عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 23-01-2023, 11:39 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2836 الى صـ 2850
الحلقة (363)



[ ص: 2836 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[120] وألقي السحرة ساجدين

" وألقي السحرة ساجدين " .
القول في تأويل قوله تعالى:

[121] قالوا آمنا برب العالمين

" قالوا آمنا برب العالمين "
القول في تأويل قوله تعالى:

[122] رب موسى وهارون

" رب موسى وهارون قال الجشمي : دلت الآية على أن السحرة عرفوا أن أمر العصا ليس من جنس السحر، فآمنوا في الحال. وتدل على أنهم بتلك الآيات استدلوا على التوحيد والنبوة، لذلك اعترفوا بهما.
القول في تأويل قوله تعالى:

[123] قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون

" قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا أي: الصنع، لمكر " أي: حيلة مكرتموه " أي دبرتموه أنتم وموسى ، في المدينة " أي في مصر قبل الخروج للميعاد لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون " وعيد أجمله ثم فصله بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[124] لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ثم لأصلبنكم أجمعين

" لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف أي من كل جانب، عضوا مغايرا للآخر، [ ص: 2837 ] كاليد من أحدهما، والرجل من آخر.

قال الشهاب : من خلاف " حال، أي مختلفة، وقيل " من " تعليلية متعلقة بالفعل، أي لأجل خلافكم، وهو بعيد.

ثم لأصلبنكم أجمعين " أي تفضيحا لكم. وتنكيلا لأمثالكم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[125] قالوا إنا إلى ربنا منقلبون

" قالوا إنا إلى ربنا منقلبون أي فلا نبالي بما تهددنا به، لأنه هو الذي يقربنا إلى من آمنا به، فيحيينا بحياة خير من الحياة الدنيوية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[126] وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين

" وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا أي ما تعيب منا إلا الإيمان بآيات الله، أي وما عبته وأنكرته هو أعظم محاسننا، لأنه خير الأعمال، وأعظم المناقب، فلا نعدل عنه طلبا لمرضاتك. ربنا أفرغ علينا صبرا " أي أفض علينا صبرا واسعا لنثبت على دينك وتوفنا مسلمين " أي ثابتين على الإسلام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[127] وقال الملأ من قوم فرعون أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك قال سنقتل أبناءهم ونستحيي نساءهم وإنا فوقهم قاهرون

وقال الملأ من قوم فرعون " أي خوفا من انقلاب الخلائق عليهم حين رأوا [ ص: 2838 ] السحرة جاهروا بالإسلام، ولم يبالوا بالتوعد أتذر " أي أتترك موسى وقومه ليفسدوا في الأرض " أي في أرض مملكتك بتغيير الناس عنك ويذرك وآلهتك " الآلهة جمع (إله)، بمعنى المعبود، وكان للمصريين آلهة كثيرة منها المسمى (أوسيرس)، وكانوا يعتقدون أن روحه توجد في الثور المسمى (أبيس)، فيعبدونه أيضا، ويعبدون كثيرا من الحيوانات، وكانوا يعبدون الظلام أيضا، ويعبدون (بعلز بوب)، صنم (عقرون) يعتقدون أن وظيفته طرد الذبان.

وبالجملة فقد فاقوا كل من سواهم في الضلال، فكانوا يسجدون للشمس والقمر والنجوم والأشخاص البشرية والحيوانات، حتى الهوام وأدنى حشرات الأرض. هكذا حكى عنهم بعض المدققين.

وقد ذكر الشهرستاني في (الملل والنحل) أن فرعون كان أول أمره على مذهب الصابئة، ثم انحرف عن ذلك، وادعى لنفسه الربوبية، إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام. انتهى.

وتقدم في سورة البقرة بيان مذهب الصابئة. فتذكر.

وقال بعضهم: إن كلمة الآلهة لفظة اصطلاحية عند العبرانيين، يراد بها القضاة والحكام الذين يقضون بأمر الله، وأنها لو حملت على هذا ههنا، لم يبعد، ويكون المعنى: ويذرك وقضاتك وذوي أمرك، ويكون الغرض من ذكرهم معه تهويل الأمر، وإلهاب قلب فرعون على موسى ، وإثارة غضبه، وقد صرح غير واحد بوقوع ألفاظ من غير العربية في القرآن، كما نقله السيوطي في النوع الثامن والثلاثين من (الإتقان). انتهى. والأظهر ما قدمناه أولا.

قال سنقتل " قرئ بالتخفيف والتشديد أبناءهم " المولودين ونستحيي " أي نستبقي نساءهم " أي للاستخدام وإنا فوقهم قاهرون " أي بالغلبة والقدرة عليهم، ففعلوا بهم ذلك، فشكا بنو إسرائيل

[ ص: 2839 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[128] قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين

" قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا أي على أذاهم إن الأرض لله يورثها " أي يعطيها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين " يعني أن النصر والظفر للمتقين على عدوهم.

وكان تعالى وعد موسى بأنه سيطرد المصريين من أرضهم، ويهلكهم وينجي قومه من عذاب آل فرعون لهم.

تنبيه:

قال الجمشي : تدل الآيات على أن قوم فرعون لما عجزوا عن موسى في آياته، عدلوا إلى إغراء فرعون بموسى ، وأوهموه أن تركه فساد في الأرض، وأنه عند ذلك أوعده. وذلك من أدل الدليل على نبوة موسى ، لأن قتل صاحب المعجزة لا يقدح في معجزته، ولهذا قال مشايخنا: إن العرب لما عدلوا عن معارضة القرآن، التي في إيرادها إبطال أمر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى القتال، الذي لا يفيد ذلك، دل على عجزهم. وهكذا حال كل ضال مبتدع، إذا أعيته الحجة، عدل إلى التهديد والوعيد، وتدل على أن عند الخوف من الظلمة يجب الفزع إلى الله تعالى، والاستعانة به والصبر. ولا مفزع إلا في هذين: وهو الانقطاع إلى الله تعالى بطلب المعونة في الدفع، واللطف له في الصبر. وتدل على أن العاقبة المحمودة تنال بالتقوى، وهي اتقاء الكبائر والمعاصي. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[129] قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون

قالوا " أي قوم موسى أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا أي فعلوا [ ص: 2840 ] بنا من الهوان والإذلال من قبل بعثتك وبعدها.

ثم صرح لهم موسى بما رمز إليه من البشارة قبل. قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم " أي فرعون وجنوده ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون " أي فيرى الكائن منكم من العمل، حسنه وقبيحه، وشكر النعمة وكفرانها، ليجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
ثم بين تعالى ما أحل بفرعون وقومه من الضراء، لما تأبى عن إجابة موسى وإرسال قومه معه، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[130] ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون

" ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين أي بالجدب والقحط، ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون " أي يتعظون فيرجعوا عما هم فيه من الكفر إلى أمر موسى ، وذلك لأن الشدة ترقق القلوب، وترغب في الضراعة إلى الله تعالى.

قال الجشمي : تدل الآية على أن الشدة والبؤس قد يكونان لطفا وصلاحا في الدين، لذلك قال: لعلهم يذكرون " . اهـ.

ثم بين تعالى أنهم مع تلك المحن عليهم، والشدائد، لم يزدادوا إلا تمردا وكفرا، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[131] فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون

فإذا جاءتهم الحسنة " أي الصحة والخصب قالوا لنا هذه " أي لأجلنا واستحقاقنا، ولم يروا ذلك من فضل الله عليهم، فيشكروه على إنعامه وإن تصبهم سيئة " شدة يطيروا بموسى ومن معه " أي يتشاءموا. وأصله (يتطيروا)، يعني أنهم يقولون: [ ص: 2841 ] هذه بشؤمهم ألا إنما طائرهم عند الله " أي شدتهم، وما طار إليهم من القضاء والقدر عند الله، لا عند غيره، أي من قبله تعالى ولكن أكثرهم لا يعلمون " أي أن ما أصابهم من الله تعالى، فيقولون ما يقولون، مما حكى عنهم. ثم أخبر تعالى عن شدة تمرد فرعون وقومه وعتوهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[132] وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين

" وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين أي بمصدقين بالرسالة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[133] فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين

فأرسلنا عليهم الطوفان " أي على آل فرعون ، وأما قوم موسى فلطف تعالى بهم، فلم ينلهم ولا محالهم سوء من الطوفان ولا غيره.

والطوفان (لغة) هو المطر الغالب، ويطلق على كل حادثة تطيف بالإنسان وتحيط به، فعم الطوفان الصحراء، وأتلف عشبها، وكسر شجرها، تواصلت الرعود والبروق، ونيران الصواعق في جميع أرض مصر والجراد " فأكل جميع عشب أرض مصر والثمر، مما تركه الطوفان، حتى لم يبق شيء من ثمرة ولا خضرة في الشجرة، ولا عشب في الصحراء والقمل " فعم أرض مصر ، وكان على الناس والبهائم، وهو بضم وتشديد ك(سكر) صغار الذر، أو شيء صغير بجناح أحمر، أو دواب صغار من جنس القردان، أو الدبى الذي لا أجنحة له، وهو الجراد الصغار.

قال أبو البقاء : (القمل)، يقرأ بالتشديد والتخفيف مع فتح القاف وسكون الميم. قيل: هما لغتان. وقيل: هما القمل المعروف في الثياب ونحوها، والمشدد يكون في الطعام. انتهى.

[ ص: 2842 ] ورد ابن سيدة ، وتبعه المجد في (القاموس) القول بأن المراد به قمل الناس. والضفادع " فصعدت من الأنهار والخلج والمناقع، وغطت أرض مصر والدم " فصارت مياه مصر جميعها دما عبيطا، ومات السمك فيها، وأنتنت الأنهار، ولم يستطع المصريون أن يشربوا منها شيئا آيات مفصلات " أي مبينات لا يشكل على عاقل أنها آيات الله تعالى ونقمته، أو مفرقات بعضها إثر بعض. و (آيات) حال من المنصوبات قبل. فاستكبروا " أي عن الإيمان، فلم يؤمنوا لموسى ، ويرسلوا معه بني إسرائيل وكانوا قوما مجرمين " أي عاصين كافرين.

قال الجشمي : تدل الآية على عناد القوم، وإصرارهم على الكفر وجهلهم، حيث عاهدوا في كل آية يأتي بها على صدقه وإثبات العهد، أنهم لا يؤمنون بها. وليس هذا عادة من غرضه الحق. وتدل على ذم من يرى الآيات ولا يتفكر فيها، وتدل على وجوب التدبر في الآيات. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[134] ولما وقع عليهم الرجز قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل

ولما وقع عليهم الرجز " أي نزل بهم العذاب المفصل، قالوا يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك أي بعهده عندك، وهو النبوة، ف(ما) مصدرية.

قال الشهاب : سميت النبوة عهدا، لأن الله عهد إكرام الأنبياء بها، وعهدوا إليه تحمل أعبائها، أو لأن لها حقوقا تحفظ، كما تحفظ العهود، أو لأنها بمنزلة عهد ومنشور من الله تعالى. انتهى.

لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل أي الذين أرسلت لطلبهم، ليعبدوا ربهم تعالى.

[ ص: 2843 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[135] فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه إذا هم ينكثون

" فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه يعني إلى الوقت الذي أجل لهم، وهو وقت إهلاكهم بالغرق في اليم. إذا هم ينكثون " أي ينقضون العهد الذي التزموه، فلم يفوا به، فإن فرعون كان كلما حل بمصر نقمة مما تقدم، يدعو موسى ويطلب منه أن يشفع إلى الله تعالى بكشفها، ويعده أنها إذا كشفت أطلق شعبه لعبادته تعالى، حتى إذا كشفت أخلف ما وعد، وقسا قلبه، ولما لم يتعظوا بما شاهدوه مما تقدم، أتتهم النقمة القاضية، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[136] فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين

" فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم أي البحر بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بآيات الله تعالى وإعراضهم، وعدم تفكرهم ومبالاتهم بها. وقد روي أن فرعون ، بعد أن أبصر ما أبصر من الضربات الربانية على مصر ، أذن لموسى وقومه أن يخرجوا من مصر ، ليقيموا عبادة الله تعالى حيث شاؤوا، فارتحل بنو إسرائيل على عجل ليلا، وساروا بكل ما معهم من غنم وبقر ومواش، من عين شمس إلى " سكوت " ، وسلكوا طريق برية البحر الأحمر ، ولما سمع فرعون بارتحالهم، ندم على ما فعل، من إطلاقهم من خدمته، فجمع جيشه ومراكبه الحربية، ولحقهم فأدركهم، وكانوا قد وصلوا إلى شاطئ البحر الأحمر . حينئذ خاف الإسرائيليون، وأخذوا يتذمرون على موسى ، فقال لهم: لا تخافوا، إن الله معنا، ثم أمر تعالى موسى ، فمد يده إلى البحر الأحمر ، فانشق ماؤه، وصار فيه طريق واسعة، وأرسل الله ريحا شرقية شديدة، فيبس قعره، فعبر فيه الإسرائيليون، [ ص: 2844 ] والماء عن يمينهم وشمالهم، فتبعهم فرعون وجنوده وتوسطوا البحر، فمد موسى يده، بإذن الله، على البحر، فارتد ماؤه سريعا، وغمر فرعون وجنوده ومراكبه، فغرقوا جميعا، ثم طفت جيفهم على وجه الماء، وانقذفت إلى الساحل، فشاهدها الإسرائيليون عيانا. هذا ملخص ما روي هنا.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية أنه تعالى أهلكهم بعد أن أزاح العلة بالآيات، وتدل على أن ما أصابهم كان عقوبة وجزاء على فعلهم، وتدل على قبح الاعتراض على آيات الله، وتدل على وجوب النظر، وتدل على أن النكث فعلهم، والإعراض، فلذلك عاقبهم عليهما. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[137] وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون

وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون " أي بالاستعباد وقتل الأبناء، وفي التعبير عنهم بهذا، إظهار لكمال لطفه تعالى بهم، وعظيم إحسانه إليهم، في رفعهم من حضيض المذلة إلى أوج العزة. مشارق الأرض ومغاربها " أي الأرض المقدسة ، أي جوانبها الشرقية والغربية، حيث ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا في أكنافها حيث شاءوا. وقوله تعالى التي باركنا فيها " أي بالخصب وسعة الأرزاق. وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل أي مضت واستمرت عليهم، وهي وعده إياهم بالنصر والتمكين. بما صبروا " أي بسبب صبرهم على الشدائد التي كابدوها من فرعون وقومه.

[ ص: 2845 ] قال الزمخشري : وحسبك به حاثا على الصبر، ودالا على أن من قابل البلاء بالجزع، وكله الله إليه، ومن قابله بالصبر وانتظار النصر، ضمن الله له الفرج.

وعن الحسن : عجبت ممن خف كيف خف، وقد سمع قوله تعالى - وتلا الآية- ومعنى خف طاش جزعا وقلة صبر، ولم يرزن أولي الصبر.

ودمرنا " أي خربنا وأهلكنا ما كان يصنع فرعون " وقومه أي ما كانوا يعملون ويسوون من العمارات وبناء القصور: وما كانوا يعرشون " (بكسر الراء وضمها)، أي من الجنات. أو ما كانوا يرفعون من الأبنية المشيدة في السماء، كصرح هامان ، وهذا كما قال تعالى: ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون وقال تعالى: كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين

قال الزمخشري : وهذا آخر ما اقتص الله من نبأ فرعون والقبط، وتكذيبهم بآيات الله، وظلمهم ومعاصيهم، ثم أتبعه اقتصاص نبأ بني إسرائيل ، وما أحدثوه بعد إنقاذهم من ملكة فرعون واستعباده، ومعاينتهم الآيات العظام، ومجاوزتهم البحر من عبادة البقر، وطلب رؤية الله جهرة، وغير ذلك من أنواع الكفر والمعاصي، ليعلم حال الإنسان وأنه كما وصفه لظلوم كفار " ، جهول كنود، إلا من عصمه الله: وقليل من عبادي الشكور وليسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم مما أري من بني إسرائيل بالمدينة ، فقال تعالى:

[ ص: 2846 ]


القول في تأويل قوله تعالى:

[138] وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون

" وجاوزنا ببني إسرائيل البحر أي الذي أغرق فيه أعداءهم، وهو بحر القلزم كقنفذ، بلد كان في شرقي مصر ، قرب جبل الطور ، أضيف إليه، لأنه على طرفه، ويعرف البلد الآن بالسويس ، ومن زعم أن البحر هو نيل مصر ، فقد أخطأ، كما في (العناية).

فأتوا على قوم يعكفون " قرئ بضم الكاف وكسرها، على أصنام لهم " أي يواظبون على عبادتها ويلازمونها قالوا يا موسى اجعل لنا إلها " أي صنما نعكف عليه كما لهم آلهة " أي أصنام يعكفون عليها قال إنكم قوم تجهلون " أي شأن الألوهية وعظمتها، وأنه لا يستحقها إلا الله وحده.

قال البغوي رحمه الله: ولم يكن ذلك شكا من بني إسرائيل في وحدانية الله تعالى، وإنما معناه اجعل لنا شيئا نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى الله تعالى، وظنوا أن ذلك لا يضر بالديانة، وكان ذلك لشدة جهلهم. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[139] إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون

إن هؤلاء " يعني عبدة تلك التماثيل متبر " أي مهلك ما هم فيه " أي من الشرك وباطل ما كانوا يعملون " أي عبادة الأصنام، وإن كان قصدهم بذلك التقرب إلى الله تعالى، فإنه كفر محض.

قال الرازي : أجمع كل الأنبياء، عليهم السلام، على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقد أن عبادته تقرب إلى الله تعالى، لأن العبادة نهاية التعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر منه غاية الإنعام، وهي بخلق الجسم والحياة والشهوة [ ص: 2847 ] والقدرة والعقل وخلق الأشياء المنتفع بها.

والقادر على هذه الأشياء ليس إلا الله تعالى، فوجب أن لا تليق العبادة إلا به. انتهى.

وعن أبي واقد الليثي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى غزوة حنين مر بشجرة للمشركين كانوا يعلقون عليها أسلحتهم يقال لها (ذات أنواط)، فقالوا: يا رسول الله ! اجعل لنا ذات أنواط، كما لهم ذات أنواط. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « سبحان الله ! هذا كما قال قوم موسى : اجعل لنا إلها كما لهم آلهة والذي نفسي بيده ! لتركبن سنن من كان قبلكم » - أخرجه الإمام أحمد والترمذي وابن جرير وغيرهم -.

وقال الإمام أبو بكر الطرطوشي المالكي : انظروا رحمكم الله أينما وجدتم سدرة أو شجرة يقصدها الناس، ويعظمونها ويرجون البرء والشفاء من قبلها، ويضربون بها المسامير والخرق، فهي ذات أنواط، فاقطعوها.

وقال الحافظ أبو شامة الشافعي الدمشقي في كتاب (البدع والحوادث): وقد عم الابتلاء بتزيين الشيطان للعامة تخليق الحيطان والعمد، فيفعلون ذلك ويحافظون عليه، مع تضييعهم فرائض الله وسننه، ويظنون أنهم متقربون بذلك، ثم يتجاوزون هذا إلى أن يعظم وقع تلك الأماكن في قلوبهم، فيعظمونها، ويرجون الشفاء لمرضاهم، وقضاء حوائجهم، وبالنذر لها، وهي من بين عيون وشجر وحائط وحجر. ثم شرح شجرة مخصوصة فقال: ما أشبهها بذات أنواط، التي في الحديث.

وروى ابن وضاح في كتابه قال: سمعت عيسى بن يونس يقول: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي صلى الله عليه وسلم فقطعت، لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تحتها، فخاف عليهم الفتنة . ولهذا البحث تتمة مهمة في (إغاثة اللهفان) لابن القيم فلتنظر.

[ ص: 2848 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[140] قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين

قال " أي موسى ، مذكرا لقومه نعمه تعالى عليهم، الموجبة لتخصيصه تعالى بالعبادة أغير الله أبغيكم إلها " أي أطلب لكم معبودا. يقال: أبغاه الشيء طلبه له، ك(بغاه) إياه، يتعدى إلى مفعولين، وليس من باب الحذف والإيصال. وفي الحديث: ابغني أحجارا أستطيب بها ، بهمزة القطع والوصل. وقال الشاعر:


وكم آمل من ذي غنى وقرابة لتبغيه خيرا وليس بفاعل


والاستفهام في الآية للإنكار والتعجب والتوبيخ: وهو فضلكم على العالمين " أي والحال، أنه تعالى خصكم بنعم لم يعطها غيركم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[141] وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم

وإذ أنجيناكم من آل فرعون " أي: من فرعون وقومه يسومونكم سوء العذاب " أي يكلفونكم إياه، أو يولونكم إياه، يقال: سامه الأمر يسومه، كلفه إياه وجشمه وألزمه. أو أولاه إياه يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم " أي فنجاكم منه وحده، من غير شفاعة أحد.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على أن هلاك الأعداء نعمة من الله يجب مقابلتها بالشكر. وتدل على أن المحن في الأولاد والأهل بمنزلة المحن في النفس، ويجري مجراه. انتهى.

[ ص: 2849 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[142] وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقال موسى لأخيه هارون اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين

" وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة

روي أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر ، نزلوا في برية طور سيناء ، وكانت مدة خروجهم إلى أن نزلوا شهرا ونصفا. ولما نزلوا تلقاء الجبل ، صعد موسى إليه، وسمع كلامه تعالى وأوامره ووصاياه. ثم انحدر موسى إلى قومه، وأعلمهم بما أمروا به، وصاروا يشاهدون على الجبل ضبابا، وصوت رعود، وبروقا، ثم أمر تعالى موسى أن يصعد إلى الجبل ليؤتيه الشرائع التي كتبها على قومه، فصعد موسى الجبل ، وكان مغطى بالغمام، فدخل موسى في وسط الغمام وأقام في الجبل أربعين يوما، لم يأكل ولم يشرب، لما أمد من القوة الروحانية، والتجليات القدسية، وأوتي في برهتها الألواح التي كتبت فيها شرائعهم، ولما رجع إلى قومه، كان على وجهه أشعة نور مدهشة، فخافوا من الدنو منه، فجعل على وجهه برقعا، فكان إذا صعد الجبل للمناجاة، رفعه، وإذا أتاهم وضعه. والله أعلم.

وقال موسى لأخيه هارون " أي حين توجه للمناجاة اخلفني في قومي " أي: كن خليفتي فيهم وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين " أي لا تتبع من سلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على أنه استخلف هارون عند خروجه، لما رأى أنهم أشد طاعة له، وأكثر قبولا منه، ومخاطبات موسى عليه السلام لهارون وجوابه له كقوله: [ ص: 2850 ] أفعصيت أمري " ، وقول هارون لا تأخذ بلحيتي " ، فلا تشمت بي الأعداء " كل ذلك كالدال على أن موسى كان يختص بنوع من الولاية، وإن اشتركا في النبوة.

والظاهر أنه استخلفه إلى أن يرجع، لأنه المعقول من الاستخلاف عند الغيبة. وتدل على أنه يجوز أن ينهاه عن شيء يعلم أنه لا يفعله، ويأمره بما يعلم أنه سيفعله، عظة له، واعتبارا لغيره، وتأكيدا ومصلحة للجميع. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى:

[143] ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا وخر موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين

" ولما جاء موسى لميقاتنا أي حضر الجبل لوقتنا الذي وقتنا له وحددنا. " وكلمه ربه أي خاطبه من غير واسطة ملك قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني أي لن تطيق رؤيتي، لأن هذه البنية الآدمية في هذه النشأة الدنيوية، لا طاقة لها بذلك، لعدم استعدادها له. بل ما هو أكبر جرما، وأشد خلقا وصلابة -وهو الجبل - لا يثبت لذلك، بل يندك، ولذا قال تعالى " ولكن انظر إلى الجبل أي الذي هو أقوى منك. " فإن استقر أي ثبت مكانه، حين أتجلى له، ولم يتزلزل " فسوف تراني أي تثبت لرؤيتي إذا تجليت عليك، وإلا فلا طاقة. وفيه من التلطيف بموسى والتكريم له، والتنزل القدسي ما لا يخفى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 50.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 49.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.25%)]