عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 22-01-2023, 03:56 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير (الجامع لأحكام القرآن) الشيخ الفقيه الامام القرطبى



تَّفْسِيرِ
(الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الْقُرْآنِ ، وَالْمُبَيِّنِ لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنَ السُّنَّةِ وَآيِ الْفُرْقَانِ )
الشَّيْخُ الْفَقِيهُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْقُرْطُبِيُّ
المجلد (5)
سُورَةُ النِّسَاءِ
من صــ 83 الى صــ 90
الحلقة (225)

وقال أبو العالية : [ ص: 83 ] نزل أول الآية في المؤمنين إنما التوبة على الله . والثانية في المنافقين . وليست التوبة للذين يعملون السيئات يعني قبول التوبة للذين أصروا على فعلهم . حتى إذا حضر أحدهم الموت يعني الشرق والنزع ومعاينة ملك الموت . قال إني تبت الآن فليس لهذا توبة . ثم ذكر توبة الكفار فقال تعالى : ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما أي وجيعا دائما . وقد تقدم .
يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا

فيه ثمان مسائل :

الأولى : قوله تعالى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء هذا متصل بما تقدم ذكره من الزوجات . والمقصود نفي الظلم عنهن وإضرارهن ؛ والخطاب للأولياء . وأن في موضع رفع ب " يحل " أي : لا يحل لكم وراثة النساء . وكرها مصدر في موضع الحال . واختلفت الروايات وأقوال المفسرين في سبب نزولها ؛ فروى البخاري عن ابن عباس يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها ، وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها ، فهم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية في ذلك . وأخرجه أبو داود بمعناه . وقال الزهري وأبو مجلز : كان من عادتهم إذا مات الرجل يلقي ابنه من غيرها أو أقرب عصبته ثوبه على المرأة فيصير أحق بها من نفسها ومن أوليائها ؛ فإن شاء تزوجها بغير صداق إلا الصداق الذي أصدقها الميت ، وإن شاء زوجها من غيره وأخذ صداقها ولم يعطها شيئا ؛ وإن شاء عضلها لتفتدي منه بما ورثته من الميت أو تموت فيرثها ، فأنزل الله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . فيكون المعنى : لا يحل لكم أن ترثوهن من [ ص: 84 ] أزواجهن فتكونوا أزواجا لهن . وقيل : كان الوارث إن سبق فألقى عليها ثوبا فهو أحق بها ، وإن سبقته فذهبت إلى أهلها كانت أحق بنفسها ؛ قاله السدي . وقيل : كان يكون عند الرجل عجوز ونفسه تتوق إلى الشابة فيكره فراق العجوز لمالها فيمسكها ولا يقربها حتى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرث مالها . فنزلت هذه الآية . وأمر الزوج أن يطلقها إن كره صحبتها ولا يمسكها كرها ؛ فذلك قوله تعالى : لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها . والمقصود من الآية إذهاب ما كانوا عليه في جاهليتهم ، وألا تجعل النساء كالمال يورثن عن الرجال كما يورث المال . " وكرها " بضم الكاف قراءة حمزة والكسائي ، الباقون بالفتح ، وهما لغتان . وقال القتبي : الكره ( بالفتح ) بمعنى الإكراه ، والكره ( بالضم ) المشقة . يقال : لتفعل ذلك طوعا أو كرها ، يعني طائعا أو مكرها . والخطاب للأولياء . وقيل : لأزواج النساء إذا حبسوهن مع سوء العشرة طماعية إرثها ، أو يفتدين ببعض مهورهن ، وهذا أصح . واختاره ابن عطية قال : ودليل ذلك قوله تعالى : إلا أن يأتين بفاحشة وإذا أتت بفاحشة فليس للولي حبسها حتى يذهب بمالها إجماعا من الأمة ، وإنما ذلك للزوج ، على ما يأتي بيانه في المسألة بعد هذا .

الثانية : قوله تعالى : ولا تعضلوهن قد تقدم معنى العضل وأنه المنع في " البقرة " .

إلا أن يأتين بفاحشة اختلف الناس في معنى الفاحشة ؛ فقال الحسن : هو الزنا ، وإذا زنت البكر فإنها تجلد مائة وتنفى سنة ، وترد إلى زوجها ما أخذت منه . وقال أبو قلابة ؛ إذا زنت امرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه . وقال السدي : إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن . وقال ابن سيرين وأبو قلابة : لا يحل له أن يأخذ منها فدية إلا أن يجد على بطنها رجلا ، قال الله تعالى : إلا أن يأتين بفاحشة مبينة . وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك وقتادة : الفاحشة المبينة في هذه الآية البغض والنشوز ، قالوا : فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها ؛ وهذا هو مذهب مالك . قال ابن عطية : إلا أني لا أحفظ له نصا في الفاحشة في الآية . وقال قوم : الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا ؛ وهذا في معنى النشوز . ومن أهل العلم من يجيز أخذ المال من الناشز على جهة الخلع ؛ إلا أنه يرى ألا يتجاوز ما أعطاها ركونا إلى قوله تعالى : لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن . وقال مالك وجماعة من أهل العلم : للزوج أن يأخذ من الناشز جميع ما تملك . قال ابن عطية : والزنا أصعب على الزوج من النشوز والأذى ، وكل ذلك فاحشة تحل أخذ المال .

قال أبو عمر : قول ابن سيرين وأبي قلابة عندي ليس بشيء ؛ لأن الفاحشة قد تكون البذاء والأذى ؛ ومنه قيل للبذيء : فاحش ومتفحش ، وعلى أنه لو اطلع منها على الفاحشة كان له لعانها ، وإن شاء طلقها ؛ وأما أن يضارها حتى تفتدي منه بمالها فليس له ذلك ، ولا أعلم أحدا قال : له أن يضارها ويسيء إليها [ ص: 85 ] حتى تختلع منه إذا وجدها تزني غير أبي قلابة . والله أعلم .

وقال الله عز وجل : فإن خفتم ألا يقيما حدود الله يعني في حسن العشرة والقيام بحق الزوج وقيامه بحقها فلا جناح عليهما فيما افتدت به وقال الله عز وجل : فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا فهذه الآيات أصل هذا الباب .

وقول رابع إلا أن يأتين بفاحشة مبينة إلا أن يزنين فيحبسن في البيوت ، فيكون هذا قبل النسخ ، وهذا في معنى قول عطاء ، وهو ضعيف .

الثالثة : وإذا تنزلنا على القول بأن المراد بالخطاب في العضل الأولياء ففقهه أنه متى صح في ولي أنه عاضل نظر القاضي في أمر المرأة وزوجها . إلا الأب في بناته ؛ فإنه إن كان في عضله صلاح فلا يعترض ، قولا واحدا ، وذلك بالخاطب والخاطبين وإن صح عضله ففيه قولان في مذهب مالك : أنه كسائر الأولياء ، يزوج القاضي من شاء التزويج من بناته وطلبه . والقول الآخر - لا يعرض له :

الرابعة : يجوز أن يكون تعضلوهن جزما على النهي ، فتكون الواو عاطفة جملة كلام مقطوعة من الأولى ، ويجوز أن يكون نصبا عطفا على أن ترثوا فتكون الواو مشتركة عطفت فعلا على فعل . وقرأ ابن مسعود ولا أن تعضلوهن فهذه القراءة تقوي احتمال النصب ، وأن العضل مما لا يجوز بالنص .

الخامسة : قوله تعالى : " مبينة " بكسر الياء قراءة نافع وأبي عمرو ، والباقون بفتح الياء . وقرأ ابن عباس " مبينة " بكسر الباء وسكون الياء ، من أبان الشيء ، يقال : أبان الأمر بنفسه ، وأبنته وبين وبينته ، وهذه القراءات كلها لغات فصيحة .

السادسة : قوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف أي على ما أمر الله به من حسن المعاشرة . والخطاب للجميع ، إذ لكل أحد عشرة ، زوجا كان أو وليا ؛ ولكن المراد بهذا الأمر في الأغلب الأزواج ، وهو مثل قوله تعالى : فإمساك بمعروف وذلك توفية حقها من المهر والنفقة ، وألا يعبس في وجهها بغير ذنب ، وأن يكون منطلقا في القول لا فظا ولا غليظا ولا مظهرا ميلا إلى غيرها . والعشرة : المخالطة والممازجة . ومنه قول طرفة : [ ص: 86 ]
فلئن شطت نواها مرة لعلى عهد حبيب معتشر
. جعل الحبيب جمعا كالخليط والغريق . وعاشره معاشرة ، وتعاشر القوم واعتشروا . فأمر الله سبحانه بحسن صحبة النساء إذا عقدوا عليهن لتكون أدمة ما بينهم وصحبتهم على الكمال ، فإنه أهدأ للنفس وأهنأ للعيش . وهذا واجب على الزوج ولا يلزمه في القضاء . وقال بعضهم : هو أن يتصنع لها كما تتصنع له . قال يحيى بن عبد الرحمن الحنظلي : أتيت محمد بن الحنفية فخرج إلي في ملحفة حمراء ولحيته تقطر من الغالية ، فقلت : ما هذا ؟ قال : إن هذه الملحفة ألقتها علي امرأتي ودهنتني بالطيب ، وإنهن يشتهين منا ما نشتهيه منهن . وقال ابن عباس رضي الله عنه : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين المرأة لي . وهذا داخل فيما ذكرناه . قال ابن عطية : وإلى معنى الآية ينظر قول النبي صلى الله عليه وسلم : فاستمتع بها وفيها عوج أي لا يكن منك سوء عشرة مع اعوجاجها ؛ فعنها تنشأ المخالفة وبها يقع الشقاق ، وهو سبب الخلع .

السابعة : استدل علماؤنا بقوله تعالى : وعاشروهن بالمعروف على أن المرأة إذا كانت لا يكفيها خادم واحد أن عليه أن يخدمها قدر كفايتها ، كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد ، وأن ذلك هو المعاشرة بالمعروف . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا يلزمه إلا خادم واحد - وذلك يكفيها خدمة نفسها ، وليس في العالم امرأة إلا وخادم واحد يكفيها ؛ وهذا كالمقاتل تكون له أفراس عدة فلا يسهم له إلا لفرس واحد ؛ لأنه لا يمكنه القتال إلا على فرس واحد . قال علماؤنا : وهذا غلط ؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد ؛ لأنها تحتاج من غسل ثيابها لإصلاح مضجعها وغير ذلك إلى ما لا يقوم به الواحد ، وهذا بين . والله أعلم .

الثامنة : قوله تعالى : فإن كرهتموهن أي لدمامة أو سوء خلق من غير ارتكاب فاحشة أو نشوز ؛ فهذا يندب فيه إلى الاحتمال ، فعسى أن يئول الأمر إلى أن يرزق الله منها أولادا صالحين . وأن رفع ب عسى وأن والفعل مصدر .

قلت : ومن هذا المعنى ما ورد في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر أو قال غيره . المعنى : أي لا يبغضها بغضا كليا يحمله على فراقها . أي لا ينبغي له ذلك بل يغفر سيئتها [ ص: 87 ] لحسنتها ويتغاضى عما يكره لما يحب . وقال مكحول : سمعت ابن عمر يقول : إن الرجل ليستخير الله تعالى فيخار له ، فيسخط على ربه عز وجل فلا يلبث أن ينظر في العاقبة فإذا هو قد خير له . وذكر ابن العربي قال أخبرني أبو القاسم بن حبيب بالمهدية ، عن أبي القاسم السيوري عن أبي بكر بن عبد الرحمن حيث قال : كان الشيخ أبو محمد بن أبي زيد من العلم والدين في المنزلة والمعرفة . وكانت له زوجة سيئة العشرة وكانت تقصر في حقوقه وتؤذيه بلسانها ؛ فيقال له في أمرها ويعذل بالصبر عليها ، فكان يقول : أنا رجل قد أكمل الله علي النعمة في صحة بدني ومعرفتي وما ملكت يميني ، فلعلها بعثت عقوبة على ذنبي فأخاف إن فارقتها أن تنزل بي عقوبة هي أشد منها . قال علماؤنا : في هذا دليل على كراهة الطلاق مع الإباحة . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إن الله لا يكره شيئا أباحه إلا الطلاق والأكل وإن الله ليبغض المعى إذا امتلأ .
وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا أتأخذونه بهتانا وإثما مبينا وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقا غليظا

فيه ست مسائل :

الأولى : لما مضى في الآية المتقدمة حكم الفراق الذي سببه المرأة ، وأن للزوج أخذ المال منها عقب ذلك بذكر الفراق الذي سببه الزوج ، وبين أنه إذا أراد الطلاق من غير نشوز وسوء عشرة فليس له أن يطلب منها مالا .

الثانية : واختلف العلماء إذا كان الزوجان يريدان الفراق وكان منهما نشوز وسوء عشرة ؛ فقال مالك رضي الله عنه : للزوج أن يأخذ منها إذا تسببت في الفراق ولا يراعى تسببه هو . وقال جماعة من العلماء : لا يجوز له أخذ المال إلا أن تنفرد هي بالنشوز وتطلبه في ذلك .

الثالثة : قوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا الآية فيها دليل على جواز المغالاة في المهور ؛ لأن الله تعالى لا يمثل إلا بمباح . وخطب عمر رضي الله عنه فقال : ألا لا تغالوا في صدقات النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ما أصدق قط امرأة من نسائه ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية . فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر ، [ ص: 88 ] يعطينا الله وتحرمنا ! أليس الله سبحانه وتعالى يقول : وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا ؟ فقال عمر : أصابت امرأة وأخطأ عمر . وفي رواية فأطرق عمر ثم قال : كل الناس أفقه منك يا عمر ! . وفي أخرى : امرأة أصابت ورجل أخطأ . وترك الإنكار . أخرجه أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي العجفاء السلمي قال : خطب عمر الناس ، فذكره إلى قوله : اثنتي عشرة أوقية ، ولم يذكر : فقامت إليه امرأة . إلى آخره . وأخرجه ابن ماجه في سننه عن أبي العجفاء ، وزاد بعد قوله : أوقية . وإن الرجل ليثقل صدقة امرأته حتى تكون لها عداوة في نفسه ، ويقول : قد كلفت إليك علق القربة - أو عرق القربة ؛ وكنت رجلا عربيا مولدا ما أدري ما علق القربة أو عرق القربة . قال الجوهري : وعلق القربة لغة في عرق القربة . قال غيره : ويقال علق القربة عصامها الذي تعلق به . يقول كلفت إليك حتى عصام القربة . وعرق القربة ماؤها ؛ يقول : جشمت إليك حتى سافرت واحتجت إلى عرق القربة ، وهو ماؤها في السفر . ويقال : بل عرق القربة أن يقول : نصبت لك وتكلفت حتى عرقت عرق القربة ، وهو سيلانها . وقيل : إنهم كانوا يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه فيشق على الظهر ؛ ففسر به اللفظان : العرق والعلق . وقال الأصمعي : عرق القربة كلمة معناها الشدة . قال : ولا أدري ما أصلها . قال الأصمعي : وسمعت ابن أبي طرفة وكان من أفصح من رأيت يقول : سمعت شيخاننا يقولون : لقيت من فلان عرق القربة ، يعنون الشدة . وأنشدني لابن الأحمر :


ليست بمشتمة تعد وعفوها عرق السقاء على القعود اللاغب
قال أبو عبيد : أراد أنه يسمع الكلمة تغيظه وليست بشتم فيؤخذ صاحبها بها ، وقد أبلغت إليه كعرق القربة ، فقال : كعرق السقا لما لم يمكنه الشعر ؛ ثم قال : على القعود اللاغب ، وكان معناه أن تعلق القربة على القعود في أسفارهم . وهذا المعنى شبيه بما كان الفراء يحكيه ؛ زعم أنهم كانوا في المفاوز في أسفارهم يتزودون الماء فيعلقونه على الإبل يتناوبونه ؛ فكان في ذلك تعب ومشقة على الظهر . وكان الفراء يجعل هذا التفسير في علق القربة باللام . وقال قوم : لا تعطي الآية جواز المغالاة بالمهور ؛ لأن التمثيل بالقنطار إنما هو على جهة المبالغة ؛ كأنه قال : وآتيتم هذا القدر العظيم الذي لا يؤتيه أحد . وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم : من بنى لله مسجدا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتا في الجنة . ومعلوم أنه لا يكون مسجد كمفحص قطاة . وقد قال صلى الله عليه وسلم لابن أبي حدرد وقد جاء يستعينه في مهره ، فسأله عنه فقال : مائتين ؛ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : كأنكم تقطعون الذهب والفضة من عرض الحرة أو جبل .

[ ص: 89 ] فاستقرأ بعض الناس من هذا منع المغالاة بالمهور ؛ وهذا لا يلزم ، وإنكار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الرجل المتزوج ليس إنكارا لأجل المغالاة والإكثار في المهور ، وإنما الإنكار لأنه كان فقيرا في تلك الحال فأحوج نفسه إلى الاستعانة والسؤال ، وهذا مكروه باتفاق . وقد أصدق عمر أم كلثوم بنت علي من فاطمة رضوان الله عليهم أربعين ألف درهم . وروى أبو داود عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : أترضى أن أزوجك فلانة ؟ قال : نعم . وقال للمرأة : أترضين أن أزوجك فلانا ؟ قالت : نعم . فزوج أحدهما من صاحبه ؛ فدخل بها الرجل ولم يفرض لها صداقا ولم يعطها شيئا ، وكان ممن شهد الحديبية وله سهم بخيبر ؛ فلما حضرته الوفاة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوجني فلانة ولم أفرض لها صداقا ولم أعطها شيئا ، وإني أشهدكم أني قد أعطيتها من صداقها سهمي بخيبر ؛ فأخذت سهمها فباعته بمائة ألف . وقد أجمع العلماء على ألا تحديد في أكثر الصداق ؛ لقوله تعالى : وآتيتم إحداهن قنطارا واختلفوا في أقله ، وسيأتي عند قوله تعالى : أن تبتغوا بأموالكم . ومضى القول في تحديد القنطار في " آل عمران " . وقرأ ابن محيصن " وآتيتم إحداهن " بوصل ألف إحداهن وهي لغة ؛ ومنه قول الشاعر :


وتسمع من تحت العجاج لها ازملا
وقول الآخر :


إن لم أقاتل فالبسوني برقعا


الرابعة : قوله تعالى : فلا تأخذوا منه شيئا قال بكر بن عبد الله المزني : لا يأخذ الزوج من المختلعة شيئا ؛ لقول الله تعالى : فلا تأخذوا ، وجعلها ناسخة لآية " البقرة " .

وقال ابن زيد وغيره : هي منسوخة بقوله تعالى في سورة البقرة ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا . والصحيح أن هذه الآيات محكمة وليس فيها ناسخ ولا منسوخ وكلها يبنى بعضها على بعض . قال الطبري : هي محكمة ، ولا معنى لقول بكر : إن أرادت هي العطاء ؛ فقد جوز النبي صلى الله عليه وسلم لثابت أن يأخذ من زوجته ما ساق إليها .

بهتانا : مصدر في موضع الحال ، وإثما : معطوف عليه ، مبينا : من نعته .

الخامسة : قوله تعالى : وكيف تأخذونه الآية تعليل لمنع الأخذ مع الخلوة . وقال بعضهم : الإفضاء إذا كان معها في لحاف واحد جامع أو لم يجامع ؛ حكاه الهروي وهو قول [ ص: 90 ] الكلبي . وقال الفراء : الإفضاء أن يخلو الرجل والمرأة وأن يجامعها . وقال ابن عباس ومجاهد والسدي وغيرهم : الإفضاء في هذه الآية الجماع . قال ابن عباس : ولكن الله كريم يكني .

وأصل الإفضاء في اللغة المخالطة ؛ ويقال للشيء المختلط : فضا . قال الشاعر :


فقلت لها يا عمتي لك ناقتي وتمر فضا في عيبتي وزبيب
ويقال : القوم فوضى فضا ، أي مختلطون لا أمير عليهم . وعلى أن معنى أفضى خلا وإن لم يكن جامع ، هل يتقرر المهر بوجود الخلوة أم لا ؟ اختلف علماؤنا في ذلك على أربعة أقوال : يستقر بمجرد الخلوة . لا يستقر إلا بالوطء . يستقر بالخلوة في بيت الإهداء . التفرقة بين بيته وبيتها . والصحيح استقراره بالخلوة مطلقا ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، قالوا : إذا خلا بها خلوة صحيحة يجب كمال المهر والعدة دخل بها أو لم يدخل بها ؛ لما رواه الدارقطني عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كشف خمار امرأة ونظر إليها وجب الصداق . وقال عمر : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق وعليها العدة ولها الميراث . وعن علي : إذا أغلق بابا وأرخى سترا ورأى عورة فقد وجب الصداق . وقال مالك : إذا طال مكثه معها مثل السنة ونحوها ، واتفقا على ألا مسيس وطلبت المهر كله كان لها . قال الشافعي : لا عدة عليها ولها نصف المهر . وقد مضى في " البقرة " .

السادسة : قوله تعالى : وأخذن منكم ميثاقا غليظا فيه ثلاثة أقوال . قيل : هو قوله عليه السلام : فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله . قاله عكرمة والربيع .

الثاني : قوله تعالى : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قاله الحسن وابن سيرين وقتادة والضحاك والسدي .

الثالث : عقدة النكاح قول الرجل : نكحت وملكت عقدة النكاح ؛ قاله مجاهد وابن زيد . وقال قوم : الميثاق الغليظ الولد . والله أعلم .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.80 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.17 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]