
22-01-2023, 04:01 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة :
|
|
رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى

تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 99 الى صــ 106
الحلقة (227)
[ ص: 99 ] التاسعة : قوله تعالى : وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن هذا مستقل بنفسه . ولا يرجع قوله : من نسائكم اللاتي دخلتم بهن إلى الفريق الأول ، بل هو راجع إلى الربائب ، إذ هو أقرب مذكور كما تقدم . والربيبة : بنت امرأة الرجل من غيره ؛ سميت بذلك لأنه يربيها في حجره فهي مربوبة ، فعيلة بمعنى مفعولة . واتفق الفقهاء على أن الربيبة تحرم على زوج أمها إذا دخل بالأم ، وإن لم تكن الربيبة في حجره . وشذ بعض المتقدمين وأهل الظاهر فقالوا : لا تحرم عليه الربيبة إلا أن تكون في حجر المتزوج بأمها ؛ فلو كانت في بلد آخر وفارق الأم بعد الدخول فله أن يتزوج بها ؛ واحتجوا بالآية فقالوا : حرم الله تعالى الربيبة بشرطين : أحدهما : أن تكون في حجر المتزوج بأمها . والثاني : الدخول بالأم ؛ فإذا عدم أحد الشرطين لم يوجد التحريم . واحتجوا بقوله عليه السلام : لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي إنها ابنة أخي من الرضاعة فشرط الحجر . ورووا عن علي بن أبي طالب إجازة ذلك . قال ابن المنذر والطحاوي : أما الحديث عن علي فلا يثبت ؛ لأن راويه إبراهيم بن عبيد عن مالك بن أوس عن علي ، وإبراهيم هذا لا يعرف ، وأكثر أهل العلم قد تلقوه بالدفع والخلاف . قال أبو عبيد : ويدفعه قوله : فلا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن فعم . ولم يقل : اللائي في حجري ، ولكنه سوى بينهن في التحريم . قال الطحاوي : وإضافتهن إلى الحجور إنما ذلك على الأغلب مما يكون عليه الربائب ؛ لا أنهن لا يحرمن إذا لم يكن كذلك .
العاشرة : قوله تعالى : فإن لم تكونوا دخلتم بهن يعني بالأمهات . فلا جناح عليكم يعني في نكاح بناتهن إذا طلقتموهن أو متن عنكم . وأجمع العلماء على أن الرجل إذا تزوج المرأة ثم طلقها أو ماتت قبل أن يدخل بها حل له نكاح ابنتها . واختلفوا في معنى الدخول بالأمهات الذي يقع به تحريم الربائب ؛ فروي عن ابن عباس أنه قال : الدخول الجماع ؛ وهو قول طاوس وعمرو بن دينار وغيرهما . واتفق مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي والليث على أنه إذا مسها بشهوة حرمت عليه أمها وابنتها وحرمت على الأب والابن ، وهو أحد قولي الشافعي . واختلفوا في النظر ؛ فقال مالك : إذا نظر إلى شعرها أو صدرها أو شيء من محاسنها للذة حرمت عليه أمها وابنتها . وقال الكوفيون : إذا نظر إلى فرجها للشهوة كان بمنزلة اللمس للشهوة . وقال الثوري : يحرم إذا نظر إلى فرجها متعمدا أو لمسها ؛ ولم يذكر الشهوة . وقال ابن أبي ليلى : لا تحرم بالنظر حتى يلمس ؛ وهو قول الشافعي . والدليل على أن [ ص: 100 ] بالنظر يقع التحريم أن فيه نوع استمتاع فجرى مجرى النكاح ؛ إذ الأحكام تتعلق بالمعاني لا بالألفاظ . وقد يحتمل أن يقال : إنه نوع من الاجتماع بالاستمتاع ؛ فإن النظر اجتماع ولقاء ، وفيه بين المحبين استمتاع ؛ وقد بالغ في ذلك الشعراء فقالوا :
أليس الليل يجمع أم عمرو وإيانا فذاك بنا تدان
نعم ، وترى الهلال كما أراه ويعلوها النهار كما علاني
فكيف بالنظر والمجالسة والمحادثة واللذة .
الحادية عشرة : قوله تعالى : وحلائل أبنائكم الحلائل جمع حليلة ، وهي الزوجة . سميت حليلة لأنها تحل مع الزوج حيث حل ؛ . فهي فعيلة بمعنى فاعلة . وذهب الزجاج وقوم إلى أنها من لفظة الحلال ؛ فهي حليلة بمعنى محللة . وقيل : لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه .
الثانية عشرة : أجمع العلماء على تحريم ما عقد عليه الآباء على الأبناء ، وما عقد عليه الأبناء على الآباء ، كان مع العقد وطء أو لم يكن ؛ لقوله تعالى : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء وقوله تعالى : وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ؛ فإن نكح أحدهما نكاحا فاسدا حرم على الآخر العقد عليها كما يحرم بالصحيح ؛ لأن النكاح الفاسد لا يخلو : إما أن يكون متفقا على فساده أو مختلفا فيه . فإن كان متفقا على فساده لم يوجب حكما وكان وجوده كعدمه . وإن كان مختلفا فيه فيتعلق به من الحرمة ما يتعلق بالصحيح ؛ لاحتمال أن يكون نكاحا فيدخل تحت مطلق اللفظ . والفروج إذا تعارض فيها التحريم والتحليل غلب التحريم . والله أعلم . قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من علماء الأمصار على أن الرجل إذا وطئ امرأة بنكاح فاسد أنها تحرم على أبيه وابنه وعلى أجداده وولد ولده . وأجمع العلماء وهي المسألة :
الثالثة عشرة : على أن عقد الشراء على الجارية لا يحرمها على أبيه وابنه ؛ فإذا اشترى الرجل جارية فلمس أو قبل حرمت على أبيه وابنه ، لا أعلمهم يختلفون فيه ؛ فوجب تحريم ذلك تسليما لهم . ولما اختلفوا في تحريمها بالنظر دون اللمس لم يجز ذلك لاختلافهم . قال ابن المنذر : ولا يصح عن أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلناه .
[ ص: 101 ] وقال يعقوب ومحمد : إذا نظر رجل في فرج امرأة من شهوة حرمت على أبيه وابنه ، وتحرم عليه أمها وابنتها . وقال مالك : إذا وطئ الأمة أو قعد منها مقعدا لذلك وإن لم يفض إليها ، أو قبلها أو باشرها أو غمزها تلذذا فلا تحل لابنه . وقال الشافعي : إنما تحرم باللمس ولا تحرم بالنظر دون اللمس ؛ وهو قول الأوزاعي :
الرابعة عشرة : واختلفوا في الوطء بالزنى هل يحرم أم لا ؛ فقال أكثر أهل العلم : لو أصاب رجل امرأة بزنى لم يحرم عليه نكاحها بذلك ؛ وكذلك لا تحرم عليه امرأته إذا زنى بأمها أو بابنتها ، وحسبه أن يقام عليه الحد ، ثم يدخل بامرأته . ومن زنى بامرأة ثم أراد نكاح أمها أو ابنتها لم تحرما عليه بذلك . وقالت طائفة : تحرم عليه . روي هذا القول عن عمران بن حصين ؛ وبه قال الشعبي وعطاء والحسن وسفيان الثوري وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي ، وروي عن مالك ؛ وأن الزنى يحرم الأم والابنة وأنه بمنزلة الحلال ، وهو قول أهل العراق . والصحيح من قول مالك وأهل الحجاز : أن الزنى لا حكم له ؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال : وأمهات نسائكم وليست التي زنى بها من أمهات نسائه ، ولا ابنتها من ربائبه . وهو قول الشافعي وأبي ثور . لأنه لما ارتفع الصداق في الزنى ووجوب العدة والميراث ولحوق الولد ووجوب الحد ارتفع أن يحكم له بحكم النكاح الجائز . وروى الدارقطني من حديث الزهري عن عروة عن عائشة قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل زنى بامرأة فأراد أن يتزوجها أو ابنتها فقال : لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان بنكاح . ومن الحجة للقول الآخر إخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج وقوله : يا غلام من أبوك قال : فلان الراعي . فهذا يدل على أن الزنى يحرم كما يحرم الوطء الحلال ؛ فلا تحل أم المزني بها ولا بناتها لآباء الزاني ولا لأولاده ؛ وهي رواية ابن القاسم في المدونة . ويستدل به أيضا على أن المخلوقة من ماء الزنى لا تحل للزاني بأمها ، وهو المشهور . قال عليه السلام : لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وابنتها ولم يفصل بين الحلال والحرام . وقال عليه السلام : لا ينظر الله إلى من كشف قناع امرأة وابنتها . قال ابن خويز منداد : ولهذا قلنا إن القبلة وسائر وجوه الاستمتاع ينشر الحرمة . وقال عبد الملك الماجشون : إنها تحل ؛ وهو الصحيح لقوله تعالى : وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا يعني بالنكاح الصحيح ، على ما يأتي في " الفرقان " بيانه . ووجه التمسك من الحديث على تلك [ ص: 102 ] المسألتين أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكى عن جريج أنه نسب ابن الزنى للزاني ، وصدق الله نسبته بما خرق له من العادة في نطق الصبي بالشهادة له بذلك ؛ وأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم عن جريج في معرض المدح وإظهار كرامته ؛ فكانت تلك النسبة صحيحة بتصديق الله تعالى وبإخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ؛ فثبتت البنوة وأحكامها .
فإن قيل : فيلزم على هذا أن تجري أحكام البنوة والأبوة من التوارث والولايات وغير ذلك ، وقد اتفق المسلمون على أنه لا توارث بينهما فلم تصح تلك النسبة ؟
فالجواب : إن ذلك موجب ما ذكرناه . وما انعقد عليه الإجماع من الأحكام استثنيناه ، وبقي الباقي على أصل ذلك الدليل ، والله أعلم .
الخامسة عشرة : واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في مسألة اللائط ؛ فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم : لا يحرم النكاح باللواط . وقال الثوري : إذا لعب بالصبي حرمت عليه أمه ؛ وهو قول أحمد بن حنبل . قال : إذا تلوط بابن امرأته أو أبيها أو أخيها حرمت عليه امرأته . وقال الأوزاعي : إذا لاط بغلام وولد للمفجور به بنت لم يجز للفاجر أن يتزوجها ؛ لأنها بنت من قد دخل به . وهو قول أحمد بن حنبل .
السادسة عشرة : قوله تعالى : الذين من أصلابكم تخصيص ليخرج عنه كل من كانت العرب تتبناه ممن ليس للصلب . ولما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم امرأة زيد بن حارثة قال المشركون : تزوج امرأة ابنه ! وكان عليه السلام تبناه ؛ على ما يأتي بيانه في " الأحزاب " . وحرمت حليلة الابن من الرضاع وإن لم يكن للصلب - بالإجماع المستند إلى قوله عليه السلام : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب .
السابعة عشرة : قوله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين موضع أن رفع على العطف على حرمت عليكم أمهاتكم . والأختان لفظ يعم الجميع بنكاح وبملك يمين .
وأجمعت الأمة على منع جمعهما في عقد واحد من النكاح لهذه الآية ، وقوله عليه السلام : لا تعرضن علي بناتكن ولا أخواتكن . واختلفوا في الأختين بملك اليمين ؛ فذهب كافة العلماء إلى أنه لا يجوز الجمع بينهما بالملك في الوطء ، وإن كان يجوز الجمع بينهما في الملك بإجماع ؛ وكذلك المرأة وابنتها صفقة واحدة . واختلفوا في عقد النكاح على أخت الجارية التي وطئها ؛ فقال الأوزاعي : إذا وطئ جارية له بملك اليمين لم يجز له أن يتزوج أختها . وقال الشافعي : ملك اليمين لا يمنع نكاح الأخت . قال أبو عمر : من جعل عقد النكاح كالشراء أجازه ، ومن جعله كالوطء لم يجزه . وقد أجمعوا على أنه لا يجوز العقد [ ص: 103 ] على أخت الزوجة ؛ لقول الله تعالى : وأن تجمعوا بين الأختين يعني الزوجتين بعقد النكاح . فقف على ما اجتمعوا عليه وما اختلفوا فيه يتبين لك الصواب إن شاء الله . والله أعلم .
الثامنة عشرة : شذ أهل الظاهر فقالوا : يجوز الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء ؛ كما يجوز الجمع بينهما في الملك . واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين من ملك اليمين : " حرمتهما آية وأحلتهما آية " . ذكره عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب أن عثمان بن عفان سئل عن الأختين مما ملكت اليمين فقال : لا آمرك ولا أنهاك أحلتهما آية وحرمتهما آية . فخرج السائل فلقي رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال معمر : أحسبه قال علي - قال : وما سألت عنه عثمان ؟ فأخبره بما سأله وبما أفتاه ؛ فقال له : لكني أنهاك ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالا . وذكر الطحاوي والدارقطني عن علي وابن عباس مثل قول عثمان . والآية التي أحلتهما قوله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم . ولم يلتفت أحد من أئمة الفتوى إلى هذا القول ؛ لأنهم فهموا من تأويل كتاب الله خلافه ، ولا يجوز عليهم تحريف التأويل . وممن قال ذلك من الصحابة : عمر وعلي وابن مسعود وعثمان وابن عباس وعمار وابن عمر وعائشة وابن الزبير ؛ وهؤلاء أهل العلم بكتاب الله ، فمن خالفهم فهو متعسف في التأويل . وذكر ابن المنذر أن إسحاق بن راهويه حرم الجمع بينهما بالوطء ، وأن جمهور أهل العلم كرهوا ذلك ، وجعل مالكا فيمن كرهه . ولا خلاف في جواز جمعهما في الملك ، وكذلك الأم وابنتها . قال ابن عطية : ويجيء من قول إسحاق أن يرجم الجامع بينهما بالوطء ، وتستقرأ الكراهية من قول مالك : إنه إذا وطئ واحدة ثم وطئ الأخرى وقف عنهما حتى يحرم إحداهما ؛ فلم يلزمه حدا . قال أبو عمر : ( أما قول علي لجعلته نكالا ) ولم يقل لحددته حد الزاني ؛ فلأن من تأول آية أو سنة ولم يطأ عند نفسه حراما فليس بزان بإجماع وإن كان مخطئا ، إلا أن يدعي من ذلك ما لا يعذر بجهله . وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين : ( أحلتهما آية وحرمتهما آية ) معلوم محفوظ ؛ فكيف يحد حد الزاني من فعل ما فيه مثل هذا من الشبهة القوية ؟ وبالله التوفيق .
التاسعة عشرة : واختلف العلماء إذا كان يطأ واحدة ثم أراد أن يطأ الأخرى ؛ فقال علي وابن عمر والحسن البصري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق : لا يجوز له وطء [ ص: 104 ] الثانية حتى يحرم فرج الأخرى بإخراجها من ملكه ببيع أو عتق ، أو بأن يزوجها . قال ابن المنذر : وفيه قول ثان لقتادة ، وهو أنه إذا كان يطأ واحدة وأراد وطء الأخرى فإنه ينوي تحريم الأولى على نفسه وألا يقربها ، ثم يمسك عنهما حتى يستبرئ الأولى المحرمة ، ثم يغشى الثانية . وفيه قول ثالث : وهو إذا كان عنده أختان فلا يقرب واحدة منهما . هكذا قال الحكم وحماد ؛ وروي معنى ذلك عن النخعي . ومذهب مالك : إذا كان أختان عند رجل بملك فله أن يطأ أيتهما شاء ، والكف عن الأخرى موكول إلى أمانته . فإن أراد وطء الأخرى فيلزمه أن يحرم على نفسه فرج الأولى بفعل يفعله من إخراج عن الملك : إما بتزويج أو بيع أو عتق إلى أجل أو كتابة أو إخدام طويل . فإن كان يطأ إحداهما ثم وثب على الأخرى دون أن يحرم الأولى وقف عنهما ، ولم يجز له قرب إحداهما حتى يحرم الأخرى ؛ ولم يوكل ذلك إلى أمانته ؛ لأنه متهم فيمن قد وطئ ؛ ولم يكن قبل متهما إذ كان لم يطأ إلا الواحدة . ومذهب الكوفيين في هذا الباب : الثوري وأبي حنيفة وأصحابه أنه إن وطئ إحدى أمتيه لم يطأ الأخرى ؛ فإن باع الأولى أو زوجها ثم رجعت إليه أمسك عن الأخرى ؛ وله أن يطأها ما دامت أختها في العدة من طلاق أو وفاة . فأما بعد انقضاء العدة فلا ، حتى يملك فرج التي يطأ غيره ؛ وروي معنى ذلك عن علي رضي الله عنه . قالوا : لأن الملك الذي منع وطء الجارية في الابتداء موجود ، فلا فرق بين عودتها إليه وبين بقائها في ملكه . وقول مالك حسن ؛ لأنه تحريم صحيح في الحال ولا يلزم مراعاة المال ؛ وحسبه إذا حرم فرجها عليه ببيع أو بتزويج أنها حرمت عليه في الحال . ولم يختلفوا في العتق ؛ لأنه لا يتصرف فيه بحال ؛ وأما المكاتبة فقد تعجز فترجع إلى ملكه . فإن كان عند رجل أمة يطؤها ثم تزوج أختها ففيها في المذهب ثلاثة أقوال في النكاح . الثالث : في المدونة أنه يوقف عنهما إذا وقع عقد النكاح حتى يحرم إحداهما مع كراهية لهذا النكاح ؛ إذ هو عقد في موضع لا يجوز فيه الوطء . وفي هذا ما يدل على أن ملك اليمين لا يمنع النكاح ؛ كما تقدم عن الشافعي . وفي الباب بعينه قول آخر : أن النكاح لا ينعقد ؛ وهو معنى قول الأوزاعي . وقال أشهب في كتاب الاستبراء : عقد النكاح في الواحدة تحريم لفرج المملوكة .
الموفية عشرين : وأجمع العلماء على أن الرجل إذا طلق زوجته طلاقا يملك رجعتها أنه ليس له أن ينكح أختها أو أربعا سواها حتى تنقضي عدة المطلقة . واختلفوا إذا طلقها طلاقا لا يملك رجعتها ؛ فقالت طائفة : ليس له أن ينكح أختها ولا رابعة حتى تنقضي عدة التي طلق ؛ وروي عن علي وزيد بن ثابت ، وهو مذهب مجاهد وعطاء بن أبي رباح والنخعي ، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وأصحاب الرأي . وقالت طائفة : له أن ينكح [ ص: 105 ] أختها وأربعا سواها ؛ وروي عن عطاء ، وهي أثبت الروايتين عنه ، وروي عن زيد بن ثابت أيضا ؛ وبه قال سعيد بن المسيب والحسن والقاسم وعروة بن الزبير وابن أبي ليلى والشافعي وأبو ثور وأبو عبيد . قال ابن المنذر : ولا أحسبه إلا قول مالك وبه نقول .
الحادية والعشرون : قوله تعالى : إلا ما قد سلف يحتمل أن يكون معناه معنى قوله : إلا ما قد سلف في قوله : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . ويحتمل معنى زائدا وهو جواز ما سلف ، وأنه إذا جرى الجمع في الجاهلية كان النكاح صحيحا ، وإذا جرى في الإسلام خير بين الأختين ؛ على ما قاله مالك والشافعي ، من غير إجراء عقود الكفار على موجب الإسلام ومقتضى الشرع ؛ وسواء عقد عليهما عقدا واحدا جمع به بينهما أو جمع بينهما في عقدين . وأبو حنيفة يبطل نكاحهما إن جمع في عقد واحد . وروى هشام بن عبد الله عن محمد بن الحسن أنه قال : كان أهل الجاهلية يعرفون هذه المحرمات كلها التي ذكرت في هذه الآية إلا اثنتين ؛ إحداهما نكاح امرأة الأب ، والثانية ، الجمع بين الأختين ؛ ألا ترى أنه قال : ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف . وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف ولم يذكر في سائر المحرمات إلا ما قد سلف . والله أعلم .
والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة إن الله كان عليما حكيما
فيه أربع عشرة مسائل :
الأولى : قوله تعالى : والمحصنات عطف على المحرمات والمذكورات قبل . والتحصن : التمنع ؛ ومنه الحصن لأنه يمتنع فيه ؛ ومنه قوله تعالى : [ ص: 106 ] وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم الأنبياء : أي لتمنعكم ؛ ومنه الحصان للفرس ( بكسر الحاء ) لأنه يمنع صاحبه من الهلاك . والحصان ( بفتح الحاء ) : المرأة العفيفة لمنعها نفسها من الهلاك . وحصنت المرأة تحصن فهي حصان ؛ مثل جبنت فهي جبان . وقال حسان في عائشة رضي الله عنها :
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل والمصدر الحصانة ( بفتح الحاء ) والحصن كالعلم . فالمراد بالمحصنات هاهنا ذوات الأزواج ؛ يقال : امرأة محصنة أي متزوجة ، ومحصنة أي حرة ؛ ومنه والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب . ومحصنة أي عفيفة ؛ قال الله تعالى : محصنات غير مسافحات وقال : محصنين غير مسافحين . ومحصنة ومحصنة وحصان أي عفيفة ، أي ممتنعة من الفسق ، والحرية تمنع الحرة مما يتعاطاه العبيد . قال الله تعالى : والذين يرمون المحصنات أي الحرائر ، وكان عرف الإماء في الجاهلية الزنى ؛ ألا ترى إلى قول هند بنت عتبة للنبي صلى الله عليه وسلم حين بايعته : " وهل تزني الحرة " ؟ والزوج أيضا يمنع زوجه من أن تزوج غيره ؛ فبناء ( ح ص ن ) معناه المنع كما بينا . ويستعمل الإحصان في الإسلام ؛ لأنه حافظ ومانع ، ولم يرد في الكتاب وورد في السنة ؛ ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : الإيمان قيد لفتك . ومنه قول الهذلي :
فليس كعهد الدار يا أم مالك ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل
وقال الشاعر :
قالت هلم إلى الحديث فقلت لا يأبى عليك الله والإسلام
ومنه قول سحيم :
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|