
16-03-2023, 11:33 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,405
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السابع
الحلقة (508)
سُورَةُ مُحَمَّدٍ
صـ 371 إلى صـ 378
ثم بعد هذا كله فإننا نكرر أن الأئمة رحمهم الله لا يلحقهم نقص ولا عيب فيما أخذ عليهم ; لأنهم رحمهم الله بذلوا وسعهم في تعلم ما جاء عن الله على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - ثم اجتهدوا بحسب طاقتهم ، فالمصيب منهم له أجر اجتهاده وإصابته ، والمخطئ منهم مأجور في اجتهاده معذور في خطئه ، ولا يسعنا هنا مناقشة الأدلة فيما أخذ عليهم رحمهم الله ، وإنما قصدنا مع الاعتراف بعظم منزلتهم أن نبين أن كتاب الله وسنة [ ص: 371 ] رسوله - صلى الله عليه وسلم - يجب تقديمهما على أقوالهم ، لأنهم غير معصومين من الخطأ ، وأن مذاهبهم المدونة لا يصح ولا يجوز الاستغناء بها عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأن على كل مسلم قادر على التعليم أن يتعلم الكتاب والسنة ، ومعرفة مذاهب الأئمة تعينه على ذلك ، والنظر فيما استدل به كل منهم يعينه على معرفة أرجح الأقوال وأقربها إلى رضا الله .
وكذلك الشافعي وأحمد رحمهما الله ، فإن كل واحد منهما لا يخلو من شيء قد أخذ عليه ، ومرادنا هنا التمثيل لذلك ، وأن الوحي مقدم على أقوالهم جميعا ، وليس قصدنا الإكثار من ذلك .
وهذه أمثلة بالمطلوب وكان الشيخ رحمه الله أرجأ إيرادها فنذكرها على ما هو ظاهر من المذهبين ونرجو أن تكون موافقة لما أراد . وبالله التوفيق .
فمما هو في مذهب أحمد رحمه الله صوم يوم الشك وهو يوم الثلاثين من الشعبان حينما يشك فيه هل هو تمام شعبان أو أول رمضان . وذلك حينما تكون السماء مغيمة خشية أن يظهر الهلال خلف الغيم أو القتر .
ولا يكون يوم شك إذا كانت السماء صحوا لأنه إذا رئي الهلال فهو من رمضان وإلا فهو من شعبان .
فمذهب أحمد هو صوم هذا اليوم المشكوك فيه احتياطا لرمضان ، وهو نص المعنى إلا أنه ذكر عن أحمد روايات أخر . ولكن صومه هو المقدم في المذهب . ولكنه مخالف لصريح النص في قوله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك : " من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم " - صلى الله عليه وسلم .
قال في بلوغ المرام : ذكره البخاري تعليقا ووصله ، قال في سبل السلام : واعلم أن يوم الشك هو يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال في ليلة بغيم ساتر ، أو نحوه فيجوز كونه من رمضان وكونه من شعبان ، والحديث وما في معناه يدل على تحريم صومه . ا هـ .
يعني بما في معناه قوله - صلى الله عليه وسلم : " صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " . متفق عليه ، ولمسلم " فإن غم عليكم فاقدروا له ثلاثين " وللبخاري : " فأكملوا العدة ثلاثين " .
وشبهة أحمد في قوله - صلى الله عليه وسلم : " فاقدروا له " بمعنى فضيقوا عليه كما في قوله [ ص: 372 ] تعالى : ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله [ 65 \ 7 ] ، ولكن هذا معارض للنص الصريح في معنى " فاقدروا له ثلاثين " وقوله : " فأكملوا العدة ثلاثين " أي سواء في شعبان أو في تمام رمضان عند الفطر ، ولم يقل بصومه من الأئمة إلا أحمد رحمه الله .
ومما هو عند الشافعي قوله بنقض الوضوء من مجرد لمس المرأة الأجنبية بدون حائل مع ما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث عائشة رضي الله عنها : " كنت أنام معترضة في القبلة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فإذا سجد غمزني في رجلي فأقبضها فإذا قام مددتها " .
وقد أجابوا عن ذلك باحتمال سترها بحائل فجاء قولها " افتقدت رسول الله ذات ليلة فقمت أطلبه والحجرات ليس فيه آنذاك السرج حتى وقعت كفي على بطن قدمه وهو ساجد يقول : سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، فقلت : والله إنك لفي واد وأنا في واد " .
فلما قام للركعة الثانية ظنته ذهب عند بعض نسائه فاغتسل ثم جاء يصلي عندها فقامت وأدخلت يدها في شعر رأسه تتحسس هل اغتسل أم لا . إلخ .
ولهم أجوبة على كل ذلك ولكنها لا تنهض مع هذه النصوص الصريحة .
وشبهة الشافعي في ذلك في معنى : لامستم النساء من قوله تعالى : أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا [ 4 \ 43 ] ، ولم يقل بنقض الوضوء به من الأئمة إلا الشافعي رحمه الله .
ومما ينبغي التنبيه عليه في هذا المقام أنه لا يتأتى من أحد أئمة المسلمين أن يخالف نصا صريحا من كتاب أو سنة ، بدون أن تكون لديه شبهة معارضة بنص آخر ، أو عدم بلوغ النص إليه ، أو عدم صحته عنده أو غير ذلك مما هو معروف في هذا المقام .
وإنما أوردنا هذين المثالين تتمة للبحث ولمجرد المثال .
التنبيه التاسع
اعلم أن كل من يرى أنه لا بد له من تقليد الإمام في كل شيء بدعوى أنه لا يقدر على الاستدلال بكتاب ولا سنة ، ولا قول أحد من الصحابة ولا التابعين ، ولا أحد غير ذلك الإمام [ ص: 373 ] يجب عليه أن يتنبه تنبها تاما للفرق بين أقوال ذلك الإمام التي خالها حقا ، وبين ما ألحق بعده على قواعد مذهبه ، وما زاده المتأخرون وقتا بعد وقت من أنواع الاستحسان التي لا أساس لها في كتاب الله ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم .
ولو علم الإمام بإلحاقهم بمذهبه ، لتبرأ منها ، وأنكر على ملحقها ، فنسبة جميع ذلك للإمام من الباطل الواضح .
ويزيده بطلانا نسبته إلى الله ورسوله ، بدعوى أنه شرع ذلك على لسان رسوله ، ونحو هذا كثير في المختصرات في المذاهب وكتب المتأخرين منهم .
ومن أمثلته في مذهب مالك قول خليل المالكي في مختصره الذي قال فيه مبينا لما به الفتوى : كأقل الطهر ، يعني أن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما .
والذين يعتقدون مذهب مالك يعتقدون أن مالكا يقول : بأن أقل الطهر بين الحيضتين خمسة عشر يوما ، وهذا لم يقله مالك أبدا ولم يفت به ولم يروه عنه أحد من أصحابه .
والذي كان يقوله مالك : أن أقل الطهر ثمانية أيام أو عشرة أيام ، وهو الذي نقله عنه أجلاء أهل مذهبه كأبي محمد بن أبي زيد في رسالته رحمه الله .
والقول بأن أقل الطهر خمسة عشر هو قول ابن مسلمة واعتمده صاحب التلقين ، وجعله ابن شاش المشهور ، أي مشهور مذهب مالك .
مع أن مالكا لم يقله ولم يعلم به ، وأمثال هذا كثيرة جدا في مذهب مالك وغيره .
ومثال استحسان المتأخرين ما لم يقله الإمام مما لا شك أنه لو بلغ الإمام لم يقبله قول الحطاب في شرحه لقول خليل في مختصره في الصوم : وعاشوراء وتاسوعاء - ما نصه : قال الشيخ زروق في شرح القرطبية : صيام المولد كرهه بعض من قرب عصره ممن صلح علمه وورعه .
قال : إنه من أعياد المسلمين فينبغي ألا يصام فيه ، وكان شيخنا أبو عبد الله القوري يذكر ذلك كثيرا ويستحسنه . انتهى .
قلت : لعله يعني ابن عباد . فقد قال في رسائله الكبرى ما نصه : وأما المولد فالذي يظهر لي أنه عيد من أعياد المسلمين وموسم من مواسمهم ، وكل ما يفعل فيه مما [ ص: 374 ] يقتضيه وجود الفرح والسرور بذلك المولد المبارك من إيقاد الشمع وإمتاع البصر والسمع والتزين بلبس فاخر الثياب وركوب فاره الدواب - أمر مباح لا ينكر على أحد قياسا على غيره من أوقات الفرح .
والحكم بكون هذه الأشياء بدعة في هذا الوقت الذي ظهر فيه سر الوجود وارتفع فيه علم الشهود وانقشع فيه ظلام الكفر والجحود ، وادعاء أن هذا الزمان ليس من المواسم المشروعة لأهل الإيمان ، ومقارنة ذلك بالنيروز والمهرجان - أمر مستثقل تشمئز منه القلوب السليمة وتدفعه الآراء المستقيمة .
ولقد كنت فيما خلا من الزمان خرجت في يوم مولد إلى ساحل البحر ، فاتفق أن وجدت هناك سيدي الحاج ابن عاشر رحمه الله وجماعة من أصحابه وقد أخرج بعضهم طعاما مختلفا ليأكلوه هنالك .
فلما قدموه لذلك أرادوا مني مشاركتهم في الأكل ، وكنت إذ ذاك صائما فقلت لهم : إني صائم ، فنظر إلي سيدي الحاج نظرة منكرة ، وقال لي ما معناه : إن هذا اليوم يوم فرح وسرور يستقبح في مثله الصيام بمنزلة العيد ، فتأملت كلامه فوجدته حقا ، وكأنني كنت نائما فأيقظني . انتهى بلفظه .
فهذا الكلام الذي يقتضي قبح صوم يوم المولد وجعله كيوم العيد من غير استناد إلى كتاب الله ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ولا قول أحد من أصحابه ولا من تابعيه .
ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة ولا من فقهاء الأمصار المعروفين الذي أدخله بعض المتأخرين في مذهب مالك ، ومالك بريء منه براءة الشمس من اللمس ، ولم يجر على أصول مذهبه ، لأن علة تحريم صوم يوم العيد والفطر عنده أن الله تعالى يكلف عباده في كل سنة عبادتين عظيمتين والأمر بهما عام لكل من يستطيعهما ، وإحداهما تجب في العمر مرة واحدة وهي الحج . والثانية تجب كل سنة في شهر رمضان منها ، وهي الصوم ، فإذا انتهت عبادة الحج أو عبادة الصوم ألزم الله الناس كلهم أن يكونوا في ضيافته يوم النحر ويوم عيد الفطر .
فمن صام في أحد اليومين أعرض عن ضيافة الله ، والإعراض عن ضيافته تعالى لا يجوز .
[ ص: 375 ] فإلحاق يوم المولد بيوم العيد إلحاق لا أساس له ، لأنه إلحاق ليس بجامع بينهما ولا نفي فارق ، ولا إلحاق البتة إلا بجامع أو نفي فارق .
وكل من لم يطمس الله بصيرته يعلم أن الحق الذي لا شك فيه هو اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه .
ومعلوم أن جعل يوم المولد كيوم العيد في منع الصوم لم يقله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه ولا أحد من الأئمة الأربعة ، فهو تشريع لاستقباح قربة الصوم ومنعها في يوم المولد من غير استناد إلى وحي ولا قياس صحيح ، ولا قول أحد ممن يقتدى به .
ومما لا نزاع فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسله الله رحمة للعالمين ، كما قال تعالى : وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين [ 21 \ 107 ] ، ورسالته - صلى الله عليه وسلم - هي أعظم نعمة على الخلق ، كما بينه علماء التفسير في الكلام على قوله تعالى : ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا [ 14 \ 28 ] ، والخير كل الخير في اتباعه صلوات الله وسلامه عليه ، والشر كل الشر في تشريع ما لم يشرعه ، والتقول عليه بما لم يقله .
فالمقلدون لمالك مثل هذا التقليد الأعمى يعتقدون أن هذا الكلام الذي ذكره الحطاب عن زروق وابن عباد وابن عاشر ، أنه هو مذهب مالك وأنه من شرع الله ودينه ، وأنه ما دام من مذهب مالك ، فاللازم تقديمه على الكتاب والسنة لأنهما لا يجوز العمل إلا للمجتهد المطلق .
وهذا مثال من بلايا التقليد الأعمى وعظائمه .
ولا يخفى أن ادعاء أن وجود نعم الله كمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على استقباح طاعة الله بالصوم في أوقات وجود تلك النعم - ظاهر الفساد ، لأن المناسب لنعم الله هو طاعته بأنواع الطاعات كالصوم .
ولذا تجد الناس ينذرون لله صوم اليوم الذي ينعم الله عليهم فيه بشفاء المريض أو إتيان الغائب ، وهذا أمر معروف وهو المعقول لا عكسه .
ومما يوضح هذا أن إنزال القرآن العظيم هو أعظم نعمة على البشر ; ولأجل ذلك علمهم الله حمده تعالى على هذه النعمة العظمى في أول سورة الكهف في قوله تعالى : [ ص: 376 ] الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب [ 18 \ 1 ] .
وقد بين تعالى أنه أنزل هذه النعمة في شهر رمضان ، فكان نزول هذه النعمة في شهر رمضان مقتضيا لصومه لا لجعل أيامه أعيادا يستقبح صومها ، لأن الله تعالى قال : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان [ 2 \ 185 ] .
وهذا هو أعظم النعم ، وقد رتب على هذا بالفاء قوله بعده : فمن شهد منكم الشهر فليصمه [ 2 \ 185 ] ، فافهم .
والمقصود بهذا المثال النصيحة للذين لم يقدروا على غير هذا التقليد الأعمى ليبحثوا في كتب المذهب وأمهاته عن أقوال الإمام وكبار أصحابه ليفرقوا بينها وبين أنواع الاستحسان التي لا مستند لها ، التي يدخلها المتأخرون وقتا بعد وقت وهي ظاهرة الفساد عند من رزقه الله علما بكتاب الله وسنة رسوله .
ومما لا شك فيه أن أقوال مالك وكبراء أصحابه مثلا أحرى بالصواب في الجملة من استحسان ابن عباد وابن عاشر وأمثالهما .
التنبيه العاشر
اعلم أن الدعوى التي اتفق عليها متأخرو الأصوليين التي تتضمن حكمهم على خالق السماوات والأرض - جل وعلا - لا يجوز لمسلم يريد الحق والإنصاف أن يعتقدها ، ولا أن يصدقهم فيها لظهور عدم صحتها ومخالفتها للنص ، والحكم فيها على الله بلا مستند ، وهو - جل وعلا - الذي يحكم لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب .
وهذه الدعوى المذكورة هي المتركبة مما يأتي ، وهو أن الاجتهاد قد انقرض في الدنيا وانسد بابه ، وأن الله تعالى محكوم عليه بأن لا يخلق مجتهدا ولا يعلم أحدا من خلقه علما يمكن أن يكون به مجتهدا إلى ظهور المهدي المنتظر .
وأنه لا يجوز لأحد أن يعمل بكتاب ولا سنة ولا أن يقلد أحدا كائنا من كان غير الأئمة الأربعة أصحاب المذاهب المدونة ، كما نص على هذه الدعوى حاكيا إجماعهم عليها صاحب مراقي السعود في قوله :
والمجمع اليوم عليه الأربعه وقفو غيرها الجميع منعه [ ص: 377 ] حتى يجيء الفاطم المجدد
دين الهدى لأنه مجتهد ومراده بالفاطمي المهدي المنتظر ; لأنه شريف .
وقوله : حتى يجيء ، حرف غاية ، والمغيا به منع تقليد أحد غير الأربعة المذكور في قوله : وقفو غيرها الجميع منعه .
وهذا صريح في أنهم حاكمون على الله القدير العليم ، بأنه لا يخلق مجتهدا قبل وجود المهدي المنتظر ، وهذا الذي قاله صاحب مراقي السعود هو المقرر في كتب المتأخرين من الأصوليين من أهل المذاهب المدونة .
وهذا الحكم على الله الذي كل يوم هو في شأن بأنه لا يخلق مجتهدا قبل المهدي من مدة انقراض الاجتهاد المزعوم هو يا أخي كما ترى .
ولا شك أنك إن لم يعمك التعصب المذهبي تقطع أنه لا مستند له ، وهذا الذي ذكره صاحب مراقي السعود قد صرح بما يناقضه في قوله قبله :
والأرض لا عن قائم مجتهد تخلو إلى تزلزل القواعد
وهذا النقيض الأخير هو الصحيح الموافق للحق ; لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد ثبت عنه في الصحيحين وغيرهما أنه قال : " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله " الحديث . وهو حديث مشهور متفق عليه لا نزاع في صحته .
ولا شك في أن هذه الطائفة التي صرح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنها لا تزال ظاهرة على الحق حتى يأتي أمر الله أنها طائفة على كتاب الله ، وسنة رسوله ، وليست البتة من المقلدين التقليد الأعمى .
لأن الحق هو ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسنة كما قال تعالى في سورة النساء : ياأيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم [ 4 \ 170 ] ، وقال في الأنعام : وكذب به قومك وهو الحق [ 6 \ 66 ] ، وقال في النمل : فتوكل على الله إنك على الحق المبين [ 27 \ 79 ] ، وقال في يونس : ياأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم [ 10 \ 108 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة .
فدعوى أن الأرض لم يبق فيها مجتهد البتة ، وأن ذلك مستمر إلى ظهور المهدي [ ص: 378 ] المنتظر مناقضة لهذا الحديث الثابت ثبوتا لا مطعن فيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم .
ومما لا نزاع فيه أن كل ما يناقض الحق فهو ضلال ، لأن الله - جل وعلا - يقول : فماذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون [ 10 \ 32 ] ، والعلم عند الله تعالى .
التنبيه الحادي عشر
اعلم يا أخي أن هذا الإعراض عن كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ، واعتقاد الاستغناء عنهما بالمذاهب المدونة الذي عم جل من في المعمورة من المسلمين من أعظم المآسي والمصائب ، والدواهي التي دهت المسلمين من مدة قرون عديدة .
ولا شك أن النتائج الوخيمة الناشئة عن الإعراض عن الكتاب والسنة من جملتها ما عليه المسلمون في واقعهم الآن من تحكيم القوانين الوضعية المنافي لأصل الإسلام ; لأن الكفار إنما احتاجوهم بفصلهم عن دينهم بالغزو الفكري عن طرق الثقافة وإدخال الشبه والشكوك في دين الإسلام .
ولو كان المسلمون يتعلمون كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - ويعملون بما فيهما لكان ذلك حصنا منيعا لهم من تأثير الغزو الفكري في عقائدهم ودينهم .
ولكن لما تركوا الوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال لم تقم لهم أقوال الرجال ومذاهب الأئمة رحمهم الله مقام كلام الله والاعتصام بالقرآن ، وكلام النبي - صلى الله عليه وسلم - والتحصن بسنته .
ولذلك وجد الغزو الفكري طريقا إلى قلوب الناشئة من المسلمين ، ولو كان سلاحهم المضاد القرآن والسنة لم يجد إليهم سبيلا .
ولا شك أن كل منصف يعلم أن كلام الناس ، ولو بلغوا ما بلغوا من العلم والفضل - لا يمكن أن يقوم مقام كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم .
وبالجملة فمما لا شك فيه أن هذا الغزو الفكري الذي قضى على كيان المسلمين ، ووحدتهم وفصلهم عن دينهم ، لو صادفهم وهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله لرجع مدحورا في غاية الفشل لوضوح أدلة الكتاب والسنة ، وكون الغزو الفكري المذكور لم يستند إلا على الباطل والتمويه كما هو معلوم .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|