عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 21-01-2023, 08:20 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,332
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب الجهاد)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (260)

صـــــ(1) إلى صــ(22)



شرح زاد المستقنع -‌‌ باب عقد الذمة وأحكامها [1]
ميَّز الله سبحانه الأديان السماوية حتى بعد وقوع التحريف فيها، فكان من هذا أن أجاز عقد الذمة مع أهل الكتاب ومن أخذ حكمهم، وهذا فيه أسرار وحكم عظيمة، وهذا العقد لابد فيه من التزامات بين المسلمين وأهل الكتاب، ولابد له من أركان لا يصح إلا بها
‌‌أحكام عقد الذمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتَمَّان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها] هذه الترجمة قصد المصنف -رحمه الله- بها أن يبين جملة من الأحكام والمسائل المتعلقة بعقد الذمة، والأصل في ذلك أن المسلمين إذا غزوا العدو، فإنهم يخيرونهم بين ثلاث خصال: الخصلة الأولى: أن يسلموا، ويقومون بدعوتهم إلى الإسلام.
الخصلة الثانية: أن يدفعوا الجزية، وهو الخيار الثاني، وهذا الخيار -وهو الجزية- يختص بنوع خاص من الكفار، وهم أهل الكتاب ومن في حكمهم كالمجوس، وأما غيرهم من الوثنيين والمشركين والملحدين، فإنه لا تؤخذ منهم الجزية، وإنما يخيَّرون بخيارين: - إما الإسلام.
- وإما القتال.
الثالثة: إن أبوا فإنه ينتقل معهم بعد ذلك إلى الخيار الثالث وهو القتال، وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الخيارات الثلاث، وثبت ذلك أيضاً من هدي الصحابة رضوان الله عليهم، وهو ما كان يفتي به الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم وأرضاهم- أمراء الأجناد حينما بعثوهم للجهاد في سبيل الله عز وجل، وجاءت السنة مطلقة في حديث بريدة؛ ولكن قيدها القرآن في الجزية كما سيأتي.
فلما كان الجهاد في سبيل الله عز وجل يحتاج إلى بيان الجانبين: الجانب الأول: كيف يجاهَد الكفار؟ وما هي الأمور والمسائل والأحكام المترتبة على شرعية الجهاد؟ والجانب الثاني: وهو الذي يتعلق بقبول الجزية، فإذا قبلوا دَفْع الجزية، فحينئذ تحقن دماؤهم، ويكونون أهل ذمة، على التفصيل الذي سنبينه.
فكأن هذا الباب مرتب على الباب الذي قبله؛ لأن مَن يجاهد في سبيل الله، فإنه يحتاج إلى معرفة نوع خاص من الكفار، وهم أهل الذمة، فقال رحمه الله: [باب عقد الذمة وأحكامها]، كأنه يقول: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من المسائل والأحكام المتعلقة بالذمة وما يترتب عليها
‌‌تعريف عقد الذمة
قوله رحمه الله: (باب عقد) العقد في لغة العرب: التوثيق والإبرام، ومنه: عقد الحبل، ويطلق العقد على المحسوسات، كما تقول: عقدتُ الحبل إذا جمعتَ بين طرفيه وعقدتَه وأوثقتَه، وقد يطلق على المعنويات، فتقول: هذا عقد بيع، وينبني على الإيجاب والقبول، وقد ورد في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] والمراد به المعنوي.
وإذا قال العلماء: عقد النكاح، عقد الإيجار، عقد الرهن، عقد الشركة، عقد المضاربة، فمرادهم بهذا اللفظ: الإيجاب والقبول على هذه الأمور، فإذا كان الإيجاب: بعتك، والقبول: قبلت واشتريت، فهو عقد بيع، وإن كان الإيجاب: أجرتك، وقال الآخر: قبلت واستأجرت، فهو عقد إجارة، وإن كان على نكاح فعقد نكاح، وهلمَّ جرَّاً.
لكن لما قال المصنف هنا: (باب عقد الذمة) خصص عموم هذا اللفظ وبيَّن أن المراد به نوع خاص من العقود وهو عقد الذمة.
والذمة في اللغة: الأمان والعهد، وأما في الاصطلاح: فهو أمان مخصوص، لطائفة مخصوصة، على هيئة مخصوصة، وهذا الأمان المخصوص المراد به: أن يؤمَّن من أعطي هذا العهد على نفسه وماله وأهله وعرضه، فالكافر إذا جرى بينه وبين المسلمين عقد الذمة فله ذمة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم كما ثبتت بذلك الأخبار، فلا يسفك دمه، ولا ينتهك عرضه، ولا يؤخذ ماله، ويكون له ما للمسلمين وعليه ما على المسلمين.
وأما قولهم: (لطائفة مخصوصة) فالمراد به: أهل الكتاب، ومن في حكمهم وهم المجوس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا أن نسن بهم سنة أهل الكتاب، وذلك في الجزية، كما قرره الأئمة رحمهم الله.
و (على هيئة مخصوصة) المراد بها: ضوابط عقد الذمة، وذلك بالصورة التالية: فالعقد في الأصل يستلزم جانبين: الجانب الأول: المسلمون.
الجانب الثاني: الكفار
‌‌أنواع الذمة
أما بالنسبة للمسلمين فيلي العقد عنهم إمامهم، كما سيبين لنا المصنف رحمه الله، وهذا أصل في قول جماهير العلماء: أن عقد الذمة لا يبرمه إلا الإمام؛ لأنه تتعلق به مصالح الأمة، وحينئذٍ لا يتأتى أن يقام على وجهه إلا عن طريق الإمام، أو من ينيبه؛ لكن هناك نوعان من الأمان، أو من الذمة: النوع الأول: الذمة الخاصة، وهي التي تكون لأفراد الناس، كأن يستجير مشرك أو كافر بمسلم، فيقول له: أنا في جوارك، وفي أمانك، وفي ذمتك، فإن قال له: أنت في ذمتي، فحينئذ يكون هذا الجوار والأمان خاصاً، فعلى المسلم أن يؤمنه حتى يسمع كلام الله، فإذا قبل الإسلام فالحمد لله، وإذا لم يقبل أبلغه مأمنه، قال الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، فهذا يسمى بالذمة الخاصة، أو العهد الخاص، أو الأمان الخاص، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، وهم حرب على من سواهم) فهذا الحديث الصحيح يدل على أن الكافر إذا دخل في جوار مسلم واحد فإنه في جوار المسلمين كلهم، ولا يجوز لأحد أن يتعرض له بسوء حتى يسمع كلام الله، أو يُبْلَغ مأمنه، ولذلك ثبت في الصحيح أنه لما دخل المشرك على أم هانئ وهي امرأة واستجار بها، وأراد علي قتله، انطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يغتسل، فقال: (من؟ قالت: أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ، فقالت: يا رسول الله! زعم فلان أنه قاتل فلاناً، وقد أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ)، فدل هذا على أن ذمة المسلمين واحدة، وأن العهد إذا أخذ من مسلم لكافر، فهو عهد على جميع المسلمين لا يجوز لأحد أن ينقضه، أو ينكثه، حتى يكون الكافر على بينة.
النوع الثاني من الذمة: الذمة العامة التي تكون مؤبدة، والفرق بينهما: أن الذمة الأولى خاصة مؤقته، أما الذمة التي نبحثها هنا فهي الذمة العامة المؤبدة، أي: التي تبقى إلى الأبد، فإذا أراد المسلمون فتح مدينة، وقالوا لأهلها: أسلموا فقالوا: لا نريد الإسلام، فقيل لهم: ادفعوا الجزية، فقالوا: ندفع الجزية وكانوا من أهل الكتاب ومن في حكمهم، فإنهم يبقون ما أبقاهم الله عز وجل، ويكون هذا العهد ذمة لهم إلى الأبد، ما لم يحدث النكث أو النقض، بالصورة التي سيبينها المصنف رحمه الله.
فإذاً: عندنا ذمة عامة، وذمة خاصة.
فالذمة الخاصة ينبغي حفظها ورعايتها، ولا يجوز لمسلم أن يقدم على قتل كافر في بلاد المسلمين، إذا كان قد دخل بأمان من واحد منهم، حتى قال بعض العلماء: حتى ولو دخل في أمان صبي، أو دخل في أمان امرأة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ).
وعقد الذمة يكون بين المسلمين والكفار، فأما المسلمون فيعقد عنهم وليهم، أو من ينيبه، وأما الكفار فإنه يعقد عنهم أهل الحل والعقد، ومن يتولى أمورهم، فإذا جرى العقد بينهما فإن الأركان في العقد تستلزم: أولاً: العاقدان، فإذا قيل: عقد، فمعنى ذلك أن هناك عاقدين.
ثانياً: المحل، وهو مورد العقد الذي يتعاقدان عليه، فمثلاً: البيع أركانه: البائع، والمشتري، ومحل يَرِد عليه البيع وهو السيارة مثلاً
‌‌ما يلتزم به المسلمون في عقد الذمة
فعندنا محل ورد عليه عقد الذمة، وهو التزامات من الطرفين، من المسلمين التزامات، ومن الكفار التزامات، فيرد عقد الذمة على هذين الجانبين.
فيلتزم المسلمون: أولاً: بحقن دمه، فلا يُقتَل بدون حق.
ثانياً: بحفظ عرضه، فلا يؤذى في عرضه.
ثالثاً: بحفظ ماله.
رابعاً: بحفظ أهله وعياله.
فيدخل الأولاد والذراري بالتبع لآبائهم؛ لأنهم تابعون لآبائهم في هذا الحكم، كما ثبت من فعل الصحابة رضوان الله عليهم، فإن خالد بن الوليد رضي الله عنه لما كتب في الكتاب جعل الذراري تابعة للأصول، آباء وأمهات.
ثم أيضاً يلتزم المسلمون بالدفاع عنهم، فإذا فتحت بلاد الكفار فنزلوا على حكم المسلمين بالذمة، فيجب على المسلمين نصرتهم وحفظهم، ولذلك لما نزل الروم بالشام -وكان أبو عبيدة رضي الله عنه قد فتح مع خالد أطراف الشام، وأخذ الجزية على بعضها- في معركة اليرموك، كتب أبو عبيدة إلى أمراء الأجناد، أن يردوا الجزية إلى أهلها حتى يقع النصر، فكانوا لا يلتزمون بالجزية إلا مع الالتزام بالنصرة، فيكون هذا الذمي له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، فهو يلتزم بأمور، والمسلم يلتزم بأمور، فمن هذه الأمور التي يلتزم له بها المسلم: حفظ دمه -كما قلنا- وماله، وعرضه، وأهله، وولده، وكذلك أيضاً يكون له حق النصرة، فإذا اعتدى عليه الكفار، وجب على المسلمين نصرته ومنع الكفار من أذيته، كذلك أيضاً لا يعتدي عليهم المسلمون، فهم كالمسلمين لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وهذا فيه حكم وأسرار عظيمة، ذلك أن الذمة لا يصح إعطاؤها إلا لأهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فيكون حسابهم في الآخرة، فإذا رضوا بإعطاء الجزية يكونون مستثنين؛ لأن الله نص على ذلك، فأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب؛ لأن لهم ديناً سماوياً، فإذا بقوا بين المسلمين ورأوا تعاملهم، ورأوا دين الإسلام وسماحته، وما عليه المسلمون من التواصل والتراحم والتعاطف، أحبوا دينهم، ولربما نشأت ذراريهم وقد رأوا عزة الإسلام فيتأثرون به، حتى حفظ في البلدان التي فتحت على هذا الوجه أنه لم تمض ثلاثة أجيال إلى أربعة أجيال بالكثير إلا وقد أسلم منهم الكثير، فهذا نوع من الاستدراج للدخول في الإسلام ولو بعد حين.
فالمقصود: أن يلتزم المسلمون بهذا، فإذا رأى الذمي أن له ما للمسلم وعليه ما على المسلم، وإذا وقف في المواقف المحرجة ورأى نصرة الإسلام له أحب هذا الإسلام، فإن النفوس جُبِلت على حب من أحسن إليها، وهذا الإحسان من المسلم فيه نوع من الاستمالة لقلبه والتأليف له للإسلام، وكل هذه أسرار عظيمة، وصدق الله عز وجل إذ يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216] فهو نوع من الحكمة البالغة في إقناع الناس بهذا الإسلام؛ فهم إذا لم يسلموا عن طريق مواجهتهم بالحكمة والموعظة الحسنة، ربما أثر فيهم تعامل المسلمين ووقوف المسلمين معهم ونصرتهم لهم، فيكون سبباً في دخولهم في دين الإسلام، ورضاهم به
‌‌ما يلتزم به أهل الذمة
الأمر الثاني: الذي يلتزم به أهل الذمة: يلتزمون بأمور كثيرة يجمعها أصلان: الأصل الأول: دفع الجزية.
الأصل الثاني: التزام أحكام الإسلام، وعدم التعرض للإسلام أو أهله بضرر أو سوء.
فهنا جانبان: الجانب الأول: دفع الجزية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29].
وأما الجانب الثاني: فهو تعظيمهم للإسلام، فيحفظون حرمة الإسلام، ويحفظون حق الإسلام، فلا يتعرضون لسب الله، ولا لسب رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا سب الإسلام، ولا يطعنون في القرآن، ولا في السنة، ولا يستهزئون بشيء من الإسلام، ولا بالمسلمين، مع أمور أُخر هي من لوازم عقد الذمة، حتى يستقيم عيشهم تحت الإسلام في ذلة وصغار، لا في عزة وقوة واستكبار، حتى لا تكون لهم شوكة على المسلمين، فيكون الأمر محقِّقاً لخلاف ما قصده الشرع أو عناه من هذا الحكم التشريعي
‌‌أركان عقد الذمة
إذاً: أركان العقد: أولاً: عاقدان.
ثانياً: محل العقد.
ثالثاً: ولا بد من توفره: الصيغة، أو ما يدل أو يقوم مقامها.
فهناك صيغة اللفظ: كأن يقول ولي الأمر للكفار أو من ينوب عنهم: (عاهدناكم على كذا وكذا)، فيقول الكافر: (قبلنا)، فإذا قال: عاهدناكم، وقال الطرف الثاني: قبلنا، فقد تمت الصيغة؛ الإيجاب والقبول.
أيضاً: قد تكون هناك أمور أخرى تدل على الرضا، مثلاً: لو أن كافراً من أهل الكتاب دخل مع أهل الذمة الذين هم تحت حكم المسلمين، فإن هذا الدخول يعتبره العلماء دلالة ضمنية على الرضا بدفع الجزية للمسلمين، فيكون عقداً ضمنياً، كذلك إذا شب الصغار، وبلغوا سن الرشد والتمييز، فحينئذٍ لا يحتاجون إلى تجديد العقد؛ لأن سكوتهم ينزَّل منزلة تجديد العقد، وهذا أصح قولي العلماء: أن من نشأ من صغارهم، وسكت على العهد الذي كان عليه كبارهم، فإن هذا يعتبر إقراراً، وينزَّل منزلة الصيغة، ويكون لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين بالصيغة التي اتُّفِق عليها بين آبائهم وبين ولي أمر المسلمين، حينما كانوا صغاراً
‌‌الجزية وأحكامها
يقول رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم] في هذا الباب يحتاج المصنف عند بيانه لأحكام الذمة لجملة من المسائل منها: المسألة الأولى: أن يبين من الذين يجوز لك أن تعقد معهم عقد الذمة؟ والسبب في ذلك: أن الكفار ينقسمون إلى أقسام -سنبينها إن شاء الله- فهل كلهم يجوز أن تأخذ منهم الجزية، أم من بعضهم دون بعض؟ المسألة الثانية: من الذي له حق عقد الذمة، وهل يمكن أن يقع من أفراد المسلمين، أم أنه خاص بولي الأمر ومن ينيبه؟ المسألة الثالثة: ما هي الشروط التي ينبغي توفرها لضرب الجزية على الفرد من أفراد الكفار؟ وإذا وقع عقد الذمة العام، فهناك أمور فرعية خاصة تتعلق بهذا العام، وهي: هل نضرب الجزية على صغارهم، وكبارهم، وذراريهم، ونسائهم، وشيوخهم، وضَعَفَتهم، والمسلمين منهم، ورهبانهم، وأحبارهم، أم أن الحكم يختص ببعضهم دون بعض؟ كذلك أيضاً ما الذي يترتب على قضية أخذ الجزية منهم، من وجوب النصرة، وحقن دمائهم؟ فهذه كلها مسائل تتعلق بالعقد من حيث هو
‌‌شرعية أخذ الجزية
أولاً: ما هو الدليل على شرعية عقد الذمة وأخذ الجزية؟ دل دليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة على ذلك.
أما دليل الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فدلت هذه الآية الكريمة على مسائل: الأولى: الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، وذلك لإعلاء دين الله، وكف أعداء الله، {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39]، كما دلت على ذلك نصوص الكتاب والسنة.
الثانية: أن الله سبحانه وتعالى خص هذا بأهل الكفر، فقال: {الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29]، والذي لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر هو كافر، حتى ولو قال شخص: أنا أؤمن بالله، وأؤمن بالرسول وأؤمن بكل شيء إلا اليوم الآخر -والعياذ بالله- فلا أعتقد أن هناك يوماً آخراً، كما تقول الفلاسفة -والعياذ بالله- من ضلالاتهم: إنها أمور خيالية وليس لها حقيقة، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً، وهذا يعتبر كفراً بإجماع المسلمين، فمن لا يؤمن باليوم الآخر فهو كافر، فخص الله ذكر اليوم الآخر زيادة في بيان كفرهم والتغليظ عليهم، ثم قال: {وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة:29] ثم خصص العموم فقال: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] وهذا يدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، وأنها ليست بعامة لجميع الكفار، وهذا له حكمة؛ لأن أهل الكتاب لهم دين سماوي، فهم في الأصل يتفقون مع المسلمين من حيث تعظيم الله عز وجل، ووجود الله عز وجل، فبيننا وبينهم قواسم مشتركة، ولذلك قال الله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] وقال: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران:84]، فهناك قواسم مشتركة، والدين الذي له أصل، ليس كالدين الذي لا أصل له.
وقول الله عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] قال بعض العلماء: (مِن): للتبعيض، فدل على أن المراد أن الجزية لا تؤخذ إلا من قوم خاصين، وهم أهل الكتاب، ثم قال الله عز وجل: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أن الجزية تُحقن بها دماؤهم؛ لأنه قال في أول الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] ثم قال: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة:29] فدل على أنهم إذا أعطوا الجزية فلا يجوز استباحة دمائهم إلا بحق، ثم قال الله عز وجل: {عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] وسنبين معنى الصَّغار، وما هو المقصود منه، كما سيبينه المصنف -رحمه الله- في آخر هذا الباب.
إذاً: فهذه الآية دلت على مشروعية أخذ الجزية.
ثانياً: السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في حديث بريدة أنه بعثه في سرية وأمره صلى الله عليه وسلم عندما ينزل بدار الكفر أن يدعوهم بدعاية الإسلام: شهادة أن لا إله إلا لله وأن محمداً رسول الله، وأمره أن يخيرهم بين الإسلام، ثم أخذ الجزية، ثم قتالهم، فدل هذا على مشروعية أخذ الجزية، والحديث في الصحيحين، ومطلقه مقيد بالقرآن، كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: الإجماع وقد ثبت إجماع السلف رحمهم الله، وهو فعل الخلفاء الراشدين المأمور باتباع سنتهم، أخذوا الجزية من أهل الكتاب، وذلك في فتوحات الشام وغيرها، ولم ينكر عليهم أحد، وفرضها أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عن الجميع، ثم ما زال ذلك في عصور الإسلام كلها، ومن هنا أجمع المسلمون على شرعيتها من حيث الجملة، أما من حيث التفصيل، فهناك خلاف في بعض المسائل، كما سنبينه إن شاء الله تعالى
‌‌حِكم وفوائد الجزية
أما الحِكَم التي تستفاد من شرعية الجزية، فهناك حِكَم عظيمة: أولها: التفريق بين الكفار، وبيان حرمة الأديان السماوية دون غيرها، فإن الأديان السماوية لها أصول، ولذلك تفضل على غيرها، كما أن الله سبحانه وتعالى بيَّن ذلك في سورة الروم، فقال سبحانه وتعالى: {الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:1 - 5] قال العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل قسم الناس في هذه الآيات الكريمات إلى حزبين، وطائفتين: طائفة لهم دين سماوي وهم الروم، قال: {غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] ومعهم المسلمون في قوله آخر الآية: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5] فجعل نصرة الروم من نصرة الله عز وجل لهم.
وطائفة في ضدهم وهم طائفة المجوس، والوثنيين الذين يعبدون النار.
فكان كفار قريش يفرحون بغلبة المجوس على أهل الكتاب وهم الروم؛ لأنهم يعبدون الأوثان، فكانوا مشتركين معهم في الوثنية، وكان المسلمون يفرحون بغلبة الروم على المجوس؛ لأنه دين سماوي، فكان هذا من باب التمييز بين الأديان.
فجُعِل للدين الذي له أصل سماوي فرق عن الدين الذي ليس له أصل، فهناك الدهري الذي ليس له دين، وهناك الملحد الذي لا يعترف بالأديان أصلاً، وهناك الوثني الذي يقر بالله عز وجل؛ ولكن يعبد معه غيره، فيعبد وثنا أو صنماً، أو غير ذلك.
المقصود: أن هذه النحل والملل والطوائف المشركة الوثنية ليست كالأديان التي لها أصل سماوي، فَفُرِّق بينهما.
ثانياً: من حكم الجزية وفوائدها: أنها سبب في دخول الإسلام، فإن الكفار إذا نزل بهم المسلمون قد يكونون على جهل بشرائع الإسلام، ولا يعلمون حقيقة الإسلام، فينقسمون إلى طوائف: فمنهم من إذا ناقشته وناظرته اقتنع بالإسلام وأحبه وأسلم، فهذا تقنعه بالحجة والبرهان.
ومنهم من لا يقتنع بالإسلام إلا إذا عاشر أهله -أهل الإسلام- ورأى الإسلام على طبيعته، وتطبيقه وواقعه، فلما يراه ويرى المسلمين على حقيقتهم يتأثر.
وهناك من لا يرضى بالإسلام أصلاً، فحكمه أن يُجاهَد.
فجعل الله لكل شيء قدراً، فإذا جاء المسلمون إلى أرضٍ فيها أهل كتاب، وأرادوا غزوهم، وقالوا لهم: اقبلوا بالإسلام، فقالوا: لا نقبل، فقالوا: ادفعوا الجزية، فقالوا: قبلنا، فإنهم سيعاشِرون المسلمين وسيَرَون محاسن الإسلام ومآثره وأحكامه وكيف أن الإسلام ينصفهم، فيكون هذا سبباً لإسلامهم.
ولذلك أُثِر عن علي رضي الله عنه في القصة المشهورة التي ذكرها غير واحد من العلماء، وتروَى مسنَدَة، أنه لما أخذ اليهودي منه درعاً وقيل في بعض الروايات: أنه أخذ منه فرساً واستعاره، وكان من أهل الذمة، ثم جاء يطلبه الفرس فامتنع، وقال: بيني وبينك قاضيك الذي نصَّبته على الناس.
فانطلق معه إلى قاضيه شريح، فقال له: هذه فرسي.
فأنكره اليهودي.
فقال له القاضي: بيِّنَتُك يا أمير المؤمنين.
فعجب اليهودي، وقال: أمير المؤمنين ولا يستطيع أن يأخذ حقه مني إلا ببَيِّنة؟! فوجد سماحة الإسلام، وأن شرعه على الكبير والصغير، فشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فمن خلال التعامل يقع هؤلاء الذميون في معاملات مالية مع المسلمين، فيحتكمون إلى قضاء الإسلام، فيجدون سماحته ويجدون حسنه وما فيه، مع ما للمسلمين عليهم من فضل النصرة، فيكون سبباً في قبولهم للإسلام، ورضاهم به.
ثالثاً: من حكم الجزية: أنها مورد من موارد بيت مال المسلمين، وهذا المورد يُصرف في مصالح المسلمين العامة، ويكون فيه نفعٌ للمسلمين عامِّهم وخاصِّهم، على ما ذكرناه في أحكام قسمة الفيء

‌‌عقد الذمة للمجوس

وقوله رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس] (لا تُعْقَد) أي: لا يصح ولا يجوز أن تكون الذمة وعقد الذمة إلا للمجوس.
والمجوس: هم طائفة من أهل الأديان يعبدون النار، ويعتقدون أن للكون إلهين -تعالى الله عما يقولون- إله الظلمة وإله النور، ويرون أن الخير منسوب إلى إله النور، وأن الشر منسوب إلى إله الظلمة، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30]! وهذه النحلة، بعض العلماء يقولون: إنهم كان لهم أصل من دين سماوي، ثم رُفع كتابهم؛ ولكن هذا لم يصح، والصحيح أنهم وثنيون؛ ولكنهم أُلحقوا بأهل الكتاب، لورود السنة المخصِّصة لذلك.
أما الدليل على جواز عقد الذمة مع المجوس: فما ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام: (أنه أخذ الجزية من مجوس هجر)، وكذلك أيضاً ما ثبت في حديث عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المجوس: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم)، فدل على أن المجوس يعامَلون معاملة أهل الكتاب، في أخذ الجزية منهم، وعلى هذا قضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ولم ينكره عليه أحد من الصحابة، فكان بمثابة الإجماع.
ولذلك تؤخذ الجزية من المجوس بإجماع العلماء رحمهم الله
‌‌عقد الذمة لأهل الكتاب
قال رحمه الله: [لا تُعْقَد لغير المجوس وأهل الكتابين ومن تبعهم].
أهل الكتابين المراد بهم: اليهود والنصارى، ووصفوا بذلك لأن لهم كتاباً سماوياً في الأصل، قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [الأنعام:156]، وعندما قال بعض العلماء: إن المجوس أهل كتاب، رُدَّ عليهم بهذه الآية؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام:156] فدَلَّ على أن (أهل الكتاب) يختص حكمهم باليهود والنصارى، واختُلف في الصابئة، فقيل: إنه كان لهم كتاب، وهو الزبور.
وقيل: إن شريعة يحيى كانت لهم، ويختلف العلماء فيهم، وهم على طوائف سنبينها.
أما بالنسبة لليهود والنصارى، فهم أهل كتاب بالإجماع، ويدخل فيهم من تبعهم، (فالسامرة) يتبعون اليهود ويأخذون حكمهم، وهم يعبدون الكواكب، وللعلماء فيهم بعض التفصيل، وإن كان الصحيح أنهم يتبعون اليهود، وهو قضاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويؤكده أنهم يسبتون ويعظمون السبت كما تعظمه اليهود.
كذلك أيضاً النصارى بجميع طوائفهم ومللهم، كما يوجد في زماننا: (الكاثوليك)، و (البروتستانت)، و (الأرثوذكس)، فهؤلاء كلهم يعتبرون في حكم أهل الكتاب، ويسري عليهم ما يسري على أهل الكتاب، كما نص على ذلك العلماء رحمهم الله؛ لأنهم في الأصل لهم كتابهم، سواءً كان: (إنجيل يوحنا)، أو (إنجيل برنابا)، أو (إنجيل لوقا)، أو غيرها من الأناجيل الأخرى، فكلها تعتبر من حيث الأصل على دين سماوي، ولذلك لم يفرق الصحابة رضوان الله عليهم بين طوائفهم، وإنما عاملوهم معاملة أهل الكتاب على الأصل العام الذي ذكرناه
‌‌حكم عقد الذمة للصابئة
وأما بالنسبة للصابئة فقد اختلف فيهم، والصابئة ينقسمون إلى طوائف: فطائفة منهم توجد بحران، في أقصى بلاد الشام، من جهة جزيرة العرب، وهؤلاء اختلف فيهم، فبعض العلماء يقول: إنهم أهل دين سماوي حرفوا دينهم وغيروه، كاليهود والنصارى، ورُفِع كتابهم، وهذا القول هو رواية عن الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، ورواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه، وفيه أثر عن علي رضي الله عنه وأرضاه؛ ولكنه لم يصح.
وقال بعض العلماء: إنهم تابعون لليهود والنصارى، وقد روي عن ابن عباس القول: بأنهم يتبعون النصارى، وهذا القول اختاره الإمام أحمد في رواية عنه، ومنهم من قال: إنهم يعتبرون في حكم اليهود؛ لأنهم يسبتون، فقد كانت بعض طوائفهم تعظم السبت كما يعظمه اليهود، فأعطوا حكم اليهود.
والصحيح أن الصابئة ينقسمون إلى قسمين: فقسم منهم يتبعون اليهود والنصارى -خاصة الذين هم في جهة حران- وعليه يُحمل أثر ابن عباس رضي الله عنهما.
وأما القسم الذي يعبد الكواكب، ويعتقد في الكواكب منهم، فهذا على قسمين: قسمٌ منهم يعبد الكواكب في أزمة مخصوصة معتقداً أن المؤثر هو الله، فهذا قيل: إن استقباله للكوكب واعتقاده فيه لا يوجب كونه آخذاً حكم الوثنية؛ لأن لهم أصلاً من الدين السماوي، فقال طائفة من العلماء: إنهم يأخذون حكم أهل الكتاب من هذا الوجه؛ ولكن الصحيح أن عبدة الكواكب منهم كلهم يعتبرون في حكم الوثنيين، ولا يجوز عقد الذمة معهم.
وهذا القسم الذي يعبد الكواكب يوجد في أطراف العراق، وهذا القسم هو الذي توعده المأمون، وكان قد نذر على نفسه إذا لم يدخلوا الإسلام أن يرجع فيقتلهم، وذلك حينما ذهب إلى الغزو، ولكنه مات قبل أن يدركهم، وهذا القسم هو الذي يعنيه طائفة من العلماء بأنهم يأخذون حكم الوثنيين.
أما بالنسبة لبقية الطوائف فهناك الكفار الذين هم مشركون وعلى الوثنية كمن يعبد الأشجار والأحجار والنيران، وهناك من لا دين له، وهم الملحدون، الذين ليس لهم دين ولا يعبدون إلهاً، وإنما يعتقدون أن الحياة نشأت من الطبيعة ووجدت صدفة، وأن الكون هذا أوجد نفسه، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
وهكذا بالنسبة للمرتدين الذي ارتدوا عن الإسلام، فهؤلاء كلهم لا يجوز عقد الذمة معهم
‌‌الدليل على عقد الذمة لأهل الكتاب والمجوس فقط
أما الدليل على تخصيص الحكم بما ذكره المصنف من أهل الكتاب والمجوس؛ فلأن الله سبحانه وتعالى قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]، فخصص حكم الجزية بنص الكتاب بأهل الكتاب، ثم إننا وجدنا في السنة أن: عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما احتك بالمجوس ونزلوا على حكم الإسلام، قال: (ما أدري ما أصنع بهم).
فاحتار رضي الله عنه في أمرهم، فقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيهم: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)، فـ عمر رضي الله عنه على فقهه وعلمه بالكتاب، فهم من آية القرآن تخصيص الحكم بأهل الكتاب، ولذلك لما جاء المجوس توقف فيهم واحتار فقال: (ما أدري ماذا أصنع بهم)، وكان معه الصحابة، فلم يُحْتَجَّ له بنص، وإنما قيل له: إن هؤلاء مستثنون من الأصل العام في الكفار، فدل على أن الجزية لا تؤخذ إلا من خصوص أهل الكتاب، ثم إننا إذا نظرنا إلى حكمة التشريع، فإن الله شرع الجهاد لكي يبقى التوحيد، فقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] قال جمع من السلف: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193] أي: لا يكون شرك، وأكد ذلك بقوله: {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} [البقرة:193] أي: تكون العبودية خالصة لله عز وجل، فدل على أن أصل الجهاد إنما المراد به أن يبقى دين التوحيد، فلما اصطدمت الأديان والنحل والملل في الجهاد فُرِّق بينها، فما كان أصله ديناً سماوياً، فإن أهله عندهم قابلية لقبول الدين السماوي الآخر، والتنازل عن دينهم، عندما يجدون دين الإسلام لا يجرح عيسى بن مريم، ولا يجرح كذلك موسى بن عمران، وأن المسلمين يؤمنون بعيسى بن مريم، وموسى بن عمران عليهما السلام، فهم أدعى أن يقبلوا هذا الدين؛ لكن إذا جئت إلى المشرك الوثني الذي لا يدين بدين، أو الملحد الذي لا يدين بدين، فإنه لا يقبل الإسلام، وليس عنده أصلٌ أو قاسم مشترك بينه وبين المسلمين، فكان من الحكمة أن يفرق بين هذا وهذا، وأن يعطى كل ذي حقٍ حقه، فكأننا لو قبلنا من المشرك الوثني ذلك فقد أقررناه على شركه ووثنيته؛ لكننا إذا أقررنا أهل الكتاب فإننا نقر بأصل دينهم، وهو الدين السماوي، ففُرِّق بينهم لهذه الحكمة، ولذلك لو قيل بأخذ الجزية من الوثنيين فإن هذا يعين على بقاء الوثنية، ومقصود الإسلام أن لا تبقى الوثنية.
لكن يبقى الإشكال في أهل الكتاب وقد صار منهم مشركون؟ قيل في هذا: إن الحكم على قسمين في الكفار: حكم الدنيا.
وحكم الآخرة.
فحكم الدنيا بالنسبة للوثنيين: أنهم يُقْتَلون أو يُسْلِمون، {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح:16]، وهذا هو الذي دلت عليه آيات الجهاد.
وأما من عداهم ممن له دين سماوي، فإنه يكون حكمه في الآخرة، وأما في الدنيا فيبقى على دينه في الإسلام؛ لأن دينه له أصل سماوي، وهو أحرى إذا عاشر المسلمين أن يرى سماحة الإسلام فيقبل بدينهم، كما شهدت التجربة بذلك في عصور المسلمين، حينما عاهدوا أهل الذمة.
فالذي يظهر: تخصيص الحكم في أهل الكتاب والمجوس؛ لأن النص خصَّهم فقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب، غير ناكحي نسائهم، ولا آكلي ذبائحهم)، قال الإمام الحافظ أبو عمر بن عبد البر رحمه الله: هذا في الجزية خاصة، أي: سنوا بهم سنة أهل الكتاب في الجزية فقط، ولذلك منع من أكل ذبائحهم، ونكاح نسائهم، ولم يبح مخالطتهم للوثنية التي فيهم، فدل على أن مقصود الإسلام أن يُفَرَّق بين الوثنية وما له أصل سماوي.
إذاً: الذي يترجح -والعلم عند الله- أنه لا تقبل الجزية إلا من أهل الكتاب، فإن الله سبحانه وتعالى ليس بعد نصه شيء حينما قال عز وجل: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة:29] بعد تعميمه لقتال المشركين، وأما حديث بريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، حينما أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخير أثناء الجهاد، فهذا -كما لا يخفى عند الجميع- يعتبر من المطلق المحمول على المقيد، فإن آية القرآن وردت في قضية الجزية بعينها، واشترطت أن يكونوا أهل كتاب، وأما بالنسبة لحديث بريدة، فإنه مطلق، ولذلك يقيد إطلاقه بالكتاب، وكم من أحاديث مطلقة قيدها الكتاب! وكم من أحاديث عامة خصصها الكتاب! وحمل المطلق على المقيد مذهب معتبر في الأصول، ولذلك مما نرى من مقاصد الإسلام العامة أنه لا يقر المشرك على شركه، ولا يقر الوثني على وثنيته، فيُنْصَر ويُعان على ذلك، بل إنه حينما كُتِب كتاب عمر في الشروط العمرية بينه وبين أهل الكتاب، مُنعوا من ضرب الناقوس، ومن إظهار شعائر دينهم، كل ذلك حتى يكون أبلغ في قبولهم للإسلام، فكيف بالوثني الذي ليس له أصل من دين سماوي، فإنه بعيد منه أن يقبل بدين الإسلام أو يرضاه.
[ولا يعقدها إلا إمام أو نائبه] هذه هي الجزئية الثانية: مَن له حق عقد الذمة؟ للعلماء قولان في هذه المسألة: فجمهور أهل العلم على أنه لا يجوز عقد الذمة إلا من الإمام أو نائبه.
وهناك قول عند الحنفية: أنه يجوز أن تعقد الذمة بالأفراد، فلو أن مسلماً تعاقد مع ذميين، وأمَّنهم بأمانهم العام، فإنه يمضي عقده.
والصحيح مذهب الجمهور أنه لا يعقدها إلا ولي الأمر أو من يقوم مقامه
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]