الفقه على المذاهب الأربعة
المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
الجزء الخامس
[كتاب القصاص]
صـــــ 179 الى صـــــــــ203
الحلقة (284)
القسم الثالث
باب التعزير
- أما التعزير فهو التأديب بما يراه الحاكم زاجرا لمن يفعل فعلا محرما عن العودة إلى هذا الفعل فكل من أتى فعلا محرما لا حد فيه ولا قصاص ولا كفارة فإن على الحاكم أن يعزره بما يراه زاجرا له عن العودة من ضرب أو سجن أو توتبيخ
وقد اشترط بعض الأئمة أن لا يزيد التعزير بالضرب على ثلاثين سوطا وقال بعضهم وهم المالكية : إن للإمام أن يضربه بما يراه زاجرا ولو زاد عن مائة بشرط أن لا يفضي ضربه إلى الموت ( 1 )
وبعضهم وهم الحنابلة - قالوا : إنه لا يزيد في الضرب عن عشرة أسواط . ولكن أبن القيم الحنبلي لم يوافق على هذا فقد ذكر ( في أعلام الموقعين ) أن التعزير بالضرب قد وصل إلى مائة سوط عند الحنابلة كما إذا وطئ شخص جارية امرأته بإذنها - فإنه يعزر بضرب مائة . وقال : إن عمر بن الخطاب زاد في حد شرب الخمر أربعين فأوصله إلى ثمانين ولا يعقل أن تكون هذه الزيادة من أصل الحد الي ورد عن رسول الله صلى الله عليه و سلم وهو أربعون
على أنك قد عرفت أن بعض العلماء يقول : إن عقوبة الشرب كلها من باب التعزير لا من باب الحد
وظاهر عبارة أبن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) تفيد أن للحاكم أن يعزر بما يشاء من سجن أو ضربن كما هو رأي المالكية فكل عقوبة تناسب حال البيئة وتخيف المجرمين يجب أن تنفذ
على أن الحنفية الذين قالوا : إنه لا يجوز للحاكم أن يزيد في التعذير بالضرب على ثلاثين سوطا وقالوا : إن للحاكم أن يعزر بالقتل فإن عقوبة اللواكة عندهم من باب التعزير ومع ذلك فإنهم يقولون : إذا تكررت هذه الفاحشة من شخص فإنه يعزر بالإعدام . إذ لا يليق أن يوجد بين النوع الإنساني من تنقلب طبيعته إلى هذا الحد ولا يخفى ما في هذا من سلطة واسعة يتصرف فيها الحاكم بما يرى فيه المصلحة
------------------------------------
( 1 ) ( تعريفه : التعزير مصدر عزر من العزر وهو الرد والمنع ومنه قوله تعالى : { وتعزروه } أي تدفعوا العدو عنه وتمنعوه وفي الشرع تأديب على ذنب لا حد فيه ولا كفارة وهو مخالف للحدود من ثلاثة أوجه
الأول : أنه يختلف باختلاف الناس فتعزير ذوي الهيئات أخف من تعزير عامة الناس مع انهم يستوون في الحدود مع الناس لا فرق بين عربي وقرشين فالكل امام الحدود سواء
الثاني : أنه تجوز فيه الشفاعة والعفو ولو بعد وصوله إلى الحاكمن بخلاف الحدود فإنه لا تجوز فيها الشفاعةز إذا ما وصل الأمر إلى الحاكم
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا : إن التالف بالتعزير غير مضمون مثل الحدود لأنه مأمور
الشافعية - قالوا : إن التالف بالتعزير مضمون بخلاف الحدود فإنها غير مضمونة
قال العلماء : والتأديب للأولاد أو للزوجة عندهم تعزيرا لدفعه ورده عن فعل القبائح ويكون التعذير بالقول والتأنيب ويكون بالضرب والحبس ويكون بالغرامة المالية حسب ما يقتضيه حال الفاعل وما يراه الحاكم من المصلحة للجاني ا ه
حكمه في الشريعة
الحنفية والمالكية - قالوا : إن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجبا وإن غلب على ظن الحاكم أن الجاني لا يصلحه إلا الضرب أصبح واجبا وإن غلب على ظنه إصلاحه بغيره لم يجب . تعظيما لحضرة الله تعالى إن يعصي العبد ربه فيها وهو ينظر إليه سبحانه فكان الضرب المؤلم له واجبا ليتنبه لقبح فعله في المستقبل ويصير يتذكر الألم الذي حصل له في الماضي فيستغفر ربه منه
الشافعية - قالوا : لا يجب التعزير على الحاكم لأنه لا يحصل به كبير زجرن ولا ردع عن المعاصي المستقبلة إن كانت معلقة على حصول الألم الواقع لذلك العبد
الحنابلة - قالوا : إن استحق بفعله التعزير كان واجبا وإن لم يستحق فلا يجب
ضرب الأب ولده تأديبا
المالكية والحنابلة - قالوا : إن الأب إذا ضرب الصبي للتعليم فمات الولد أو الصبي من أثر الضرب فلا ضمان عليه لأن الأب والمعلم لا يضربان للإصلاح والتأديب
الحنفية والشافعية - قالوا : إن الاب إذا ضرب ابنه فمات يجب عليه الدية في ماله ولا يرث منها وكذل المعلم لحفظ القرآن والكتابة أو الصنعة إذا ضرب الصبي لاجل التعليم فمات من الضرب وجب عليه الضمان وذلك حتى يتحفظ الأب في ضربه لولده فإنه ربما قامت نفسه من ولده فضربه لا لمصلحة كالأجينب فوجب الضمان احتياطا
ضرب الحاكم للتعزير
الحنفية والمالكية والحنابلة - قالوا : إن الإمام إذا ضرب رجلا للتعزير فمات بسبب الضرب فلا يجب عليه الضمان لأن منصب الإمام يجل عن أن يعزر احدا بغير المصلحة بخلاف غير الإمام فإنه قد يعزر غيره وعنده شائبة تشف منه لعداوة سابقة مثلا وما سمعنا أن حاكما قتل بقتله احدا في تعزير ولا غرم دية
الشافعية - قالوا : إن الإمام لو عزر رجلا فمات بسببه وجب عليه الضمان لأن الشرع لا محاباة فيه لاحد من الناس فالإمام الأعظم كآحاد الناس في تطبيق أحكام الشربعة عليه
قالوا : والتعزير مشروع سواء أكان الذنب حقا لله تعالى أم لآدمي وسواء أكان من مقدمات ما فيه حد كمباشرة أجنبية في غير الفرج وسرقة ما لا قطع فيه والسبب بما لا قذف فيه أن لا . كجناية التزوير في الأوراق الرسمية واختلاس الأموال وشهادة الزور )
جواب وسؤال
- فإن قلت : كيف يصل التعزير إلى هذا القدر من العقوبة مع أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله ) ؟
فإن ظاهر هذا الحديث يدل على أن عقوبة غير الحد لا يجوز أن تزيد على عشرة أسواط كما يقول الحنابلة ( 1 )
وقد أجاب أبن القيم نفسه عن هذا : بأن الحدود التي تطلق على العقوبات تطلق أيضا على نفس الجناية والمعصية كما ذكرناه في بحوثنا السابقة
والمراد بها في الحديث المعصية لا العقوبة فمعنى الحديث لا تجوز العقوبة بالضرب زيادة على عشرة أسواط إلا في الجنايات أن يختلي بامرأة محرمة أو يشهد زورا أو يغش شخصا أو يخدعه أو يحتال عليه أو يقامر أو يبذر ماله فيما يؤذي الناس . أو يسعى بالنميمة بين الناس . أو يطفف الكيل والميزان أو يصرف وقته في الملاهي أو غير ذلك مما لا يمكن حصره هنا . فكل جناية لم يضع لها الشارع حدا ولاكفارة فإن للحاكم فإن يعاقب عليها بالسجنن أو الضرب بحسب ما يراه زاجرا للمجرم
أما غير الجنايات من المخالفات كمخالفة الابن لأبيه ونحو ذلك مما يقع من اصبيان فإنه يصح التأديب عليها باضرب بشرط أن لا يزيد عن عشرة أسواط
فهذا هو معنى الحديث . وهو حسن
وبالجملة فإن التعزير باب واسع يمكن للحاكم أن يقضي به على كل الجرائم التي لم يضع الشارع لها حدا أو كفارة على أن يضع العقوبة المناسبة لكل بيئة ولكل جريمة من سجن أو ضرب أو نفي أو توبيخ أو غير ذلك ( 2 )
وأجاز بعض الحنفية التعزير بالمال على أنه إذا تاب يرد له فإذا استثنينا من العقوبات حد السرقة وحد القذف واستثنينا القصاص وبعض الأشياء التي جعل الشارع لها كفارة كالحلف بأقسامه واتيان الزوجة وهي حائض فإن عقوبات الجرائم الخلقية والمالية وسائر المعاصي منوط بتقدير الحاكم واجتهاده فعليه أن يضع جميع العقوبات التي تقضي على الرذائل وتزجر المجرمين
----------------------------------------------
( 1 ) ( الحنفية والشافعية والحنابلة رحمهم الله - قالوا : لا يجوز أن يبلغ بالتعزير أعلى الحدود لأن الإمام ونائبه إنما يحكمان على وفق الشريعة الغراء وليس لهما أن يزيدا على ما قدرته الشريعة ذرة واحدة
المالكية قالوا : إن التعزير راجع إلى رأي الإمام فإن أن يزيد على الحدود فعل لاجل المصلحة لأن الشارع أمن الإمام الأعظم على أمته من بنعده وأمر الأمة بالسمع والطاعة في كل ما لا معصية فيه لله عزوجل بل ضرب بعض العتاة والفسقة الحد المقدر بما لا يردعه فجاز للإمام الزيادة بالاجتهاد مصلحة ذلك المعزر
الحنفية والشافعية قالوا : إن التعزير لا يختلف أسبابه كأن يزاج في التعزير حتى يبلغ أجنى الحدود ولو في الجملة وأدناها عند أبي حنيفة أربعون في الخمر وعند الشافعيةن والحنابلة عشرون فيكون أكثر التعزير عند الحنفية تسعة وثلاثون وعد الشافعية والحنابلة تسعة عشر
المالكية قالوا : يجوز للإمام الأعظم أن يضرب في التعزير أي عدد أدى إليه اجتهاده ولو زاد عن الحد
الحنابلة قالوا : إن التعزير يختلف باختلاف أسبابه فإن كان بالوطء في الفرج شبهة كوطء الشريك . أو بالوطء فيما دون الفرج فإنه يزاد على أدنى الحدود ولا يبلغ فيه أعلاها فيضرب مائة إلا سوطا وإن كان بغير الفرج كقبلة فإنه لا يبلغ في أدنى الحد اه )
( 2 ) ( لقد أجاز الإسلام التعزير بكل أنواعه للحاكم فقط وليس له أن يفوضه إلى مستحقه ولا إلى غيره ولم يجز الشرع التعزير لغير الإمام إلا لثلاثة فقط
الأول . الأب : فإنه يجوز له أن يعزر ولده الغير للتعليم والتربية والتأديب والزجر عن ارتكاب الأمور المشينة وعن فعل سيء الأخلاق والظاهر أن الأم تلحق بالأب فيما إذا كان في زمن الصبا في كفالتها للصبي أو البنت فيجوز لها التعزير وكذلك يجوز الأمر بالصلاة والضرب عليها ولا يجوز للأب تعزير الابن البالغ وإن كان فعل شيئا سفيها لأنه لا ينفع فيه الضرب بعد الكبر
الثاني السيدك لقد أباح له الشرع أن ينبه رقيقه في حق نفسه وفي حق الله تعالى وفي تأديبه
الثالث الزوج : فلقد أجاز الشرع له تزير زوجته في أمر النشوز والخروج عن أمره وفي عدم طاعته كما صرح به القرآن الكريم فقال تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } آية 34 من النساء وهل له ضربها على ترك الصلاة وعمل الصالحات الظاهر أن له ذلك إن لم يكف الزجر والتأنيب لأنه من باب إنكار المنكر والزوج من جملة من يكلف بنهي زوجته عن فعل القبيح وقد ينتفي التعزير مع انتفاء الحدود والكفارة كما في قطع شخص أطراف نفسه وقد يجتمع التعزير مع الحد كما في تكرر الردة وقد يجتمع مع الكفارة كما في قطع شخص أطراف نفسه وقد يجتمع العزير مع الحد كما في تكرر الردة وقد يجتمع مع الكفارة كما في الظهار واليمين الغموس وإفساد الصائم يوما من رمضان بجماع حليلته وغير ذلك
واتفق الأئمة على حد الزنا والسرق' وشرب المسكر والحرابة والقذف بالزنا والقتل والقصاص في النفس والأطراف والقتل في الارتداد واختلف في تسمية الخيرين حدا . واختلف في أشياء كثيرة يستحق مرتكبها العقوبة هل تسمى عقوبته حدا أم لا ؟ ومنها جحد العارية واللواط وإتيان البهيمة وتحميل المرأة الفحل من البهائم عليها والسحاق و أكل الدم وأكل الميتة في حال الاختيار وأكل لحم الخنزير والاشتغال بالسحر والقذف بشرب الخمر وترك الصلاة كسلا والفطر متعمدا في شهر رمضان والتعريض بالزنا ومنع الزكاة والخلوة بالمرأة الأجنبية والاستمتاع بها من غير زنا والاستمتاع بالأمرد من غير لواط به ونحو ذلك اه
--------------------------------
كيفية إقامة الحد
الحنفية والشافعية قالوا : إنه يضرب في حد التعزير قائما لأنه أبلغ في الزجر وآلم للجاني
الحنفية والشافعية قالوا : إنه لا يجر من ثيابه في حد القذف خاصة ويجرد فيما عداه
المالكية قالوا : يجب تجريده من ثيابه في الحدود كلها إلا ما يستر عورة زيادة في زجره
الحنابلة قالوا : لا يجرد من ثيابه في الحدود كلها بل يجرد من الجلد والفرو والحشو خاصة . ويضرب فيما لا يمنع ألم الضرب كالقميص والقميصين ونحو ذلك لأن الألم يحصل مع وجوده
الحنفية والحناللة قالوا : إنه يجب أن يفرق الضرب على جميع البدن إلا الوجه والفرج والرأس
الشافعية - قالوا : لا يضرب الفرج والوجه والخاصرة وسائر المواضع المخوفة حتى لا يفضي إلى الموت
المالكية قالوا : يجوز ضرب الظهر وما قاربه ولا يجب أن يفرق الضرب على جميع الأعضاء زيادة في الألم اه )
مبحث دقة التشريع الإسلامي
- وفي هذا من دقة التشريع الإسلامي وجماله ما يدل على أنه من لدن عليم خبير فإن مما لا ريب فيه أن أحوال الناس تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة فالعقوبة التي تناسب جماعة لهم حالة خاصة لا تناسب جماعة أخرى تخالفها في عاداتها وأطوارها فلا يمكن وضع عقوبة منضبطة يمكن تطبيقها على سائر الناس فالله العليم بأحوال عباده الخبير بما تقبضيه طبائعهم ناط أم تقدير العقوبات بأولي الأمر ثم كلفهم السهر على مصالح رعاياهم والاستمساك بكل الوسائل المفضية إلى تربيتهم تربية صالحة والقيام بتأديب المجرمين بالعقوبات المناسبة كي يعيش الناس في أمن ودعة وراحة واطمئنان
سؤال وجوابه
- وها هنا سؤال ظاهر - وهو أن عقوبة التعزير لم ينص عليها في الشريعة الإسلامية بخصوصها فهل عمل الحاكم في هذا الباب يقال له : حكم شرعي أو وضعي ؟
وهذا هو السؤال الأخير فإليك الجواب
والجواب : أنه لا يخرج حكم من الأحكام عن نصوص الشريعة الإسلامية . ما دامت السموات والأرض وليس معنى هذا أن كل حادثة منصوص عليها بخصوصها فإن هذا مما لا معنى له لأن الحوادث تتجدد بتجدد الزمان والمكان ولكن الغرض أن كل حادثة من الحوادث المتجددة لا بد أن تدخل تحت قاعدة كلية من قواعد الشريعة الإسلامية ( 1 )
--------------------------------------------
( 1 ) ( فما من حادثة تحدث في المجتمع إلا ويجد الحاكم لها حكما في الشرع تحت قادعة من قواعد الشريعة الإسلامية خصوصا حد التعزير الذي أعطى للحاكم سلطة سن العقاب الزاجر الذي يراه مناسبا للمجرم المنحرف . فقد روي أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رأى في طرقات المجينة رجلا يتبختر في مشيته ولمه فيه مظاهر العبث والاستهتار التي لا تليق بالرجال الكمل فزجره وأمره بترك مسلكه هذا فتعلل بالرجل بأن هذا في طبيعته ولا يطيق تركه فأمر سيدنا عمر بجلده وبعد ايام رآه سيدنا عمر على حاله من العبث والتخنث فأمر بجلده مرة أخرى ولم مض وقت طويل حتى جار الرجل وقد استقامت مشيته واعتدل مسلكه وقال : جزال الله خيرا يا أمير المؤمنين لقد كان الشيطان يلازمني فأذهبه الله عني بعقوبتك
وروي أيضا أنه رأى امرأة في زي غير لائق ينم عن لريبة فسأل عنها فرف أنها إحدى الجواري فنهرها وضربها بدرته وحذرها من أن يراها متبذلة مرة أخرى فلم ترى بعد ذلك إلا متحشمة . وحدث أن سيدنا عمر رضي الله عنه مر يوما بسوق المدينة فرأى رجلا أمه ( إياس بن مسلمة ) يعترض طريق المسلمين ويرفع صوته صاخبا عليهم ببضاعنه وهو يسد عليهم مسالكهم فعلاه بدرته فاستجاب الرجل وامتثل أمر أمير المؤمنين واستقام حاله
فهذه قضايا لا حدود لها في الإسلام ولكن الحاكم تصرف فيها من باب التعزير الذي شرعه الله تعالى له )
------------------------------------------
مبحث دليل ثبوته
- فالتعزير قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه و سلم ويكفي في ذلك الحديث الذي ذكرناه آنفا وهو : " لا يضرب فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله " متفق عليه فإنه نص على أن للحاكم إن يعزر بالضرب في الأمور التأديبية وفي الأمور الجنائية حسبما يراه زاجرا إلا أنه لا يزيد في غير الجنايات على عشرة أسواطا كما بينا وقد عزر كبار الصاحبة صلى الله عليه و سلم من بعده بالضرب والسجن والقتل فقد ثبت أن عمر رضي الله عنه جمع كبار علماء الصحابة رضوان الله عليهم واستشارهم في عقوبة اللائط فأفتوا بإعامه حرقا وهذا من أشد ما يتصور في باب التعزير وثبت أن عليا وجد رجلا مع امرأة يستمتع بها بغير جماع فجلده مائة سوط ( 1 )
ولا خلاف أن للإمام عن سيجن الجاني بما يراه زاجرا له ولا معنى لهذا كله إلا أن لإمام المسلمين أو من ينوب عنه الحق في التعزير بحسب ما يراه زاجرا للمجرمين بل يجب عليه أن ييضع العقوبات المناسبة التي يترتب عليها تاديب رعيته وإصلاح حالهم لأن كل راع مسؤول عن رعيته بنص حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم فكل عقوبة من العقوبات التي يراها الحاكم زاجرة توصف بما توصف به الأحكام الشرعية بلا نزاع
وبعد فإن الذي يطلغ على الشريعة الإسلامية ويمعن النظر فيها ويقف على حكمها وأسرارها ويتأمل في نظمها وقواعدها لا يسعه إلا أن ينحني أمام عظمتها ويجزم بأنها من لدن حكيم عليم فلقد جاءت بكل قانون فيه مصلحة الجميع وسعادتهم وبنت كل أحكامها بما فيه مصلحة النوع الإنسانين وذفع المفاسد عنهم في كل شأن من شؤونهم فلم تترك مصلحة حقيقة من مصالح الأمم والشعوب إلا إذا حثت عليها وأمرت بها ولم تترك مفسدة من المفاسد الخلقية أو المادية إلا نهت عنها وحذرت الناس من شرها
نظام الأسرة في الإسلام
- لقد وضعت الشربعة نظام الأسرة التي هي أساس بناء العمران على قواعد ثابتة لا يعتريها وهن مدى الدهور والأعوام فقد جعلت لكل فرد من أفراجها حقا يناسبه ويليق به : من تعظيم ونفقة وميراث ووصية وغير ذلك
فأمر الأبناء أن يطيعوا آباءهم في غير معصية أو إثم وامرت الآباء أن يربوا أبناءهم تربية حسنة كما قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " الزموا أبناءكم وعلموهم الأدب "
ثم جعلت لكل من الآباء والأبناء حقوقا في الميراث تناسب حالهم وكذلك جعلت للأزواج حقوقا تناسب كل واحد من الزوجين بحسب العرف والعادة . قال تعالى : { ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف } آية [ 228 من سورة البقرة ]
وجعلت للإخوة والأخوات حقوقا على بعضهم بعضا وحثت بعد ذلك على صلة الأرحام وبرهم . وجعلت لهم حقوقا تليق بهم ثم من بعدهم الجيران ثم أهل البلدة ثم بينت حقوق الحاكم والمحكوم خير بيان
وقد ذكرنا سابقا أنها قضت الوطر من قوانين المعاملات والأخلاق
مبحث أساس القوانين الشرعية
- وبالجملة فالشريعة الإسلامية لم تترك شيئا إلا وضعت له قانونا أساسه المصلحة المادية والأدبية وقوامها الفضائل الإنسانية حتى العادات فقد علمت الناس كيف يأكلون ويشربون وكيف يعامل بعضهم بعضا في الحديث والمجلس والزيارة والصحبة . وكل ما يتعلق بشؤون الفرد وحده أو مع غيره قريبا كان أو بعيدا ولم تقف قضية من قضاياها في وجه الإصلاح الذي يتجدد بتجدد الزمان والمكان
ومن هذا نعلم أن كل شيء يحث لا بد أن يرجع إلى أصل عام في الشريعة الإسلامية وقد ألهم الله رسوله صلى الله عليه و سلم أن يأتي بقواعد عامة جامعة يمكن إدخال كل جزئية من جزيئات الحوادث تحتها
وقد ذكر أبن القيم في كتابه ( أعلام الموقعين ) كثيرا منها يضيق المقام عن ذكر جميعها ومنه قوله صلى الله عليه و سلم : ( كل مسكر حرام ) ( وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد ) ( وكل قرض جر نفعا فهو ربا ) وقوله : ( كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ) وقوله : ( كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه ) وقول صلى الله عليه و سلم ( كل أحد أحق بماله من ولده ووالده والناس أجمعين ) وقوله ( وكل معروف صدقة ) الخ
فهذه وأمثالها كليات تدخل تحتها كل جزئية تتجدد من نوعها فإذا فرض ووجدت جزئية ولم يتيسر لعالم أن يرجعها إلى أصل من أمثال هذه الصول فانهيمكنه أن يرجعها إلى قوله صلى الله عليه و سلم : ( لا ضرر ولا ضرار ) والضرار هو الضرر ومعناه إنه ينبغي لكل مسلم أن يرفع ضرره عن غيره
ويجب على كل رئيس قادر سواء كان حاكما أو غيره أن يرفع الضرر عن مؤوسيه فلا يؤذيهم هو ولا يسمح لأحد أن يؤذيهم
ومما لا شك فيه ان ترك الناس بدون قانون يرفع عنهم الأذى والضرر يخالف هذا الحديث فكل حكم صالح فيه منفعة ورفع ضرر يقره الشرع ويرتضيه
( 1 ) ( وكذلك في حالة نشوز المرأة وفي حالة منع الزوج من حقه مع القدرة لقوله تعالى : { واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن } الآية 34 من سورة النساء
فقد أباح الشارع الضرب عند المخالفة فكان فيه تنبيه من الشارع الحكيم إلى التعزير وكذلك قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه في الحديث الشريف في سرقة التمر : ( إذا كان دون نصاب غرم مثله وجلدات نكال ) رواه أو داود واللفظ له ورواه النسائي
وروى الإمام البيهقي رحمه الله تعالى فيه صحيحه ( أن الإمام عليا كرم الله وجهه وbه سئل عمن قال لرجل : يا فاسق يا خبيث فقال : يعزر )
وما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال : ( لا يجلد فوق عشرة اسواط إلا في حد من حدود الله تعالى )
متفق عليه كما روي عن بريدة النصار رضي الله تعالى عنه وقد فعله النبي صلى الله عليه و سلم وفعله الصحابة رضوان الله عليهم من بعده من غير نكير منهم وأجمعت عليه المة وروي إن الإمام علي كرم الله وجهه جلد من وجده مع إمراة يتمتع بها بغير زنى ( مائة سوط إلا سوطين ) وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أنه ضرب من نقش على خاتمع مائة سوط وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه فهو ثابت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة
الحنفية قالوا : إن ضرب التعزير يكون أشد من ضرب حد الزنا وضرب حد الزنا يكون أشد من ضرب حد شارب الخمر وضرب شارب الخمر يكون اشد من حد القذف وحد القذف أخف من جميع الحدود لأن جريمة حد القذف غير متيقن بها لأن القذف خبر يحتمل الصدق والكذب وقد يعجز عن إقامة أربعة من الشهداء مع صدقة في قوله وإنما كان ضرب التعزير أشد من جميع الحدود لأن المقصود به الزجر وقد دخله التخفيف من حيث نقصان العدد فلو قلنا : يخفف الضرب أيضا لفات ما هو المقصود من إقامة الحد لأن الألم يخلص إليه لا ينزجر ولهذا قالوا : يجرد في التعزير عن ثيابه إلا ما يستر عورته مثل الإزار الواحد
المالكية قالوا : إن الضرب لا يتفاوت في الحدود بل كلها سواء
الشافعية - قالوا : إن حد الزنا الزنا أشد من حد القذف والقذف اشد من الخمر لأن الزنا ثبت بدليل مقطوع به اه
فائدة
ذكر العلماء أنه يستثنى من إقامة التعزير مسائل ( اولا ) يترك التعزير إذا صدر الفعل من رجل صالح فإنه يعفو عنه . لقوله صلى الله عليه و سلم : ( أقيلوا من ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود ) رواه أو داود
الشافعية - قالوا : المراد بذوي الهيئات الذين لا يعرفون بالشر فيقع أحدهم في زلة ثم يتوب منها ويندم عليها أما إذا تكرر منه فإنه يعزر
ثانيا : إذا قطع شخص أطراف نفسه أو شوه جسده أو أحرقه بالنار فلا يعزر لأنه عذب نفسه
ثالثا : إذا وطئ الرجل زوجته أو أمته في دبرها فلا يعزر بأول مرة بل ينهى عن العودة فإن عاد عزر والأصل لا يعزر لحق الفروع كالأب والجد مع الأبناء
رابعا : إذا رأى من يزني بزوجته وهو محصن فقتله في تلك الحالة فلا يعزر وإن افتات على الإمام لأجل الحمية والغيرة على العرض وقد حث عليه الشارع
خامسا : إن ارتد ثم أسلم
سادسا : إذا تأخر الرجل عن اعطاء زوجته النفقة فإنه يكون آثماص ولا يعزر في ذلك
سابعا : إذا حلف الزوج يمين الظهار على زوجته فإنه يعزر مع الكفارةن وإذا أفسد الزوج الصائم يوما من رمضان بجماع زوجته يعزر
يتبع