عرض مشاركة واحدة
  #369  
قديم 23-01-2023, 11:22 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,234
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْفَالِ
المجلد الثامن
صـ 2926 الى صـ 2945
الحلقة (369)



القول في تأويل قوله تعالى:

[195] ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها قل ادعوا شركاءكم ثم كيدون فلا تنظرون

" ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيد يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها [ ص: 2926 ] أم لهم آذان يسمعون بها تبكيت إثر تبكيت، مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي، من عدم الاستجابة، ببيان فقدان آلتها بالكلية، فإن الاستجابة من الهياكل الجسمانية، إنما تتصور إذا كان لها حياة وقوى محركة، ومدركة، وما ليس له شيء من ذلك، فهو بمعزل من الأفاعيل بالمرة، كأنه قيل: ألهم هذه الآلات التي بها تتحقق الاستجابة، حتى يمكن استجابتهم لكم؟ وقد وجه الإنكار إلى كل واحدة من هذه الآلات الأربع على حدة، تكريرا للتبكيت، وتثنية للتقريع، وإشعارا بأن انتفاء كل واحدة منها بحيالها، كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة. أفاده أبو السعود .

ويقال: إنه لما جعلهم مثلهم، كر على المثلية بالنقض بما ذكر، لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق، فكيف من هو دونه.

تنبيه:

قال الرازي : تعلق بعض أغمار المشبهة وجهالهم بهذه الآية، في إثبات هذه الأعضاء لله تعالى، فقالوا: إنه تعالى جعل عدم هذه الأعضاء، لهذه الأصنام، دليلا على عدم إلهيتها، فلو لم تكن هذه الأعضاء موجودة لله تعالى، لكان عدمها دليلا على عدم الإلهية، وذلك باطل، فوجب القول بإثبات هذه الأعضاء لله تعالى... إلخ.

وأقول: الظاهر أن ملحظ مثبتيها هو أن عدمها يدل على النقص، وهو محال على المولى تعالى، إذ له كل صفة كمال، ومعلوم أن في إثباتها له تعالى من آيات أخر، وأحاديث مشهورة، ما يغني عن تكلف استثباتها له تعالى من مثل هذه الآية، ولكن على المنهاج السلفي، وهو إثبات بلا تكييف، إذ من كيف فقد مثل، ومن نفى فقد عطل. فالمشبهة كالمعطلة، والحق وراءهم، والمسألة شهيرة.

ولما بين تعالى أن شركاءهم عاجزون، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يناصبهم للمحاجة، ويكرر عليهم التبكيت، فقال سبحانه: " قل ادعوا شركاءكم أي استنصروا بها علي " ثم كيدون أي اعملوا أنتم وهم في هلاكي من حيث لا أشعر به، حتى يمكنني دفعه.

[ ص: 2927 ] " فلا تنظرون أي عجلوا في كيدي، فلا تمهلوني مدة أطلع فيها على كيدكم، فإني لا أبالي بكم. وقد أثبت نافع وأبو عمرو الياء في ((كيدوني))، والباقون حذفوها. ومثله في قوله: ولا تنظرون ثم لا تنظرون قال الواحدي : والقول فيه أن الفواصل تشبه القوافي، وقد حذفوا هذه الياءات إذا كانت في القوافي، كقوله:


يلمس الأحلاس في منزله بيديه كاليهودي المصل


(وأصلها المصلي).

والذين أثبتوها، فلأن الأصل هو الإثبات.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[196] إن وليي الله الذي نـزل الكتاب وهو يتولى الصالحين

" إن وليي الله الذي نـزل الكتاب تعليل لعدم المبالاة، المنفهم من السوق انفهاما جليا. أي: الذي يتولى حفظي ونصرتي هو الله الذي أنزل الكتاب، المشتمل على هذه العلوم العظيمة النافعة.

قال أبو السعود : ووصفه تعالى بتنزيل الكتاب، للإشعار بدليل الولاية، والإشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة، كأنه قيل: لا أبالي بكم وبشركائكم، لأن وليي هو الله الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري، وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم، فضلا عن نصركم.

وقوله تعالى " وهو يتولى الصالحين تذييل مقرر لما قبله. أي ومن عادته أن يتولى الصالحين من عباده، وينصرهم ولا يخذلهم. وفيه تعريض، لمن فقد الصلاح، بالخذلان والمحق.

قال الحسن البصري : إن المشركين كانوا يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، فقال تعالى: " ادعوا شركاءكم الآية، ليظهر لكم أنه لا قدرة لها على إيصال المضار إلي، بوجه من الوجوه. وهذا كما قال هود عليه السلام، لما قال قومه: إن نقول إلا اعتراك [ ص: 2928 ] بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[197] والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون

" والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم أي لا يتولون أحدا، لأنهم لا يستطيعون نصركم " ولا أنفسهم ينصرون أي: إذا قصد إضرارهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[198] وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون

" وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا إذ ليس لهم سمع، وإن صورت لهم الآذان، كما أنه لا بصر لهم، وإن صورت لهم الأعين. كما قال: وتراهم ينظرون إليك إذ صورت لهم الأعين " وهم لا يبصرون لأنهم جماد عوملوا معاملة من يعقل، فعبر عنهم بضميره، لأنهم على صور مصورة كالإنسان، وهذا من تمام التعليل، لعدم مبالاته بهم، فلا تكرار.

وقال السدي : المراد بهذا (المشركون)، وروي عن مجاهد نحوه، أي وإن كانوا ينظرون إليك، فإنهم لا ينتفعون بالنظر والرؤية.

قال ابن كثير : والأول أولى، وهو اختيار ابن جرير ، وقاله قتادة ، أي تفصيا من التفكيك، لأن المحدث عنهم الأصنام.

تنبيه:

من غرائب استنباط المعتزلة قولهم في هذه الآية -والعبارة للجشمي - ما مثاله: تدل [ ص: 2929 ] الآية على أن النظر غير الرؤية، وأنه لا يقتضي الرؤية، لذلك أثبتهم ناظرين غير رائين.

قال: ومثله قولهم نظرت إلى الهلال فلم أره. ويقسمون النظر إلى وجوه، ولا تنقسم الرؤية.

قال: فبطل قول من يقول: إن قوله تعالى: وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة يقتضي الرؤية. انتهى.

ولا يخفى أن الأصل في إطلاق النظر هو الرؤية والإبصار، ولذلك تتعاقب في هذا المعنى، وتترادف كثيرا، وانفكاكه عن الرؤية في هذه الآية لقرينة كون المحدث عنهم جمادا، ولا قرينة في الآية لتقاس على ما هنا، دع ما صح من الأخبار في وقوعها، مما هو بيان لها -فافهم-.

ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصفح عن المشركين إذا جادلوه في شركائهم بعد هذا البيان، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[199] خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين

" خذ العفو أي مكان الغضب، ليكونوا أقبل للنصيحة " وأمر بالعرف أي بالجميل المستحسن من الأفعال، فإنها قريبة من قبول الناس من غير نكير. ولما كان الناصح لغيره، كالمعرض لعدوانهم، ثلث بما يحتاج إليه في ذلك فقال: " وأعرض عن الجاهلين أي المصرين على جهلهم، فلا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، ولا تمارهم، واحلم عنهم، وأغض على ما يسوؤك منهم.

تنبيهان:

الأول: قال بعض العلماء: إن سر الشريعة في الطباع والعادات، هو تأييد المستحسن [ ص: 2930 ] ومحو المستقبح. وإليه الإشارة بقوله تعالى: وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فإن المعروف ما عرفته الطباع السليمة واستحسنته، والمنكر ما أنكرته واستقبحته، ذلك لأن غاية الشريعة راحة الخلق على حال ونظام معقولين، فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد. اهـ.

الثاني: روي عن الإمام جعفر الصادق رضي الله عنه قال: أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها.

وروى البخاري عن ابن عباس أن عيينة بن حصين قال لعمر بن الخطاب : هي يا ابن الخطاب ! فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل، فغضب عمر ، حتى هم أن يوقع به. فقال له الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين ! إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين وإن هذا من الجاهلين.

قال ابن عباس : والله! ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل .
القول في تأويل قوله تعالى:

[200] وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم

" وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ أي يصيبنك من الشيطان وسوسة تثير غضبك على جهلهم وإساءتهم، وتحملك على خلاف ما أمرت فيه من العفو والأمر بالمعروف: " فاستعذ بالله أي استجر به، وادعه في دفعه " إنه سميع أي لدعائك " عليم أي: باستعاذتك.

قال الزمخشري : النزغ والنسغ: الغرز والنخس، كأنه ينخس الناس حين يغريهم على المعاصي. أي فشبهت وسوسته وإغراؤه بالغرز، وهو إدخال الإبرة وطرف العصا وما يشبهه [ ص: 2931 ] في الجلد، كما يفعله السائق لحث الدواب. وجعل النزغ نازغا مجاز بالإسناد، لجعل المصدر فاعلا، كجد جده.

قال أبو السعود : وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لأمره، وتنبيه على أنه من الغوائل الصعبة التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل.
القول في تأويل قوله تعالى:

[201] إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون

" إن الذين اتقوا إذا مسهم أي أصابهم " طائف من الشيطان أي وسوسة وخاطر منه " تذكروا أي الاستعاذة به تعالى والتوكل عليه " فإذا هم أي: بسبب ذلك التذكر " مبصرون أي مواقع الخطأ، ومكائد الشيطان، فينتهون عنها ولا يتبعونه. وقرئ ((طيف)) على أنه مصدر، من قولهم (طاف به الخيال يطيف طيفا)، أو تخفيف (طيف) كلين وهين. وهذه الآية تأكيد وتقرير لما قبلها من وجوب الاستعاذة بالله تعالى، عند نزغ الشيطان، وأن المتقين هذه عادتهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[202] وإخوانهم يمدونهم في الغي ثم لا يقصرون

" وإخوانهم يعني وأما إخوان الشياطين من شياطين الإنس. كقوله: إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وهم الذين لم يتقوا، فلم يتأت لهم التذكر، ولا ينفع فيهم الاستعاذة لأن الشياطين " يمدونهم في الغي أي يكونون مددا لهم بتكثير الشبه والتزيين والتسهيل في الضلال، يعني تساعدهم الشياطين على المعاصي، وتسهلها عليهم وتحسنها لهم.

[ ص: 2932 ] " ثم لا يقصرون أي لا يمسكون عن إغوائهم، حتى يصروا ولا يرجعوا، يعني أن الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس، ولا يسأمون من إمدادهم من الشر، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية: وجوز عود الضمير لـ (الإخوان)، أي لا يرعوون عن الغي ولا يقصرون، وإن بولغ عليهم في الوعظ بآيات الله، وإقامة الدلائل، ورفع الشبه، وغير ذلك.

وجوز أيضا أن يراد أيضا بـ (الإخوان) الشياطين، ويرجع الضمير إلى " الجاهلين " أي وإخوان الجاهلين، وهم الشياطين، يمدون الجاهلين في الغي.

قال الزمخشري : والأول أوجه، لأن (إخوانهم) في مقابلة " الذين اتقوا " .
ثم بين تعالى، من أنواع إغوائهم، لجاجهم في طلب آيات معينة، وتعنتهم في اقتراحها، مع أن لديهم المعجزة العظمى، والخارقة الكبرى، وهي القرآن الكريم، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[203] وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم وهدى ورحمة لقوم يؤمنون

" وإذا لم تأتهم بآية أي: مما اقترحوه " قالوا لولا اجتبيتها أي هلا تكلفتها وأنشأتها من عندك قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي أي فلست بمفتعل للآيات، ولا أتقدم إليه تعالى في شيء منها. ثم أرشدهم تعالى إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات، وأبين الدلالات، وأصدق الحجج والبينات، فقال سبحانه " هذا أي القرآن " بصائر من ربكم أي بمنزلة البصائر للقلوب، بها يبصر الحق، ويدرك الصواب. فالكلام على طريقة التشبيه البليغ. أو سبب البصائر، فهو مجاز مرسل أو استعارة لإرشاده، أو المعنى: حجج بينة، وبراهين نيرة. وإنما جمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور، جعل كلا منها بصيرة. والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم -لتأكيد وجوب [ ص: 2933 ] الإيمان بها " وهدى أي: من الضلالة " ورحمة أي من العذاب " لقوم يؤمنون أي به، فيتفكرون في حقائقه.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى ينزل الآيات بحسب المصلحة، لا بحسب اقتراحهم، لأن ذلك قد يكون فسادا. ويدل قوله: " هذا بصائر أن المعارف مكتسبة. وتدل أن جميع ما يقوله الرسول ويفعله من الشرع من وحيه، لذلك قال: " أتبع ما يوحى إلي ومتى قيل: هل تدل الآية على أنه لا يجتهد ولا يقيس؟ قلنا: لا، لأن القياس والاجتهاد إذا كان متعبدا به، فاتباعه اتباع الوحي، كالعامي يقبل من المفتي، والعالم يجتهد، ويتبع الوحي، كذلك هذا.

والذي يدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفعل شيئا من تلقاء نفسه حتى يؤمر به -انتهى كلامه- وفي إطلاقه تفصيل له موضع آخر.
القول في تأويل قوله تعالى:

[204] وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون

" وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا أي عن حديث النفس وغيره " لعلكم ترحمون لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة، أرشد إلى طريق الفوز بما انطوى عليه من منافعه الجليلة. أي وإذا قرئ القرآن الذي ذكرت خصائصه، فاستمعوا له، أي: أصغوا إليه بأسماعكم لتفهموا معانيه، وتتدبروا مواعظه، وأنصتوا لقراءته حتى تنقضي، إعظاما له واحتراما، لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أعظم ثمراته، لا كما يعتمده كفار قريش من قولهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه

[ ص: 2934 ] تنبيهات:

الأول: ظاهر الآية يقتضي وجوب الاستماع والإنصات عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها، وعليه أهل الظاهر، وهو قول الحسن البصري ، وأبي مسلم الأصفهاني ، وقد روى مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبر فكبروا، وإذا قرأ فأنصتوا » . وكذا رواه أهل السنن من حديث أبي هريرة .

وروى الإمام أحمد وأهل السنن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: « هل قرأ أحد منكم معي آنفا »؟ قال رجل: نعم يا رسول الله. قال: « إني أقول: ما لي أنازع القرآن » ؟ قال: فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة، حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

قال الترمذي : هذا حديث حسن. وصححه أبو حاتم الرازي . نعم وردت السنة الصحيحة باستثناء الفاتحة وحدها للمأموم. وذلك فيما رواه عبادة قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فثقلت عليه القراءة، فلما انصرف قال: « إني أراكم تقرؤون وراء إمامكم » ؟ قال: قلنا: يا رسول الله ! إي والله. قال: « لا تفعلوا إلا بأم القرآن، فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها » -رواه أبو داود والترمذي -.

وفي لفظ: « فلا تقرءوا بشيء من القرآن إذا جهرت [ ص: 2935 ] به، إلا بأم القرآن » . رواه أبو داود والنسائي ، والدارقطني وقال: رواته كلهم ثقات.

وأخرج ابن حبان عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أتقرءون في صلاتكم خلف الإمام، والإمام يقرأ؟ فلا تفعلوا، وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه » .

وأما حديث أبي هريرة المتقدم، فلا يستدل به على عدم قراءة المأموم مطلقا بل جهرا، لأن المنازعة إنما تكون مع جهر المأموم، لا مع إسراره، ولو سلم دخول ذلك في المنازعة لكان الاستفهام الإنكاري فيه عاما لجميع القرآن، أو مطلقا في جميعه.

وحديث عبادة خاص أو مقيد، ولا تعارض بين عام وخاص، أو مطلق ومقيد، لابتناء الأول على الثاني. وكذا يقال في عموم الآية، وفي هذا جمع بين دلالة الكتاب، وصحيح السنة، إذ جاءنا بها من جاء بالقرآن.

الثاني: روي عن كثير من السلف أن الآية نزلت في الصلاة. وعن بعضهم: فيها وفي الخطبة يوم الجمعة، وعن بعضهم: فيهما وفي خطبة الأضحى والفطر. وقد قدمنا في مقدمة الكتاب مصطلح السلف في قولهم: (نزلت هذه الآية في كذا)، وبينا أنه قد يراد بذلك، أن الآية تشمل ذلك الشيء لدخوله في عمومها، لا أنه سبب لنزولها، وذلك في بعض المقامات، وما هنا منه.

وبتحقيق هذا يسقط ما للرازي هنا من أنه إذا قيل بنزولها في منع المأموم من الجهر بالقراءة، يذهب تناسب الآية مع ما قبلها من إفحام المشركين، بأن يستمعوا لقراءته، ليقفوا على إعجازه. وما للخازن ، بأن الآية مكية، وخطبة الجمعة والعيدين شرعتا بالمدينة -فافهمه-.

الثالث: روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « من استمع إلى آية من كتاب الله، كتبت له حسنة مضاعفة، ومن تلاها كانت له نورا يوم القيامة » .

قال ابن كثير تفرد به الإمام أحمد رحمه الله تعالى.

وقوله تعالى:
[ ص: 2936 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[205] واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين

" واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، والمراد عام، أو المعنى: واذكر ربك أيها الإنسان، والأول أظهر، لأن ما خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن من خصائصه، فإنه مشروع لأمته.

وقد أوضح هذا آية: يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا والأمر بالذكر، قال الزمخشري : هو عام في الأذكار من قراءة القرآن والدعاء والتسبيح والتهليل وغير ذلك. وقال بعض الزيدية : هذا الأمر يحتمل الوجوب، إن فسر الذكر بالصلاة، وإن أريد الدعاء أو الذكر باللسان، فهو محمول على الاستحباب. قال: وبكل فسرت الآية.

ثم إنه تعالى ذكر آدابا لذكره:

الأول: أن يكون في نفسه، لأن الإخفاء أدخل في الإخلاص، وأقرب إلى الإجابة، وأبعد من الرياء.

الثاني: أن يكون على سبيل التضرع، وهو التذلل والخضوع والاعتراف بالتقصير، ليتحقق بذلة العبودية لعزة الربوبية.

الثالث: أن يكون على وجه الخيفة، أي الخوف والخشية من سلطان الربوبية، وعظمة الألوهية، من المؤاخذة على التقصير في العمل، لتخشع النفس، ويخضع القلب.

[ ص: 2937 ] الرابع: أن يكون دون الجهر، لأنه أقرب إلى حسن التفكر. قال ابن كثير : فلهذا يستحب أن لا يكون الذكر نداء ولا جهرا بليغا. وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: « يا أيها الناس ! اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إن الذين تدعونه سميع قريب، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » . قال الإمام: المراد أن يقع الذكر متوسطا بين الجهر والمخافة كما قال تعالى: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا

الخامس: أن يكون باللسان لا بالقلب وحده، وهو مستفاد من قوله " ودون الجهر لأن معناه: ومتكلما كلاما دون الجهر، فيكون صفة لمعمول حال محذوفة معطوفا على " تضرعا أو هو معطوف على " في نفسك أي اذكره ذكرا في نفسك، وذكرا بلسانك دون الجهر.

السادس: أن يكون بالغدو والآصال، أي في البكرة والعشي. فتدل الآية على مزية هذين الوقتين، لأنهما وقت سكون ودعة وتعبد واجتهاد، وما بينهما، الغالب فيه الانقطاع إلى أمر المعاش. وقد روي أن عمل العبد يصعد أول النهار وآخره، فطلب الذكر فيهما، ليكون ابتداء عمله واختتامه بالذكر.

ثم نهى تعالى عن الغفلة عن ذكره بقوله " ولا تكن من الغافلين أي من الذين يغفلون عن ذكر الله، ويلهون عنه، وفيه إشعار بطلب دوام ذكره تعالى، واستحضار عظمته وجلاله وكبريائه، بقدر الطاقة البشرية.

[ ص: 2938 ] ثم ذكر تعالى ما يقوي دواعي الذكر، وينهض الهمم إليه، بمدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار، لا يفترون، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى:

[206] إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون

" إن الذين عند ربك يعني الملائكة الذين هم في أعلى مقامات القرب " لا يستكبرون عن عبادته أي لا يتعظمون عنها. وقوله " ويسبحونه وله يسجدون أي فينبغي أن يقتدى بهم فيما ذكر عنهم، ففيه حث ولطف مرغب في ذلك، لأنه إذا كان أولئك -وهم ما هم في قرب المنزلة والعصمة- حالهم في عبادته تعالى وتسبيحه ما ذكر، فكيف ينبغي أن يكون غيرهم.

تنبيهات:

الأول: قال الرازي : تمسك أبو بكر الأصم بهذه الآية في تفضيل الملائكة على البشر قال: لأنه تعالى لما أمر رسوله بالعبادة والذكر قال: " إن الذين عند ربك الآية، أي فأنت أولى وأحق بالعبادة، والمسألة مستوفاة في كتب الكلام. واستنبط من قال بالتفضيل المذكور من الآية، أنه ينبغي للعبد أن ينظر إلى من فوقه في طاعة الله تعالى.

الثاني: قال الرازي : المشبهة تمسكوا بقوله تعالى: " إن الذين عند ربك وقالوا: لفظ (عند) مشعر بالجهة. ثم أجاب بما هو معروف للخلف. ويعني -سامحه الله- بالمشبهة الحنابلة، وهم براء من التشبيه، كما يعلمه من طالع عقائدهم، واقفون على حد النصوص بلا تشبيه ولا تعطيل، ولم ينفردوا بذلك، فقد تقدمهم من لا يحصى في هذه المسألة. راجع كتاب (العلو للذهبي ) تعلم ما ذكرنا.

[ ص: 2939 ] الثالث: قال الجشمي : تدل الآية على كون الملائكة مكلفين. وتدل على أنهم سجدوا لله، وآدم كان قبلة السجود، لأنه وصفهم بأنهم يسجدون له.

الرابع: هذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع.

وقد ورد في حديث رواه ابن ماجه عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه عدها في سجدات القرآن.

وروى الشيخان عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن، فيقرأ سورة فيها سجدة، فيسجد ونسجد معه، حتى ما يجد بعضنا موضعا لمكان جبهته، في غير وقت صلاة .

وروى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي يقول: يا ويلتا أمر ابن آدم بالسجود فسجد، فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » .

وروى مسلم عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: « عليك بكثرة السجود لله، فإنك لا تسجد لله سجدة، إلا رفعك الله بها درجة، وحط عنك بها خطيئة» .

الخامس: السجدة المشروعة، إن كانت لآية، أمر فيها بالسجود فللأمر، أو حكى فيها [ ص: 2940 ] استنكاف الكفرة عنه، فلمخالفتهم وإرغامهم، أو حكي فيها سجود الأنبياء أو الملائكة، فللتأسي بهم- كذا في (العناية)-.

وهذا آخر ما تيسر تعليقه على سورة الأعراف، فلله الحمد على هذا التسهيل والإسعاف، ونسأله بمنه وكرمه العون على الإتمام، فإنه ذو الجلال والإكرام.

وكان الفراغ من ذلك طلوع الشمس من يوم الثلاثاء، في 26 رمضان المبارك سنة 1321 بشباك السدة العليا اليمنى من جامع السنانية على يد الفقير جمال الدين القاسمي غفر الله له، ولوالديه ولجميع المؤمنين، ورحمه وإياهم إنه أرحم الراحمين.

تم الجزء السابع ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثامن ويحتوي على تفسير سورتي الأنفال والتوبة.
[ ص: 2944 ] سُورَةُ الْأَنْفَالِ

مَدَنِيَّةٌ ، أَوْ ، إِلَّا وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الْآيَاتِ السَّبْعِ ، فَمَكِّيَّةٌ . وَآيَاتُهَا خَمْسٌ وَسَبْعُونَ آيَةً .

سُمِّيَتْ بِالْأَنْفَالِ لِأَنَّهَا مَبْدَأُ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَمُنْتَهَى مَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَثَرِ أَمْرِ الْحُرُوبِ .

[ ص: 2945 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى :

[ 1 ] يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ

رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ سُورَةَ الْأَنْفَالِ نَزَلَتْ فِي بَدْرٍ .

وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ : خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَشَهِدْتُ مَعَهُ بَدْرًا ، فَالْتَقَى النَّاسُ ، فَهَزَمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَدُوَّ ، فَانْطَلَقَتْ طَائِفَةٌ فِي آثَارِهِمْ يَهْزِمُونَ وَيَقْتُلُونَ ، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى الْعَسْكَرِ يَحُوزُونَهُ وَيَجْمَعُونَهُ ، وَأَحْدَقَتْ طَائِفَةٌ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يُصِيبُ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، حَتَّى إِذَا كَانَ اللَّيْلُ ، وَفَاءَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، قَالَ الَّذِينَ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ : نَحْنُ حَوَيْنَاهَا وَجَمَعْنَاهَا ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا نَصِيبٌ .

قَالَ الَّذِينَ خَرَجُوا فِي طَلَبِ الْعَدُوِّ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهِ مِنَّا ، نَحْنُ نَفَيْنَا عَنْهَا الْعَدُوَّ وَهَزَمْنَاهُمْ .

وَقَالَ الَّذِينَ أَحْدَقُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَسْتُمْ بِأَحَقَّ بِهَا مِنَّا ، نَحْنُ أَحْدَقْنَا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخِفْنَا أَنْ يُصِيبَ الْعَدُوُّ مِنْهُ غِرَّةً ، وَاشْتَغَلْنَا بِهِ ، فَنَزَلَتْ :

يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ الْآيَةَ ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى فَوَاقٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.26%)]