرزق على المطر لهذا المعنى ، كقوله تعالى : هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقا [ 40 \ 13 ] .
وقوله تعالى : واختلاف الليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق [ 45 \ 5 ] .
وقد قدمنا الآيات الموضحة لهذا في سورة المؤمن .
وإنزاله تعالى الرزق من السماء بإنزال المطر من أعظم آياته الدالة على عظمته وأنه المعبود وحده ، ومن أعظم نعمه على خلقه في الدنيا ، ولذلك كثر الامتنان به في القرآن على الخلق .
وقال بعض أهل العلم : معنى قوله : وفي السماء رزقكم أن أرزاقكم مقدرة مكتوبة ، والله - جل وعلا - يدبر أمر الأرض من السماء ، كما قال تعالى : يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه الآية [ 32 \ 5 ] ، وقوله تعالى : وما توعدون " ما " في محل رفع ، عطف على قوله : رزقكم ، والمراد بما يوعدون ، قال بعض أهل العلم : الجنة ، لأن الجنة فوق السماوات ، فإطلاق كونها في السماء إطلاق عربي صحيح ، لأن العرب تطلق السماء على كل ما علاك كما قيل :
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر ولما حكى النابغة الجعدي شعره المشهور ، قال فيه : بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا قال له - صلى الله عليه وسلم : " إلى أين يا أبا ليلى . قال : إلى الجنة ، قال : نعم إن شاء الله " .
وقال بعض أهل العلم : وما توعدون من الخير والشر كله مقدر في السماء ، كما بيناه في القول الثاني في المراد بالرزق في الآية ، وهذا المعنى فيما يوعدون به أنسب لهذا القول الثاني في معنى الرزق .
وقد وردت قصص تدل على أنه هو الذي يتبادر إلى ذهن السامع ، فمن ذلك ما ذكره غير واحد عن سفيان الثوري أنه قال : قرأ واصل الأحدب هذه الآية وفي السماء رزقكم وما توعدون [ ص: 441 ] فقال : ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض ، فدخل خربة يمكث ثلاثا لا يصيب شيئا ، فلما أن كان في اليوم الثالث إذا هو بدوخلة من رطب ، وكان له أخ أحسن منه نية ، فدخل معه فصارتا دوخلتين ، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق بينهما الموت .
ومن ذلك أيضا : ما ذكره الزمخشري في تفسير هذه الآية ، قال : وعن الأصمعي ، قال : أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له ، فقال : ممن الرجل ؟ قلت : من بني أصمع ، قال : من أين أقبلت ؟ قلت : من موضع يتلى فيه كلام الرحمن ، فقال : اتل علي ، فتلوت : والذاريات ، فلما بلغت قوله تعالى : وفي السماء رزقكم قال : حسبك ، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر ، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى ، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت ، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة ، فلما بلغت الآية صاح ، وقال : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، ثم قال : وهل غير هذا ؟ فقرأت فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون [ 51 \ 23 ] ، فصاح وقال : يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف ، لم يصدقوه بقوله حتى ألجئوه إلى اليمين ، قائلا ثلاثا ، وخرجت معها نفسه . انتهى .
قوله تعالى : هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما .
إلى آخر القصة ، قد قدمنا إيضاحه في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : ونبئهم عن ضيف إبراهيم [ 15 \ 51 ] ، وفي سورة هود في القصة المذكورة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
قوله تعالى : وتركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة الحجر في الكلام على قوله تعالى : وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وفي غير ذلك من المواضع .
قوله تعالى : وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم .
قد قدمنا الآيات الموضحة لذلك في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا الآية [ 41 \ 16 ] .
[ ص: 442 ] قوله تعالى : فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة فصلت في الكلام على قوله تعالى : وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب الهون [ 41 \ 7 ] .
قوله تعالى : والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون .
قد قدمنا الآيات الموضحة له في سورة " ق " في الكلام على قوله تعالى : أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها الآية [ 50 \ 6 ] .
تنبيه :
قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : بنيناها بأيد ، ليس من آيات الصفات المعروفة بهذا الاسم ، لأن قوله : بأيد ليس جمع يد : وإنما الأيد القوة ، فوزن قوله هنا بأيد فعل ، ووزن الأيدي أفعل ، فالهمزة في قوله : بأيد في مكان الفاء ، والياء في مكان العين ، والدال في مكان اللام ، ولو كان قوله تعالى : بأيد جمع يد لكان وزنه أفعلا ، فتكون الهمزة زائدة والياء في مكان الفاء ، والدال في مكان العين ، والياء المحذوفة لكونه منقوصا هي اللام .
والأيد ، والآد في لغة العرب بمعنى القوة ، ورجل أيد قوي ، ومنه قوله تعالى : وأيدناه بروح القدس [ 2 \ 87 ] ، أي قويناه به ، فمن ظن أنها جمع يد في هذه الآية فقد غلط غلطا فاحشا ، والمعنى : والسماء بنيناها بقوة .
قوله تعالى : كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون أتواصوا به بل هم قوم طاغون . ذكر - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة أنه ما أتى نبي قوما إلا قالوا ساحر أو مجنون ، ثم قال : أتواصوا به ، ثم أضرب عن تواصيهم بذلك إضراب إبطال ، لأنهم لم يجمعوا في زمن حتى يتواصوا فقال : بل هم قوم طاغون أي الموجب الذي جمعهم على اتفاقهم جميعا على تكذيب الرسل ونسبتهم للسحر والجنون هو اتحاد في الطغيان الذي هو مجاوزة الحد في الكفر .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|