عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-03-2023, 09:39 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,040
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حكاية المناظرة في القرآن مع بعض أهل البدعة لابن قدامة


إِذْ يتَصَوَّر فِيهَا أَن يضيع الْحق عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ويجده الْأَشْعَرِيّ ويغفل عَنهُ كل الْأمة وينتبه لَهُ دونهم، وَإِن سَاغَ لَهُم هَذَا سَاغَ لسَائِر الْكفَّار نسبتهم لنبينا عَلَيْهِ السَّلَام أامته إِلَى أَنهم ضَاعُوا عَن الصَّوَاب وأضلوا عَن الطَّرِيق، وَيَنْبَغِي أن تكون شريعتهم غير شَرِيعَة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَدينهمْ غير دين الْإِسْلَام لِأَن دين الْإِسْلَام هُوَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا إِنَّمَا جَاءَ بِهِ الْأَشْعَرِيّ، وَإِن رَضوا هَذَا واعترفوا بِهِ خَرجُوا عَن الْإِسْلَام بِالْكُلِّيَّةِ .
فَإِن قَالُوا: فَكيف قُلْتُمْ إِن الْقُرْآن حُرُوف وَلم يرد فِي كتاب وَلَا سنة وَلَا عَن أحد من الْأَئِمَّة.
قُلْنَا: قد ثَبت أن الْقُرْآن هُوَ هَذِه السُّور والآيات وَلَا خلاف بَين الْعُقَلَاء كلهم مسلمهم وكافرهم فِي أَنَّهَا حُرُوف وَلَا يخْتَلف عاقلان فِي أَن {الْحَمد} خَمْسَة أحرف، وَاتفقَ الْمُسلمُونَ كلهم فِي أَن سُورَة الْفَاتِحَة سبع آيَات، وَاخْتلفُوا فِي أَن {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} هَل هِيَ آيَة مِنْهَا أم لَا، وَاتَّفَقُوا كلهم على أَنَّهَا كَلِمَات وحروف، وَقد افْتتح الله تَعَالَى كثيرا من سور الْقُرْآن بالحروف الْمُقطعَة مثل {الم} و {الر}، وَلَا يجْحَد عَاقل كَونهَا حروفا إِلَّا على سَبِيل المكابرة وَهَذَا أَمر غير خَافَ على أحد فَلَا حَاجَة إِلَى الدَّلِيل عَلَيْهِ.
فَإِن قَالُوا: لَا يسوغ لكم أَن تَقولُوا لَفْظَة لم ترد فِي كتاب وَلَا سنة وَإِن كَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحا ثَابتا.
قُلْنَا: هَذَا خطأ، فَإِنَّهُ لَا خلاف فِي أَنه يجوز أَن يُقَال إِن الْقُرْآن مائَة واربع عشرَة سُورَة، وَإِن سُورَة الْبَقَرَة مِائَتَان وست وَثَمَانُونَ آيَة، وَفِي عد آى سور الْقُرْآن وأحزابه وأسباعه وأعشاره وَلم يرد لفظ فِي ذَلِك فِي كتاب وَلَا سنة على أن لفظ الْحَرْف قد جَاءَت بِهِ السّنة وأقوال الصَّحَابَة وَإِجْمَاع الْأمة.
فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَرَأَ الْقُرْآن وأعربه فَلهُ بِكُل حرف مِنْهُ عشر حَسَنَات وَمن قَرَأَهُ ولحن فِيهِ فَلهُ بِكُل حرف مِنْهُ حَسَنَة) وَهَذَا حَدِيث صَحِيح.
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اقرأوا الْقُرْآن قبل أَن يَأْتِي قوم يُقِيمُونَ حُرُوفه إِقَامَة السهْم لَا يُجَاوز تراقيهم)
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (أنزل الْقُرْآن على سَبْعَة أحرف)
وَقَالَ أَبُو بكر وَعمر رَضِي الله عَنْهُمَا: (إِعْرَاب الْقُرْآن أحب إِلَيْنَا من حفظ بعض حُرُوفه)
وَقَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ: (من كفر بِحرف من الْقُرْآن فقد كفر بِهِ كُله)
وَقَالَ أيضا: (تعلمُوا الْبَقَرَة فَإِن بِكُل حرف مِنْهَا حَسَنَة والحسنة بِعشْرَة أَمْثَالهَا)
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ: (من حلف بِالْقُرْآنِ فَعَلَيهِ بِكُل حرف كَفَّارَة)
وَقَالَ ابْن عمر: (إِذا خرج أحدكُم لِحَاجَتِهِ ثمَّ رَجَعَ إِلَى أَهله فليأت الْمُصحف فيفتحه فيقرأ سُورَة، فَإِن الله يكْتب لَهُ بِكُل حرف عشر حَسَنَات، أما إِنِّي لَا أَقُول {الم} وَلَكِن الْألف عشر وَاللَّام عشر وَالْمِيم عشر)
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: (قراء الْقُرْآن ثَلَاثَة فقوم حفظوا حُرُوفه وضيعوا حُدُوده)
وَقَالَ حُذَيْفَة وفضاله بن عبيج: (خُذ عَليّ الْمُصحف وَلَا تردن عَليّ ألفا وَلَا واوا)
وَذكر أَبُو عبيد وَغَيره من الْأَئِمَّة فِي تصانيفهم: (بَاب اخْتلَافهمْ فِي حُرُوف الْقُرْآن)
وَاتفقَ أهل الْأَمْصَار من أهل الْحجاز وَالْعراق وَالشَّام على عدد حُرُوف الْقُرْآن فَعَدهَا كل أهل مصر وَقَالُوا عَددهَا كَذَا وَكَذَا.
وَقَالَ الْمسيب بن وَاضح: قلت ليوسف بن أسباط: حَدثنِي أبو عمر الصَّنْعَانِيّ حَفْص بن ميسرَة، قَالَ: الْقُرْآن ألفا ألف حرف واربعة وَعِشْرُونَ الف حرف، فَمن قَرَأَ الْقُرْآن أعطي بِكُل حرف زَوْجَة من الْحور الْعين، فَقَالَ لي يُوسُف بن أَسْبَاط وَمَا يُعْجِبك من ذَلِك، حَدثنِي مُحَمَّد بن أبان الْعجلِيّ عَن عبد الأعلى عَن إِبْرَاهِيم التَّيْمِيّ عَن أَبِيه عَن عبد الله بن مَسْعُود قَالَ: من قَرَأَ الْقُرْآن أعطي بِكُل حرف زَوْجَتَيْنِ من الْحور الْعين.
وَلم تزل هَذِه الْأَخْبَار وَهَذِه اللَّفْظَة متداولة منقولة بَين النَّاس لَا ينكرها مُنكر وَلَا يخْتَلف فِيهَا أحد إِلَى ان جَاءَ الْأَشْعَرِيّ فأنكرها وَخَالف الْخلق كلهم مسلمهم وكافرهم وَلَا تَأْثِير لقَوْله عِنْد أهل الْحق وَلَا تتْرك الْحَقَائِق وَقَول رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَإِجْمَاع الْأمة لقَوْل الْأَشْعَرِيّ إِلَّا من سلبه الله التَّوْفِيق وأعمى بصيرته وأضله عَن سَوَاء السَّبِيل.
وَقَالُوا أَيْضا: قد قُلْتُمْ إِن الله يتَكَلَّم بِصَوْت وَلم يَأْتِ كتاب وَلَا سنة.
قُلْنَا: بل قد ورد بِهِ الْكتاب وَالسّنة وَإِجْمَاع أهل الْحق أما الْكتاب فَقَوْل الله تَعَالَى: {وكلم الله مُوسَى تكليما}[النِّسَاء: 164]
وَقَوله تَعَالَى: {مِنْهُم من كلم الله} [الْبَقَرَة: 254]
وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إِلَّا وَحيا أَو من وَرَاء حجاب} الْآيَة. [الشورى: 51]
وَقَوله تَعَالَى: {وَإِذ نَادَى رَبك مُوسَى}[الشُّعَرَاء: 10]
وَلَا خلاف بَيْننَا أَن مُوسَى سمع كَلَام الله من الله بِغَيْر وَاسِطَة وَلَا يسمع إِلَّا الصَّوْت، فَإِن الصَّوْت هُوَ مَا يَتَأَتَّى سَمَاعه.
وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنه قَالَ: (إِن الله يجمع الْخَلَائق فيناديهم بِصَوْت يسمعهُ من بعد كَمَا يسمع من قرب أَنا الْملك أَنا الديَّان)
وَذكر عبد الله بن أَحْمد أنه قَالَ: سَالَتُ أبي فَقلت: يَا أبه إِن الْجَهْمِية يَزْعمُونَ أن الله لَا يتَكَلَّم بِصَوْت، فَقَالَ:( كذبُوا إِنَّمَا يُرِيدُونَ على التعطيل)، ثمَّ قَالَ: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْمحَاربي قَالَ حَدثنَا سُلَيْمَان بن مهْرَان الْأَعْمَش عَن أبي الضُّحَى عَن مَسْرُوق عَن عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ انه قَالَ إِذا تكلم الله بِالْوَحْي سمع صَوته أهل السَّمَاء، قَالَ أَبُو نصر السجْزِي رَحمَه الله: وَهَذَا الْخَبَر لَيْسَ فِي رُوَاته إِلَّا إِمَام مَقْبُول، وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِي بعض الآثار: أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما ناداه ربه يَا مُوسَى ، أجاب سَرِيعا استئناسا بالصوت فَقَالَ لبيْك ، أسْمَع صَوْتك وَلَا أرى مَكَانك، فَأَيْنَ أَنْت؟ قَالَ: انا فَوْقك وأمامك ووراءك وَعَن يَمِينك وَعَن شمالك- فَعلم أن هَذِه الصّفة لَا تنبغي إِلَّا لله عز وَجل- قَالَ: فَكَذَلِك أنا يَا رب أفكلامك أسمع أم كَلَام رَسُولك قَالَ بل كَلَامي.
وَفِي أثر آخر أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما ناجاه ربه ثمَّ سمع كَلَام الْآدَمِيّين مقتهم لما وقر فِي مسامعك من كَلَام الله تَعَالَى، وَمثله فِي الْآثَار كثير تناولته الْأمة وَلم يُنكره إِلَّا مُبْتَدع لَا يلْتَفت إِلَيْهِ.
فَإِن قَالُوا: فالصوت لَا يكون إِلَّا من هَوَاء بَين جرمين.
قُلْنَا: هَذَا من الهذيان الَّذِي أجبنا عَن مثله فِي الْحَرْف، وَقُلْنَا: إِن هَذَا قِيَاس مِنْهُم لربنا تبَارك وَتَعَالَى على خلقه وتشبيه لَهُ بعباده وَحكم عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَا تكون صفته إِلَّا كصفات مخلوقاته وَهَذَا ضلال بعيد.
ثمَّ إِنَّه يلْزمهُم مثل هَذَا فِي بَقِيَّة الصِّفَات على مَا أسلفناه على أن معتمدنا فِي صِفَات الله عز وَجل، إِنَّمَا هُوَ الِاتِّبَاع، نصف الله تَعَالَى بِمَا وصف بِهِ نَفسه وَوَصفه بِهِ رَسُوله، وَلَا نتعدى ذَلِك وَلَا نتجاوزه وَلَا نتأوله وَلَا نفسره، ونعلم أن مَا قَالَ الله وَرَسُوله حق وَصدق وَلَا نشك فِيهِ وَلَا نرتاب ونعلم أن لما قَالَ الله وَرَسُوله معنى هُوَ بِهِ عَالم، فنؤمن بِهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي أراده، وَنكل علمه إِلَيْهِ، ونقول كَمَا قَالَ سلفنا الصَّالح وأئمتنا المقتدى بهم آمنا بِاللَّه، وَمَا جَاءَ عَن الله على مُرَاد الله، وآمنا برَسُول الله وَمَا جَاءَ عَن رَسُول الله على مُرَاد رَسُول الله، نقُول مَا قَالَ الله وَرَسُوله، ونسكت عَمَّا وَرَاء ذَلِك، نتبع وَلَا نبتدع، بذلك أوصانا الله تَعَالَى فِي كِتَابه وأوصانا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سنته وأوصانا بِهِ سلفنا رَضِي الله عَنْهُم؛ فَقَالَ الله تَعَالَى: {وَأَن هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبعُوهُ وَلَا تتبعوا السبل فَتفرق بكم عَن سَبيله} [الْأَنْعَام: 153] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتبعُوا أحسن مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} [الزمر: 55]
وَقَالَ لرَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام: {قل إِن كُنْتُم تحبون الله فَاتبعُوني يحببكم الله}[آل عمرَان: 31]
وَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي عضوا عَلَيْهَا بالنواجذ وَإِيَّاكُم ومحدثات الْأُمُور فَإِن كل محدثة بِدعَة وكل بِدعَة ضَلَالَة)
وَقَالَ عبد الله بن مَسْعُود: (اتبعُوا وَلَا تبتدعوا فقد كفيتم).
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله عَنهُ كلَاما مَعْنَاهُ: (قف حَيْثُ وقف الْقَوْم فَإِنَّهُم عَن علم وقفُوا وببصر ناقد كفوا وَلَهُم كَانُوا عبلى كشفها أقوى وبالفضل لَو كَانَ فِيهَا أَحْرَى وَإِنَّهُم لَهُم السَّابِقُونَ فلئن كَانَ الْمهْدي مَا أَنْتُم عَلَيْهِ لقد سبقتموهم إِلَيْهِ وَلَئِن قُلْتُمْ حدث حدث بعدهمْ فَمَا أحدثه إِلَّا من اتبع غير سبيلهم وَرغب بِنَفسِهِ عَنْهُم وَلَقَد وصفوا مِنْهُ مَا يَكْفِي وَتَكَلَّمُوا مِنْهُ بِمَا يشفي فَمَا دونهم مقصر وَلَا فَوْقهم محسر، لقد قصر دونهم أنَاس فجفوا وطمح آخَرُونَ عَنْهُم فغلوا وَإِنَّهُم من ذَلِك لعلى هدى مُسْتَقِيم).
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ رَحمَه الله: (عَلَيْك بآثار السّلف وَإِن رفضك النَّاس وَإِيَّاك وآراء الرِّجَال وَإِن زخرفوه لَك بالْقَوْل).
وَلم يزل السّلف الصَّالح من الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَالْأَئِمَّة بعدهمْ يعظمون هَذَا الْقُرْآن ويعتقدون أَنه كَلَام الله، ويتقربون إِلَى الله بقرَاءَته وَيَقُولُونَ إِنَّه غير مَخْلُوق، وَمن قَالَ إِنَّه مَخْلُوق فَهُوَ كَافِر، وَلما وَقعت الْفِتْنَة وَظَهَرت الْمُعْتَزلَة ودعوا إِلَى القَوْل بِخلق الْقُرْآن ثَبت أهل الْحق حَتَّى قتل بَعضهم، وَحبس بَعضهم، وَضرب بَعضهم؛ فَمنهمْ من ضعف فَأجَاب تقية وخوفا على نَفسه، وَمِنْهُم من قوي إيمَانه وبذل نَفسه لله واحتسب مَا يُصِيبهُ فِي جنب الله وَلم يزل على السّنة إِلَى أَن كشف الله تَعَالَى تِلْكَ الْفِتْنَة وازال تِلْكَ المحنة وقمع أهل الْبِدْعَة.
وَاتفقَ أهل السّنة على أَن الْقُرْآن كَلَام الله غير مَخْلُوق، وَلم يكن الْقُرْآن الذى دعوا إِلَى القَوْل بخلقه سوى هَذِه السُّور الَّتِي سَمَّاهَا الله قُرْآنًا عَرَبيا وأنزلها على رَسُوله عَلَيْهِ السَّلَام وَلم يَقع الْخلاف فِي غَيرهَا الْبَتَّةَ.
وَعند الْأَشْعَرِيّ أَنَّهَا مخلوقة فَقَوله قَول الْمُعْتَزلَة لَا محَالة إِلَّا أَنه يُرِيد التلبيس فَيَقُول فِي الظَّاهِر قولا يُوَافق أهل الْحق ثمَّ يفسره بقول الْمُعْتَزلَة.
فَمن ذَلِك أَنه يَقُول: الْقُرْآن مقروء متلو مَحْفُوظ مَكْتُوب مسموع، ثمَّ يَقُول الْقُرْآن فِي نفس الْبَارِي قَائِم بِهِ لَيْسَ هُوَ سورا وَلَا آيَات وَلَا حروفا وَلَا كَلِمَات.
فَكيف يتَصَوَّر إِذا قِرَاءَته وسماعه وكتابته؟
وَيَقُولُونَ: إِن مُوسَى سمع كَلَام الله من الله، ثمَّ يَقُولُونَ: لَيْسَ بِصَوْت.
وَيَقُولُونَ: إِن الْقُرْآن مَكْتُوب فِي الْمَصَاحِف، ثمَّ يَقُولُونَ: لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الحبر وَالْوَرق.
فَإِن كَانَت كَمَا زَعَمُوا فَلِمَ لَا يَمَسهَا الا الْمُطهرُونَ وَمَا رَأينَا الْمُحدث يمْنَع من مس حبر وَلَا ورق، وَلِمَ تجب الْكَفَّارَة على الْحَالِف بالمصحف إِذا حنث، وَمن قَالَ إِنَّه لَيْسَ فِي الْمُصحف إِلَّا الحبر وَالْوَرق لزمَه التَّسْوِيَة بَين الْمُصحف وَبَين ديوَان ابْن الْحجَّاج لِأَنَّهُ إِذا لم يكن بَين كل وَاحِد مِنْهُمَا غير الحبر وَالْوَرق فقد تَسَاويا فَيجب تساويهما فِي الحكم، هَذَا مَعَ ردهم على الله تَعَالَى وعَلى رَسُوله وخرقهم لإِجْمَاع الْأمة؛ فَإِن الله تَعَالَى قَالَ: {فَلَا أقسم بمواقع النُّجُوم وَإنَّهُ لقسم لَو تعلمُونَ عَظِيم إِنَّه لقرآن كريم فِي كتاب مَكْنُون لَا يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ تَنْزِيل من رب الْعَالمين} [الْوَاقِعَة: 75- 80]
فأقسم الله عز وَجل أَنه قُرْآن كريم فِي كتاب مَكْنُون فَردُّوا عَلَيْهِ وَقَالُوا مَا فِي الْكتاب إِلَّا الحبر وَالْوَرق وَقَالَ الله تَعَالَى: {بل هُوَ قُرْآن مجيد فِي لوح مَحْفُوظ}[البروج: 21- 22]
وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَالطور وَكتاب مسطور فِي رق منشور} [الطّور: 1- 3]
وَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تسافروا بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن تناله أَيْديهم).
يُرِيد الْمَصَاحِف الَّتِي فِيهَا الْقُرْآن.
وَاتفقَ الْمُسلمُونَ كلهم على تَعْظِيم الْمُصحف وتبجيله، وَتَحْرِيم مَسّه على الْمُحدث، وأَن من حلف بِهِ فَحنث فَعَلَيهِ الْكَفَّارَة وَلَا تجب الْكَفَّارَة بِالْحلف بمخلوق.
وَذكر بعض المبتدعة أَنه إِنَّمَا وَجَبت الْكَفَّارَة على الْحَالِف لاعتقاد الْعَامَّة أَن فِيهِ كَلَام الله، وَهَذِه غَفلَة مِنْهُ، فَإِن هَذَا الحكم من لدن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَتَجَدَّد الْآن فَإِن أقرّ أَن عَامَّة أهل عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصحابته كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَن فِيهِ كَلَام الله تَعَالَى وأقرهم عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وصوبهم فِيهِ فَهُوَ الْحق الَّذِي لَا شكّ فِيهِ وَلَا يحل خِلَافه، وَإِن قَالَ إِنَّهُم كَانُوا يَعْتَقِدُونَ ذَلِك وَلم يعلم بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكيف علم هُوَ؟ وَكَيف علم هُوَ من أَحْوَال أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن اعتقاداتهم مَا يخفى على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بَين أظهرهم وَعنهُ يَأْخُذُونَ وَإِلَيْهِ يرجعُونَ وَبِه يقتدون وَعنهُ يصدرون؟ ثمَّ هَل كَانُوا مصيبين فِي اعْتِقَادهم أَو مخطئين؟
فَإِن كَانُوا مخطئين فقد اعْتقد أن أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا ضلالا وَمن بعدهمْ وَأَنه هُوَ أصَاب بمخالفتهم
وَكَيف يجوز أَن يكون أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اتَّفقُوا على اعْتِقَاد الْخَطَأ والضلال وَالْبَاطِل وأخطأوا الْحق وتبعهم من بعدهمْ على ذَلِك إِلَى أَن جَاءَ هَذَا الْجَاهِل بِزَعْمِهِ فَعرف الصَّوَاب وَعرف خطأ من كَانَ قبله، ثمَّ هَذَا إِقْرَار بِأَن مقَالَته بِدعَة حَادِثَة خَالف بهَا أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالتَّابِعِينَ بعدهمْ وَهُوَ الَّذِي يَقُوله عَنْهُم وبدعته فيهم.
وَإِن زعم أَن أهل عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ هَذَا، وَإِنَّمَا حدث بعدهمْ فَلِمَ يُثْبِتُ هَذَا الحكم فِي عصرهم؟ وَلم وَجَبت الْكَفَّارَة على الْحَالِف بالورق والحبر؟ وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَنه لَا تجب كَفَّارَة بِالْحلف بورق وَلَا حبر وَلَا مَخْلُوق.
ثمَّ مَتى حدث هَذَا الِاعْتِقَاد؟ وَفِي أَي عصر؟ وَمَا علمنَا الْحَادِث إِلَّا قَوْلهم الْخَبيث الْمُخَالف للْأمة وللكتاب وَالسّنة.
ثمَّ كَيفَ يحل أَن يوهموا الْعَامَّة مَا يقوى بِهِ اعْتِقَادهم الَّذِي يَزْعمُونَ أَنه بِدعَة من تعظيمهم للمصاحف فِي الظَّاهِر واحترامها عِنْد النَّاس وَرُبمَا قَامُوا عِنْد مجيئها وقبلوها ووضعوها على رؤوسهم ليوهموا النَّاس أَنهم يَعْتَقِدُونَ فِيهَا الْقُرْآن وَرُبمَا أمروا من توجبت عَلَيْهِ يَمِين فِي الحكم بِالْحلف بالمصحف إيهاما لَهُ أَن الَّذِي يحلف بِهِ هُوَ الْقُرْآن الْعَظِيم وَالْكتاب الْكَرِيم وَهَذَا عِنْدهم اعْتِقَاد بَاطِل فَكيف يحل لَهُم أَن يتظاهروا بِهِ ويضمرون خِلَافه وَهَذَا هُوَ النِّفَاق فِي عهد رَسُول الله صلى اله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الزندقة الْيَوْم وَهُوَ أَن يظْهر مُوَافقَة الْمُسلمين فِي اعْتِقَادهم ويضمر خلاف ذَلِك وَهَذَا حَال هَؤُلَاءِ الْقَوْم لَا محَالة فهم زنادقة بِغَيْر شكّ فَإِنَّهُ لَا شكّ فِي أَنهم يظهرون تَعْظِيم الْمَصَاحِف إيهاما أَن فِيهَا الْقُرْآن، ويعتقدون فِي الْبَاطِن أَنه لَيْسَ فِيهَا إِلَّا الْوَرق والمداد، ويظهرون تَعْظِيم الْقُرْآن ويجتمعون لقرَاءَته فِي المحافل والأعرية ويعتقدون أَنه من تأليف جِبْرِيل وَعبارَته، ويظهرون أَن مُوسَى سمع كَلَام الله من الله ثمَّ يَقُولُونَ لَيْسَ بِصَوْت، وَيَقُولُونَ فِي أذانهم وصلواتهم أشهد أن مُحَمَّدًا رَسُول الله ويعتقدون أَنه انْقَطَعت رسَالَته ونبوته بِمَوْتِهِ وَأَنه لم يبْق رَسُول الله وَإِنَّمَا كَانَ رَسُول الله فِي حَيَاته، وَحَقِيقَة مَذْهَبهم أَنه لَيْسَ فِي السَّمَاء إِلَه وَلَا فِي الأَرْض قُرْآن وَلَا أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله وَلَيْسَ فِي أهل الْبدع كلهم من يتظاهر بِخِلَاف مَا يَعْتَقِدهُ غَيرهم وَغير من أشبههم من الزَّنَادِقَة وَمن الْعجب أَن إمَامهمْ الَّذِي أنشأ هَذِه الْبِدْعَة رجل لم يعرف بدين وَلَا ورع وَلَا شَيْء من عُلُوم الشَّرِيعَة الْبَتَّةَ وَلَا ينْسب إِلَيْهِ من الْعلم إِلَّا علم الْكَلَام المذموم وهم يعترفون بِأَنَّهُ أَقَامَ على الاعتزال أَرْبَعِينَ عَاما ثمَّ أظهر الرُّجُوع عَنهُ فَلم يظْهر مِنْهُ بعد التَّوْبَة سوى هَذِه الْبِدْعَة، فَكيف تصور فِي عُقُولهمْ أَن الله لَا يوفق لمعْرِفَة الْحق إِلَّا عدوه وَلَا يَجْعَل الْهدى إِلَّا مَعَ من لَيْسَ لَهُ فِي علم الاسلام نصيب وَلَا فِي الدّين حَظّ.
ثمَّ إِن هَذِه الْبِدْعَة مَعَ ظُهُور فَسَادهَا وَزِيَادَة قبحها قد انتشرت انتشارا كثيرا وَظَهَرت ظهورا عَظِيما وأظنها آخر الْبدع وأخبثها وَعَلَيْهَا تقوم السَّاعَة وَأَنَّهَا لَا تزداد إِلَّا كَثْرَة وانتشارا
، فَإِن نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرنَا أَن فِي آخر الزَّمَان تكْثر الْبدع وَتَمُوت السّنَن ويغرب الدّين وَأَن الدُّنْيَا لَا تزداد إِلَّا إدبارا وَأَنه يصير الْمَعْرُوف مُنْكرا وَالْمُنكر مَعْرُوفا وَأَنه يقل أهل الْحق إِلَّا أَنهم مَعَ قلتهم لَا يضرهم من خذلهم حَتَّى يَأْتِي أَمر الله وَأَنه يعظم ثوابهم وَيكثر أجرهم وَشبه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدّين فِي آخِره بِأول ابْتِدَائه فِي غربته وَقلة أَهله، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: (بَدَأَ الدّين غَرِيبا وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ) ثمَّ جمع بَينهم فِي أَن لَهُم طُوبَى، فَقَالَ: (فطوبى للغرباء) ثمَّ فضل الْمُتَأَخِّرين فِي بعض الْأَخْبَار فَقَالَ فِي حَدِيث: (يَأْتِي على النَّاس زمَان يكون للقائمين بِالْكتاب وَالسّنة مثل أجْرِ خمسين شَهِيدا) قَالُوا يَا رَسُول الله: (منا أَو مِنْهُم)، قَالَ: (مِنْكُم)
وَهَذَا فضل عَظِيم وَذَلِكَ وَالله أعلم لعظم نفعهم وصعوبة الْأَمر عَلَيْهِم وَكَثْرَة أعدائهم وتألبهم عَلَيْهِم وَقلة أنصارهم، وَقد جَاءَ فِي خبر: (يَأْتِي على النَّاس زمَان يكون المتمسك بِدِينِهِ كالقابض على الْجَمْر) فَهَذِهِ الصعوبة هِيَ الْمُوجبَة لذَلِك الْأجر.
ثبتنا الله على الْإِسْلَام وَالسّنة وَأَحْيَانا عَلَيْهَا وأماتنا عَلَيْهَا وحشرنا عَلَيْهَا.
وَمن الْعجب أَن أهل الْبدع يستدلون على كَونهم أهل الْحق بكثرتهم وَكَثْرَة أَمْوَالهم وجاههم وظهورهم، ويستدلون على بطلَان السّنة بقلة أَهلهَا وغربتهم وضعفهم.
فيجعلون مَا جعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَلِيل الْحق وعلامة السّنة دَلِيل الْبَاطِل، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخبرنَا بقلة أهل الْحق فِي آخر الزَّمَان وغربتهم وَظُهُور أهل الْبدع وكثرتهم، وَلَكنهُمْ سلكوا سَبِيل الْأُمَم فِي استدلالهم على أَنْبِيَائهمْ وَأَصْحَاب أَنْبِيَائهمْ بِكَثْرَة أَمْوَالهم وَأَوْلَادهمْ وَضعف أهل الْحق.
فَقَالَ قوم نوح لَهُ: {مَا نرَاك إِلَّا بشرا مثلنَا وَمَا نرَاك اتبعك إِلَّا الَّذين هم أراذلنا بَادِي الرَّأْي وَمَا نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين} [هود: 27]
وَقَالَ قوم صَالح فِيمَا أخبر الله عَنْهُم بقوله: {قَالَ الْمَلأ الَّذين استكبروا من قومه للَّذين استضعفوا لمن آمن مِنْهُم أتعلمون أَن صَالحا مُرْسل من ربه قَالُوا إِنَّا بِمَا أرسل بِهِ مُؤمنُونَ قَالَ الَّذين استكبروا إِنَّا بِالَّذِي آمنتم بِهِ كافرون} [الْأَعْرَاف: 75- 76]
وَقَالَ قوم نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {وَقَالُوا نَحن أَكثر أَمْوَالًا وأولادا وَمَا نَحن بمعذبين} [سبأ: 35]
وَقَالَ الله عز وَجل: {وَكَذَلِكَ فتنا بَعضهم بِبَعْض لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ من الله عَلَيْهِم من بَيْننَا}[الْأَنْعَام: 53]
{وَقَالَ الَّذين كفرُوا للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ} [الْأَحْقَاف: 11]
ونسوا قَول الله تَعَالَى: {وفرحوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا مَتَاع} [الرَّعْد: 26]، وَقَوله سُبْحَانَهُ: {واصبر نَفسك مَعَ الَّذين يدعونَ رَبهم بِالْغَدَاةِ والعشي يُرِيدُونَ وَجهه وَلَا تعد عَيْنَاك عَنْهُم تُرِيدُ زِينَة الْحَيَاة الدُّنْيَا وَلَا تُطِع من أَغْفَلنَا قلبه عَن ذكرنَا وَاتبع هَوَاهُ وَكَانَ أمره فرطا} [الْكَهْف: 28]
وَقَوله سُبْحَانَهُ: {وَاضْرِبْ لَهُم مثلا رجلَيْنِ جعلنَا لأَحَدهمَا جنتين من أعناب} الْآيَات كلهَا، [الْكَهْف: 32]
وَقَوله: {لَا تَمُدَّن عَيْنَيْك إِلَى مَا متعنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُم} [الْحجر: 88]
وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلَا أَن يكون النَّاس أمة وَاحِدَة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضَّة}، إِلَى قَوْله: {وَإِن كل ذَلِك لما مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا وَالْآخِرَة عِنْد رَبك لِلْمُتقين}[الزخرف 33- 35]
وَقد كَانَ قَيْصر ملك الرّوم وَهُوَ كَافِر أهْدى مِنْهُم، فَإِنَّهُ حِين بلغه كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ عَنهُ أبا سُفْيَان، فَقَالَ: يتبعهُ ضعفاء النَّاس أَو أقوياؤهم، فَقَالَ: بل ضُعَفَاؤُهُمْ، فَكَانَ هَذَا مِمَّا اسْتدلَّ بِهِ على أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ إِنَّهُم أَتبَاع الرُّسُل فِي كل عصر وزمان.
وَفِي الْآثَار: (أَن مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لما كَلمه ربه تَعَالَى، قَالَ لَهُ: يَا مُوسَى لَا يغرنكما زِينَة فِرْعَوْن وَلَا مَا متع بِهِ فإنني لَو شِئْت أَن أزينكما بزينة يعلم فِرْعَوْن أَن مقدرته تعجز عَن أقل مَا أوتيتما لفَعَلت ولكنني أضن بكما عَن ذَلِك وأزويه عنكما وَكَذَلِكَ أفعل بأوليائي وقديما مَا خرت لَهُم إِنِّي لأذودهم عَن الدُّنْيَا كَمَا يذود الرَّاعِي الشفيق إبِله عَن مبارك الْغرَّة وَإِنِّي لأجنبهم سلوتها وَنَعِيمهَا كَمَا يجنب الرَّاعِي الشفيق غنمه عَن مراتع الهلكة وَمَا ذَلِك لهوانهم عَليّ وَلَكِن ليستكملوا نصِيبهم من الْآخِرَة سالما موفرا لم تكَلمه الدُّنْيَا وَلم يطغه الْهوى).
وَقد رُوِيَ عَن عمر رَضِي الله عَنهُ أَنه دخل على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمشربة لَهُ فَرفع رَأسه فِي الْبَيْت فَلم ير فِيهِ إِلَّا أهبة ثَلَاثَة، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم متكىء على رمال حَصِير وَمَا بَينه وَبَينه شَيْء قد أثر فِي جنبه، فَقلت يَا رَسُول الله: وَأَنت على هَذِه الْحَال وَفَارِس وَالروم وهم لَا يعْبدُونَ الله لَهُم الدُّنْيَا، فَجَلَسَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم محمرا وَجهه، ثمَّ قَالَ: (أفي شكّ أَنْت يَا ابْن الْخطاب، أما ترْضى أَن تكون لَهُم الدُّنْيَا وَلنَا الْآخِرَة). هَذَا معنى الْخَبَر، ثبتنا الله وَإِيَّاكُم على الْإِسْلَام وَالسّنة وجنبنا الْكفْر والبدعة وحبب إِلَيْنَا الْإِيمَان وزينه فِي قُلُوبنَا وَكره إِلَيْنَا الْكفْر والفسوق والعصيان وَجَعَلنَا من الرَّاشِدين.

وَقد أنْشد ابو الْحسن عَليّ بن أبي بكر الطرازي فيهم:

( دَعونِي من حَدِيث بني اللتيـــــا ... وَمن قوم بضاعتهم كَــــــــــــل َام
تفاريق الْعَصَــــــــ ـــا من كل أَوب ... إِذا ذكرُوا وَلَيْسَ لَهُم إِمَـــــــــــ ام
إِذا سئلوا عَن الْجَبَّار مالــــــــــــ ـوا ... إِلَى التعطيل وَافْتَضَحَ اللئام
وَإِن سئلوا عَن الْقُرْآن قَالُوا ... يَقُـــــــول بخلقه بشر كـــــــــرام
كَــــــــــــل َام الله لَيْسَ لَهُ حُرُوف ... وَلَـــــــا فِي قَوْلــــــــه ألف وَلَــــام
وَلَو قيل النُّبُوَّة كَيفَ صَارَت ... لقالوا تِلْكَ طَار بهَا الْحمام
إِذا قبض النَّبِي فَكيف تبقى ... نبوتــــــــــه فديتك وَالسَّــــــلَ ام
فَهَذَا دينهم فَاعْلَم يَقِينـــــــا ... وَلَيْسَ على مهجنهم مــــــلام
لَهُم زجل وتوحيد جَدِيد أَبى الْإِسْلَام ذَلِك والأنام
وزمزمة وهينمة وطيــــــــــــ ـــش ... كَأَنَّهُمْ دَجَاج أَو حمـــــــــــام
وإزراء بِأَهْل الْحق ظلمــــــــــــ ا ... وتلقيب وتشنيع مـــــــــــــد ام
وَقَول الْمُلْحِدِينَ وَإِن تعاووا ... عواء الْبَين لَيْسَ لَهُ نظام
فصبرا يَا بني الْأَحْرَار صبـــــرا ... فَإِن الظُّلم لَيْسَ لَهُ دوَام
وَأَن الْحق أَبْلَج لَا يضـــــــــــــ ــــام ... وَقَول الزُّور آخِره غـــــرام).

آخِره، وَالْحَمْد لله رب الْعَالمين وَصلى الله على سيدنَا مُحَمَّد وَآله وَسلم تَسْلِيمًا) اهـ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.94 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.31 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.66%)]