عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 23-01-2023, 10:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2791 الى صـ 2805
الحلقة (360)


وخلاصة ما رووه عن ثمود أن عادا لما هلكت، عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا على الله، وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأوثان، فبعث الله تعالى إليهم صالحا عليه السلام، وكانوا قوما عربا، وصالح من أوسطهم نسبا، فدعاهم إلى عبادته تعالى وحده، فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون، فحذرهم وأنذرهم، فسألوه آية، واقترحوا عليه بأن يخرج لهم ناقة عشراء، تمخض من صخرة صماء، عينوها بأنفسهم، وكانت صخرة منفردة في ناحية الجبل، يقال لها (الكائبة)، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق: لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم، قام صالح عليه السلام إلى صلاته، ودعا الله عز وجل، فتحركت تلك الصخرة، [ ص: 2791 ] ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء، يتحرك جنينها بين جنبيها، كما سألوا. فعند ذلك آمن رئيسهم جندع بن عمرو بن لبيد ، والخباب صاحب أوثانهم، ورباب بن صعمر بن جلمس . وكان لجندع بن عمرو ابن عم له، شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن جواس ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط، فأطاعهم، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود يقال له مهوش بن عنمة بن الزميل رحمه الله:


وكانت عصبة من آل عمرو إلى دين النبي دعوا شهابا عزيز ثمود كلهم جميعا
فهم بأن يجيب ولو أجابا لأصبح صالح فينا عزيزا
وما عدلوا بصاحبهم ذؤابا ولكن الغواة من آل حجر
تولوا بعد رشدهم ذبابا


وأقامت الناقة وفصيلها، بعد ما وضعته، بين أظهرهم مدة، تشرب من بئرها يوما، وتدعه لهم يوما، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاؤوا من أوعيتهم وأوانيهم، كما قال في الآية الأخرى: ونبئهم أن الماء قسمة بينهم كل شرب محتضر وقال تعالى: هذه ناقة لها شرب ولكم شرب يوم معلوم وكانت تسرح في بعض تلك الأودية، ترد من فج، وتصدر من غيره، ليسعها. لأنها كانت تتضلع من الماء، وكانت -على ما ذكر- خلقا هائلا، ومنظرا رائعا، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها، فلما طال عليهم ذلك، واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام، عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم. فيقال إنهم اتفقوا كلهم على قتلها. قال قتادة : بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون لقتلها، حتى على النساء في خدورهن. قال ابن كثير : قلت وهذا هو الظاهر لقوله تعالى: فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها ص: 2792 وقال وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وقال فعقروا الناقة فأسند ذلك إلى مجموع القبيلة، فدل على رضى جميعهم بذلك - والله أعلم -.

وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، وغيره من علماء التفسير، أن سبب قتلها، أن امرأة من ثمود يقال لها ( عنيزة بنت غنم بن مجلز ، تكنى بأم غنم، وهي من بني عبيد بن المهل ، أخي رميل بن المهل ، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو ، وكانت عجوزا مسنة، وكانت ذات بنات حسان، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم.

وامرأة أخرى يقال لها ( صدوف بنت المحيا بن دهر بن المحيا )، سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأول، وكان الوادي يقال له (وادي المحيا، وهو المحيا الأكبر، جد المحيا الأصغر أبي صدوف .

وكانت صدوف من أحسن الناس، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر، وكانتا من أشد امرأتين في ثمود عداوة لصالح وأعظمه به كفرا.

وكانتا تحتالان أن تعقر الناقة مع كفرهما به، لما أضرت به من مواشيهما.

وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له ( صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف ) من بني هلس، فأسلم وحسن إسلامه.

وكانت صدوف قد فوضت إليه مالها، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح ، حتى رق المال.

ص: 2793 فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف ، فعاتبته على ذلك، فأظهر لها دينه، ودعاها إلى الله وإلى الإسلام فأبت عليه وبيتت له، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد ، بطنها الذي هي منه.

وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها، فقال لها: ردي علي ولدي. فقالت: حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد ، فقال لها صنتم : بل أنافرك إلى بني مرداس بن عبيد ، وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الآخرون.

فقالت: لا أنافرك إلا إلى من دعوتك إليه.

فقال بنو مرداس : والله لتعطنه ولده طائعة أو كارهة.

فلما رأت ذلك أعطته إياهم.

ثم إن صدوف وعنيزة محلتا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل، فدعت صدوف رجلا من ثمود يقال له ( الحباب ) لعقر الناقة، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل فأبى عليها، فدعت ابن عم لها يقال له ( مصدع بن مهرج بن المحيا )، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة. وكانت من أحسن الناس، وكانت غنية كثيرة المال، فأجابها إلى ذلك.

ودعت عنيزة بنت غنم (قدار بن سالف بن جندع) ، رجلا من أهل قرح.

وكان قدار رجلا أحمر أزرق قصيرا، يزعمون أنه كان لزنية، من رجل يقال له (صهياد) ، ولم يكن لأبيه (سالف) الذي يدعى إليه، ولكنه قد ولد على فراش (سالف) ، وكان يدعى له وينسب إليه.

فقالت: أعطيتك أي بناتي شئت، على أن تعقر الناقة.

[ ص: 2794 ] وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو ، من أشراف رجال ثمود ، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه.

فانطلق قدار بن سالف ، ومصدع بن مهرج ، فاستنفرا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر، فكانوا تسعة نفر.

أحد النفر الذي اتبعوهما رجل يقال له، (هويل بن مبلغ) خال قدار بن سالف ، أخو أمه لأبيها وأمها، وكان عزيزا في أهل حجر ، و (دعير بن غنم بن داعر) ، وهو من بني خلاوة بن المهل .

و (دأب بن مهرج) ، أخو مصدع بن مهرج .

وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم.

فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء، وقد كمن لها قدار في أصل شجرة على طريقها، وكمن لها مصدع في أصل أخرى، فمرت على مصدع فرماها بسهم، فانتظم به عضلة ساقها، وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها، وكانت من أحسن الناس وجها، فأسفرت لقدار وأرته إياه، ثم ذمرته فشد على الناقة بالسيف فخشف عرقوبها، فخرت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها، ثم طعن في لبتها فنحرها.

انطلق سقبها حتى أتى جبلا منيفا، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فزعا ولاذ بها، واسم الجبل فيما يزعمون (صنو) ، فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقرت، قال انتهكتم حرمة الله، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته، فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة، وفيهم (مصدع بن مهرج) ، فرماه مصدع بسهم، فانتظم قلبه، ثم جر برجله فأنزله، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه.

فلما قال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته، قالوا له وهم يهزءون به: ومتى ذلك [ ص: 2795 ] يا صالح ؟ وما آية ذلك؟ - وكانوا يسمون الأيام فيهم: الأحد (أول)، والاثنين (أهون)، والثلاثاء (وبار)، والأربعاء (جبار)، والخميس (مؤمن)، والجمعة (العروبة)، والسبت (شيار)، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء - فقال لهم صالح حين قالوا له ذلك: تصبحون غداة يوم مؤمن، يعني يوم الخميس، ووجوهكم مصفرة، ثم تصبحون يوم العروبة، يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرة، ثم تصبحون يوم شيار، يعني يوم السبت، وجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب يوم الأول، يعني يوم الأحد.

فلما قال لهم صالح ذلك، قال التسعة الذين عقروا الناقة: هلم فلنقتل صالحا ، إن كان صادقا عجلناه، قبلنا، وإن كان كاذبا يكون قد ألحقناه بناقته.

فأتوه ليلا ليبيتوه في أهله، فدمغتهم الملائكة بالحجارة، فلما أبطأوا على أصحابهم، أتوا منزل صالح فوجدوهم مشدخين قد رضخوا بالحجارة، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ! ثم هموا به. فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح وقالوا لهم: والله لا تقتلونه أبدا، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون !

فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك، والنفر الذين رضخهم الملائكة بالحجارة، التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى: وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون إلى قوله: لآية لقوم يعلمون

فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح ، وجوههم مصفرة، فأيقنوا بالعذاب، وعرفوا أن صالحا قد صدقهم فطلبوه ليقتلوه، وخرج صالح هاربا منهم حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم (بنو غنم) ، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب ، وهو مشرك، فغيبه، فلم يقدروا عليه.

[ ص: 2796 ] فغدوا على أصحاب صالح فعذبوهم ليدلوهم عليه، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له (ميدع بن هرم) : يا نبي الله، إنهم يعذبوننا لندلهم عليك، أفندلهم عليك؟ قال: نعم، فدلهم عليه (ميدع بن هرم) . فلما علموا بمكان صالح ، أتوا أبا هدب فكلموه فقال لهم: عندي صالح ، وليس لكم إليه سبيل، فأعرضوا عنه وتركوه، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه. فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرة، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرة، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، وتخلف رجل من أصحابه يقال له (ميدع بن هرم) فنزل قرح -وهي وادي القرى ، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلا- فنزل على سيدهم رجل يقال له (عمرو بن غنم) ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشرك في قتلها. فقال له ميدع بن هرم : يا عمرو بن غنم ، اخرج من هذا البلد، فإن صالحا قال: من أقام فيه هلك، ومن خرج منه نجا.

فقال عمرو : ما شركت في عقرها، وما رضيت ما صنع بها. فلما كانت صبيحة الأحد، أخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك، إلا جارية مقعدة يقال لها ( الزريعة ) وهي الكلبة ابنة السلق، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قط، حتى أتت أهل قرح فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه، ثم استسقت من الماء فسقيت، فلما شربت ماتت.

الثاني: قال الرازي : زعم بعض الملحدين أن ألفاظ التنزيل في حكاية هذه الواقعة اختلفت، وهي الرجفة والطاغية والصيحة. والجواب ما قاله أبو مسلم : إن الطاغية اسم لكل ما تجاوز حده، سواء كان حيوانا أو غير حيوان، وألحق الهاء به للمبالغة، فالمسلمون [ ص: 2797 ] يسمون الملك العاتي بالطاغية والطاغوت. وقال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ويقال طغى طغيانا، وهو طاغ وطاغية، وقال تعالى: كذبت ثمود بطغواها وقال في غير الحيوان : إنا لما طغى الماء أي: غلب وتجاوز عن الحد.

وأما الرجفة فهي الزلزلة في الأرض، وهي حركة خارجة عن المعتاد، فلم يبعد إطلاق اسم الطاغية عليها، وأما الصيحة، فالغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة العظيمة الهائلة. وأما الصاعقة، فالغالب أنها الزلزلة، وكذلك الزجرة، قال تعالى: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة فبطل ما زعمه ذلك البعض.

الثالث: قال علماء التفسير: ولم يبق من ذرية ثمود أحد، سوى صالح عليه السلام، ومن تبعه رضي الله عنهم، إلا أن رجلا يقال له أبو رغال ، كان لما وقعت النقمة بقومه، مقيما إذ ذاك في الحرم، فلم يصبه شيء، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل، جاءه حجر من السماء فقتله.

روى الإمام أحمد عن جابر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تسألوا الآيات، فقد سألها قوم صالح ، فكانت -يعني الناقة- ترد من هذا الفج، وتصدر من هذا الفج، فعتوا عن أمر ربهم، فعقروها، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما فعقروها، فأخذتهم صيحة أخمد الله من تحت أديم السماء منهم، إلا رجلا واحدا كان في حرم الله فقالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: أبو رغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه » .

قال ابن كثير : وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة، وهو على شرط مسلم .

وروى عبد الرزاق عن معمر : أخبرني إسماعيل بن أمية ، أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: « أتدرون من هذا؟ » قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: « هذا قبر أبي رغال ، [ ص: 2798 ] رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرم الله عذاب الله، فلما خرج أصابه ما أصاب قومه، فدفن ههنا، ودفن معه غصن من ذهب » ، فنزل القوم، فابتدروه بأسيافهم، فبحثوا عنه، فاستخرجوا الغصن.

وأبو رغال هو أبو ثقيف الذين كانوا يسكنون الطائف ، كما روي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم -أخرجه أبو داود وغيره-.

الرابع: ذكرنا قبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على ديار ثمود المعروفة الآن بمدائن صالح ، وهو ذاهب إلى غزوة تبوك ، سنة تسع، وأمر أصحابه أن يدخلوا خاشعين وجلين أن يصيبهم ما أصاب أهلها، ونهاهم أن يشربوا من مائها .

فروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال: نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس عام تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها، ونصبوا القدور باللحم. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: « إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم، فلا تدخلوا عليهم » .

وروى أحمد والبخاري ومسلم عن ابن عمر قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال: « لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين، إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين، فلا تدخلوا عليهم، أن يصيبكم مثل ما أصابهم » . ثم قنع رأسه وأسرع السير حتى جاوز الوادي .

[ ص: 2799 ] وللبخاري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل الحجر في غزوة تبوك أمرهم أن لا يشربوا من آبارها ولا يستقوا منها. فقالوا: قد عجنا منها، واستقينا. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرحوا ذلك العجين، ويهريقوا ذلك الماء .

الخامس: قال ابن كثير : ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته، كان يذهب فيقيم في الحرم، حرم مكة ، والله أعلم.

وقد قال الإمام أحمد : حدثنا وكيع ، حدثنا زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال: «يا أبا بكر ! أي واد هذا؟ » ، قال: هذا وادي عسفان . قال: « لقد مر به هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف، أزرهم العباء، وأرديتهم النمار، يلبون، يحجون البيت العتيق » . قال ابن كثير : هذا حديث غريب من هذا الوجه، لم يخرجه أحد منهم.

وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[80] ولوطا إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين

ولوطا " منصوب بفعل مضمر معطوف على ما سبق، أي: وأرسلنا لوطا . ولفظه أعجمي معناه في العربية (ملفوف) أو (مر)، كما في تأويل أسماء التوراة والإنجيل -وهو فيما قاله علماء النسب والتفسير- ابن هاران بن تارح ، ويقال آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام. وكان قد آمن مع إبراهيم عليهما السلام، وهاجر معه إلى الشام ، [ ص: 2800 ] وتوطنا بلد الكنعانيين من فلسطين ، وهي الأرض المقدسة ، ثم حدثت مشاجرة بين رعاتهما فنزح لوط إلى وادي الأردن ، وسكن مدينة سدوم فبعثه الله إلى أهلها، وإلى ما جاورها من القرى. فصار يدعوهم إلى الله تعالى، ويأمرهم بالمعروف، وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والفواحش التي اخترعوها، ولم يسبقهم بها أحد من العالمين، من بني آدم، لا غيرهم، وهو إتيان الذكور.

قال ابن كثير : وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه، ولا يخطر ببالهم، حتى صنعه أهل سدوم ، عليهم لعائن الله.

قال عمرو بن دينار : ما نزا ذكر على ذكر، حتى كان قوم لوط .

وقال الوليد بن عبد الملك الخليفة الأموي ، باني جامع دمشق : لولا أن الله عز وجل قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكرا يعلو ذكرا.

ثم بين تعالى إنكار لوط عليهم بقوله سبحانه: إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة أي الفعلة المتناهية في القبح. وقوله تعالى: ما سبقكم بها من أحد من العالمين أي: ما علمها أحد قبلكم، الباء للتعدية، من قولك (سبقته بالكرة)، إذا ضربتها قبله، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: « سبقك بها عكاشة » . كذا في (الكشاف).

قال أبو السعود : والجملة مستأنفة مسوقة لتأكيد النكير، وتشديد التوبيخ والتقريع، فإن مباشرة القبح قبيح، واختراعه أقبح، فأنكر تعالى عليهم أولا إتيان الفاحشة، ثم وبخهم بأنهم أول من عملها، ثم استأنف بيان تلك الفاحشة تأكيدا للإنكار السابق، وتشديدا للتوبيخ بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[81] إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم مسرفون

إنكم لتأتون الرجال " أي الذين خلقهم الله ليأتوا النساء، لا ليأتيهم الرجال. [ ص: 2801 ] وقرئ بهمزتين صريحتين، وبتليين الثانية، بغير مد وبمد أيضا. وفي زيادة (إن) و (اللام) مزيد توبيخ وتقريع، كأن ذلك أمر لا يتحقق صدوره عن أحد. وفي إيراد لفظ (الرجال) دون الغلمان والمردان ونحوهما، مبالغة في التوبيخ وتأتون، من (أتى المرأة) إذا غشيها. قاله الزمخشري .

وفي (تاج العروس): أتى الفاحشة: تلبس بها، ويكنى بالإتيان عن الوطء، وهو من أحسن الكنايات، ورجل مأتي أتي فيه، ومنه قول بعض المولدين:


يأتي ويؤتى ليس ينكر ذا ولا هذا كذلك إبرة الخياط


انتهى.

وقوله تعالى شهوة " مفعول له، أي للاشتهاء، أي لا حامل لكم عليه إلا مجرد الشهوة من غير داع آخر، ولا ذم أعظم منه، لأنه وصف لهم بالبهيمية، وأنه لا داعي لهم من جهة العقل البتة، كطلب النسل ونحوه، أو حال، بمعنى مشتهين تابعين للشهوة، غير ملتفتين إلى السماحة. كذا في (الكشاف). من دون النساء " أي: مجاوزين عن مواتاة النساء اللاتي خلقن لذلك. قال أبو السعود : ويجوز أن يكون المراد من قوله شهوة " الإنكار عليهم، وتقريعهم على اشتهائهم تلك الفعلة الخبيثة المكروهة، كما ينبئ عنه قوله تعالى من دون النساء " أي: متجاوزين النساء اللاتي هن محال الاشتهاء كما ينبئ عنه قوله تعالى: هن أطهر لكم بل أنتم قوم مسرفون إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحال التي توجب ارتكاب القبائح، وتدعو إلى اتباع الشهوات. وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف، وتجاوز الحدود في كل شيء، فمن ثم أسرفوا في باب قضاء الشهوة، حتى تجاوزوا المعتاد إلى غير المعتاد. ونحوه: بل أنتم قوم عادون كذا في (الكشاف).
القول في تأويل قوله تعالى:

[82] وما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون

وما كان جواب قومه " أي: المستكبرين في مقابلة نصحه، إلا أن قالوا [ ص: 2802 ] أخرجوهم " أي: لوطا والمؤمنين معه من قريتكم " أي: بلدكم. قال الزمخشري : يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة، وتعظيم أمرها، ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله، ولكنهم جاءوا بشيء آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته، من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم، ضجرا بهم، وبما يسمعونه من وعظهم ونصحهم. وقولهم: إنهم أناس يتطهرون " سخرية بهم، وبتطهرهم من الفواحش، وافتخار بما كانوا فيه من القذارة، كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم (أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد).

قال ابن كثير : قال مجاهد : يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء. وروي مثله عن ابن عباس .

قال السيوطي في (الإكليل): فيستدل به على تحريم أدبار النساء، أي بناء على أن تفسير الصحابي له حكم المرفوع.

ورجح ابن القيم أنه في حكم الموقوف.

والمسألة تقدمت مستوفاة في قوله تعالى: نساؤكم حرث لكم فتذكر.

تنبيه:

قال الإمام شمس الدين ابن القيم رحمه الله في كتابه (إغاثة اللهفان): قد وسم الله سبحانه الشرك والزنى واللواطة بالنجاسة والخبث في كتابه، دون سائر الذنوب، وإن كان مشتملا على ذلك. لكن الذي وقع في القرآن قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس وقوله تعالى في حق اللوطية: ولوطا آتيناه حكما وعلما ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين وقالت اللوطية: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون فأقروا مع شركهم وكفرهم، أنهم هم الأخباث الأنجاس، وأن لوطا وآله مطهرون من ذلك، [ ص: 2803 ] باجتنابهم له.

وقال تعالى في حق الزناة: الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات وأما نجاسة الشرك فهي نوعان نجاسة مغلظة، ونجاسة مخففة. فالمغلظة: الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله عز وجل، فإن الله عز وجل لا يغفر أن يشرك به، والمخففة: الشرك الأصغر، كيسير الرياء، والتصنع للمخلوقات والحلف به، وخوفه ورجائه.

ثم قال: ونجاسة الزنى واللواطة أغلظ من غيرها من النجاسات، من جهة أنها تفسد القلب، وتضعف توحيده جدا. ولهذا أحظى الناس بهذه النجاسة أكثرهم شركا، فكلما كان الشرك في العبد أغلب، كانت هذه النجاسة والخبائث فيه

أكثر، وكلما كان أعظم إخلاصا، كان منها أبعد، كما قال تعالى عن يوسف الصديق عليه السلام: كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين فإن عشق الصور المحرمة نوع تعبد لها بل هو من أعلى أنواع التعبد، ولا سيما إذا استولى على القلب، وتمكن منه، صار تتيما، والتتيم: التعبد، فيصير العاشق عابدا لمعشوقه، وكثيرا ما يغلب حبه وذكره والشوق إليه والسعي في مرضاته، وإيثار محابه على حب الله وذكره، والسعي في مرضاته. بل كثيرا ما يذهب ذلك من قلب العاشق بالكلية، ويصير متعلقا بمعشوقة من الصور -كما هو مشاهد- فيصير المعشوق هو إلهه من دون الله عز وجل، يقدم رضاه وحبه على رضا الله وحبه، ويتقرب إليه ما لا يتقرب إلى الله، وينفق في مرضاته ما لا ينفقه في مرضاة الله، ويتجنب سخطه، ما لا يتجنب من سخط الله تعالى، فيصير آثر عنده من ربه، حبا وخضوعا وذلا وسمعا وطاعة. ولهذا كان العشق والشرك متلازمين، وإنما حكى الله سبحانه العشق عن المشركين من قوم لوط وعن امرأة العزيز ، وكانت إذ ذاك مشركة، فكلما قوي شرك العبد، بلي بعشق الصور، وكلما قوي توحيده صرف ذلك عنه.

والزاني واللواطة، كمال لذته إنما يكون مع العشق، ولا يخلو صاحبهما منه، وإنما لتنقله من محل إلى محل، لا يبقى عشقه مقصورا على محل واحد، ينقسم على سهام كثيرة، لكل محبوب نصيب من تألهه وتعبده فليس في الذنوب أفسد للقلب والدين من هاتين الفاحشتين، ولهما خاصية في تبعيد القلب من [ ص: 2804 ] الله، فإنهما من أعظم الخبائث، فإذا انصبغ القلب بهما بعد ممن هو طيب، لا يصعد إليه إلا طيب، وكلما ازداد خبثا، ازداد من الله بعدا. ولهذا قال المسيح ، فيما رواه الإمام أحمد ، في كتاب (الزهد): لا يكون البطالون من الحكماء، ولا يلج الزناة ملكوت السماء. ولما كانت هذه حال الزنى، كان قرينا للشرك في كتاب الله تعالى. قال الله تعالى: الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

ثم قال رحمه الله: والمقصود أن الله سبحانه سمى الزواني والزناة خبيثين وخبيثات، وجنس هذا الفعل قد شرعت فيه الطهارة، وإن كان حلالا، وسمى فاعله جنبا، لبعده عن قراءة القرآن، وعن الصلاة، وعن المساجد، فمنع من ذلك كله حتى يتطهر بالماء.

فكذلك إذا كان حراما، يبعد القلب عن الله تعالى، وعن الدار الآخرة، بل يحول بينه وبين الإيمان، حتى يحدث طهرا كاملا بالتوبة، وطهرا لبدنه بالماء.

وقول اللوطية: أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون من جنس قوله سبحانه في أصحاب الأخدود: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد وقوله تعالى: قل يا أهل الكتاب هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله وما أنـزل إلينا وما أنـزل من قبل وهكذا المشرك، إنما ينقم على الموحد تجريده للتوحيد ، وأنه لا يشوبه بالإشراك. وهكذا المبتدع إنما ينقم على السني تجريده متابعة الرسول، وأنه لم يشبها بآراء الرجال، ولا بشيء مما خالفها.

فصبر الموحد المتبع للرسول على ما ينقمه عليه أهل الشرك والبدعة، خير له وأنفع، وأسهل عليه من صبره على ما ينقمه الله ورسوله من موافقة أهل الشرك والبدعة:


إذا لم يكن بد من الصبر فاصطبر على الحق ذاك الصبر تحمد عقباه


انتهى.

[ ص: 2805 ] ولما هم قوم لوط بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم، أخرجه الله تعالى سالما، وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانين، كما أشار لذلك بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[83] فأنجيناه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين

فأنجيناه وأهله " أي ومن يختص به من ذويه، أو من المؤمنين لطيبهم. قال ابن كثير : ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط، كما قال تعالى: فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين

إلا امرأته " أي: فإنا لم ننجها لخبثها. قال ابن كثير : إنها لم تؤمن به، بل كانت على دين قومها، تمالئهم عليه وتعلمهم بمن يقدم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم. ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله، أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد. ومنهم من يقول بل اتبعتهم، فلما جاء العذاب التفتت هي، فأصابها ما أصابهم.

الأظهر أنها لم تخرج من البلد، ولا أعلمها لوط ، بل بقيت معهم، ولهذا قال ههنا إلا امرأته " . كانت من الغابرين " أي من الذين غبروا في ديارهم، أي بقوا فهلكوا. وقيل: من الهالكين. وهو تفسير باللازم، والتذكير للتغليب، ولبيان استحقاقها لما يستحقه المباشرون للفاحشة.
القول في تأويل قوله تعالى:







__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 51.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 51.35 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.21%)]