عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 24-02-2023, 10:06 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,716
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مشاهد وعبر من قصــة أصـــحــــــاب الكهــــــــف

مشاهد وعبر من سورة الكهف (24)
- قصة ذي القرنين (الحلقة الأخيرة)




هذه جولةٌ تأمُّليةٌ في رحاب سورة الكهف، نستهدف منها إيقاظ وعي العاملين في الدعوة الإسلامية، بأن ميادين الإصلاح متعددة، وأن بوسعهم أن يجعلوا مِن الحياة كلها محرابًا للدعوة إلى الله، والتغيير والإصلاح، وقد تضمّنَت السورة بين جنباتها أربعًا من القصص الرائعة، تحدثنا عن ثلاثة منها، وفي هذه المقالات نتناول القصة الرابعة وهي قصة ذي القرنين، وقد احتوت هذه القصة على ثلاثة مشاهد، المشهد الأول: الرحلة بين المشرق والمغرب، والمشهد الثاني: بناء السد، والمشهد الثالث: مشاهد يوم العرض، واليوم نستكمل الحديث عن رسائل المشهد الثالث.
الرسالة الرابعة: النعيم الدائم
قال الله -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا}. جعل الله الجنة نزلًا للمؤمنين يمكثون فيها بلا نهاية، ولما كان الخلود في الشيء يورث الملل والسآمة، جعل الله في نفوس أهل الجنة الرغبة في البقاء فيها، وعدم إرادة التحول عنها، قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «الفردوس يطلق على البستان، المحتوي على الكرم، أو الأشجار الملتفة، وهذا صادق على جميع الجنة، فجنة الفردوس نزل، وضيافة لأهل الإيمان والعمل الصالح، وأي ضيافة أجل وأكبر وأعظم مِن هذه الضيافة المحتوية على كل نعيم للقلوب والأرواح والأبدان، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من المنازل الأنيقة، والرياض الناضرة، والأشجار المثمرة، والطيور المغردة المشجية، والمآكل اللذيذة، والمشارب الشهية، والنساء الحسان، والخدم، والولدان، والأنهار السارحة، والمناظر الرائقة، والجمال الحسي والمعنوي، والنعمة الدائمة.
التنعم بالقرب مِن الرحمن
وأعلى ذلك وأفضله وأجله: التنعم بالقرب مِن الرحمن، ونيل رضاه؛ الذي هو أكبر نعيم الجنان، والتمتع برؤية وجهه الكريم، وسماع كلام الرءوف الرحيم، فلله تلك الضيافة، ما أجلها وأجملها، وأدومها وأكملها! وهي أعظم من أن يحيط بها وصف أحد من الخلائق، أو تخطر على القلوب، فلو علم العباد بعض ذلك النعيم علمًا حقيقيًّا يصل إلى قلوبهم؛ لطارت إليها قلوبهم بالأشواق، ولتقطعت أرواحهم مِن ألم الفراق، ولساروا إليها زرافات ووحدانًا، ولم يؤثروا عليها دنيا فانية، ولذات منغصة متلاشية، ولم يفوتوا أوقاتًا تذهب ضائعة خاسرة، يقابل كل لحظة منها من النعيم من الحقب آلاف مؤلفة، ولكن الغفلة شملت، والإيمان ضعف، والعلم قل، والإرادة نفذت فكان ما كان، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»
الرسالة الخامسة: كلمات الله الخالدة
قال الله -تعالى-: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا}، هذا مثل يضربه الله -عز وجل- لتقريب الصورة؛ لأننا لا نتمكن بعقولنا المحدودة أن نحيط علمًا بعلم الله الواسع، ولا بقدرته العظيمة وإحاطته الشاملة، قال -تعالى-: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} (الأنعام:103)، فالبحر هو أوسع وأغزر ما يعرفه البشر، والمداد هو: المادة التي تُستخدم في الكتابة، فلو تحولت هذه البحار الغزيرة إلى مداد لكتابة كلمات الله -عز وجل- لجفَّت بحور المداد، وبقيت كلمات الله لا تنفد، وهذا نظير قول الله -تعالى- في الآية الأخرى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. (لقمان:27).
قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: «وهذا من باب تقريب المعنى إلى الأذهان؛ لأن هذه الأشياء مخلوقة، وجميع المخلوقات، منقضية منتهية، وأما كلام الله فإنه من جملة صفاته، وصفاته غير مخلوقة، ولا لها حد ولا منتهى؛ فأي سعة وعظمة تصورتها القلوب فالله فوق ذلك، وهكذا سائر صفات الله -تعالى-: كعلمه، وحكمته، وقدرته، ورحمته؛ فلو جمع علم الخلائق من الأولين والآخرين، أهل السماوات وأهل الأرض، لَكَان بالنسبة إلى علم العظيم، أقل من نسبة عصفور وقع على حافة البحر، فأخذ بمنقاره من البحر بالنسبة للبحر وعظمته؛ ذلك بأن الله، له الصفات العظيمة الواسعة الكاملة، وأن إلى ربك المنتهى».
6- الرسالة الباقية
قال الله -تعالى-: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا}، بهذه الآية تودعنا سورة الكهف، تودعنا بعد أن بيَّنت لنا منزلة النبي -[- العالية التي تستمد علويتها وشرفها مِن كونه - صلى الله عليه وسلم - بَشَرًا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولكنه في الوقت ذاته يبلغ عن الله رسالته، ودينه وشرعته، وهذه الرسالة قائمة على الدعوة إلى وحدانية الله -عز وجل- التي تضمن للعبد النجاة في الآخرة، فمن كان همه وغاية سعيه أن يلقى الله -عز وجل- في هناء وسعادة وطيب مقام، فعليه بالعمل الصالح الذي يخلص فيه صاحبه إلى الله -عز وجل-، ويحقق فيه حسن متابعته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فمن حقق هذين الشرطين في الدنيا نال حسن اللقاء في الآخرة.
الدرس الأهم من السورة
إذا أردنا أن نضع عنوانًا للدرس الأهم الذي أرادت السورة أن تعلمنا إياه، سنجده يدور حول (الأمل)؛ حيث بدأت السورة بضيق الكهف، وانتهت بسعة ملك ذي القرنين، الذي ملك المشارق والمغارب، إن القرآن يريد أن يرشدنا إلى أن قضية الأمل مسألة حتمية لا بديل عنها؛ لأن اليأس والإحباط يؤديان إلى القعود والقنوط، وكلاهما خطر داهم على الفرد والمجتمع والأمة، فضلا عن أن اليأس والإحباط مذمومان شرعًا، وقد حذرنا القرآن من ذلك، وأمرنا بالبُعد عنها (ونهانا عن اليأس)، فقال -تعالى-: {وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} (يوسف:87).
الأمل منهجية نبوية
ثم إن الأمل منهجية نبوية، وسنة محمدية، طبَّقها النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أصحابه في أحلك الظروف، وأشد الأزمات، وليس هناك أوضح من موقفه - صلى الله عليه وسلم - في حفر الخندق، وهو يبشِّر الصحابة بفتح فارس والروم، وهزيمة كسرى وقيصر، وهم في أشد مراحل الضعف والحصار.
تثبيت روح الأمل
كما أنه يجب عليك أن تبثّ في نفسك روح الأمل لكي تخرج من الحياة منتصرًا مرفوع الجبين، فحياتك جزء ضئيلٌ جدًّا من عمر الحياة؛ فاحرص أن تكون هذه الحياة مليئة بالعمل، مفعمة بالأمل، واعلم أنك لستَ بأول الطريق ولست بآخره، فقد سبقك على الدرب كثرٌ، وسيخلفك عليه آخرون، فلا تنظر إلى الحياة مِن منظورٍ ضيقٍ، وافتح لنفسك نوافذ الأمل والتفاؤل، حتى تسعد في حياتك، ويسعد بك مَن حولك.
إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بالإضافة إلى ذلك: فإن سورة الكهف ترشدنا إلى ضرورة وأهمية إحياء شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ففي كل القصص التي وردت بالسورة كان محور القصة يدور حول الدعوة والبلاغ وتغيير المنكرات، ففتية الكهف أنكروا ما عليه قومهم من الكفر والتكذيب، والرجل الصالح أنكر على صاحب الجنتين تكذيبه بالبعث وعبادته للمال والمادة، وموسى -عليه السلام- أنكر على الخضر ما رآه مِن أفعال تبدو في ظاهرها شنيعة ومنكرة، وذو القرنين أنكر على أهل المغرب ما هم عليه من الظلم والفساد.
الثبات على المنهج
والدعوة الإسلامية الآن تريد جيوشًا وثابة من الرجال الذين يتعلمون الثبات على المنهج، والمرونة في الحركة، فيكونون كالسنبلة التي تميل مع الريح ذات اليمين وذات الشمال، ولكنها أبدًا لا تراوح مكانها، ولا تتخلى عن جذورها، وعند التأمل ستجد أن مرونتها أحد عوامل بقائها واستمراريتها.
أما الجذع الصلب الذي يتصدَّى للرياح والعواصف، فإنه قد يصمد أمامها مرة أو مرات، ولكنه في لحظةٍ ما سوف ينكسر؛ ليس لأنه ضعيف، ولكن لأن الرياح أكثر منه قوة، وفي المقابل: هناك نوعٌ مِن الزرع الهش الذي لا يقوى على المقاومة ولا يصمد أمام العواصف؛ لأنه منبت الأصل، سطحي التواجد، ضعيف الأثر، فما أسهل أن يُجتث ويضيع!
فوائد من المشهد
- مداومة الإنسان على المعصية وشدة تعلقه بها تجعله على خطرٍ عظيمٍ، فربما أدمن فعلها حتى تصبح له بمنزلة العادة، لذلك أمرنا الله بالمداومة على الاستغفار والتوبة.
- أمر مؤلم أن يظن الإنسان بنفسه خيرًا وهو على خلاف ذلك، والأكثر منه ألمًا ومرارة: أن يكتشف الإنسان هذا الأمر متأخرًا؛ بحيث لا يتمكن مِن التغيير والإصلاح.
- جعل الله الجنة نزلًا للمؤمنين يمكثون فيها بلا نهاية، ولما كان الخلود في الشيء يورث الملل والسآمة، جعل الله في نفوس أهل الجنة الرغبة في البقاء فيها، وعدم إرادة التحول عنها.

أحمد الشحات




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 22.81 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.18 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.75%)]