عرض مشاركة واحدة
  #258  
قديم 19-01-2023, 08:15 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,243
الدولة : Egypt
افتراضي رد: «عون الرحمن في تفسير القرآن» ------متجدد إن شاء الله

«عون الرحمن في تفسير القرآن»


الشيخ أ. د. سليمان بن إبراهيم اللاحم



تفسير قوله تعالى:﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ... ﴾

تفسير قال الله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ * الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 190 - 195].

قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا ﴾ الواو: استئنافية، والمقاتلة: المفاعلة من القتل، وهي ما يكون بين فريقين أو شخصين، والأمر للوجوب، وقد يكون القتال واجبًا عينيًّا، وقد يكون واجبًا على الكفاية، حسب الحال والحاجة.

﴿ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾؛ أي: في دين الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته- عز وجل- كما قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، أيُّ ذلك في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله»[1].

فالقتال المشروع ما كان في سبيل الله، وفق شرعه، ولإعلاء كلمته عز وجل.

﴿ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ أي: الذين يقاتلونكم من الكفار والمشركين، ممن يباشرون قتالكم حقيقة، أو حكمًا، ممن يساعدون على ذلك بالمال والرأي، ونحو ذلك.

وفي هذا بيان أن القتال إنما يكون لمن يُقاتِلون، دون من لا يقاتل كالنساء والصبيان ونحوهم.

وفيه إغراء وتهييج وتحريض للمؤمنين على القتال، كما قال تعالى بعد هذه الآية: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ [البقرة: 191].

وقال تعالى في سورة التوبة: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾ [التوبة: 5]، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ [التوبة: 36].

﴿ وَلَا تَعْتَدُوا ﴾ الاعتداء: تجاوز الحد المباح إلى المحرم؛ أي: ولا تعتدوا فتقتلوا من لم يقاتل من النساء والصبيان والرهبان وأصحاب الصوامع، ومن يبذلون الجزية ونحوهم، أو تغلوُّا، أو تغدروا، أو تمثلوا، أو تقتلوا الحيوانات، ونحو ذلك.

كما كان صلى الله عليه وسلم ينهى جيوشه عن ذلك، ففي حديث بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تُـمثِّلوا، ولا تقتلوا وليدًا»[2].

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: «اخرجوا باسم الله، قاتلوا في سبيل الله، من كفر بالله، لا تغدروا، ولا تَغُلُّوا، ولا تُـمَثِّلوا، ولا تقتلوا الولدان، ولا أصحاب الصوامع»[3].

وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة، فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبيان»[4].

وعن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ يقول: لا تقتلوا النساء والصبيان والشيخ الكبير، ولا من ألقى إليكم السلم، وكفّ يده، فإن فعلتم، فقد اعتديتم »[5].

ومن الاعتداء أيضًا: ابتداء القتال في الأشهر الحرم، وفي الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217].

وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ ﴾ [المائدة: 2]، وقال تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ [البقرة: 191].

﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ تعليل للنهي عن الاعتداء، أي: لأن الله - عز وجل - لا يحب المعتدين، بل يبغضهم، ويبغض ويكره الاعتداء، قال تعالى: ﴿ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا ﴾ [المائدة: 2].

وبالمقابل فهو- عز وجل- يحب أهل العدل، الذين لا يعتدون، كما قال تعالى: ﴿ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

قوله تعالى: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَاقْتُلُوهُمْ ﴾ الضمير «هم» يعود إلى الذين يقاتلوننا من الكفار.

﴿ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ «حيث» ظرف مكان، أي: في أي مكان ﴿ ثَقِفْتُمُوهُمْ ﴾ أي: وجدتموهم وظفرتم بهم. وهذا يستلزم العموم في الزمان والمكان، أي: واقتلوهم في أي مكان وزمان وجدتموهم، وظفرتم بهم، قتال دفاع، وقتال ابتداء، ولا يستثنى من ذلك إلا ما كان في الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ [البقرة: 191]، أو في الأشهر الحرم؛ لقوله تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾ [البقرة: 217]، وقوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ ﴾ [المائدة: 2].

﴿ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ ؛ أي: وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم منها، واضطروكم إلى الهجرة عنها، وأخرجوهم أيضًا من كل بلد أخرجوكم منه مجازاة لهم، على سبيل المقايضة والمجازاة، والجزاء من جنس العمل، كما قال تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا ﴾ [الشورى: 40].

﴿ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ ﴾ الفتنة في الأصل: الابتلاء والاختبار، والمراد هنا الفتنة في الدين بالكفر والشرك، وصد الناس عن دين الله، وإخراجهم منه، كما قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾، وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39].

وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ﴾ [البروج: 10]؛ أي: فتنوهم بصدهم عن دينهم، وتحريقهم بالنار.

﴿ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ أي: أعظم جرمًا من القتل الذي وقع منكم في الشهر الحرام، ومن قَتْلكم لمن يقاتلكم، كما قال تعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 217].

كما أن فتنة المؤمن في دينه أشد من قتله؛ لأن القتل غايته الموت، لكن الفتنة بصد الناس عن دينهم غايتها إيقاعهم بالكفر، الذي عاقبته النار وبئس القرار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [البقرة: 217].

ومن هنا يؤخذ أن غزو المسلمين فكريًّا، وإفساد عقائدهم وأخلاقهم، والتأثير على عقولهم أعظم جرمًا، وأشد ضررًا من الغزو العسكري.

والمصيبة أن هذا الغزو المُركَّز والمُسلَّط على المسلمين لطمس هويتهم الإسلامية يقع على أيدي كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام، ممن تربعوا على عروش كثير من وسائل الإعلام المشاهدة والمسموعة والمقروءة، ممن هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا، مصداق قوله صلى الله عليه وسلم لما سأله حذيفة رضي الله عنه وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال صلى الله عليه وسلم: «نعم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها»، قال حذيفة: قلت: يا رسول الله، صفهم لنا، قال: «هم من جنسنا ويتكلمون بلغتنا»[6].

﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ قرأ حمزة والكسائي وخلف: «ولا تقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقتلوكم فيه فإن قتلوكم» بدون ألف بعد القاف في المواضع الثلاثة، وقرأ الباقون بألف بعد القاف فيها: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾.

قوله: ﴿ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ ﴾ الواو: عاطفة، و«لا» ناهية، أي: ولا تقاتلوهم ابتداءً ﴿ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ أي: في مكة، داخل حدود الحرم، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السموات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار، وإنها ساعتي هذه، حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شجره، ولا يختلى خلاه، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم»[7].

﴿ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ﴾ «حتى» للغاية، والضمير في قوله: «فيه» يعود إلى المسجد الحرام، أي: حتى يقاتلوكم في الحرم، بأن يبدؤوا القتال بأنفسهم.

﴿ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: فإن قاتلوكم في الحرم- ولم يرعوا حرمة الحرم، فاقتلوهم فيه معاملة لهم بالمثل، ودفاعًا عن دينكم ودمائكم وأعراضكم وأوطانكم وأموالكم وحرمات المسلمين.

فنهى الله- عز وجل- المؤمنين عن ابتداء القتال في الحرم، وحرم ذلك عليهم حرمة للحرم وتعظيمًا له، وأمرهم بقتل من قاتلهم فيه؛ دفعًا للصائل ودفاعًا عن حرمات المسلمين، ومعاملة له بالمثل.

﴿ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ﴾ الإشارة للمصدر المفهوم من قوله: ﴿ فَاقْتُلُوهُمْ ﴾ أي: مثل هذا القتل، وهو قتل من قاتل عند المسجد الحرام ﴿ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾ أي: عقوبة الكافرين بالله، المكذبين لرسله وشرعه، وهي قتلهم في الدنيا- مع ما أعد لهم في الآخرة من العذاب الأليم في النار، كما قال تعالى: ﴿ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [السجدة: 21].

قوله تعالى: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾.

قوله: ﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: كَفوا عن قتالكم، أو عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك.

﴿ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ أي: فإن الله ذو مغفرة واسعة، يستر الذنب، ويتجاوز عن عقوبته, وذو رحمة واسعة: رحمة ذاتية ثابتة له- عز وجل- ورحمة فعلية يوصلها من شاء من خلقه: عامة، وخاصة.

وهذه الجملة كالتعليل لما قبلها، أي: فإن انتهى الكفار عن قتالكم، فكفوا عن قتالهم، وتجاوزوا عنهم.

أو فإن انتهوا وتابوا عمّا هم عليه من قتالكم ومن الكفر والشرك فإن الله- عز وجل- يغفر لهم ما سلف منهم، ويستر عليهم، ويتجاوز عنهم، ويرحمهم، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ ﴾ [الأنفال: 38].

وفي حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «يا عمرو، أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله»[8].

فبمغفرته- عز وجل- ورحمته الواسعتين يستر ذنوب من كفوا عن قتال المؤمنين، وعن الكفر والصد عن دين الله، ودخلوا في الإسلام، ويرغب عباده بالتجاوز عنهم، قال تعالى: ﴿ قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ﴾ [الزمر: 53].

بل ويبدِّل سيئاتهم حسنات، كما قال تعالى: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 70].

والرحمة سبب للمغفرة، والمغفرة من آثار رحمته- عز وجل- وقدم المغفرة على الرحمة؛ لأن التخلية قبل التحلية، فبالمغفرة زوال المرهوب، وبالرحمة حصول المطلوب.
قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ تأكيد للأمر بقتالهم، وبيان المقصود من القتال في سبيل الله، وأنه ليس المقصود به سفك دماء الكفار، وأخذ أموالهم، وإنما المقصود به ﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾.

قوله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ﴾ أي: وقاتلوا الكفار الذين يقاتلونكم.

﴿ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ «حتى» للغاية، و«كان» تامة، أي: حتى لا توجد فتنة، أي: حتى لا يوجد صد للناس عن دين الله إلى الكفر والشرك.

قال الإمام أحمد- رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [النور: 63]: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك»[9].

فالمعنى: وقاتلوهم، حتى لا يُفتن الناس في دينهم ويُصَدون عنه.

عن نافع: أن ابن عمر رضي الله عنهما أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير، فقالا: إن الناس قد ضُيِّعوا، وأنت ابن عمر، وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ فقال: «يمنعني أن الله حرم دم أخي. فقالا: ألم يقل الله: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾؟ فقال: قاتلنا حتى لم تكن فتنة، وكان الدين لله، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة، ويكون الدين لغير الله».

وفي رواية: «أن رجلًا أتى ابن عمر، فقال: يا أبا عبدالرحمن، ما حملك على أن تحج عامًا وتعتمر عامًا، وتترك الجهاد في سبيل الله- عز وجل- وقد علمت ما رغب الله فيه؟ قال: يا ابن أخي، بني الإسلام على خمس: إيمان بالله ورسوله، والصلوات الخمس، وصيام رمضان، وأداء الزكاة، وحج البيت. قال: يا أبا عبدالرحمن، ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].

﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ ﴾ قال: فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلًا فكان الرجل يفتن في دينه، إما قتلوه، وإما يعذبونه، حتى كثر الإسلام، فلم تكن فتنة»[10].

﴿ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ﴾ أي: ويكون الدين الظاهر والعبادة والطاعة لله وحده، كما قال تعالى في سورة الأنفال: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ [الأنفال: 39]، وقال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].

فالحكمة من إيجاب القتال في سبيل الله؛ حتى لا يفتن الناس ويُصدوا عن دينهم بالكفر والشرك، وليكون الدين كله لله وحده.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أمرت أن أقاتل الناس، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله»[11].

وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل ﷲ»[12].

وفي قوله: ﴿ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ دلالة على أنه لا يقبل من أحد أن يدين لغير الله، أي: لا يقبل من أحد أن يدين بغير الإسلام، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]، وقال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ﴾ [آل عمران: 19].

﴿ فَإِنِ انْتَهَوْا ﴾ أي: فإن انتهوا عن كفرهم، وقتالكم، وما هم عليه من الظلم، والصد عن دين الله، ودخلوا في دين الله، أو بذلوا الجزية.

﴿ فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ﴾ أي: فكفوا عنهم ولا تقاتلوهم؛ لأن العدوان لا يجوز إلا على الظالمين، الكفار المقاتلين.

والمراد بالعدوان على الظالمين: المقاتلة لهم، أي: لا مقاتلة إلا للظالمين، وإنما سمي قتال الظالمين «عدوانًا» من باب المشاكلة، ومقابلة الشيء بمثله لفظًا؛ لأنه سببه، كما في قوله تعالى: ﴿ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [البقرة: 194]، وقوله تعالى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]، وقوله تعالى: ﴿ وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [الشورى: 40].

وليس معناه أن مقاتلة الظالمين من العدوان، بل هي من الحق الواجب، لكن فيه إشارة واضحة إلى أن قتالهم بعد انتهائهم عما هم عليه من الظلم، هو من العدوان عليهم والظلم لهم.

وقيل: معنى ﴿ فَلَا عُدْوَانَ ﴾ أي: فلا سبيل، كما في قوله تعالى في قصة موسى: ﴿ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص: 28]؛ أي: فلا سبيل عليَّ.

والظلم في الأصل: النقص، كما قال تعالى: ﴿ كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا ﴾ [الكهف: 33]؛ أي: ولم تنقص منه شيئًا.

وهو أيضًا: وضع الشيء في غير موضعه، على سبيل العدوان، وأظلم الظلم الشرك بالله، كما قال لقمان لابنه: ﴿ وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [لقمان: 13].

قوله تعالى: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾.

منع المشركون رسول الله وأصحابه عام الحديبية، سنة ست من الهجرة، في ذي القعدة، من دخول مكة، وصدوه عن البيت، فقاضاه الله، وأقصه منهم سنة سبع من الهجرة، في شهر ذي القعدة، فدخل مكة، وقضى عمرته، فأنزل الله - عز وجل - قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ [13].

قوله: ﴿ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ ﴾ «أل» في «الشهر» للجنس؛ لأن الشهر الحرام ليس شهرًا واحدًا وإنما هي أربعة أشهر، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ ﴾ [التوبة: 36]، وهي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب، كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار، كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»[14].
يتبع






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 46.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 46.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]