الفقه على المذاهب الأربعة
المؤلف: عبد الرحمن بن محمد عوض الجزيري
الجزء الخامس
[كتاب القصاص]
صـــــ 157 الى صـــــــــ178
الحلقة (281)
مبحث سقوط يد الجاني أو قطعها
الحنفية - قالوا : إذا كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء وخيره الحاكم بين قطع اليد الشلاء ولا أرش له وبين أن يأخذ الأرش كاملا فسقطت اليد المريضة قبل اختيار المجني عليه أو قطعت ظلما في مدة الاختيار سقط حقه في هذه الحالة ولا شيء له عند الجاني وذلك لأن حقه متعين في القصاص وإنما ينتقل إلى المال باختياره فيسقط بفواته بخلاف ما إذا قطعت يده بحق عليه من قصاص أو سرقة فإنه يجب عليه الأرش وهو نصف الدية لأنه أوفى به حقا مستحقا فصارت سالمة له معنى . ولو عولج الجاني وزال الشلل من يده قبل أن يستوفي الأرض لم يكن له إلا القصاص لأن حقه متعين فيه عندهم
الشافعية - قالوا : إن الواجب أحد الشيئين أما القصاص أو الأرش فإذا تعذر أحدهما لفوات محله - كما في هذه الصورة - تعين الآخر وهو الأرش
مبحث في اجتماع ديات في شخص واحد
قال الأئمة الأربعة : إذا اجتمعت ديات كثيرة في شخص واحد بجراحات متعددة بقطع أطراف وإبطال منافع مختلفة وهي كثيرة عده بعضهم إلى عشرين أو أكثر وقيل : أربعة عشر شيئا منها - عقل سمع بصر شم نطف صوت ذوق مضغ أمناء إحبال جماع إفضاء بطش مشي ذهاب شعر أو جلد وغير ذلك وتضاف إليها المواضح وسائر الشجاج والجوائف والحكومات والكسور فيجتمع شيء كثير من الجنايات على الإنسان . قد لا ينحصر
فإذا أزال الجاني أطرافا من المجني عليه تقتضي ديات متعددة كقطع أذنين ويدين ورجلين وكذلك لطائف تقتضي ديات عدة كإبطال سمع وإبطال بصر وإبطال شم وإبطال ذوق وتعطيل نسل وغير ذلك . فإذا حصل شيء من هذا ومات المجني عليه بسبب السراية منها أو من بعضها ولم يندمل البعض فتجب على الجاني دية واحد وتتداخل الديات ويسقط بدل ما ذكر . لأنها صارت نفسا أما إذا مات المجني عليه بسراية بعضها بعد اندمال بعض آخر منها لم يدخل ما اندمل في دية النفس قطعا وكذا الحكم له جرحه جرحا خفيفا لا مدخل للسراية فيه ثم أجافة فمات بسراية الجائفة قبل اندمال ذلك الجرح فلا يدخل أرشه في دية النفس أما ما لا يقدر بالدية فيدخل أيضا وكذا لو قطع الجاني عنق المجني عليه قبل اندماله من الجراحة يلزمه دية واحدة للنفس في الأصح لأن دية النفس وجبت قبل استقرار ما عداها - فيدخل فيها بدله كالسراية
وقيل : تجب ديات ما تقدم من أنواع الجراحة لأن السراية قد انقطعت بالقتل فأشبه أنقطاعها بالاندمال لأن الآدمي مضمون مقدر ولأن الثابت في ضمانه التقيد
فإن كان الفعل مختلفا . كأن حز الرقبة عمدا والجنايات الحاصلة قبل الحز حصلت خطأ أو شبه عمد أو عكسه كأن حزه خطأ والجنايات وقعت عمدا أو شبه عمد فلا تداخل لشيء مما دون النفس فيها في الأصح من المذاهب بل يجب دية الطرف والنفس لاختلافهما واختلاف من تجب عليه فلو قطع يديه ورجليه خطأ أو شبه عمد ثم قطع رقبته عمدا أو قطع هذه الأطراف عمدا ثم حز الرقبة خطأ أو شبه عمد وعفا الأول في العمد على ديته وجبت في الصورة الأولى دية خطأ أو شبه عمد ودية عمد : وفي الصورة الثانية ديتا عمد ودية خطا وقيل : تسقط الديات فينهما
ولو حز الرقبة غير الجاني المتقدم تعددت الديات لأن فعل الإنسان لا يدخل في فعل غيره فيلزم كل منهما ما أوجبه فالذي اعتدى بجناية الجراحات يدفع دياتها والذي قتله يدفع ديته . اه
مبحث ما تجب فيه الحكومة
اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى : على أن الشيء الذي يوجب مالا . لا مقدر فيه من الدية ولم تعرف نسبته من مقدر مثل الضلع والصدر والفخذ والزند وغيرها أما إذا عرفت نسبته منه كأن كان بقرب موضحة أو جائفة فيجب أكثر من قسطه وحكومة وهي جز من الدية نسبته إلى دية النفس في الأصح وقيل : نسبته إلى عضو الجناية نسبة نقص الجناية من قيمة المجني عليه لو كان رقيقا بصفاته التي هو عليها وذلك مثل جرح يده فيقال : كم قيمة المجني عليه بصفاته التي هو عليها بغير جناية لو كان عبدا رقيقا ؟ فإذا قيل : مائة دينار فيقال : كم قيمته بعد حصول الجناية عليه ؟ فإذا قيل : تسعون فيكون التفاوت العشر فيجب في هذه الحالة عشر دية النفس وهو عشر من الإبل إذا كان المجني عليه حرا ذكرا مسلما لأن الجملة مضمونة بالدية المقدرة من الشارع الحكيم فتضمن الأجزاء بجزء منها كما في نظيره من عيب المبيع
والقول الثاني : أن تنسب إلى عضو الجناية لا إلى دية النفس فيجب في هذه الصورة عشر دية اليد التي وقعت عليها الجناية وهو خمس من الإبل فإن كانت الجناية على إصبع واحد وجب بعير أو الجناية وقعت على أنملة من إصبع وجب ثلث بعير في غير الإبهام ويقاس على ذلك ما أشبهه من القضايا
وللحاجة في معرفة الحكومة إلى تقدير الرق
قال الأئمة : العبد اصل الحر في الجنايات التي لا يتقدر أرشها كما أن الحر أصل العبد في الجنايات التي قدر الشارع أرشها وتجب الحكومة إبلا كالدية أو تجب نقدا فطلا من الأمرين جائز حسب الظروف المناسبة للمتقاضين لأنه يوصل إلى الغرض المطلوب وهو دفع الضمان وتعويض المجني عليه عما أصابه ومحل الخلاف إذا كانت الجناية على عضو له ارش مقدر فإن كانت الجناية على عضو ليس له أرش مقدر مثل الصدر أو الفخذ أو نحو ذلك اعتبرت الحكومة من دية النفس قطعا وتقدر لحية امرأة أزيلت ففسد منبتها لحية عبد كبير يتزين بها ومثلها الخنثى ولو قلع سنا أو قطع إصبعا زائدة ولم ينقص بذلك شيء قدرت زائدة لا أصلية خلفها ويقوم له المجني عليه منصفا بذلكن ثم يقوم مقطوع الزائد فيظهر التفاوت بذلك لأن الزائدة تشد الوجه ويحصل بها نوع جمال ويستثنى من اعتبار النسبة لو قطع أنملة لها طرف زائد فيجب فيها مع دية أنملة حكومة يقدرها القاضي باجتهاده ولا يعتبر النسبة لعدم إمكانها فإن كانت الحكومة لأجل طرف له أرش مقدر كاليد والرجل مثلا اشترط فيها أن لا تبلغ تلك الحكومة مقدر الطرف لئلا تكون الجناية على العضو مع بقائه مضمونة بما يضمن به العضو نفسه فينقص حكومة الأنملة بجرحها أو قطع ظفرها عن يدها وحكومة جراحة الإصبع بطوله عن ديته ولا يبلغ بحكومة ما دون الجائفة من الجراحات على البطن أو نحوه أرش الجائفة فإن بلغته نقص القاضي منه شيئا باجتهاده لئلا يلزم المحذور السابع ولا يكفي أقل متمول كما قاله الإمام الشافعي رحمه الله تعالى . أو كانت الحكومة لطرف لا تقدير فيه ولا يتبع مقدرا كفخذ وساعد ليد وظهر وكف يدن فالشرط أن لا تبلغ حكومته دية نفس وهو معلوم إنها لا تصل إلى ذلك لأن الكل أكثر من الجزء بل المراد أن لا يصير بلوغها أرش عضو مقدر وإن زادت عليه فإن تبع مقدرا كالكف فإنه يتبع الأصابع فالشرط فيه أن لا يبلغ ذلك دية المقدر وإن بلغ بحكومة الكف دية إصبع واحد جاز لأن منفعتها رفعا واحتواشا تزيد على منفعة إصبع كما أن حكومة اليد الشلاء لا تبلغ دية اليد السلمية ويجوز أن تبلغ دية الإصبع ويجوز أن تزيد عليها وإنما لم يجعل الساعد كالكف حتى لا يبلغ بحكومة جرحه دية الأصابع لأن الكف هي التي تتبع الأصابع لقربها دون الساعد لبعده عن الأصابع ولهذا لو قطع من الكوع لزمه ما يلزمه في لفظ الأصابع ولو قطعت اليد من المرفق لزمه مع نصف الدية حكومة الساعد
قالوا : ويقوم لمعرفة الحكومة المجني عليه بغرض رقه لكن بعد اندمال الجروح لا قبله لأن الجراحة قد تسري إلى النفس فتزهقها أو تسري إلى إتلاف ما يكون واجبه مقدرا من الأعضاء فيكون ذلك هو الواجب لا الحكومة . فإن لم يبق بعد اندمال الجروح نقص في المنفعة ولا نقص في الجمال ولا تأثرت به القيمة اعتبر فيه أقرب نقص من حالات نقص فيه إلى الاندمال وهكذا وذلك لئلا تحيط الجناية على المعصوم فإذا لم يظهر النقص إلا حال سيلان الدم اعتبرنا القيمة حينئذ واعتبرنا الجراحة دامية
وأما إذا كانت الجراحة خفيفة لا تؤثر في حال سيلان الدم فإنه يعزر الجاني إلحاقا لهما باللطمة والضربة التي لم يبق لها أثر للضرورة لانسداد باب التقويم الذي هو عمدة الحكومة
وقيل : يقدر النقص المذكور قاض باجتهاده لئلا تكون الجناية إن غير غرم
وقيل : لا غرم حينئذ بل الواجب التعزير كالضربة والصفعة التي لم يبق لها أثر والجرح المقدر أرشه كموضحة يبتعه الشين الكائن حواليه ولا يفرد بحكومة والجرح الذي لا يتقدر أرشه كدامية يقدر الشين حواليه بحكومة عن حكومة الجرح لضعف الحكومة عن الاستتباع ا ه
المالكية رحمهم الله - قالوا : يشترط في القصاص من جراح الجسد غير الرأس اتحاد
المحل . فلا يجوز أن يقتص من جرح عضو أيمن في عضو أيسر ولا عكسه ولا يجوز أن تقطع سباية مثلا بإبهام ولو كان المجني عليه طويلا وعضو الجاني قصيرا فلا يكمل بقية الجرح من عضوه الثاني
ويقتص من الطبيب الذي يباشر القصاص من الجاني إذا زاد على المساحة المطلوبة عمدا فيقتص منه بقدر ما زاد أما لو نقص عن المطلوب عمدا أو خطأ فلا يقتص ثانيا فإن مات المقتص منه من اثر القصاص لتعديه ما أمر به
وإذا لم يتحد المحل أو لم يتعمد الطبيب الزيادة بل أخطأ تجب الدية على الجاني فإذا قطع الجاني خنصرا مثلا ولا خنصر له فلا يجب القصاص لعدم اتحاد المحل وتعين العقل فإن كانت الجناية عمدا أو أقل من ثلث الدية وجبت في مال الجاني وإن كانت الجناية خطأ ولكنها أكثر من ثلث الدية فتجب الدية على العاقلة وذلك كحدقة عين أعمى جنى عليها صاحب عين سالمة واقتلعها فإن السالمة لا تؤخذ بالعين التالفة لعدم المماثلة فلا يجب القصاص ولا تجب نصف الدية بل يلزمه حكومة عدل بالاجتهاد في قيمة خسارة العين العمياء
أما إذا كان الجاني رجلا اعمى وفقأ عين رجل سليمة فلا يجب القصاص فإنه لا تؤخذ السليمة بالعمياء بل تجب نصف الدية على الجاني ولو كانت الجناية عمدا وكذلك لسان الأبكم الذي لا يتكلم لا يقطع بالناطق ولا عكسه بل يجب في اللسان الناطق الدية وتجب في اللسان الأبكم حكومة كما قيل في العين العمياء والعين البصيرة
ولا قصاص في ضربة على الخد إذا لم ينشأ عنها جرح ولا ذهاب منفعة ولا عقل منها ولا قصاص من ضربة بيد أو رجل بغير وجه كصفع بقفا لم ينشأ عنها جرح ولا ذهاب منفعة كاللطمة ولا قصاص من إزالة شعر اللحية ولا من إزالة شفر عين بضم الشين المعجمة وسكون الفاء وهو الهدب ولا من إزالة شعر حاجب فعمد هذه المذكورات كالخطأ عدم القصاص والعقل وإنما يجب الأدب في عمدها دون خطئها وتجب حكومة في شعر اللحية وشعر العين وشعر الحاجب إن لم ينبت كما كان اولا لأن الأهداب والحواجب ليست أعضاء لها منفعة ولا فعل بين ضروري في الخلقة أما إذا نشأ من هذه الضربات جرح أو ذهاب منفعة فإنه يجب فيها القصاص . أما الضرب بالسوط فيجب في عمدها القصاص وإن لم ينشأ عنه جرح ولا ذهاب منفعة لأن الضرب بالسوط عهد للأدب والحدود وليس فيه متألف في العادة
ولا قصاص أن عظم الخطر في الجراحات التي في الجسد غير المثقلة والآمة فإنه لاقصاص فيها من غير قيد بعظم الخطر لأن شأنهما عظم الخطر فلا قصاص في كسر عظم الصدر وكسر عظم الصلب ورض الأنثيين وفيها العقل كاملا بعد البرء وذلك بخلاف ما إذا قطعهما أو جرحهما فإنه يجب القصاص على الجاني لأنه ليس من المتالف
وأن جرحه جرحا في القصاص كموضحة مثلا فذهب بسببه نمو بصره أو شلت يده اقتص منه ويجب أن يفعل بالجاني بعد تمام برء المجني عليه مثل ما فعل من الجناية فإن حصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه أو زاد الذاهب من الجاني بأن ذهب بسبب الموضحة شيء آخر مع الذاهب بأن أوضح فذهب بصره وسمعه فلا كلام لذلك الجاني الذي اقتص منه لأنه ظالم يستحق القصاص بالوجه الذي فعل به والزيادة أمر من الله تعالى وإذا لم يحصل للجاني مثل الذاهب من المجني عليه بأن لم يحصل شيء أصلا أو حصل غيره فيجب عقل ما ذهب من المجني عليه في مال الجاني إذا كان الجرح عمدا أو العاقلة إن كان خطأ كأن ضربه بقضيب مما لا قصاص فيه أو لطمه على خده أو قفاه لأن الضرب لا يقتص فيه إنما يقتص من الجروح لقول تعالى { والجروح قصاص } فذهب بصر المجني عليه من أثر الضرب فإنه لا يضرب بل يجب عليه العقل إلا أن يمكن الاذهاب من الجاني بفعل فيه يذهب منه مثل ما أذهب بما لا قصاص فيه كحيلة تذهب بصره بلا ضرب فإنه يفعل به
وإذا قطع بعد الجناية عضو رجل قاطع لعضو غيره عمدا وسقط بآفة سماوية أو قطع عضوه بسبب سرقة أو قطع بقصاص لغير المجني عليه أولا فلا شيء للمحني عليه لا قصاص ولا دية لأنه إنما تعلق حقه بالعضو المماثل وقد ذهب وكذا لو مات القاطع فلا شيء على الورثة' بخلاف مقطوع العضو قبل حدوث الجناية فتجب عليه الدية وفي القصاص يجوز أن يؤخذ من الجاني عضو قوي بعضو ضعيف جنى عليه فإذا جنى صاحب عين ضعيفة الأبصار خلقة أو من كبر صاحبها فإن السليمة تقلع بالضعيفة ما لم يكن الضعف جدا وإلا فإن كان العضو شديد الضعف فإنه تجب الدية وإن فقأ سالم العينين عين أعور فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني وبين اخذ دية وإن فقأ سالم العينين عين أعور فإنه يخير المجني عليه بين فقء العين المماثلة من الجاني وبين أخذ دية كاملة من مال الجاني أي دية غين نفسه وإذا كان المشهور في المذهب تحتم القصاص في العمد وإنما وجب التخيير لعدم مساواة غين الجاني والمجني عليه في الدية لأن دية عين المجني عليه ألف دينار بخلاف عين الجاني فديتها خمسمائة دينار فلو ألزمناه بالقصاص لكان أخذ الأدنى في الأعلى وهو ظلم له فيجب التخيير وإن فقأ أعور من سالم عينا مماثلة عين الجاني السالمة فيجوز للمجني عليه سالم العينين القصاص من الأعور الجاني بفقء عينه السالمة فيصير أعمى أو ترك القصاص ويأخذ من الجاني دية عينه وهي ألف دينار على أهل الذهب لتعين القصاص بالمماثلة وصارت الثانية عين أعور فيها دية كاملة لأنه ينتفع بالواحدة انتفاع صاحب العينين
وإن فقأ الأعور من السالم غير المماثلة لعينه بأن فقأ من السالم المماثلة للعوراء فإنه يجب نصف دية فقط في مال الجاني ولا يجوز للمجني عليه أن يقتص منه لعدم المحل المماثل وإن فقأ العور عيني السالم عمدا في مرة أو في مرتين وساء فقأ التي ليس له مثلها أولا أو ثانيا على الرجح فيجب القود للمجني عليه بأن يفقأ من الجاني العين المماثلة فيصير أعمى مثله ويأخذ من الجاني نصف الدية بدل العين التي ليس لها ممثلة ولم يخير سالم العينين في المماثلة بحيث يكون له القصاص أو أخذ الدية لئلا يلزم عليه أخذ دية ونصف حيث اختار الدية في العينين وهو خلاف ما ورد عن الشارع صلوات الله وسلامه عليه
مبحث دية الأصابع والكف
الشافعية والمالكية والحنفية - قالوا : في قطع اصابع اليد نصف الدية لأن في قطعها تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب فإن قطعها مع الكف ففيه أيضا نصف الدية لقوله صلى الله عليه و سلم : ( وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية ) ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها وإن قطعها مع نصف الساعد ففي الصابع والكف نصف الدية وفي الزيادة حكومة عدل لأن الشرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدية واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب فلا يزاد على تقدير الشرع وأن قطع الكف عن المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية وإن كان أصبعان فالخمس ولا شيء في الكف لأن الأصابع اصل والكف تابع حقيقة وشرعا لأن البطش يقوم بها ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع ولا شيء في الكف بالأجماع لأن الصابع أصول في التقوم وللأكثر حكم الكل فاستتبعت الكف كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها
قالوا : وفي الصابع الزائدة حكومة عدل تشريفا للآدمي لانها جزء من يده ولكن لا منفعة فيها ولا زينة وكذلك السن الزائدة فيها حكومة عدل وإن كانت كف المجني عليه ناقصة الصابع مثلا لم تقطع السليمة بها ولو قطع أصبعا فتأكل غيرها أو شل أصبع بجوارها أو كف فلا قصاص في المتآكل والمشلول بالسراية لعدم تحقق العمديية بل فيه الدية أو حكومة في مال الجاني ولو اقتص في أصبع من خمسة فسرى لغيرها لم تقع السراية . قصاصا بل يجب على الجاني للأصابع الأربع أربعة أخماس الدية ولا حكومة لمنابت الصابع بل تدخل في ديتها ولو ضرب يده فتورمت ثم سقطت بعد أيام وجب القصاص ولا أثر في القصاص في يد لخضرة أظفار وسوادها لأنه علة ومرض في الظفر وتقطع ذاهبة الأظفار بسلميتها لانها دونها دون العكس لأن الكامل لا يؤخذ بالناقص . ولو نقصت يده أصبعا فقطع يدا كاملة قطع وعليه أرش الصبع ولو قطع كامل اليد ناقصة فإن شاء المقطوع أخذ دية اصابعه الربع وإن شاء قطعها ولو قطع كفا بلا أصابع فلا قصاص إلا أن تكون كفه مثلها ولقد قطع فاقد الصابع كاملها قطع كفه وأخذ دية الأصابع ا ه
مبحث في الشجاج
اتفق الأئمة الأربعة - رحمهم الله تعالى : على أن الشجاج في اللغة والفقه عشرة
أولها - الحارصة - وهي التي شقت الجلد ولاتخرج الدم
ثانيها - الدامعة - وهي التي تظهر الدم ولا تسيله كدمع العين
ثالثها - الدامية - وهي التي تسيل الدم بأن تضعف الجلد بلا شق له حتى يرشح الدم
رابعها - الباضعة - وهي التي تبضع الجلد وتقطعه أي - تشقه
خامسها - المتلاحمة - وهي ما غاصت في اللحم في عدة مواضع منه ولم تقرب للعظم
سادسها - السمحاق : وهي التي تصل إلى السمحاق وهي جلدة رقيقة بين اللحم وعظم الرأس وتسمى ( الملطاه )
سابعها - الموضحة : وهي التي توضح العظم وتبينه أي - تكشفه
ثامنها - الهاشمة : وهي التي تهشم العظم وتكسره
تاسعها - المنقلة : وهي التي تنقل العظم بعد الكسر وتحوله
عاشرها - الآمة : وهي التي تصل إلى أم الرأسن وهو الذي فه الدماغ وتسمى ( المأمومة ) فقد علم بالاستقراء بحسب الآثار أن الشجاج لا تزيد على ما ذكر من العشر
أما ما بعدها وهي - الدامغة - وهي التي تخرج الجماغ من موضعه فإن النفس لا تبقى بعدها عادة فيكون ذلك قتلا لا شجاص وهي مرتبة على الحقيقة اللغوية في الصحيح
الموضحة
اتفق الفقهاء على وجوب القصاص في الموضحة إن كانت عمدا لما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قضى بالقصاص في الموضحة ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم فيتساويان فيتحقق القصاص ولا يشترط فيها ما لوه بال واتساع بل يثبت القصاص فيها وإن كان الشج ضيقا ولو قدر مغرز إبرة
واتفقوا : على أن الموضحة إن كانت خطأ فيجب فيها نصف عشر الدية وهو خمس من الإبل وقد ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه و سلم في كتابه لعمرو بن حزم وثبت من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( في الموضحة خمس ) يعني من الإبل ولما رواه الترمذي وحسنه ( في الموضحة خمس من الإبل ) وذلك لحر ذكر مسلم غير جنين وتراعى هذه النسبة في حق غيره من المرأة والكتابي وغيرهما ففي موضحة الكتابي الخطأ يجب بعير وثلثان وفي موشحة المجوسي ونحوه ثلث بعير وفي موضحة المرأة المسلمة الحرة يجب بعيران ونصف بعير وهو نصف عشر ديتها
موضع الموضحة
المالكية - قالوا : المضحة ما أظهرت عظم الرأس أو عظم الجبهة وهو ما بين الحاجبين وشعر الرأس أو عظم الخدين واللحي الأعلى ولا تكون في اللحي الأسفل لأنه في حكم العنق ولا تكون في عظم النف وإن وجب القصاص من عمده وذلك لأن الوجه مشتق من المواجهة ولا مواجهة للناظر فيهما فلو وجد في اللحي الأسفل والأنف لا يجب الأرش المقدر
الحنفية والشافعية والحنابلة - قالوا : الموضحة تكون في جميع الوجه والرأس والجبهة والوجنتين والذقن داخل في الوجه
وأتفق الأئمة الأربع : على أن هذه الشجاج العشر المذكورة تختص بالوجه والرأس لغة وما كان في غير الرأس والوجه يسمى جراحة والحكم مرتب على الحقيقة في الصحيح حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق واليد لا يكون لها أرش مقدر وإنما تجب حكومة عدل لأن التقدير بالتوقيف وهو إنما ورد فيما يختص بهما ولأنه إنما ورد الحكم في الموضحة لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة والشين يختص بما يظهر منها في الغالب وهو هذان العضوان لا سواهما
بقية الشجاج
الحنفية - قالوا : لا قصاص في بقية الشجاج لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيها لأنه لاحد ينتهي السكين اليهن ولأن فيما قوق الموضحة وهي الهاشمة والمنقلة والآمة فيها كسر العظم ولا قصاص فيه وهذا رواية عن أبي حنيفة رحمه الله
وقال محمد في الأصل - وهو ظاهر الرواية - يجب القصاص فيما قبل الموضحة لأنه يمكن اعتبار المساواة فيهن إذ ليس فيه كسر العظم ولا خوف هلاك غالب فيسبر غورها بمسبار ثم تمخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدرا ما قطع فيتحقق استيفاء القصاص
قالوا : وفيما دون الموضحة وهي الست المتقدمة عليها من الحارصة إلى السمحاق يجب حكومة عدل لأنه ليس فيها أرش مقدر ولا يمكن غهداره فوجب اعتبراه بحكم العد وهو ماثور عن النخعي وعمر بن عبد العزيز
قالوا : وفي الهاشمة عشر الدية وفي المنقلة عشر الدية ونسف عشر الدية وفي الآمة ثلث الدية وفي الجائفة ثلث الديةن فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما ثلثا الدية . لما روي في كتاب عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ( وفي الموضحة خمس من الإبل وفي الهاشمة غشر وفي المنقلة خمس عشر وفي الآمة ويروى المأمومة ثلث الدية وقال عليه الصلاة و السلام : ( في الجائفة ثلث الجية ) وعن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة جائفتين إحداهما من الجانب البطن والأخرى من جانب الظهر وفي كل جائفة ثلث الدية . فلهذا وجب في النافذة ثلث الدية
وقالوا : إن الجائفة تختص بالجوف جوف الرأس أو جوف البطن
وتفسير حكومة العدل على ما قاله الإمام الطحاوي رحمه الله : إن يقوم مملكوكا بدون هذا الأثر ويقوم وبه هذا الثر ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القميتين فإن كان نصف عشر القيمة يجب نصف عشر الدية وإن كان ربع عشر فربع عشر
الشافعية - قالوا : في الهاشمة مع إيضاح أو احتاج إليه بشق لإخراج عظم أو تقويمه عشرة من الإبل وهي عشر دية الكامل بالحرية لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله تعالى عنه أنه صلى الله عليه و سلم : ( اوجب في الهاشمة عشرا من الإبل ) رواه الدار قطني والبيهقي وفعل ذلك لا يكون إلا عن توقيت وهاشمة دون إيضاح خمس من الإبل على الصح لأن العشرة في مقابلة الإيضاح والهشم وأرش الموضحة خمسة فتعين أن الخمسة الباقية في مقابلة الهشم
وقيل : في الهشم إذا خخلا عن غيضاح العظم تجب حكومة لأنه كسر عظم بلا إيضاح فأشبه كسر سائر العظام - ومنقلة - خمسة عشر بعيرا روى النسائي ذلك عن النبي صلى الله عليه و سلم ونقل في كتاب ( الأم ) فيه الإجماع وكذا أبن المنذر ويجب القصاص في الموضحة فقط . وفي مأمونة ثلث الدية لخبر عمرو بن حزم بذلك قال في البحر : وهو إجماع وفي الدامغة ما في المأمومة على الأصح المنصوص وقيل : تزاد حكومة لخرق غشاء الدماغ
قالوا : وإنما يجب في المأمومة وما قبلها ما ذكر إن اتحد الجاني وأما لو تعدد فحكمه ما يأتي : لو أوضح واحد ذكرا حرا مسلما فهشم آخر - بعد الإيضاح أو قبله - ونقل ثالث . وام رابع فعلى كل من الثلاثة خمس من الإبل أما الأول فبسبب الإيضاح وأما الثاني فلأنه الزائد عليها من دية الهاشمة وأما الثالث فلنه الزائد عليهما من دية المنقلة وعلى الرابع تمام الثلث وهو ثمانية عشر بعيرا وثلث بعير وهو مابين المنقلة والمأمومة
قالوا : والشجاج الخمس التي قبل الموضحة من الحارصة إلى اسمحاق . إن عرفت نسبتها من الموضحة بأن كان على رأسه موضحة إذا قيس بها الباضعة مثلا عرف أن المقطوع ثلث أو نصف في عمق اللحم وجب قسط من أرشها بالنسبة فإن شككنا في قدرها من الموضحة اوجبينا اليقين وإن لم تعرف نسبته منها فتجب حكومة عدل لا بتلغ أرض موشحة كجرح سائر البدن كالإيضاح والهشم والتنقيلن فإن فيه الحكومة فقط لأن أدلة ما مر في الإيضاح والهشم والتنقيل لم يشمله لاختصاص أسماء الثلاثة بجراحة الرأس والوجه وليس غيرهما في معناهما
قالوا : وفي جائفة وإن صغرت ثلث دية لثبوت ذلك في حديث عمرو بن حزم رضي الله تعالى عنه
وهذا كالمستثنى مما قبله إذ لا جرح في البدن يقدر غيرها وهي جرح يصل إلى جوف فيه قوة تحيل الغذاء أو الدواء كداخل بطن وداخل صدر وداخل ثغرة نحر وداخل جبين وداخل خاصرة ولا فرق بين أن يجيف بحديدة أو خشبة ولا جائفة في الفم والأنف والجفن والعين وممر البول إذ لا يعظم فيها الخطر على النفس كالأمور المتقدمة ولأنها لا تعد من الأجواف فتجب فيها حكومة فلو وصلت الجراحة إلى الفم بإيضاح من الوجه وجب على الجاني أرش موضحة وهو خمس من الإبل ولو وصلت الجراحة داخل النف بكسر قصبة الأنف فيجب أرش هاشمة وهة عشر من الإبل مع وجوب حكومة فيهما للفوذ إلى الفم والأنف لأنها جناية أخرى ولزيادة الخطر والقبح فيهما
قالوا : وإن حز بسكين من كتف أو فخذ إلى البطن فأجافه فيجب على الجاني أرش جائفة وهو ثلث دية - وحكومة لجراحة الكتف' أو الفخذ لأنها في غير محل الجائفة وإن حز بها من الصدر إلى البطن أو النحر فيجب فيها أش جائفة بلا حكومة لأن جميعه محل الجائفة ولو أجافه حتى لذع كبده أو طحاله لزمه مع دية الجائفة حكومة في ذلك ولو كسر ضلعه كانت حكومته معتبرة بنفوذ الجائفة فإن نفذت في غير الضلع لزمه حكومة مع الدية وإن لم تنفذ إلا بكسره دخلت حكومة كسره في دية الجائفة
ولا يختلف أرش موضحة بكبرها ولا صغرها لاتباع الاسمن ولا بكونها بارزة أو مستورة بالشعر ولا يشترط أن تكون موضحة بل لو غرز فيه غبرة فوصلت إلى الجوف تسمى جائفةن ولذا قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : وهكذا كل ما في ارأس من الشجاج فهو على الأسماء ا ه
واعلم أن الموضحة تتعدد صورة وحكما ومحلا وفاعلا فلو أوضح الجاني مع اتحاد الحكم موضعين بينهما لحم وجلد معا . قيل : أو بينهما لحم فقط أو جلد فقط فموضحتان أما في الأولى فلاختلاف الصورة مع قوة الحادز وأما في الثانية فلوجود حاجز بين الموضعين والأصح أنها واحدة ولو كثرت الموضحات تعدد الأرش بحسبها ولا ضبط وقيل : لا يجب أكثر من دية النفس
قالوا : ولو انقسمت موضحة عمدا وخطأ فموضحتان أو شملت رأسا ووجها فموضحتان على الصحيح ولو وسع الجاني موضحته مع اتحاد الحكم فواحدة على الصحيح وقيل : ثنتان . ولو وسع غير الجاني الموضحة فثنتان لأن فعل الإنسان لا ينبني على فعل غيره . كما لو قطع يد رجل وحز آخر رقبته فإن على كل منهما جنايته . والجائفة كالموضحة في الاتحاد والتعدد المتقدم ولو طعنه بآلة نفذت في بطنه وخرجت من ظهره أو عكسه أو نفذت من جنب وخرجت من جنب فهما جائفتان في الأصح . اعتبارا للخارجة بالداخلة وقد ثبت أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه قضى في رجل رمى ردلا بسهم فأنفذه بثلثي الدية وثبت أيضا أن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قد قضى بهذا الحكم ولا مخالف لهما فكان لإجماعا ا ه
المالكية رحمهم الله تعالى - قالوا : يقتص من الموضحة . ويقتص مما قبلها من كل ما لا يظهر به العظم وهي سنة . ثلاث متعلقة بالجلد وهي الدامية والحارصة والسممحاق وثلاث متعلقة باللحم وهي الباضعة والمتلاحمة والملطاء بكسر الميم
قالوا : والهاشمة تعتبر في القصاص إن اتحد المحل بالمساحة حولا وعرضا وعمقا وما بعد الموضحة من الشجاج فلا قصاص فيه بل يتعين فيه العقل فيستوي عمده وخطؤه وهي : المتنقلة ( بفتح النون كسر القاف مشددة ) وهي لا تكون إلا في الرأس أو الوجه هي ما ينقل فيها فراش العظم وهو العظم الرقيق الكائف فوق العظم كقشر البصل أي ما يزيل منها الطبيب فراش العظم لأجل الدواء ليلتئم الجرح . وإنما لم يكن فيها قصاص لشدة خطرها على النفس وإزهاق الروح
وآمة . بفتح الهمزة ممدودة وهي ما أفضت لأم الدماغ أي الجرح الواصل لأم دماغ ولم تخرقها . وأم الدماغ جلدة رقيقة مفروشة عليه متى انكشفت عنه مات والدماغ اسم للمخ
قالوا : ولا يجب القصاص إن عظم الخطر واشتد الخوف في غير الجراحات التي بعد الموضحة . أي جراح الجسد غير المنقلة والآمة المتقدمتين . لأنه لا قصاص فيهما من غير قيد بعظم الخطر لأن شأنهما عظم الخطر والجراحات التي في الجسد ويخاف منها إزهاق الروح ككسر عظم الصدر وكسر عظم الصلب أو العنق ورض الأنثيين
مبحث في بأخير القصاص
الحنفية - قالوا : من جرح رجلا جراحة عمدا ووجب القصاص فلا يقتص منه حتى يبرأ من الجراحة لقوله صلوات الله وسلامه عليه : ( يستأني في الجراحات سنة ) ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم لأنها ربما تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل وإنما يستقر الأمر بالبرء
المالكية - قالوا : يجب تأخير القصاص فيما دون النفس لعذر كبرد شديد أو حر يخاف منه الموت لئلا يموت فيلزم أخذ نفس بدون نفس وكذلك يؤخر إقامة القصاص في الأطراف إذا كان الجاني مريضا حتى يبرأ من مرضه ويؤخر أيضا القصاص فيما دون النفس حتى يبرأ المجروح لاحتمال أن يموت فيكون الواجب القتل بقسامة وينتظر برء المجني عليه ولو تأخر البرء سنة خوف أن يؤول إلى النفس أو إلى ما تحمله العاقلة وتجب الحكومة إذا برئ على شين وإلا ففيه الأدب في العمد
الشافعية - قالوا : يجب أن يقتص المستحق على الفور إن طلب ذلك في النفس جزما ويقتص من الجاني فيما دون النفس في الحال اعتبارا بالقصاص في النفس لأن الموجب قد تحقق فلا يعطل ولأن القصاص موجب الإتلاف فيتعجل كقيم المتلفات والتأخير أولى لاحتمال العفو ويجوز للمجني عليه أن يقطع الأطراف متوالية ولو فرقت من الجاني لأنها حقوق واجبه في الحال
تأخير قصاص الحامل
واتفق الأئمة : على أن المرأة الحامل إذا وجب عليها القصاص في النفس أو الأطراف إذا طلب المجني عليه حبسها فإنها تحبس حتى تضع حملها ويؤخر عنها القصاص في النفس والأطراف حتى تضع وترضع وليدها وينقضي النفاس ويستغني عنها ولدها بغيرها من امرأة أخرى أو بهيمة يحل لبنها أو فطام حولين إذا فقد ما يستغني الولد به وذلك في قصاص النفس . لأنه اجتمع فيها حقان حق الجنين وحق الولي في التعجيل ومع الصبر يحصل استيفاء الجنين فهو أولى من تفويت أحدهما
أما في قصاص الطرف أو حد القذف فيؤجل لأن في استيفائه قد يحصل إجهاض الجنين وهو متلف له غالبا وهو بريء فلا يهلك بجريمة غيره ولا فرق بين أن يكون الجنين من حلال أو جرام ولا بين أن يحدث بعد وجوب العقوبة أو قبلها حتى أن المرتدة لو حملت من الزنا بعد الردة لا تقتل حتى تضع حملها وأما تأخيرها لارضاع اللبأ ( هو اللبن الرقيق الذي ينزل من المرأة في الأيام الأولى من الولادة ) فلأن الولد لا يعيش إلا به محققا أو غالبا مع أن التأخير يسير وأما تأخيرها للاستغناء بغيرها فلأ جل حياة الولد أيضا فلأنه إذا وجب التأخير لوضعه فوجوبه بعد وجوده وتيقن حياته أولى ويسن صبر الولي بالاستيفاء بعد وجود مرضعات يتناوبنه أو لبن شاة أو نحوه حتى توجد امرأة فاضلة مرضعة لئلا يفسد خلقه نشؤه بالألبان المختلفة ولبن البهيمة وتجبر المرضعة بالأجرة فلو وجد مراضع وامتنعن أجبر الحاكم من يرى منهن بالأجرة
قالوا : ولو بادر المستحق وقتلها بعد انفصال الولد قبل وجود ما يغنه فمات الولد لزمه القود فيه لأنه تسبب في موته كما لو حبس رجلا ببيت ومنعه الطعام والشراب حتى مات . وإن قتلها وهي حامل ولم ينفصل حملها أو انفصل سالما ثم مات بعد ذلك فلا ضمان عليه لأنه لا يعلم أنه مات بسبب الجناية فإن انفصل ميتا فالواجب في غرة وكفارة وإن انفصل متألما ؟ ثم مات فتجب دية وكفارة لأن الظاهر أن تألمه وموته من موتها والدية والغرة تجب على العاقلة لأن الجنين لا يباشر بالجناية ولا تتيقن حياته فيكون هلاكه خطأ أو شبه عمد بخلاف الكفارة فإنها تجب في ماله خاصة وإن قتلها الولي بأمر الحاكم - كان الضمان على الإمام علما بالحمل أو جهلا أو علم الإمام وحده . لأن البحث عليه وهو الآمر به والمباشر كالآلة لصدور فعله عن رأيه وبحثه
قالوا : والصحيح تصديقها في حملها إذا أمكن حملها عادة بغير مخيلة لقول تعالى : { ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر } من آية [ 228 سورة البقرة ] أي من حمل أو حيض ومن حرم عليه كتمان شيء وجب قبوله إذا أظهره كالشهادة لأن الرسول صلوات الله وسلامه عليه قبل قول الغامدية في الحمل ولم يطلب منها البينة ولا حلف يمين أما إذا لم يمكن حملها عادة كآيسة مثلا فلا تصدق في ادعاء الحمل لأن الواقع يكذبها
وقيل : لا تصدق في اعترافها بالحمل لأن الأصل عدم الحمل وهي متهمة بتأخير الواجب فلا بد من بينة تقوم على ظهور مخايله أو إقرار المستحق
وعلى القول الأول هل تحلف أو لا ؟ قولان أرجحهما الأول . لأن لها غرضا في التأخير
مبحث موت المجني عليه بعد القصاص
الحنفية رحمهم الله تعالى - قالوا : إذا قطعت يد رجل عمدا فاقتص له من يد الجاني ثم مات المجني عليه فإنه يقتل المقتص منه لأنه تبين أن الجناية كانت قتل عمد وحق المقتص له القود واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود إذا استوفى طرف من عليه القود
وعن أبي يوسف : أنه يسقط حقه في القصاص . أنه لما اقدم على القطع فقد أبرأه عما وراءه والحنفية : يقولون : إنما أقدم على القطع ظنا منه أن حقه فيه وبعد السراية تبين أنه في القود فلم يكن مبرئا عنه بدون العلم به
الشافعية - قالوا : لو اقتص مقطوع عضو فيه نصف الدية من قاطعه ثم المقطوع الأول سراية فيجب القصاص من القاطع ويجوز لأولياء الدم العفو عنه بنصف دية فقط لأن اليد المستوفاة قبل الموت مقابلة بالنصف الآخر
وأن مات الجاني حتف أنفه أو قتله غير القاتل تعين نصف الدين في تركة الجاني ولو قطع ينده فاقتص المقطوع ثم مات سراية فلوليه حز رقبة الجاني في مقابلة نفس مورثه فإن عفا عن حزها فلا شيء له لأنه استوفى ما يقابل الدية بقصاص اليدين
يتبع