
26-01-2023, 06:36 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ المائدة
المجلد السابع
الحلقة( 260)
من صــ 96 الى صـ 110
وقال شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى -:
قال تعالى: {سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه} يقول: هم يستجيبون {لقوم آخرين} وأولئك {لم يأتوك} وأولئك {يحرفون الكلم من بعد مواضعه} يقولون لهؤلاء الذين أتوك: {إن أوتيتم هذا فخذوه وإن لم تؤتوه فاحذروا} كما ذكروا في سبب نزول الآية: أنهم قالوا في حد الزنا وفي القتل: اذهبوا إلى هذا النبي الأمي فإن حكم لكم بما تريدونه فاقبلوه وإن حكم بغيره فأنتم قد تركتم حكم التوراة أفلا تتركون حكمه. فهذا هو استماع المتحاكمين من أولئك الذين لم يأتوه؛ ولو كانوا بمنزلة الجاسوس لم يخص ذلك بالسماع؛ بل يرون ويسمعون وإن كانوا قد ينقلون إلى شياطينهم ما رأوه وسمعوه؛ لكن هذا من توابع كونهم يستجيبون لهم ويوالونهم. يبين ذلك أنه قال:
{لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم} أي: لأسرعوا بينكم يطلبون الفتنة بينكم ثم قال: وفيكم مستجيبون لهم إذا أوضعوا خلالكم؛ ولو كان المعنى وفيكم من تجسس لهم: لم يكن مناسبا؛ وإنما المقصود: أنهم إذا أوضعوا بينكم يطلبون الفتنة وفيكم من يسمع منهم: حصل الشر.
وأما الجس فلم يكونوا يحتاجون إليه فإنهم بين المؤمنين وهم يوضعون خلالهم. مما يبين ذلك أنه قال: {سماعون للكذب أكالون للسحت} فذكر ما يدخل في آذانهم وقلوبهم من الكلام وما يدخل في أفواههم وبطونهم من الطعام: غذاء الجسوم وغذاء القلوب فإنهما غذاءان خبيثان: الكذب والسحت وهكذا من يأكل السحت من البرطيل ونحوه: يسمع الكذب كشهادة الزور؛ ولهذا قال: {لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت}. فلما كان هؤلاء: يستجيبون لغير الرسول كما يستجيبون له إذا وافق آراءهم وأهواءهم لم يجب عليه الحكم بينهم فإنهم متخيرون بين القبول منه والقبول ممن يخالفه. فكان هو متخيرا في الحكم بينهم والإعراض عنهم. وإنما يجب عليه الحكم بين من لا بد له منه من المؤمنين.
وإذا ظهر المعنى تبين فصل الخطاب في وجوب الحكم بين المعاهدين من أهل الحرب: كالمستأمن والمهادن والذمي؛ فإن فيه نزاعا مشهورا بين العلماء. قيل: ليس بواجب؛ للتخير. وقيل: بل هو واجب والتخيير منسوخ بقوله: {وأن احكم بينهم بما أنزل الله}. قال الأولون: أما الأمر هنا أن يحكم بما أنزل الله إذا حكم: فهو أمر بصفة الحكم؛ لا بأصله كقوله: {وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط} وقوله: {وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وهذا أصوب؛ فإن النسخ لا يكون بمحتمل. فكيف بمرجوح. وقيل: يجب في مظالم العباد؛ دون غيرها. والخلاف في ذلك مشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره من الأئمة. وحقيقة الآية: إن كان مستجيبا لقوم آخرين لم يأتوه لم يجب عليه الحكم بينهم كالمعاهد: من المستأمن وغيره الذي يرجع إلى أمرائه وعلمائه في دارهم وكالذمي الذي إن حكم له بما يوافق غرضه وإلا رجع إلى أكابرهم وعلمائهم فيكون متخيرا بين الطاعة لحكم الله ورسوله وبين الإعراض عنه.
وأما من لم يكن إلا مطيعا لحكم الله ورسوله ليس عنه مندوحة كالمظلوم الذي يطلب نصره من ظالمه وليس له من ينصره من أهل دينه. فهذا: ليس في الآية تخيير. وإذا كان عقد الذمة قد أوجب نصره من أهل الحرب فنصره ممن يظلمه من أهل الذمة أولى أن يوجب ذلك.
وكذلك لو كان المتحاكم إلى الحاكم والعالم: من المنافقين الذين يتخيرون بين القبول من الكتاب والسنة وبين ترك ذلك لم يجب عليه الحكم بينهم. وهذا من حجة كثير من السلف الذين كانوا لا يحدثون المعلنين بالبدع بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذا الباب: من لا يكون قصده في استفتائه وحكومته الحق بل غرضه من يوافقه على هواه كائنا من كان سواء كان صحيحا أو باطلا. فهذا سماع لغير ما بعث الله به رسوله؛ فإن الله إنما بعث رسوله بالهدى ودين الحق فليس على خلفاء رسول الله أن يفتوه ويحكموا له كما ليس عليهم أن يحكموا بين المنافقين والكافرين المستجيبين لقوم آخرين لم يستجيبوا لله ورسوله.
[فصل: وقوع التبديل في ألفاظ التوراة والإنجيل وانقطاع سندهما]
ومن حجة الجمهور الذين يمنعون أن تكون جميع ألفاظ هذه الكتب المتقدمة الموجودة عند أهل الكتاب منزلة من عند الله لم يقع فيها تبديل، ويقولون أنه وقع التبديل في بعض ألفاظها ويقولون أنه لم يعلم أن ألفاظها منزلة من عند الله فلا يجوز أن يحتج بما فيها من الألفاظ في معارضة ما علم ثبوته أنهم قالوا: التوراة والإنجيل الموجودة اليوم بيد أهل الكتاب لم تتواتر عن موسى وعيسى - عليهما السلام - أما التوراة، فإن نقلها انقطع لما خرب بيت المقدس أولا، وأجلى منه بنو إسرائيل، ثم ذكروا أن الذي أملاها عليهم بعد ذلك شخص واحد يقال له عزرا وزعموا أنه نبي.
ومن الناس من يقول أنه لم يكن نبيا وأنها قوبلت بنسخة وجدت عتيقة.
وقد قيل أنه أحضرت نسخة كانت بالمغرب وهذا كله لا يوجب تواتر جميع ألفاظها ولا يمنع وقوع الغلط في بعضها ; كما يجري مثل ذلك في الكتب التي يلي نسخها ومقابلتها وحفظها القليل الاثنان والثلاثة.
وأما الإنجيل الذي بأيديهم فهم معترفون بأنه لم يكتبه المسيح - عليه السلام - ولا أملاه على من كتبه وإنما أملوه بعد رفع المسيح متى ويوحنا وكانا قد صحبا المسيح ولم يحفظه خلق كثير يبلغون عدد التواتر، ومرقس ولوقا وهما لم يريا المسيح - عليه السلام - وقد ذكر هؤلاء أنهم ذكروا بعض ما قاله المسيح وبعض أخباره وأنهم لم يستوعبوا ذكر أقواله وأفعاله.
ونقل اثنين وثلاثة وأربعة يجوز عليه الغلط لا سيما وقد غلطوا في المسيح نفسه حتى اشتبه عليهم بالمصلوب، ولكن النصارى يزعمون أن الحواريين رسل الله مثل عيسى ابن مريم وموسى - عليهما السلام - وأنهم معصومون وأنهم سلموا إليهم التوراة والإنجيل وأن لهم معجزات وقالوا لهم هذه التوراة وهذا الإنجيل ويقرون مع هذا بأنهم ليسوا بأنبياء فإذا لم يكونوا أنبياء فمن ليس بنبي ليس بمعصوم من الخطأ ولو كان من أعظم أولياء الله ولو كان له خوارق عادات فأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من أفاضل الصحابة عند المسلمين أفضل من الحواريين ولا معصوم عندهم إلا من كان نبيا.
ودعوى أنهم رسل الله مع كونهم ليسوا بأنبياء تناقض، وكونهم رسل الله هو مبني على كون المسيح هو الله، فإنهم رسل المسيح وهذا الأصل باطل، ولكن في طريق المناظرة والمجادلة بالتي هي أحسن نمنعهم في هذا المقام ونطالبهم بالدليل على أنهم رسل الله وليس لهم على ذلك دليل، فإنه لا يثبت أنهم رسل الله إن لم يثبت أن المسيح هو الله وإثباتهم أن المسيح هو الله إما أن يكون بالعقل أو بالسمع. والعقل لا يثبت ذلك بل يحيله وهم لا يدعون ثبوت ذلك بالعقل.
بل غاية ما يدعون إثبات إمكانه بالعقل لا إثبات وجوده مع أن ذلك أيضا باطل وإنما يدعون ثبوت وجوده بالسمع وهو ما ينقلونه عن الأنبياء من ألفاظ يدعون ثبوتها عن الأنبياء، ودلالتها على أن المسيح هو الله كسائر من يحتج بالحجة السمعية، فإن عامة بيان صحة الإسناد دون بيان دلالة المتن وكلا المقدمتين باطلة.
ولكن يقال لهم في هذا المقام أنتم لا يمكنكم إثبات كون المسيح هو الله إلا بهذه الكتب ولا يمكنكم تصحيح هذه الكتب إلا بإثبات أن الحواريين رسل الله معصومون ولا يمكنكم إثبات أنهم رسل الله إلا بإثبات أن المسيح هو الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
فإنه لا تعلم إلهية المسيح إلا بثبوت هذه الكتب ولا تثبت هذه الكتب إلا بثبوت أنهم رسل الله ولا يثبت ذلك إلا بثبوت أنه الله فصار ثبوت الإلهية متوقفا على ثبوت إلهيته، وثبوت كونهم رسل الله متوقفا على كونهم رسل الله فصار ذلك دورا ممتنعا.
قد يدعون عصمة الحواريين وعصمة أهل المجامع بعد الحواريين كأهل المجمع الأول الذي كان بحضرة قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر ووضعوا لهم الأمانة التي هي عقيدة النصارى التي لا يصح لهم قربان إلا بها فيزعمون أن الحواريين أو هؤلاء جرت على أيديهم خوارق وقد يذكرون أن منهم من جرى إحياء الموتى على يديه وهذا إذا كان صحيحا مع أن صاحبه لم يذكر أنه نبي لا يدل على عصمته، فإن أولياء الله من الصحابة والتابعين بعدهم بإحسان وسائر أولياء الله من هذه الأمة وغيرها لهم من خوارق العادات ما يطول وصفه وليس فيهم معصوم يجب قبول كل ما يقول بل يجوز الغلط على كل واحد منهم، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا الأنبياء - عليهم السلام -.
ولهذا أوجب الله الإيمان بما أوتيه الأنبياء ولم يجب الإيمان بكل ما يقوله كل ولي لله.
قال - تعالى -: {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم} [البقرة: 136] وقال - تعالى -: {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين} [البقرة: 177] ولهذا وجب الإيمان بالأنبياء جميعهم وما أوتوه كلهم.
ومن كذب نبيا واحدا تعلم نبوته فهو كافر باتفاق المسلمين ومن سبه وجب قتله كذلك بخلاف من ليس بنبي، فإنه لا يكفر أحد بمخالفته ولا يقتل بمجرد سبه إلا أن يقترن بالسب ما يكون مبيحا للدم.
والذي عليه سلف الأمة كالصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة الدين وجماهير المسلمين أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر وليس بعد الأنبياء أفضل منهما، وهذه الأمة أفضل الأمم وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «قد كان قبلكم في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر» والمحدث الملهم المخاطب.
وكان عمر قد جعل الله الحق على قلبه ولسانه وما كان يقول لشيء إني لأراه كذا وكذا إلا كان ; كما يقول وكانت السكينة تنطق على لسانه ومع هذا فلم يكن لا هو ولا غيره ممن ليس بنبي معصوما من الغلط ولا يجب على المسلم قبول ما يقوله: إن لم يدل عليه الكتاب والسنة ولا كان يجوز له العمل بما يلقى في قلبه إن لم يعرضه على الكتاب والسنة، فإن وافق ذلك قبله وإن خالف ذلك رده.
وعند المسلمين أنه ليس في أتباع المسيح - عليه السلام - مثل أبي بكر وعمر - رضوان الله عليهما - فإذا قالوا عن الحواريين: أنهم ليسوا معصومين فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من الحواريين، كما أنهم إذا قالوا: عن المسيح أنه عبد مخلوق ليس بإله فهم يقولون ذلك فيمن هو عندهم أفضل من المسيح كمحمد وإبراهيم - عليهما أفضل الصلاة والسلام -.
وفي الملاحدة المنتسبين إلى الأمة من فيه بدع من الغلو يشبه غلو النصارى كمن يدعي الإلهية من الإسماعيلية كبني عبيد القداح كالحاكم وغيره ويدعي الإلهية في علي بن أبي طالب أو غيره كدعوى النصيرية وهؤلاء كفار عند المسلمين.
وكذلك من يدعي الإلهية في بعض المشايخ كغلاة العدوية والحلاجية واليونسية وغيرهم وكذلك من يدعي عصمة بني عبيد أو عصمة الإثني عشر أو عصمة بعض المشايخ.
فإن النصارى يدعون عصمة الحواريين الإثني عشر وهؤلاء يدعون عصمة الأئمة الإثني عشر.
وهؤلاء يسندون أصل دينهم إلى قول الحواريين المعصومين عندهم ويقولون أنهم معصومون في النقل عن المسيح وفي الفتيا وإن ما قالوه فقد قاله المسيح - عليه الصلاة والسلام -.
وهؤلاء يقولون عن أولئك أنهم معصومون في النقل والفتيا وإن ما قالوه فقد قاله الرسول - عليه الصلاة والسلام - وهذا مبسوط في موضع آخر.
والمقصود هنا أنه ليس مع النصارى نقل متواتر عن المسيح بألفاظ هذه الأناجيل ولا نقل لا متواتر ولا آحاد بأكثر ما هم عليه من الشرائع ولا عندهم ولا عند اليهود نقل متواتر بألفاظ التوراة ونبوات الأنبياء كما عند المسلمين نقل متواتر بالقرآن وبالشرائع الظاهرة المعروفة للعامة والخاصة وهذا مثل الأمانة التي هي أصل دينهم وصلاتهم إلى المشرق وإحلال الخنزير وترك الختان وتعظيم الصليب واتخاد الصور في الكنائس وغير ذلك من شرائعهم ليست منقولة عن المسيح ولا لها ذكر في الأناجيل التي ينقلونها عنه وهم متفقون على أن الأمانة التي جعلوها أصل دينهم وأساس اعتقادهم ليست ألفاظها موجودة في الأناجيل ولا هي مأثورة عن الحواريين وهم متفقون على أن الذين وضعوها أهل المجمع الأول الذين كانوا عند قسطنطين الذي حضره ثلاثمائة وثمانية عشر وخالفوا عبد الله بن أريوس الذي جعل المسيح عبدا لله كما يقول المسلمون ووضعوا هذه الأمانة.
وهذا المجمع كان بعد المسيح بمدة طويلة تزيد على ثلاثمائة سنة وبسط هذا له موضع آخر وإنما المقصود هنا الجواب عن قولهم: إن محمدا - صلى الله عليه وسلم - ثبت ما معهم وأنه نفى عن إنجيلهم وكتبهم التي بأيديهم التهم والتبديل لها والتغيير لما فيها بتصديقه إياها.
وقد تبين أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - لم يصدق شيئا من دينهم المبدل والمنسوخ، ولكن صدق الأنبياء قبله وما جاءوا به وأثنى على من اتبعهم لا على من خالفهم أو كذب نبيا من الأنبياء. وإن كفر النصارى من جنس كفر اليهود، فإن اليهود بدلوا معاني الكتاب الأول وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو الإنجيل وكذلك النصارى بدلوا معاني الكتاب الأول التوراة والإنجيل وكذبوا بالكتاب الثاني: وهو القرآن وأنهم ادعوا أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - صدق بجميع ألفاظ الكتب التي عندهم.
فجمهور المسلمين يمنعون هذا ويقولون إن بعض ألفاظها بدل ; كما قد بدل كثير من معانيها، ومن المسلمين من يقول: التبديل إنما وقع في معانيها لا في ألفاظها وهذا القول يقر به عامة اليهود والنصارى.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|