الشيء الثاني مما قد يتمسك به لزوال النقص: أنا وجدنا الصلاة تجبر النقص الحاصل فيها بسجود السهو والحج ينجبر النقص فيه بدماء الحيوانات فقد يقال الصوم أيضا ينجبر النقصان الحاصل فيه بالتوبة وإطلاق جبر سهو الصلاة بسجود السهو أطبق عليه الفقهاء في إطلاقاتهم ولم يتعرضوا لتقريره وكان عندي فيه توقف لأن أكثر الأحاديث لم يرد فيها ما يدل على ذلك وفي سنن أبي داود عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شك أحدكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين فإذا استيقن التمام سجد سجدتين فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة والسجدتان وإن كانت ناقصة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان مرغمتي الشيطان
وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى سجدتي السهو المرغمتين فكنت أقول لعل الأمر بسجود السهو لإرغام الشيطان فقط لا لجبر الصلاة حتى رأيت في البخاري عن ابن بحينة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في صلاة الظهر وعليه جلوس فلما أتم صلاته سجد سجدتين فكبر في كل سجدة وهو جالس قبل أن يسلم وسجدهما الناس معه مكان ما نسي من الجلوس
فقوله مكان ما نسي من الجلوس دليل على أنه جابر وهو من كل كلام ابن بحينة والظاهر أنه عن توقيف أو فهم وأيضا فالشيطان قصد نقص الصلاة فإرغامه إنما يحصل بالكمال ولكنه جعل طريقة السجود الذي امتنع الشيطان منه لآدم عليه السلام
فالتشهد الأول وغيره مما يجبر من أفعال الصلاة بالسجود فقد يكون نقص الصوم أيضا كذلك ثم نظرت [فتاوى السبكي (1/231)] فوجدت خبر ابن بحينة في السهو بالنقص وهو ترك مأمور فيظهر الجبر فيه ولا يأتي مثله في الصوم إلا إن ثبت لنا أن الشارع جعل الترك لتلك الأمور جزءا من الصوم ومع ذلك قد تركب من الترك والفعل والحديث الذي فيه إرغام الشيطان لم يكن السجود جابرا لشيء فلذلك جعل مرغما فصار سجود السهو على قسمين تارة يكون جابرا وتارة لا يكون جابرا وذلك إذا زاد قياما أو ركوعا أو سجودا ساهيا والإتيان بالمنهيات في الصوم من هذا القبيل ففعل المنهي فيه كزيادة ركعة في الصلاة ولم يجعل الشارع السجود فيها إلا إرغاما فقط لا جابرا فدل على أنه لا نقص فيها اعتبارا بالصورة وعدم التعمد بالفعل الزائد
أما هنا فقد حصل تعمد ارتكاب المنهي فالنقص حاصل من حيث المعنى فينبغي أن يكون له جابرا لكن لم يرع من الشرع ذلك
فإن قلت المجبور من الصلاة بسجود السهو بعض منها والصوم لم ينقص منه بعض فلا يقاس على الصلاة في ذلك
قلت المقصود الجبر من حيث الجملة والجزء الذي هو ركن لا يجبر في شيء من المواضع والأبعاض في الصلاة والواجبات في الحج تجبر والسنن لا تجبر في الصلاة والصوم ليس منقسما كالصلاة إلى أبعاض وغيرها لكن مطلق كونه مطلوبا فيه قد يلحقه بالبعض أو السنة وعلى كل تقدير نحن إنما قلنا ذلك أبدا لما يمكن أن يتمسك به متمسك ونحن لا نرى ذلك ونقول لمن يقصد التمسك به الجبران ليس مما يثبت قياسا وإنما ثبت في الصلاة والحج بنصوص وردت فيه وههنا في الصوم لم يرد ما يقتضي جبره بغيره لا بالتوبة ولا بغيرها وليس لنا نصب جبرانات ولا قياس صحيح في ذلك هنا فوجب الكف عنه وإنا لا نزيد في التوبة على ما اقتضاه نص الشارع فيها ولا نثبت في الصوم جبرانا لعدم الدليل عليه ونثبت النقص فيه لما تقدم من الأدلة ونستصحبه لأن الاستصحاب دليل شرعي حتى يأتي دليل على خلافه .