رد: شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام --- متجدد فى رمضان

شرح العمدة لابن تيمية كتاب الصيام
تقي الدين أبو العباس أحمد بن تيمية
من صــ 766الى صــ 775
(53)
المجلد الثانى
كتاب الصيام
(23)

* فصل:
وإذا نذر اعتكاف يوم يقدم فلان؛ انعقد نذره؛ لأنه نذر قربة, يمكنه الوفاء ببعضها, كما لو نذر صوم يوم يقدم فلان؛ فإن قدم ليلاً؛ لم يلزم النذر؛ لفوات الشرط, وإن قدم نهاراً؛ اعتكف ما بقي من النهار, ولم يلزمه قضاء ما مضى قبل قدومه؛ كما لو قال: لله عليَّ أن أعتكف أمس.
وإن قدم والناذر عاجزاً عن الاعتكاف لمرض أو حبس أو نحو ذلك؛ فعليه مع الكفارة قضاء ما بقي من النهار دون ما مضى؛ لأنه لم يجب عليه إلا اعتكاف ما بقي. هذا قول القاضي وأصحابه وأبو محمد وغيرهم من المتأخرين.
[من شرط] الصوم؛ فإنه يلزمه القضاء, ولا يصح اعتكاف بعض يوم عن نذره؛ لعدم شرطه, وهو النذر.
وعلى الوجه الآخر؛ يجزيه اعتكاف ما بقي منه إذا كان صائماً.

واصل هذا أن عندهم مقتضى النذر في الصوم والاعتكاف الفعل فيما بقي من الزمان بعد القدوم, وأما ما وجد قبل القدوم؛ فليس بواجب عليه, لكن لما لم يمكن في الصوم أن يصام بعض يومه؛ لزمه صوم يوم كامل, حتى إذا كان قد أصبح صائماً متطوعاً؛ أجزأه تمام ما بقي من نذره.
وقال أبو بكر: إذا قدم في بعض النهار؛ كان عليه كفارة يمين والقضاء, ولا معنى لإِتمامه من يوم آخر.
وحكاه عن أحمد؛ كما قد نص أحمد في غير موضع في الصوم على مثل ذلك.
وهذا لأن لفظ الناذر اقتضى اعتكاف جميع اليوم كما اقتضى صوم جميع اليوم, وقد تعذر ذلك؛ فعليه القضاء في الاعتكاف, كما عليه قضاء الصوم والكفارة لفوات المعين. . . .
مسألة:
ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتناب ما لا يعنيه من قول أو فعل.
فيه فصلان:
أحدهما: أن الذي ينبغي للمعتكف أن يشتغل بالعبادات المحضة التي بينه وبين الله تعالى؛ مثل: القرآن, وذكر الله تعالى, والدعاء, والاستغفار, والصلاة والتفكر, ونحو ذلك.

فأما العبادات المتعلقة بالناس؛ مثل: إقراء القرآن, والتحديث, وتعليم العلم, وتدريسه, والمناظرة فيه, ومجالسة أهله: إذا قصد به وجه الله تعالى, لا المباهاة؛ فقال الآمدي: هل الأفضل للمعتكف أن يشتغل بإقراء القرآن والفقه أو يشتغل بنفسه؟ على روايتين:
إحداهما: يشتغل بإقراء الفقه. وهذا اختيار الآمدي وأبي الخطاب؛ لأن هذا يتعدَّى نفعه إلى الناس, وما تعدى نفعه من الأعمال أفضل مما اقتصر نفعه على صاحبه.
والثانية: لا يستحب له ذلك. وهذا هو المشهور عنه, وعليه جمهور أصحابنا؛ مثل: أبي بكر, والقاضي, وغيرهما.
قال القاضي والشريف وغيرهما: يكره ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف؛ دخل معتكفه, واشتغل بنفسه, ولم يجالس أصحابه, ولم يحادثهم كما كان يفعل قبل الاعتكاف, ولو كان ذلك أفضل؛ لفعله, ولأن الاعتكاف هو من جنس الصلاة والطواف, ولهذا قرن الله تعالى بينهما في قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: آية 125].
ولما كان في الصلاة والطواف شغل عن كلام الناس, وكذلك الاعتكاف, وذلك أنها عبادة شرع لها المسجد, فلا يستحب الإِقراء حين التلبس بها كالصلوات والطواف.
قال القاضي: لا خلاف أنه يكره أن يهدي القرآن وهو يصلي أو يطوف, كذلك الاعتكاف, ولأن العكوف على الشيء هو الإِقبال عليه على وجه المواظبة, ولا يحصل ذلك للعاكف إلا بالتبتل إلى الله سبحانه وترك الاشتغال بشيء آخر.

وأما كون النفع المتعدي أفضل؛ فعنه أجوبة:
أحدها: أنه لا يلزم من كون الشيء أفضل أن يكون مشروعاً في كل عبادة, بل وضع الفاضل في غير موضعه يجعله مفضولاً, وبالعكس.
ولهذا؛ قراءة القرآن أفضل من التسبيح, وهي مكروهة في الركوع والسجود, ولهذا لا يشرع هذا في الصلاة والطواف, وإن كانا أفضل من الصلاة والطواف النافلتين.
الثاني: أن كونهما أفضل يقتضي الاشتغال بهما عن الاعتكاف.
قال الآمدي: لا تختلف الرواية أن من أراد أن يبتدئ الاعتكاف؛ فتشاغله بإقراء القرآن أفضل من تشاغله بالاعتكاف.
قال أحمد في رواية المروذي؛ وقد سئل عن رجل يقرئ في المسجد, ويريد أن يعتكف؟ فقال: إذا فعل هذا؛ كان لنفسه, وإذا قعد؛ كان له ولغيره, يقرئ أعجب إليَّ.
وفي لفظ: لا يتطيب المعتكف, ولا يقرئ في المسجد وهو معتكف, وله أن يختم في كل يوم, فإذا فعل ذلك؛ كان لنفسه, وإذا قعد في المسجد؛ كان له ولغيره, يقعد في المسجد يقرئ أحب إليَّ من أن يعتكف.
الثالث: أن النفع المتعدي ليس أفضل مطلقاً, بل ينبغي للإِنسان أن يكون له ساعات يناجي فيها ربه, ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها, ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم, ولهذا كان خلْوة الإِنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس. . . .

* فصل:
قال أحمد في رواية ابن حرب: المعتكف إذا أراد أن ينام؛ نام متربعاً؛ لئلا [تبطل] عليه الطهارة, فإذا كان نهاراً, وأراد أن ينام؛ فلا بأس أن يستند إلى سارية, ويكون ماء طهارته معلوماً؛ لئلا يقوم من نومه وليس معه ماء.
قال علي بن حرب: إنما أراد أحمد أن يكون ماؤه معلوماً, لا يكون يستيقظ يشتغل قلبه بالطلب.
قال أبو بكر: لا ينام إلا عن غلبة, ولا ينام مضطجعا, ويكون الماء منه قريباً؛ لأن الله سمى العاكف قائماً, والقائم هو الواقف للشيء المراعي له, والنوم يضيع ذلك عليه, ولأن العكوف على الشيء هو القيام عليه على سبيل الدوام, وذلك لا يكون من النائم.
نعم؛ يفعل منه ما تدعو إليه الضرورة؛ كما يخرج من المسجد لضرورة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف العشر الأواخر؛ أحيا الليل كله, وشد المئزر.
فإن شق عليه النوم قاعداً:
851 - عن نافع, عن ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف؛ طرح له فراش, ويوضع له سريره وراء أسطوانة [التوبة]». رواه ابن ماجه.

*الفصل الثاني:
أنهه ينبغي له اجتناب ما لا يعنيه من القول والعمل؛ فإن هذا مأمور به في كل وقت.
852 - لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه». رواه أبو داود.
وقال أحمد في رواية المروذي: يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه, ولا يؤويه إلا سقف المسجد, ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل.
قال أصحابنا: ولا يستحب له أن يتحدث بما أحب, وإن لم يكن مأثماً, ويكره لكل أحد السباب والجدال والقتال والخصومة, وذلك للمعتكف أشد كراهة.
853 - قال علي رضي الله عنه: «أيما رجل اعتكف؛ فلا يساب ولا يرفث في الحديث, ويأمر أهله بالحاجة (أي: وهو يمشي) , ولا يجلس عندهم». رواه أحمد.
قالوا: ويجوز الحديث ما لم يكن إثماً.
854 - لحديث صفية: أنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في معتكفه فحدثته.

قال أحمد في رواية الأثرم: لا بأس أن يقول للرجل: اشتر لي كذا, واصنع كذا.
وفي معنى ذلك ما يأمر به مما يحتاجه أو يأمر بمعروف من غير إطالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان معتكفاً؛ أطلع رأسه من القبة, وقال: «من كان اعتكف معي؛ فليعتكف العشر الأواخر. . .» الحديث, وتحدث مع صفية بنت حُيي.
قالوا: فإن خالف وخاصم أو قاتل؛ لم يبطل اعتكافه؛ لأن ما لا يبطل العبادة مباحه لا يبطلها محظوره؛ كالنظر, وعكسه الجماع.
فأما الصمت عن كل كلام؛ فليس بمشروع في دين الإِسلام.
قال ابن عقيل: يكره الصمت إلى الليل.
وقال غيره من أصحابنا: بل يحرم مداومة الصمت.
والأشبه: أنه عن صمت عن كلام واجب - كأمر بمعروف ونهي عن منكر وتعين عليه ونحو ذلك -؛ حرم, وإن سكت عن مستحب أو فرض قام به غيره - كتعليم العلم والإِصلاح بين الناس ونحو ذلك -؛ فهو مكروه.
فإن أراد المعتكف أن يفعل ذلك؛ لم يستحب له ذلك, وهو مكروه أو محرم.
855 - وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صمات يوم إلى الليل». رواه أبو داوود.
856 - وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس, فقال: «منْ هذا؟». قالوا: هذا أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». رواه البخاري.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|