عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 13-02-2023, 12:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,581
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن للإمام الطبري .....متجدد


تفسير جامع البيان عن تأويل آي القرآن
الإمام محمد بن جرير الطبري
الجزء السادس
تَفْسِيرِ سُّورَةِ آل عمران
الحلقة (396)
صــ 258 إلى صــ 272




وأما قوله : " متاع الحياة الدنيا " فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يستمتع به في الدنيا أهلها أحياء ، فيتبلغون به فيها ، ويجعلونه وصلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم ، التي زين لهم حبها في عاجل دنياهم ، دون أن تكون عدة لمعادهم ، وقربة لهم إلى ربهم ، إلا ما أسلك في سبيله ، وأنفق منه فيما أمر به .

وأما قوله : " والله عنده حسن المآب " فإنه يعني بذلك - جل ثناؤه - : وعند الله حسن المآب يعني : حسن المرجع ، كما : -

6750 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " والله عنده حسن المآب " يقول : حسن المنقلب ، وهي الجنة .

وهو مصدر على مثال " مفعل " من قول القائل : " آب الرجل إلينا " إذا رجع " فهو يئوب إيابا وأوبة وأيبة ومآبا " غير أن موضع الفاء منها مهموز ، والعين مبدلة من " الواو " إلى " الألف " بحركتها إلى الفتح . فلما كان حظها الحركة إلى الفتح ، وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت " ألفا " كما قيل : " قال " فصارت عين الفعل " ألفا " لأن حظها الفتح . " والمآب " مثل " المقال " و " المعاد " و " المجال " [ ص: 259 ] كل ذلك " مفعل " منقولة حركة عينه إلى فائه ، فمصيرة واوه أو ياؤه " ألفا " لفتحة ما قبلها .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : وكيف قيل : " والله عنده حسن المآب " وقد علمت ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب ؟

قيل : إن ذلك معني به خاص من الناس ، ومعنى ذلك : والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم . وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها .

فإن قال : وما " حسن المآب " ؟ قيل : هو ما وصفه به - جل ثناؤه - وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مخلدا فيها ، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله .
القول في تأويل قوله ( قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد ( 15 ) )

قال أبو جعفر : يعني - جل ثناؤه - : قل ، يا محمد ، للناس الذين زين لهم حب الشهوات من النساء والبنين ، وسائر ما ذكر ربنا - جل ثناؤه - : " أؤنبئكم " أأخبركم وأعلمكم " بخير من ذلكم " يعني : بخير وأفضل لكم " من [ ص: 260 ] ذلكم " يعني : مما زين لكم في الدنيا حب شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا .

ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام .

فقال بعضهم : تناهى ذلك عند قوله : " من ذلكم " ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم ، فقيل : " للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها " فلذلك رفع " الجنات " .

ومن قال هذا القول لم يجز في قوله : " جنات تجري من تحتها الأنهار " إلا الرفع ، وذلك أنه خبر مبتدأ غير مردود على قوله : " بخير " فيكون الخفض فيه جائزا . وهو وإن كان خبرا مبتدأ عندهم ، ففيه إبانة عن معنى " الخير " الذي أمر الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يقول : للناس : أؤنبئكم به ؟ " والجنات " على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " .

وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول ، إلا أنهم قالوا : إن جعلت اللام التي في قوله : " للذين " من صلة " الإنباء " جاز في " الجنات " الخفض والرفع : الخفض على الرد على " الخير " والرفع على أن يكون قوله : " للذين اتقوا " خبر مبتدأ ، على ما قد بيناه قبل .

وقال آخرون : بل منتهى الاستفهام قوله : " عند ربهم " ثم ابتدأ : " جنات تجري من تحتها الأنهار " . وقالوا : تأويل الكلام : " قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم " ثم كأنه قيل : " ماذا لهم " . أو : " ما ذاك " ؟ فقال : هو " جنات تجري من تحتها الأنهار " الآية . [ ص: 261 ]

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من جعل الاستفهام متناهيا عند قوله : " بخير من ذلكم " والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله : " للذين اتقوا عند ربهم جنات " فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر ، وهو إبانة عن معنى " الخير " الذي قال : أؤنبئكم به ؟ فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير . قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري : وأما قوله : " خالدين فيها " فمنصوب على القطع

ومعنى قوله : " للذين اتقوا " للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . " عند ربهم " يعني بذلك : لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم . " والجنات " البساتين ، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى وأن قوله : " تجري من تحتها الأنهار " يعني به : من تحت الأشجار ، وأن " الخلود " فيها دوام البقاء فيها ، وأن " الأزواج المطهرة " هن نساء الجنة اللواتي طهرن من كل [ ص: 262 ] أذى يكون بنساء أهل الدنيا ، من الحيض والمني والبول والنفاس وما أشبه ذلك من الأذى بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : " ورضوان من الله " يعني : ورضى الله ، وهو مصدر من قول القائل : " رضي الله عن فلان فهو يرضى عنه رضى " منقوص " ورضوانا ورضوانا ومرضاة " . فأما " الرضوان " بضم الراء ، فهو لغة قيس ، وبه كان عاصم يقرأ .

قال أبو جعفر : وإنما ذكر الله - جل ثناؤه - فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير رضوانه ، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة ، كما : -

6751 - حدثنا ابن بشار قال حدثني أبو أحمد الزبيري قال : حدثنا سفيان عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة ، قال الله تبارك وتعالى : أعطيكم أفضل من هذا ! فيقولون : أي ربنا ، أي شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني .

وقوله : " والله بصير بالعباد " يعني بذلك : والله ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه ، فيطيعه ، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعده للذين اتقوه على حب ما زين له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدد منها تعالى [ ص: 263 ] ذكره وبالذي لا يتقيه فيخافه ، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زين له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال ، على ما عنده من النعيم المقيم عالم - تعالى ذكره - بكل فريق منهم ، حتى يجازي كلهم عند معادهم إليه جزاءهم ، المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
القول في تأويل قوله ( الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ( 16 ) )

قال أبو جعفر : ومعنى ذلك . قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا ، [ الذين ] يقولون : " ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار " .

وقد يحتمل " الذين يقولون " وجهين من الإعراب : الخفض على الرد على " الذين " الأولى ، والرفع على الابتداء ، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها " الذين " الأولى ، فيكون رفعها نظير قول الله - عز وجل - : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم ) [ سورة التوبة : 111 ] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها : ( التائبون العابدون ) [ سورة التوبة : 112 ] . ولو كان جاء ذلك مخفوضا كان جائزا .

ومعنى قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا " : الذين يقولون : إننا صدقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك " فاغفر لنا ذنوبنا " يقول : فاستر علينا ذنوبنا ، بعفوك عنها ، وتركك عقوبتنا عليها " وقنا عذاب النار " [ ص: 264 ] ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها . وإنما معنى ذلك : لا تعذبنا يا ربنا بالنار .

وإنما خصوا المسألة بأن يقيهم عذاب النار ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه .

وأصل قوله : " قنا " من قول القائل : " وقى الله فلانا كذا " يراد : دفع عنه " فهو يقيه " . فإذا سأل بذلك سائل قال : " قني كذا " .
القول في تأويل قوله ( الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين )

قال أبو جعفر : يعني بقوله : " الصابرين " الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس .

ويعني ب " الصادقين " الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرار به وبرسوله وما جاء به من عنده ، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه .

ويعني ب " القانتين " المطيعين له .

وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها ، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

وقد كان قتادة يقول في ذلك بما : -

6752 - حدثنا به بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة [ ص: 265 ] قوله : " الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين " " الصادقين " : قوم صدقت أفواههم واستقامت قلوبهم وألسنتهم ، وصدقوا في السر والعلانية " والصابرين " قوم صبروا على طاعة الله ، وصبروا عن محارمه " والقانتون " هم المطيعون لله .

وأما " المنفقون " فهم المؤتون زكوات أموالهم ، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها ، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم - جل ثناؤه - بإنفاقها فيها .

وأما " الصابرين " و " الصادقين " وسائر هذه الحروف ، فمخفوض ردا على قوله : " الذين يقولون ربنا إننا آمنا " والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله : " الذين يقولون " خفض ، ردا على قوله : " للذين اتقوا عند ربهم " .
القول في تأويل قوله ( والمستغفرين بالأسحار ( 17 ) )

قال أبو جعفر : اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم .

فقال بعضهم : هم المصلون بالأسحار .

ذكر من قال ذلك :

6753 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " هم أهل الصلاة .

6754 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه ، عن قتادة : " والمستغفرين بالأسحار " قال : يصلون بالأسحار . [ ص: 266 ]

وقال آخرون : هم المستغفرون .

ذكر من قال ذلك :

6755 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن حريث بن أبي مطر عن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : رب أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي . فنظرت فإذا ابن مسعود .

6756 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا الوليد بن مسلم قال : سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله - عز وجل - : " والمستغفرين بالأسحار " قال : حدثني سليمان بن موسى قال : حدثنا نافع : أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاة ثم يقول : يا نافع ، أسحرنا ؟ فيقول : لا . فيعاود الصلاة ، فإذا قلت : نعم ! قعد يستغفر ويدعو حتى يصبح .

6757 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي ، عن بعض البصريين ، عن أنس بن مالك قال : أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة .

6758 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا زيد بن الحباب قال : حدثنا أبو يعقوب الضبي قال : سمعت جعفر بن محمد يقول : من صلى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة ، كتب من المستغفرين بالأسحار .

وقال آخرون : هم الذين يشهدون الصبح في جماعة . [ ص: 267 ]

ذكر من قال ذلك :

6759 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال قلت لزيد بن أسلم : من " المستغفرين بالأسحار " ، قال : هم الذين يشهدون الصبح .

قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله : " والمستغفرين بالأسحار " قول من قال : هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها .

" بالأسحار " وهى جمع " سحر " .

وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء . وقد يحتمل أن يكون معناه : تعرضهم لمغفرته بالعمل والصلاة ، غير أن أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء .
القول في تأويل قوله ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ( 18 ) )

قال أبو جعفر : يعني بذلك - جل ثناؤه - : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وشهدت الملائكة ، وأولو العلم .

ف " الملائكة " معطوف بهم على اسم " الله " و " أنه " مفتوحة ب " شهد " .

قال أبو جعفر : وكان بعض البصريين يتأول قوله : " شهد الله " قضى الله ، ويرفع " الملائكة " بمعنى : والملائكة شهود وأولو العلم . [ ص: 268 ]

وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من " أنه " على ما ذكرت من إعمال " شهد " في " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إن " الثانية وابتدائها . سوى أن بعض المتأخرين من أهل العربية ، كان يقرأ ذلك جميعا بفتح ألفيهما ، بمعنى : شهد الله أنه لا إله إلا هو ، وأن الدين عند الله الإسلام - فعطف ب " أن الدين " على " أنه " الأولى ، ثم حذف " واو " العطف ، وهى مرادة في الكلام . واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو ) الآية . ثم قال : " أن الدين " بكسر " إن " الأولى ، وفتح " أن " الثانية بإعمال " شهد " فيها ، وجعل " أن " الأولى اعتراضا في الكلام غير عامل فيها " شهد " وأن ابن مسعود قرأ : " شهد الله أنه لا إله إلا هو " بفتح " أن " وكسر " إن " من : " إن الدين عند الله الإسلام " على معنى إعمال " الشهادة " في " أن " الأولى ، و " أن " الثانية مبتدأة . فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود . فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت جميع قرأة أهل الإسلام المتقدمين منهم والمتأخرين ، بدعوى تأويل على ابن عباس وابن مسعود ، زعم أنهما قالاه وقرآ به . وغير معلوم ما ادعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة . وكفى شاهدا على خطأ قراءته ، خروجها من قراءة أهل الإسلام .

قال أبو جعفر : فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتح الألف من " أنه " الأولى ، وكسر الألف من " إن " الثانية ، أعني من قوله : [ ص: 269 ] " إن الدين عند الله الإسلام " ابتداء .

وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدال على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية ، في فتح " أن " من قوله : " أن الدين " وهو ما : -

6760 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط عن السدي : " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة " إلى " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " قال : الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس أن الدين عند الله الإسلام .

فهذا التأويل يدل على أن " الشهادة " إنما هي عاملة في " أن " الثانية التي في قوله : " أن الدين عند الله الإسلام " . فعلى هذا التأويل جائز في " أن " الأولى وجهان من التأويل :

أحدهما : أن تكون الأولى منصوبة على وجه الشرط ، بمعنى : شهد الله بأنه واحد فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية ، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم " والشهادة " عاملة في " أن " الثانية ، كأنك قلت : شهد الله أن الدين عند الله الإسلام ، لإنه واحد ، ثم تقدم " لأنه واحد " فتفتحها على ذلك التأويل .

والوجه الثاني : أن تكون " إن " الأولى مكسورة بمعنى الابتداء ، لأنها معترض بها " والشهادة " واقعة على " أن " الثانية : فيكون معنى الكلام : شهد [ ص: 270 ] الله فإنه لا إله إلا هو - والملائكة ، أن الدين عند الله الإسلام ، كقول القائل : " أشهد - فإني محق - أنك مما تعاب به برئ " ف " إن " الأولى مكسورة ، لأنها معترضة " والشهادة " واقعة على " أن " الثانية .

قال أبو جعفر : وأما قوله : " قائما بالقسط " فإنه بمعنى : أنه الذي يلي العدل بين خلقه .

" والقسط " هو العدل من قولهم : " هو مقسط " و " قد أقسط " إذا عدل .

ونصب " قائما " على القطع .

وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من " هو " التي في " لا إله إلا هو " .

وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حال من اسم " الله " الذي مع قوله : " شهد الله " فكان معناه : شهد الله القائم بالقسط أنه لا إله إلا هو . وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك : ( وأولو العلم القائم بالقسط ) ، ثم حذفت " الألف واللام " من " القائم " فصار نكرة وهو نعت لمعرفة فنصب .

قال أبو جعفر : وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي ، قول من جعله قطعا ، [ ص: 271 ] على أنه من نعت الله - جل ثناؤه - لأن " الملائكة وأولي العلم " معطوفون عليه . فكذلك الصحيح أن يكون قوله : " قائما " حالا منه .

وأما تأويل قوله : " لا إله إلا هو العزيز الحكيم " فإنه نفى أن يكون شيء يستحق العبودة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه .

ويعني ب " العزيز " الذي لا يمتنع عليه شيء أراده ، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه " الحكيم " في تدبيره ، فلا يدخله خلل .

قال أبو جعفر : وإنما عنى - جل ثناؤه - بهذه الآية نفي ما أضافت النصارى الذين حاجوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عيسى من البنوة ، وما نسب إليه سائر أهل الشرك من أن له شريكا ، واتخاذهم دونه أربابا . فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالق كل ما سواه ، وأنه رب كل ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربا دونه ، وأن ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهل العلم به من خلقه . فبدأ - جل ثناؤه - بنفسه ، تعظيما لنفسه ، وتنزيها لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها ، كما سن لعباده أن يبدءوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره ، مؤدبا خلقه بذلك . [ ص: 272 ]

والمراد من الكلام الخبر عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدسوه من ملائكته وعلماء عباده . فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدها الكثير منهم - وأهل العلم منهم منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى ، وقول من اتخذ ربا غيره من سائر الخلق ، فقال : شهدت الملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو ، وأن كل من اتخذ ربا دون الله فهو كاذب احتجاجا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجوه من وفد نجران في عيسى .

واعترض بذكر الله وصفته على ما بينت كما قال - جل ثناؤه - : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ) [ سورة الأنفال : 41 ] ، افتتاحا باسمه الكلام ، فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادة بما وصفناه من نفي الألوهة عن غيره ، وتكذيب أهل الشرك به .

فأما ما قال الذي وصفنا قوله : من أنه عنى بقوله : " شهد " قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم ، لأن " الشهادة " معنى " والقضاء " غيرها .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.57 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.41%)]