عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 23-01-2023, 10:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,287
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله



تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَعراف
المجلد السابع
صـ 2671 الى صـ 2685
الحلقة (352)

[ ص: 2671 ] تنبيهات:

الأول: فسرت (الطيبات) ب(الحلال)، وفسرت ب(اللحم والدسم) الذي كانوا يحرمونه أيام الحج كما تقدم، وفسرت ب(البحائر والسوائب) كما قال تعالى: قل أرأيتم ما أنـزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا وظاهر أن لفظ الآية أعم من ذلك، وإن كان يدخل فيه ما ذكر دخولا أوليا، لأنها إنما وردت نعيا عليهم فيه، والعبرة بعموم اللفظ.

قال الرازي : لفظ (الزينة) يتناول جميع أنواع التزين، ومنه تنظيف البدن، ومنه المركوب، ومنه أنواع الحلي (يعني للنساء). ثم قال: ويدخل تحت (الطيبات)، كل ما يستلذ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخل تحته التمتع بالنساء والطيب. وقد رد النبي صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون ، ما هم به من الاختصاء والتبتل .

الثاني: دلت الآية على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإباحة، لأن الاستفهام في " من " لإنكار تحريمها على وجه بليغ، لأن إنكار الفاعل يوجب إنكار الفعل لعدمه بدونه.

الثالث: في الآية رد على من تورع من أكل المستلذات ولبس الملابس الرقيقة، لأنه لا زهد في ترك الطيب منها، ولهذا جاءت الآية معنونة بالاستفهام المتضمن للإنكار على من حرم ذلك على نفسه، أو حرمه على غيره. وما أحسن ما قال ابن جرير الطبري : لقد أخطأ [ ص: 2672 ] من آثر لباس الشعر والصوف، على لباس القطن والكتان، مع وجود السبيل إليه من حله، ومن أكل البقول والعدس، واختاره على خبر البر، ومن ترك أكل اللحم خوفا من عارض الشهوة. انتهى.

الرابع: قال ابن الفرس : واستدل بالآية من أجاز لبس الحرير والخز للرجال. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن سنان بن سلمة أنه كان يلبس الخز، فقال له الناس: مثلك يلبس هذا؟ فقال لهم: من ذا الذي يحرم زينة الله التي أخرج لعباده؟ ولكن أخرج عن طاوس أنه قرأ هذه الآية وقال: لم يأمرهم بالحرير ولا الديباج، ولكنه كانوا إذا طاف أحدهم وعليه ثيابه ضرب وانتزعت عنه . كذا في (الإكليل).

أقول: عدم شمول الآية للحرير غني عن البيان، لأن ما خصه الدليل لا يتناوله العام، والأحاديث في تحريم الحرير لا تحصى كثرة، فاستنباط حله منها مردود على زاعمه.

قل هي " أي زينة الله والطيبات، مخلوقة للذين آمنوا في الحياة الدنيا " بالأصالة، والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع خالصة يوم القيامة " أي: لا يشاركهم فيها غيرهم، لأن الله حرم الجنة على الكافرين. وانتصابها على الحالية، وقرئ بالرفع، أي: على أنه خبر بعد خبر.

لطيفة:

قال المهايمي : إنما خلقت للمؤمنين ليعلموا بها لذات الآخرة، فيرغبوا فيها مزيد رغبة، لكن شاركهم الكفرة فيها لئلا يكون هذا الفرق ملجئا لهم إلى الإيمان.

فإذا ذهب هذا المعنى، تصير خالصة لهم يوم القيامة، فلو حرمت على المؤمنين لكانت مخلوقة للكافرين، وهو خلاف مقتضى الحكمة. وإن خلقت للمؤمنين فأولى أوقات الانتفاع بها وقت جريانها على مقتضى الإيمان، وهو العبادة والتقوى، ولكن من غير انهماك في الشهوات.

كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون أي الحكمة في خلق الأشياء، واستعمال [ ص: 2673 ] الأشياء على نهج ينفع ولا يضر. فإن زعموا أنه يخاف من التزين والتلذذ الوقوع في الكبر، والانهماك في الشهوات، فيحرمان على أهل العبادة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[33] قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون

قل " إنهما من المنافع الخالصة في أنفسهما. والإفضاء احتمال غير محقق، فإذا أفضى، فالحرام هو المفضى إليه بالذات لأنه إنما حرم ربي الفواحش " أي: ما تفاحش قبحه من الذنوب، أي: تزايد (وهي الكبائر)، وهي ما يتعلق بالفروج ما ظهر منها وما بطن " أي: ما جاهر به بعضهم بعضا، وما ستره بعضهم عن بعض، وما ظهر من أفعال الجوارح، وما بطن من أفعال القلوب والإثم " أي: ما يوجب الإثم، وهو عام لكل ذنب، وذكره للتعميم بعد التخصيص، ويقال: إن الإثم هو الخمر، قال الشاعر:


نهانا رسول الله أن نقرب الزنى وأن نشرب الإثم الذي يوجب الوزرا

وأنشد الأخفش :


شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم تذهب بالعقول

وهو منقول عن ابن عباس والحسن . وذكره أهل اللغة كالأصمعي وغيره، قال الحسن : ويصدقه قوله تعالى: قل فيهما إثم كبير

وقال ابن الأنباري : لم تسم العرب الخمر [ ص: 2674 ] إثما في جاهلية ولا إسلام، والشعر المذكور موضوع، ورد بأنه مجاز، لأنه سببه. وقال أبو حيان : هذا التفسير غير صحيح هنا، لأن السورة مكية، ولم تحرم الخمر إلا بالمدينة بعد أحد وقد سبقه إلى هذا غيره.

وأيضا، الحصر يحتاج إلى دليل، كذا في (العناية).

والبغي " أي: الاستطالة على الناس وظلمهم، إنما أفرده بالذكر، مع دخوله فيما قبله، للمبالغة في الزجر عنه. وذلك لأن تخصيصه بالذكر يقتضي أنه تميز من بينها حتى عد نوعا مستقلا. بغير الحق " متعلق ب(البغي)، مؤكد له معنى، وقيل: البغي قد يخرج عن كونه ظلما إذا كان بسبب جائز في الشرع كالقصاص، إلا أن مثله لا يسمى بغيا حقيقة، بل مشاكلة " و " قد حرم " أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا " أي: برهانا أي: ما لم يقم عليه حجة.

قال الزمخشري : فيه تهكم، لأنه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره.

وفي (العناية): إنما جاء التهكم من حيث إنه يوهم أنه لو كان عليه سلطان لم يكن محرما، دلالة على تقليدهم في الغي، والمعنى على نفي الإنزال والسلطان معا على الوجه الأبلغ. انتهى.

قال الرازي : وهذه الآية من أقوى الدلائل على أن القول بالتقليد باطل. وتبعه القاضي فقال: في الآية تنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان " و " قد حرم عليكم " أن تقولوا على الله ما لا تعلمون " أي: تتقولوا عليه، وتفتروا الكذب في التحليل والتحريم، أو في الشرك.

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على تحريم جميع الذنوب، لأن قوله " الفواحش والإثم " ، يشتمل على الصغير والكبير، والأفعال القبيحة، والعقود المخالفة للشرع، والأقاويل الفاسدة، والاعتقادات الباطلة.

ودخل في قوله ما ظهر منها وما بطن أفعال الجوارح، وأفعال القلوب [ ص: 2675 ] والخيانات، والمكر، والخديعة، ودخل تحت قوله والبغي " كل ظلم يتعدى على الغير، فيدخل فيه ما يفعله البغاة والخوارج ، والأمراء إذا انتصروا بغير حق. ودخل تحت قوله وأن تشركوا " تحريم كل شرك وعبادة لغير الله. ودخل تحت قوله وأن تقولوا " كل بدعة وضلالة وفتوى بغير حق، وشهادة زور ونحوه.

فالآية جامعة في المحرمات، كما أن ما قبلها جامعة في المباحات، وفيه تعليم للآداب، دينا ودنيا، وتدل على بطلان التقليد، لأنه أوجب اتباع الحجة، لقوله ما لم ينـزل به سلطانا والسلطان الحجة.

وتدل على أن لكل أحد وقت حياة، ووقت موت، لا يجوز فيه التقديم والتأخير، فيبطل قول من يقول: المقتول مات قبل أجله. انتهى.

ثم أوعد تعالى أهل مكة بالعذاب النازل في أجل معلوم عنده سبحانه، كما نزل بالأمم، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى:

[34] ولكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون

ولكل أمة أجل " أي: مدة أو وقت لنزول العذاب بهم فإذا جاء أجلهم " أي: ميقاتهم المقدر لهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون " أي: لا يتركون بعد الأجل شيئا قليلا من الزمان، ولا يهلكون قبله كذلك، والساعة مثل في غاية القلة من الزمان.

لطائف:

1- وقع هذا التركيب في موضع من التنزيل، وفيه بحث مشهور: وهو أنه لما كان الظاهر عطف (لا يستقدمون) على (لا يستأخرون)، كما أعربه الحوفي وغيره، وأورد عليه أنه فاسد، لأن (إذا)، إنما يترتب عليها الأمور المستقبلة لا الماضية، والاستقدام حينئذ بالنسبة إلى محل الأجل متقدم عليه، فكيف يترتب عليه ما تقدمه؟ ويصير باب الإخبار [ ص: 2676 ] بالضروري الذي لا فائدة فيه، كقولك: إذا قمت فيما يأتي، لم يتقدم قيامك فيما مضى.

وأجيب بأن المراد بالمجيء الدنو، بحيث يمكن التقدم في الجملة، كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة فيه.

وقيل: إن جملة " لا يستقدمون " مستأنفة. وقيل: إنها معطوفة على الشرط وجوابه، أو على القيد والمقيد، أو أن مجموع " لا يستأخرون ولا يستقدمون " ، كناية عن أنهم لا يستطيعون تغييره.

والتحقيق أنه عطف على يستأخرون " لكن لا لبيان انتفاء التقدم، مع إمكانه في نفسه كالتأخر، كما يتوهم، بل للمبالغة في انتفاء التأخر، يعني أن التأخر مساو للتقدم في الاستحالة، ولذا نظمه معه في سلك، كما في قوله سبحانه: وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار فإن من مات كافرا مع ظهور أن لا توبة له رأسا، قد نظم في عدم القبول، في سلك من سوفها إلى حضور الموت. إيذانا بتساوي وجود التوبة حينئذ وعدمها بالمرة.

2- تقديم بيان انتفاء الاستئخار، لما أن المقصود بالذات بيان عدم خلاصهم من العذاب. وأما (ما) في قوله تعالى: ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون من سبق (السبق) في الذكر؛ فلما أن المراد هناك بيان سر تأخير إهلاكهم مع استحقاقهم له حسبما ينبئ عنه قوله تعالى: ذرهم يأكلوا ويتمتعوا ويلههم الأمل فسوف يعلمون فالأهم هناك بيان انتفاء السبق.

3- صيغة الاستفعال للإشعار بعجزهم وحرمانهم عن ذلك، مع طلبهم له، أفاده أبو السعود .

ثم أنذر تعالى بني آدم بأنه سيبعث إليهم رسلا يهدونهم وبشر وأنذر بقوله سبحانه:

[ ص: 2677 ]
القول في تأويل قوله تعالى:

[35] يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي فمن اتقى وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

" يا بني آدم إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي شرط ذكره بحرف الشك، للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائر غير واجب. وضمت إليها (ما) لتأكيد معنى الشرط، ولذلك أكد فعلها بالنون الثقيلة أو الخفيفة. والمراد ببني آدم جميع الأمم، وهو حكاية لما وقع مع كل قوم. وليس المراد بالرسل نبينا صلى الله عليه وسلم، وببني آدم أمته كما قيل، فإنه خلاف الظاهر، كذا في (القاضي وحواشيه)، وجواب الشرط قوله تعالى فمن اتقى " أي التكذيب وأصلح " أي عمله فلا خوف عليهم " من العذاب ولا هم يحزنون " في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[36] والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

" والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا أي تكبروا عنها " فلم يؤمنوا بها أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على وجوب اتباع الرسل وقبول ما يؤدون. وتدل على أن الصلاح في الرسل أن تكون من جملة من بعث إليهم، لأنهم يكونون بطريقته أعرف، ومن النفار عنه أبعد، وإلى السكون إليه أقرب، وتدل على أن الغرض بالرسول ما يؤدي من الأدلة، فلذلك قلنا لا يجوز أن يكون رسولا إلا ومعه ما يؤديه: وتدل على أن الجنة تنال بشيئين: [ ص: 2678 ] بالأعمال الصالحة، واتقاء المعاصي، فبطل قول المرجئة .

وتدل على أن المؤمن في الآخرة لا يخاف ولا يحزن، خلاف ما يقوله الأحسدية (كذا)، والحشوية -هكذا، قاله أكثر أصحابنا.

وقال أبو بكر أحمد بن علي : قوله فلا خوف عليهم " كقول الطبيب للمريض (لا بأس عليك)، يعني أن أمره يؤول إلى العافية. وليس هذا بالوجه لأنه نفى الخوف والحزن مطلقا. وتدل على الوعيد للمكذبين، كما تدل على الوعد للمطيعين، ترغيبا وترهيبا. وتدل على أن التقوى والصلاح والتكذيب فعل العبد، فبطل قولهم في المخلوق والاستطاعة. انتهى كلامه رحمه الله.

ثم ذكر تعالى وعيد المكذبين الذين تقدم ذكرهم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[37] فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين

" فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بآياته أي ممن تقول على الله كذبا بالتحليل والتحريم، أو بنسبة الولد والشريك، أو كذب بآياته المنزلة. أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب أي يصيبهم حظهم مما كتب لهم من الرزق والعمر وغير ذلك. أي مع ظلمهم وافترائهم وتكذيبهم، لا يحرمون ما قدر لهم من العمر والرزق إلى انقضاء آجالهم.

وفي الآية وجوه أخر، هذا أظهرها وأقواها في المعنى، وتتمة الآية تدل عليه، وحينئذ تتلاقى مع نظائرها، كقوله تعالى: قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون

[ ص: 2679 ] وقوله تعالى: ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور نمتعهم قليلا الآية. حتى إذا جاءتهم رسلنا يتوفونهم أي: ملائكة الموت تقبض أرواحهم قالوا أين ما كنتم تدعون من دون الله أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها ليكونوا لكم شفعاء، فلا نراهم يخلصونكم مما تحقق عليكم من هذه الشدائد.

وفائدة السؤال وجهان: توبيخ وتبكيت لهم يزيدهم غما إلى غم، ولطف بالمكلف لأنه إذا تصور ذلك صرفه عن التكذيب، و(ما)، وقعت موصولة ب(أين) في خط المصحف العثماني، ومقتضى الاصطلاح الفصل، لأنها موصولة قالوا ضلوا عنا " أي: غابوا عنا فلم يخلصونا من شيء وشهدوا على أنفسهم أنهم كانوا كافرين أي: عابدين لما لا يستحق العبادة. اعترفوا بأنهم لم يكونوا على شيء فيما كانوا عليه، وأنهم لم يحمدوه في العاقبة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[38] قال ادخلوا في أمم قد خلت من قبلكم من الجن والإنس في النار كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا قالت أخراهم لأولاهم ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذابا ضعفا من النار قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون

قال " أي الله سبحانه لهم في الآخرة ادخلوا في أمم قد خلت " أي: في جملة أمم قد مضت من قبلكم من الجن والإنس " يعني كفار الأمم الماضية من النوعين في النار " متعلق بـ " ادخلوا " كلما دخلت أمة أي: في النار لعنت أختها " أي التي [ ص: 2680 ] قبلها لضلالها بها، كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض الآية.

إذا اداركوا فيها جميعا أي تداركوا، بمعنى تلاحقوا واجتمعوا في النار قالت أخراهم " وهم الأتباع، لأولاهم " أي: لأجل أولاهم، إذ الخطاب مع الله سبحانه، لا معهم. قال ابن كثير : أي قالت أخراهم دخولا وهم الأتباع، لأولادهم وهم المتبعون، لأنهم أشد جرما من أتباعهم، فدخلوا قبلهم، فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة، لأنهم هم الذين أضلوهم عن سواء السبيل، فيقولون: ربنا هؤلاء أضلونا " أي سنوا لنا الضلال، ودعوا إليه، فاقتدينا بهم فآتهم عذابا ضعفا من النار أي مضاعفا لأنهم ضلوا وأضلوا قال " أي تعالى لكل ضعف " أي: عذاب مضاعف. أما القادة والرؤساء فبالضلال والإضلال، وأما الأتباع والسفلة، فبالضلال وتقليد أهل الضلال، مع وجود الهادين بالبراهين القاطعة ولكن لا تعلمون " أي ما لكم، أو ما لكل فرقة، وقرئ بالياء، وعليها، فهو تذييل لم يقصد إدراجه في الجواب.
القول في تأويل قوله تعالى:

[39] وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون

" وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل أي: لا فضل لكم علينا في ترك الكفر والضلال حتى يكون عذابنا مضاعفا دونكم، فقد ضللتم كما ضللنا، فنحن وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. وقوله تعالى: فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون من قول القادة، أو من قول الله تعالى للفريقين، وهو أظهر.

[ ص: 2681 ] تنبيه:

قال الجشمي : تدل الآية على أن الكفار والضلال والمبتدعة وإن تناصروا وتعاونوا على ضلالتهم، وتوادوا في الدنيا، فإنهم في الآخرة يتلاعنون ويتقاطعون ويسألون العذاب لمن أضلهم، وتدل على فساد التقليد، والاغترار بقول علماء السوء، وتدل على أن الداعي إلى الضلال مضل، وتدل على أن إضلال غيره إياه ليس بعذر له. وتدل على أن اشتراكهم في العذاب لا يوجب لهم راحة، بخلاف الاشتراك في محن الدنيا. وتدل على أن ذلك الإضلال فعلهم، فيبطل قول المجبرة في المخلوق، والهدى والضلال.
القول في تأويل قوله تعالى:

[40] إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين

" إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء أي لا تفتح لأعمالهم، ولا لدعائهم، ولا لشيء مما يريدون به طاعة الله. أي: لا يقبل ذلك منهم لأنه ليس صالحا ولا طيبا، وقد قال سبحانه: إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه قال ابن عباس : أي: لا يرفع لهم منها عمل صالح، ولا دعاء رواه جماعة عنه. وقاله مجاهد وابن جبير .

أو المعنى: لا تنزل عليهم البركة والرحمة، ولا يغاثون، لأنه أجرى العادة بإنزال الرحمة من السماء، كما في قوله: ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر [ ص: 2682 ] أو المعنى: لا يؤذن لهم في صعود السماء ولا يطرق لهم إليها ليدخلوا الجنة، على ما روي أن الجنة في السماء.

أو المعنى لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، أبواب السماء، كما تفتح لأرواح المؤمنين. رواه الضحاك عن ابن عباس -ورواه ابن جرير عن البراء : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر قبض روح الفاجر، وأنه يصعد بها إلى السماء، فيصعدون بها، فلا يمرون على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الخبيث؟ فيقولون فلان ! (بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا)، حتى ينتهوا بها إلى السماء، فيستفتحون له، فلا يفتح له. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفتح لهم أبواب السماء الآية » .

قال ابن كثير : هكذا رواه. وهو قطعة من حديث طويل، رواه الإمام أحمد مطولا وأبو داود والنسائي وابن ماجه من طرق.

[ ص: 2683 ] تنبيهات:

الأول: قال الشهاب كون السماء لها أبواب، وأنها تفتح للدعاء الصالح، وللأعمال الصاعدة أو للأرواح- وارد في النصوص القرآنية، والأحاديث النبوية، فلا حاجة إلى تأويل. انتهى.

[ ص: 2684 ] وهذا على قاعدة أهل الظاهر في مثل ذلك، إلا أن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة. والتنزيل الكريم إنما ورد على مناح للعرب معروفة في لسانهم. والله أعلم.

[ ص: 2685 ] الثاني: التضعيف في (تفتح)، لتكثير المفعول، لا الفعل لعدم مناسبة المقام.

الثالث: قرئ بالتخفيف في (تفتح)، وبالتخفيف، والياء، وقرئ على البناء للفاعل، ونصب الأبواب، على أن الفعل للآيات مجازا، وبالياء على أنه لله تعالى.

ولا يدخلون الجنة حتى يلج أي: يدخل الجمل في سم الخياط " أي ثقب الإبرة، وهو غير ممكن، فكذا دخولهم.

لطائف:

الأولى: قرأ الجمهور (الجمل)، بفتح الجيم والميم، وفسروه: بأنه الجمل المعروف وهو البعير. قال الفراء : الجمل زوج الناقة، وقال شمر : البكر والبكرة بمنزلة الغلام والجارية، والجمل والناقة بمنزلة الرجل والمرأة. وقرئ في الشواذ (الجمل)، كسكر وصرد وقفل، وعنق وجبل بمعنى حبل السفينة الغليظ الذي يقال له (القلس).

وقال أبو البقاء : يقرأ في الشاذ بسكون الميم، والأحسن أن يكون لغة، لأن تخفيف المفتوح ضعيف؛ ويقرأ بضم الجيم وفتح الميم وتشديدها، وهو الحبل الغليظ، وهو جمع مثل صوم وقوم، ويقرأ بضم الجيم والميم مع التخفيف وهو جمع مثل أسد وأسد؛ ويقرأ كذلك إلا أن الميم ساكنة، وذلك على تخفيف المضموم. انتهى.

وذكر الكواشي أن القراءات المذكورة كلها لغات في البعير، ما عدا (جملا) كسكر وقفل، ونوقش في ذلك. انتهى.

وقراءته (كسكر) على معنى الحبل المذكور، رواها مجاهد وعكرمة عن ابن عباس ، واختارها سعيد بن جبير .

قال الزمخشري : وعن ابن عباس رضي الله عنه، أن الله أحسن تشبيها من أن يشبه بالجمل، أن الحبل مناسب للخيط الذي يسلك في سم الإبرة، والبعير لا يناسبه . إلا أن قراءة العامة أوقع، لأن سم الإبرة مثل في ضيق المسلك، يقال: أضيق من خرت الإبرة.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 43.49 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.42%)]