عرض مشاركة واحدة
  #353  
قديم 23-01-2023, 10:23 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2686 الى صـ 2700
الحلقة (353)



[ ص: 2686 ] وقالوا للدليل الماهر (خريت) للابتداء به في المضايق المشبهة بأخرات الإبر، والجمل مثل في عظم الجرم، قال:
جسم الجمال وأحلام العصافير

إن الرجال ليسوا بجزر تراد منهم الأجسام، فقيل: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبدا من ولوج هذا الحيوان، الذي لا يلج إلا في باب واسع، وفي ثقب الإبرة. وعن ابن مسعود : أنه سئل عن الجمل؟ فقال: زوج الناقة ، استجهالا للسائل، وإشارة إلى أن طلب معنى آخر تكلف. انتهى.

وحاصله أن الجمل لما كان مثلا في عظم الجسم، لأنه أكبر الحيوانات جسما عند العرب ، وخرق الإبرة مثلا في الضيق، ظهر التناسب. على أن في إيثار الجمل، وهو مما ليس من شأنه الولوج في سم الإبرة مبالغة في استبعاد دخولهم الجنة.

الثانية: السم: الثقب الضيق. قال أبو البقاء : بفتح السين وضمها، لغتان -انتهى.

وصرح بالتثليث فيه، وفي القاتل المعروف، صاحب القاموس وغيره، إلا أنهم قالوا: المشهور في الثقب الفتح كما في التنزيل، والأفصح في القاتل الضم.

[ ص: 2687 ] قال العلامة الفاسي : قال الزبيدي : لم أر من تعرض لكسرهما، وكأنها عامية.

قلت: قال الزمخشري : وقرئ في سم الخياط " بالحركات الثلاث، وكفى به مرجعا.

الثالثة: (الخياط) ككتاب ومنبر، ما خيط به الثوب، والإبرة، كذا في القاموس.

قال الزمخشري : وقرأ عبد الله (في سم المخيط). قال الشهاب : بكسر الميم وفتحها، كما ذكره المعرب، وهي قراءة شاذة.

الرابعة: قال السيوطي في (الإكليل): في قوله تعالى: حتى يلج الجمل " إلخ، جواز فرض المحال، والتعليق عليه كما يقع كثيرا للفقهاء. انتهى.

والتعليق على المحال معروف في كلام العرب ، كقوله:


إذا شاب الغراب أتيت أهلي وصار القار كاللبن الحليب

وقوله تعالى وكذلك " أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين " .
القول في تأويل قوله تعالى:

[41] لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش وكذلك نجزي الظالمين

لهم من جهنم مهاد " أي: فرش من تحتهم ومن فوقهم غواش " أي أغطية، إذا أحاطت بهم الخطيئة وكذلك نجزي الظالمين " أي: بالكفر، وإنما عبر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى، إشعارا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بكل واحد من ذينك الوصفين القبيحين.

وذكر الجرم مع الحرمان من دخول الجنة، والظلم مع التعذيب بالنار الذي هو أشد من الحرمان المذكور، تنبيها على أنه أعظم الجرائم، ثم تأثر تعالى وعيده بوعده، على سنته في تنزيله الكريم، فقال سبحانه:

[ ص: 2688 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[42] والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون

" والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون قال أبو البقاء : والذين آمنوا مبتدأ، وفي الخبر وجهان:

أحدهما: لا نكلف نفسا إلا وسعها والتقدير (منهم)، فحذف العائد، كما حذف في قوله: ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور

والثاني: أن الخبر أولئك أصحاب الجنة " و لا نكلف " معترض بينهما. انتهى.

وعلى الثاني اقتصر غير واحد من المحققين. قالوا: وسر الاعتراض، الترغيب في اكتساب ما يؤدي إلى النعيم المقيم ببيان سهولة مناله، وتيسير تحصيله، والذي حسنه سبق العمل الصالح قبله، أي: وإذا علم أن مبنى التكليف على الوسع زادت الرغبة في ذلك الاكتساب، لحصوله بما فيه يسر لا عسر.

لطيفة:

الوسع: ما يقدر عليه الإنسان بسهولة ويستمر. قاله الرازي ، أخذا من قول معاذ في الآية (يسرها لا عسرها)، قال: وأما أقصى الطاقة فيسمى جهدا لا وسعا، وغلط من ظن أن الوسع بذل المجهود.

قلت: في القاموس: الوسع (مثلثة) الجدة والطاقة كالسعة. وفيه: الجهد الطاقة (ويضم) والمشقة. انتهى.

قال ابن الأثير : الجهد (بالفتح) المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم الوسع والطاقة، [ ص: 2689 ] وقيل: هما لغتان في الوسع والطاقة، فأما في المشقة والغاية، فالفتح لا غير. انتهى. وبه يعلم أن ما جرى عليه الرازي قول للغويين، ليس وفاقا.

القول في تأويل قوله تعالى:

[43] ونـزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون

" ونـزعنا ما في صدورهم من غل أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد والحسد والعدواة، أو نطهرها منها، حتى لا يكون بينهم إلا التواد والتعاطف، وصيغة الماضي للإيذان بتحققه وتقرره.

وتقرره تجري من تحتهم الأنهار وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا أي لما جزاؤه هذا، أي: لأسباب هذا العلو، بإرسال الرسل والتوفيق للعمل.

وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله أي ما كنا لنرشد لذلك العمل الذي هذا ثوابه، لولا أن وفقنا الله بدلائله وألطافه وعنايته.

لقد جاءت رسل ربنا بالحق أي: فاهتدينا بإرشادهم قال الزمخشري : يقولون ذلك، أي الحمد لله " إلخ سرورا واغتباطا بما نالوا، وتلذذا بالتكلم به، لا تقربا ولا تعبدا، كما ترى من رزق خيرا في الدنيا يتكلم بنحو ذلك، ولا يتمالك أن لا يقوله، للفرح والتوبة.

ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون أي: أعطيتموها بسبب أعمالكم في الدنيا. فالميراث مجاز عن الإعطاء، تجوز به عنه إشارة إلى أن السبب فيه ليس موجبا، وإن كان سببا بحسب الظاهر، كما أن الإرث ملك بدون كسب، وإن كان النسب مثلا سببا له. وعلى ما تقرر، فلا يقال إنه معارض لما ثبت في الصحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم: « واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة ! قالوا [ ص: 2690 ] ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل » .

ولا يحتاج إلى الجواب عنه، ولا أن يقال الباء للعوض لا للسبب، وهذا تنجيز للوعد بإثابة المطيع، لا بالاستحقاق والاستيجاب، بل هو بمحض فضله تعالى، كالإرث -كذا في العناية-.

روى الإمام مسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « إذا دخل أهل الجنة الجنة، نادى مناد إن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا » ، فذلك قوله عز وجل: ونودوا أن تلكم الجنة الآية.
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين

ونادى أصحاب الجنة " أي إذا استقروا في منازلهم أصحاب النار " توبيخا [ ص: 2691 ] وتحسيرا لهم أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا " حيث نلنا هذه المراتب العالية فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " من تنزيلكم إلى أسفل سافلين، لاستكباركم على الآيات والرسل قالوا نعم " أي وجدناه حقا فأذن " أي نادى مؤذن بينهم " أي: بين الفريقين ليسمعهم، زيادة في شماتة أحد الفريقين وندامة الآخر أن لعنة الله على الظالمين " .
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون

الذين يصدون عن سبيل الله " أي: يمنعون أنفسهم وغيرهم عن دينه القويم، الذي بينه على ألسنة رسله، لمعرفته وعمارة الدارين. ويبغونها عوجا " أي: يبغون لها زيغا وميلا عما هي عليه، حتى لا يتبعها أحد.

وهم بالآخرة كافرون " أي: وهم بلقاء الله في الدار الآخرة جاحدون لا يؤمنون به، فلهذا لا يبالون، فيأتون المنكر من القول والعمل، لأنهم لا يرجون حسابا عليه ولا عقابا، فهم شر الناس.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون

وبينهما حجاب " أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار، ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى.

وقد سمي هذا الحجاب سورا في آية: فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب وقوله تعالى: وعلى الأعراف رجال [ ص: 2692 ] أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، جمع عرف، مستعار من عرف الفرس، وعرف الديك، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض.

وقد حكى المفسرون أقوالا كثيرة في رجال الأعراف، عن التابعين وغيرهم، أنهم فضلاء المؤمنين، أو هم الشهداء، أو الأنبياء، أو قوم أوذوا في سبيل الله، فاطلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم، فعرفوهم بسيماهم، وسلموا على أهل الجنة. واللفظ، لإبهامه، يحتمل ذلك ; لأن السياق يدل على سمو قدرهم، لا سيما بجعل منازلهم الأعراف، وهي الأعالي، والشرف، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك -والله أعلم-.

يعرفون كلا " أي من أهل الجنة والنار بسيماهم " أي بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجه وسواده.

فائدة

السيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة.

قال القاضي : السيمى فعلى من (سام إبله)، إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من (وسم) على القلب كالجاه من (الوجه). انتهى.

وعلى الثاني اقتصر ابن دريد ونادوا " أي رجال الأعراف أصحاب الجنة " أي حين رأوهم من أعرافهم، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة أن سلام عليكم " بطريق الدعاء والتحية، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره.

والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي . قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون " الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية حال من فاعل " يدخلوها " ، أي نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها، مترقبين.

[ ص: 2693 ] قال الجشمي رحمه الله: قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟ قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء، وإن تأخر دخولهم، لظهور فضلهم، وجلالة طريقهم إلى منازلهم اهـ.

ولا يبعد عندي أن يكون جملة لم يدخلوها وهم يطمعون " حالا من " أصحاب الجنة " أي نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة، وعلو منازلهم على سواهم - والله أعلم -.

وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة، أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد. فالجملة الأولى حال من المفعول وهو (أصحاب الجنة)، والثانية حال من فاعل (يدخلوها).
القول في تأويل قوله تعالى:

[47] وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين

وإذا صرفت أبصارهم " أي: أبصار أهل الأعراف أو أهل الجنة.

قال الجشمي : وإنما قال صرفت " لأن نظرهم إلى أهل النار نظر عداوة، فلا ينظرون إلا أن تصرف وجوههم إليهم. فأما أهل الجنة فوجوههم إليهم سرورا بهم، فلا يحتاج إلى تكلف، وقيل: لأنهم مع أهل الجنة بعداء من أهل النار، فيحتاجون إلى صرف أبصارهم تلقاء أصحاب النار.

ثم قال الجشمي : تدل الآية على وجوب الاجتناب من الظلمة في الدنيا، كيلا يكون معهم في الآخرة -انتهى.

تلقاء أصحاب النار " أي: إلى جهنم قالوا " من شدة خوفهم تعوذا بالله ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين أي: في النار. وقال أبو السعود : في وصفهم [ ص: 2694 ] بالظلم -دون ما هم عليه حينئذ من العذاب وسوء الحال الذي هو الموجب للدعاء- إشعار بأن المحذور عندهم ليس نفس العذاب فقط، بل ما يوجبه ويؤدي إليه من الظلم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون

" ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعني من عظماء أهل الضلالة يعرفونهم بسيماهم " أي التي تدل على أعيانهم وإن تغيرت صورهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم أي: كثرتكم أو جمعكم للأموال التي تدفع بها الآفات وما كنتم تستكبرون " عن الحق، أو على الخلق. وقرئ ( تستكثرون) من الكثرة، أي: من الأتباع الذين يستعان بهم في دفع الملمات.

قال ابن القيم : يعني ما نفعكم جمعكم وعشيرتكم وتجرؤكم على الحق ولا استكباركم وهذا إما نفي وإما استفهام وتوبيخ، وهو أبلغ وأفحم. ثم نظروا إلى الجنة فرأوا من الضعفاء الذين كان الكفار يسترذلونهم في الدنيا، ويزعمون أن الله لا يختصهم دونهم في الدنيا، فيقول لهم أهل الأعراف.
القول في تأويل قوله تعالى:

[49] أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون

أهؤلاء " الضعفاء من المؤمنين الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة برفع درجاتهم في الآخرة، فها هم في الجنة يتمتعون ويتنعمون، وفي رياضها يحبرون. وقوله تعالى: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون أي: لا خوف عليكم من [ ص: 2695 ] العذاب النازل بالكفار، ولا تحزنون كحزن الكفار على فوات النعيم، وهذا إما من قول أصحاب الأعراف، يتآمرون بينهم بدخول الجنة بعد تبكيت أهل النار، فيقول بعضهم لبعض: ادخلوا الجنة؛ وإما من كلام أهل الأعراف للمؤمنين، أي يقولون لهم: ادخلوا الجنة، أو من تتمة مخاطبة أهل الأعراف للرجال، كأنه قيل لهم: انظروا إلى هؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته، كيف نالوها، حيث قيل لهم من قبله تعالى: ادخلوا الجنة. وعلى: كل فالجملة مبنية على قول محذوف إيجازا، للعلم به.

لطيفة:

بين الزمخشري سر حبسهم على الأعراف، ثم إدخالهم الجنة أبدع بيان، فقال رحمه الله: يقال لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنة، وذلك بعد أن يحبسوا على الأعراف، وينظروا إلى الفريقين، ويعرفوهم بسيماهم، ويقولوا ما يقولون.

وفائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال، وأن التقدم والتأخر على حسبها، وأن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل، ولا يتخلف عنده إلا بتخلفه فيه، وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم، وليتصوروا أن كل أحد يعرف ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر، فيرتدع المسيء عن إساءته، ويزيد المحسن في إحسانه وليعلم أن العصاة يوبخهم كل أحد، حتى أقصر الناس عملا -انتهى.
ثم بين تعالى ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم، بعد التكبر عليهم، وبعد ما أقسموا لا ينالهم الله برحمة، وأنهم لا يجابون إلى ذلك، بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[50] ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين

" ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أي: الذي [ ص: 2696 ] رحمكم الله به ليسكن حرارة النار والعطش.

قال الجشمي : وذكروا لفظ (الإفاضة)، لأن أهل الجنة أعلى مكانا. أو مما رزقكم الله " أي: من الأطعمة والفواكه قالوا إن الله حرمهما على الكافرين أي: منعهما عنهم، لأنه أنعم عليهم في الدنيا، فلم يشكروه، فمنعهم نعمه في الآخرة. فالتحريم تحريم منع، لا تحريم تعبد. ثم وصف الكافرين بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[51] الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا وغرتهم الحياة الدنيا فاليوم ننساهم كما نسوا لقاء يومهم هذا وما كانوا بآياتنا يجحدون

" الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا أي: مما زينه لهم الشيطان.

واللهو: كل ما صد عن الحق، واللعب: كل أمر باطل، أي: ليس دينهم في الحقيقة إلا ذلك، إذ هو دأبهم وديدنهم وغرتهم الحياة الدنيا " بزخارفها العاجلة، فلم يعملوا فاليوم ننساهم " أي: نتركهم ترك المنسي، فلا نرحمهم بما نرحم به من عمل للآخرة. كما نسوا لقاء يومهم هذا " أي: كما فعلوا بلقائه، فعل الناسين، فلم يخطروه ببالهم، ولم يهتموا به.

لطيفة:

قال الشهاب : ننساهم " تمثيل، شبه معاملته تعالى مع هؤلاء بالمعاملة مع من لا يعتد به، ويلتفت إليه، فينسى، لأن النسيان لا يجوز على الله تعالى، أي: لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء، كما قال: في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى والنسيان يستعمل بمعنى الترك كثيرا في لسان العرب . ويصح هنا أيضا، فيكون استعارة تحقيقية، أو مجازا مرسلا؛ وكذا نسيانهم لقاء الله أيضا، لأنهم لم يكونوا ذاكري الله حتى ينسوه، فشبه عدم إخطارهم لقاء الله والقيامة ببالهم، وقلة مبالاتهم بحال من عرف شيئا، ثم نسيه، وليست الكاف للتشبيه، بل للتعليل، ولا مانع من التشبيه أيضا. انتهى.

[ ص: 2697 ] وقال تعالى: وما كانوا بآياتنا يجحدون أي: وكما كانوا منكرين أنها من عند الله تعالى.

روى الترمذي عن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيقول الله: ألم أجعل لك سمعا وبصرا ومالا وولدا، وسخرت لك الأنعام والحرث، وتركتك ترأس وتربع، فكنت تظن أنك ملاقي يومك هذا؟ قال فيقول: لا ! فيقول له: اليوم أنساك كما نسيتني » .

وفي حديث أبي هريرة عند مسلم : « فيلقى العبد ربه، فيقول: أي فل ! ألم أكرمك [ ص: 2698 ] وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأتركك ترأس وتربع؟ فيقول: بلى يا رب ! فيقول: أظننت أنك ملاقي؟ فيقول: إني أنساك كما نسيتني ! » .

ولما أخبر تعالى عن خسارتهم في الآخرة ذكر أنه أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، فقال سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[52] ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون

" ولقد جئناهم بكتاب فصلناه أي: بينا فيه الاعتقادات والأحكام والأمور الأخروية تفصيلا مبينا على علم " أي: عالمين كيف نفصل أحكامه ومواعظه وقصصه وسائر معانيه، حتى جاء محكما قيما غير ذي عوج، وهذا كقوله تعالى: أنـزله بعلمه هدى " أي: دلالة ترشدهم إلى الحق، وتنجيهم من الضلالة. ورحمة " أي ينجيهم من العذاب لما فيه من الدلائل ورفع الشبه لقوم يؤمنون " لأنهم المغتنمون لفوائده.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون

هل ينظرون إلا تأويله " أي: ما ينتظرون إلا ما يؤول إليه أمره، من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. قال الشهاب : (فالنظر) هنا بمعنى (الانتظار) [ ص: 2699 ] لا بمعنى الرؤية. والتأويل بمعنى العاقبة، وما يقع في الخارج، وهو أصل معناه، ويطلق على التفسير أيضا، والمعنى: أنهم قبل وقوع ما هو محقق، كالمنتظرين له، لأن كل آت قريب، فهم على شرف ملاقاة ما وعدوا به، فلا يقال: كيف ينتظرونه مع جحدهم؟ فإنهم وإن جحدوه، إلا أنهم بمنزلة المنتظرين وفي حكمهم، من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة يوم يأتي تأويله " يعني يوم القيامة، لأنه يوم الجزاء، وما تؤول إليه أمورهم يقول الذين نسوه من قبل " أي تركوه ترك المنسي، حين كان ينفعهم الذكر، فلم يؤمنوا به عند معاينة العذاب قد جاءت رسل ربنا بالحق " أي: بما هو واقع من الاعتقادات والوعد والوعيد فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا " في إزالة العذاب أو نرد " إلى مكان العمل فنعمل غير الذي كنا نعمل " من الجحود واللهو، واللعب وأعمال الدنيا.

قال عز وجل: قد خسروا أنفسهم بصرف أعمالهم في الكفر وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ذهب عنهم ما كانوا يفترون من أن معبوديهم شفعاؤهم عند الله، وعلموا أنهم كانوا في دعواهم كاذبين.

ولما قدم سبحانه ذكر الكفار وعبادتهم غيره، سبحانه، احتج عليهم، مبينا بأفعاله أنه لا معبود سواه بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى:

[54] إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين

" إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام أي: إن سيدكم ومالككم ومدبركم الذي يجب أن تعبدوه أيها الناس، الذي أنشأ أعيان السماوات والأرض في مقدار ستة أيام.
[ ص: 2700 ] وفي هذه الآية مسائل:

الأولى: قال الشهاب : اليوم في اللغة مطلق الوقت، فإن أريد هذا، فالمعنى في ستة أوقات، كقوله تعالى: ومن يولهم يومئذ دبره وإن أريد المتعارف، وهو زمان طلوع الشمس إلى غروبها، فالمعنى في مقدار ستة أيام، لأن اليوم إنما كان بعد خلق الشمس والسماوات، فيقدر فيه مضاف. انتهى.

وفي شرح القاموس: إن اليوم من طلوع الشمس إلى غروبها، أو من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وإن الثاني تعريف شرعي عند الأكثر.

ونقل عن الفاسي شارحه: أن اليوم عند المنجمين من الطلوع إلى الطلوع، أو من الغروب إلى الغروب.

ثم قال الزبيدي : ويستعمل بمعنى مطلق الزمان، نقله عن ابن هشام ، وحكاه عن سيبويه في قولهم: (أنا، اليوم، أفعل كذا)، فإنهم لا يريدون يوما بعينه، ولكنهم يريدون الوقت الحاضر. قال: وبه فسروا قوله تعالى: اليوم أكملت لكم دينكم






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]