عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 18-01-2023, 10:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي

شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب المناسك)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (254)

صـــــ(1) إلى صــ(16)

شرح زاد المستقنع -‌‌ كتاب الجهاد [1]
شرع الله الجهاد لتبقى كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، وهذا يكون الجهاد في بعض الأحيان فرضاً عاماً دون تعيين، وتارة يتعين على بعض الأشخاص، بحسب الحاجة والمصلحة، وهذا كله مبين في النصوص الشرعية بضوابطه وقيوده
‌‌تعريف الجهاد وأهميته ومشروعيته
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] الجهاد في اللغة: مأخوذ من مادة جَهَد، وأصل الجَهْد: بذل الوسع والطاقة في تحصيل الأمر، ولا يقال ذلك إلا لأمرٍ عظيم، فيقال: اجتَهَدَ في حمل الصخرة، ولا يقال: اجتهد في رفع الخردلة، فلا يكون الجهاد إلا في الأمر العظيم الذي يحتاج إلى مشقة وعناء.
وأما في الاصطلاح: فهو بذل الوسع واستفراغه في قتال أعداء الله؛ لإعلاء كلمة الله عز وجل.
وهذه الشعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وهي ذروة سنام الإسلام كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت الآيات والأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين فضل هذه الشعيرة، وما أعد الله لأهلها من ثواب في الدنيا والآخرة.
وقول المصنف رحمه الله: [كتاب الجهاد] أي: في هذا الموضوع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد
‌‌مناسبة وقوع كتاب الجهاد بين كتابي الحج والبيوع
لعل سائلاً يسأل: ما هي مناسبة كتاب الجهاد لكتاب الحج؟
و
‌‌الجواب
أنك إذا تأملت كتاب الحج وجدته كتاباً متعلقاً بالعبادة فيما بين الإنسان وربه.
وأما بالنسبة للجهاد فإنه عبادة؛ ولكنه يشتمل على شيء من المعاملة.
ولذلك يرد

‌‌السؤال
ما وجه ذكر المصنف لكتاب الجهاد بعد الحج؟ والجواب: أن المناسبة في ذلك منتزعة من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما سألته أم المؤمنين عائشة، فقالت: (يا رسول الله، هل على النساء من جهاد؟ قال: نعم.
عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة).
فلما فرغ من الحج -وهو العبادة التي تشتمل على المعاني العظيمة من الجهاد- ناسب أن يتبعه بالجهاد في سبيل الله عز وجل؛ لاشتمال هاتين العبادتين على بذل الوسع واستفراغه في طلب مرضاة الله سبحانه وتعالى، فهما عبادتان بالنفس وبالمال؛ ولكن الجهاد من أعظم الأعمال وأحبها إلى الله، وهو أفضل من الحج، ولذلك سئل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: إيمان بالله، ثم جهاد في سبيله، ثم حج مبرور) فجعل منزلة الحج بعد منزلة الجهاد في سبيل الله عز وجل.
فلما فرغ -رحمه الله- من بيان مسائل الحج ناسب أن يعتني ببيان مسائل الجهاد.
ثم انظر -رحمك الله! - إلى دقة هذا العالم الجليل، وفقهه، وحسن ترتيبه للأبواب، فإنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الجهاد، ومن تأمل كتاب البيع وجده مشتملاً على المعاملة المحضة؛ لأنه يتعلق ببذل السلع، سواءً كانت من المثمونات، أو من الأثمان بعضها ببعض، فهو معاملة محضة، والحج عبادة محضة، فلو أنه ذكر كتاب البيع بعد كتاب الحج، لكان البون شاسعاً بين البابين، فمن الصعوبة بمكان أن تنتقل من باب يتعلق بالعبادة المحضة إلى باب يتعلق بالمعاملة المحضة -لأن أمور البيع تتعلق بالدنيا كما لا يخفى، ولذلك لا يكون البيع قُربة إلا إذا قصد الإنسان الطاعة فيه والامتثال- فناسب أن يدخل بين الحج وبين البيع باباً متوسطاً، وهو باب الجهاد حيث إن فيه وجهاً من التعبد وفيه وجهاً من المعاملة، فينتقل الفقيه من العبادة المحضة إلى المعاملة المحضة بوسيط بينهما، وبعض العلماء يدخل باب النكاح لكي يكون رابطاً بين أبواب العبادات وأبواب المعاملات، ولكلٍ وجهة؛ ولكن إدخال كتاب الجهاد أنسب وأفضل، خاصة وأن السنة قد أشارت للترابط بين الحج وبين الجهاد
‌‌فرضية الجهاد
يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد] هذه الشعيرة شَرَعَها الله سبحانه وتعالى لحكمٍ عظيمة، وأسرارٍ جليلةٍ كريمة، وبيَّن سبحانه وتعالى هذه الشعيرة ودعا إليها في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمعت الأمة على أن الجهاد يعتبر شعيرةً من أعظم شعائر الإسلام، وأحبِّها إلى الله سبحانه وتعالى، وشَرَعَ الله عز وجل الجهاد في المدينة، أما عندما كان المسلمون بمكة فلم يُفرض الجهاد عليهم، ولكنهم لما انتقلوا إلى المدينة فرض الله عليهم الجهاد، وإنما لم يوجب الله عزَّ وجلَّ عليهم الجهاد بمكة لضعفهم وعدم تمكُّنهم من ذلك، وإنما يكلف الله عز وجل العباد ما في وسعهم، والشريعة شريعة رحمة، وتيسير، وليست بشريعة عنت ولا تعسير، ولذلك لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة -دار الهجرة- وآزره ونصره الأنصار، واستقر عليه الصلاة والسلام بالمدينة، أذن الله له بالجهاد في سبيله، {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج:39] فكتب الله عز وجل الجهاد والقتال، فقال سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216] وهي آية من سورة البقرة المدنية، والسبب في ذلك أن الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: ممتنع عن الإسلام للشُّبَه والعوارض المتعلقة بفكره، فهذا يحتاج إلى قوة الحجة، وبيان السبيل والمحجة، فتكفل الله عز وجل ببيان ذلك في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وجهاد أمثال هؤلاء -غالباً- يتعلق بالعلماء وطلاب العلم؛ فعليهم أن يبينوا لهم سبيل الله عز وجل، ويبينوا لهم ما في الإسلام مِن سماحة ومِن يسر، وأن يزيلوا عنهم الشبه، حتى تطمئن قلوبهم لدين الله، وتنشرح صدورهم لكلمة الله، فينالوا سعادة الدنيا والآخرة.
وأما القسم الثاني من الممتنعين عن الإسلام: فهم أقوام تغريهم المادة، يحتاجون إلى الدنيا ويطمعون فيها، فإذا أُغْرُوا بالمال أحبوا الإسلام وأقبلوا عليه، فبعدها إذا رأوا قوته وصدقه اطمأنت قلوبهم بدون الدنيا، وهؤلاء هم المؤلفة قلوبهم، وقد أعطاهم الله عز وجل حظاً في الزكاة، وجعل لهم سهماً من سهامها، وفعل ذلك نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه -بأبي هو وأمي- يوم حنين، فأعطى عطاءَ مَن لا يخشى الفقر، فاطمأنت قلوب المؤلفة قلوبهم حتى وثقوا بدين الله، واستسلموا لشرع الله عز وجل.
وأما القسم الثالث: فهم الذين يعاندون ولهم منعة وقوة، فيحتاجون إلى كسر الشوكة، وإرغام الأنوف، فإذا أرغمت أنوفهم على الإسلام ورأوا قوة الإسلام، أذعنوا وذلوا لله واستسلموا، فهذا القسم يحتاج إلى جهاد، ويحتاج إلى قوة وتضحية، وبيع للأنفس في سبيل الله عز وجل، وهي التجارة التي لا يبور أصحابها، وقد تكفَّل الله لمن خرج لها: إما أن ينال الشهادة فتقر عينه بجنة عرضُها كعرض السماء والأرض، وبما تكفَّل الله له به من رضوان مقيم، وهو أكبر من ذلك النعيم، وتكفَّل الله له بالفضائل في برزخه، وفي حشره ونشره، فينال بذلك البيع سعادةَ الدنيا والآخرة.
وإما أن يرجع إلى أهله سالماً، نائلاً ما نال من الغنيمة وسهم الدنيا العادل، مع ما ينتظره عند الله سبحانه وتعالى من الأجر.
وقد جاهد رسول الأمة صلى الله عليه وسلم، وجاهد الخلفاء الراشدون، وجاهد السلف الصالح من هذه الأمة، ولم تزل هذه الشعيرة باقية، ولا تزال إلى يوم القيامة، ليجاهدوا مَن كفر بالله ورسوله، حتى يدين بدين الحق، و {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال:39].
والإسلام دين سماحة ويسر؛ ولكن السماحة واليسر إذا وضعت في غير موضعها كانت جُبناً وخَوَراً، ولذلك هو دين رحمة ويسر وسماحة لمن يستحق الرحمة ولمن هو أهل أن يُرْأَف به، وأما من كفر بالله ورسوله وعادى الله ورسوله، وأعلن البراءة من دين الله، فقد كفر نعمة الله عز وجل عليه، واعتدى على حدود الله، وخرج عن الأصل الشرعي الذي من أجله أوجده الله في هذا الوجود، وهو توحيدُ الله وإفرادُه بالعبادة، فاستحق أن يُزال من هذا الوجود، لتبقى كلمة الله هي العليا.
وفي هذا الجهاد حِكَمٌ عظيمة، وأسرار جليلة كريمة، فإن المسلمين إذا لم يغزوا أعداء الله غزاهم أعداء الله، فإن القلوب فيها حنق وغيظ على هذا الدين، وأصحاب الحق على مر الزمان وتعاقبه وتتابع الدهور لا يمكن أن يسلَموا من أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك جعل الله عزة هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله عز وجل، وجعل كرامتها في إقامة هذه الشعيرة العظيمة، ومَن تأمل حال المسلمين وجد أنهم إذا قاموا بهذا الأمر العظيم قام لهم أمر الدين والدنيا والآخرة، ونالوا سعادة الدنيا والآخرة، وأعزهم الله وقذف الرعب في قلوب أعدائهم، وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (نصرت بالرعب مسيرة شهر -وفي رواية-: مسيرة شهرين) قال العلماء: إن هذا الرعب الذي يقذفه الله في قلوب أعداء الإسلام، هو للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، فمن استقام على دين الله واستسلم لله ظاهراً وباطناً، فإن الله يُعِزُّه ويَرْفَعُ شأنَه، ويُعْظِمُ شأوَه، ويجعل له كرامةَ الدنيا والآخرة
‌‌أقسام الجهاد
والجهاد منقسم إلى أقسام: الأول: يكون بالجَنان.
الثاني: ويكون باللسان.
الثالث: ويكون بالجوارح والأركان.

فأما جهاد الجَنان: فهو بغضهم في الله، وعداوتهم في الله عز وجل، فمَن أحب في الله وعادى في الله فقد ذاق طعم الإيمان وحلاوته، ولا يمكن أن ينال العبد ولاية الله سبحانه حتى يحب بحب الله، ويبغص ببغض الله، فإذا فعل ذلك فإنه ينال حلاوة الإيمان، ويجد طعم الإسلام الذي أسلم به لله عز وجل ظاهراً وباطناً.
وأما الأمر الثاني: فهو جهاد اللسان، وهذا أعظم ما يكون وأكمل ما يكون من العلماء العاملين والأئمة الصديقين، الذين هم هداةٌ مهتدون، يقولون {بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف:159] {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} [الأحزاب:39]، فأعداء الله يحتاجون إلى جهاد الكلمة، ومما يدخل في جهاد الكلمة جهادُ الشعراء وقولُ الشعر، وتأليفُه ونَظْمُه لنصرة دين الله وإعزازه، ورفع كلمة الله عز وجل، وشحذ الهمم إلى مرضاة الله، وتقوية الإيمان في القلوب، وقد أثنى الله عز وجل على هذا الصنف، كما ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه (لما نزل قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] جاء كعب بن مالك وحسان بن ثابت رضي الله عنهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: قد علمتَ ما أنزل الله في الشعراء، فأنزل الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227]) فاستثنى الله عز وجل هؤلاء؛ لأن هذا من جهاد الكلمة.
وأما النوع الثالث: فهو جهاد الجوارح والأركان، وهذا هو المقصود هنا بقول الفقهاء: (كتاب الجهاد)، فإنهم يبينون الأحكام التي ينبغي للمسلم أن يلم بها إذا أراد القيام بهذه الشعيرة.
فالجهاد في سبيل الله عز وجل له ترتيبه، وله ضوابطه، وله أحكامه ومسائله، وقد بيَّن الله عز وجل هذه المسائل والأحكام في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وبيَّن السلف الصالح ومَن بعدهم أحكامَ الجهاد، وفصَّلوها في كتبهم
‌‌حكم الجهاد
يقول رحمه الله: [كتاب الجهاد]: أي: في هذا الموضع سأذكر لك جملة من الأحكام والمسائل التي تتعلق بشعيرة الجهاد
‌‌الجهاد فرض كفاية
[وهو فرض كفاية] (وهو) الضمير عائد على الجهاد، وأما حكمه (فرض كفاية).
أما كونه فرضاً: فلأن الله أمر به، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:123]، وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التحريم:9]، وكذلك ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اغزوا في سبيل الله)، والعلماء -رحمهم الله- مجمعون على فرضية الجهاد من حيث الجملة، وجماهيرهم على أنه فرض كفاية؛ ولكن ذهب بعض السلف إلى أنه فرض عين، وهذا القول احتج أصحابه بعموم الآيات التي فيها الأمر بالجهاد في سبيل الله عز وجل، والتي فيها الأمر بالنفير، وقتال أعداء الله عز وجل؛ ولكن هذا القول يعتبر مرجوحاً؛ لأن النصوص دالة على أن الجهاد ليس بفرض عين، وإنما هو فرضٌ على الكفاية، والدليل على ذلك ما ثبت عن ابن عباس -رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن- أنه ذكر آيات النفير التي في سورة التوبة -وهي أقوى الحجج لمَن قال بفرضية العين، ويقول به أفراد من العلماء وبعضُ السلف، وهم قلة جداً- وقال: نسخها قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122] فإن هذه الآية الكريمة التي هي في آخر سورة التوبة قد بيَّن الله سبحانه وتعالى فيها أن الجهاد ليس بفرض عين، حيث قال تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً} [التوبة:122]، ولو قلنا بظاهر قوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] ونحو ذلك من الآيات الموجبة للجهاد، فإن معنى ذلك أن ينفر المسلمون كافة، ولذلك قال ابن عباس: نسخها قول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة:122] فجعل النفير مختصاً بالبعض دون البعض، ولذلك ذهب جماهير الأمة من السلف والخلف إلى أن الجهاد يعتبر فرضاً على الكفاية، بمعنى: أنه لو قام به البعض سقط الإثم عن الباقين.
وعلى هذا: فإن المعتبر به قيام مَن تنسد به الحاجة، وإنما يتعين الجهاد في أحوال ثلاث، وهذه الأحوال وردت النصوص في كتاب الله وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم تبيِّن فرضية الجهاد فيها على العين، وأن مَن كان مِن أهلها تعين عليه أن يجاهد، وسيأتي بيانها ويذكرها المصنف رحمه الله.
قوله رحمه الله: (وهو فرض كفاية)، ابتدأ ببيان حكم الجهاد وأنه واجب على الكفاية أي: إذا وجد مَن يسد الثغر ويقوم به، سقط الإثم عن الباقين، وإلا أثم الكل.
قوله: [ويجب إذا حضره، أو حصر بلده عدوٌّ، أو استنفره الإمام] قال رحمه الله: (ويجب إذا حضره) قوله: (ويجب) أي: يتعين.
قبل أن ندخل في تفصيلات المسائل، يحسن بنا أن نبين على مَن يجب الجهاد؟
‌‌الشروط التي يجب بها الجهاد
يجب الجهاد ويفرض على من توفرت فيه الشروط التالية: أولها: الإسلام: لأن الله عز وجل خاطب به المسلمين دون غيرهم.
وثانيها: البلوغ: فإن الصبيان لا يجب عليهم أن يجاهدوا في سبيل الله عز وجل، ولذلك رد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر عن الغزو لصغر سنه، ففي الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أنه قال: (عُرِضت على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد، فلم يجزني -وفي رواية للبيهقي: ولم يرني قد بلغت- وعُرِضت عليه يوم الخندق، فأجازني.
وفي رواية: ورآني قد بلغتُ) ولقد أخذ العلماء من هذا دليلاً على أن الجهاد لا يجب على الصبيان؛ ولأن الأحكام والتكاليف إنما تجب على من بلغ الحلم، قال عليه الصلاة والسلام: (رفع القلم عن ثلاثة.
-وذكر منهم- وعن الصبي حتى يحتلم) فدل على أن الصبي لا يتعين عليه فعل الواجبات ولا يجب عليه الجهاد، ولكن لو تطوع الصبي ودخل إلى المعركة، أو احتيج إليه فدخل فيها، فهذا لا بأس به؛ لكن أن يؤمر بذلك أو يُحمل عليه، فهذا تحميل له لما لا يطيقه، وهو من المستضعفين الذين استثناهم الله عز وجل وعذرهم في كتابه.
الشرط الثالث: العقل: فلا يجب الجهاد على مجنون، فإن المجنون لا يستطيع أن يحصل مصلحة نفسه، فكيف بالقيام بالجهاد في سبيل الله، وإذا سقط التكليف عن المجنون بالإجماع وبقوله عليه الصلاة والسلام في الثلاثة الذين رفع عنهم القلم كما في الحديث الصحيح: (وعن المجنون حتى يفيق)، فبالإجماع لا يجب الجهاد على مجنون.
الشرط الرابع: أن يكون ذكراً: وأما النساء فلا يجب عليهن الجهاد، ولا يقاتلن؛ ولكن إذا خرجن لنفع المجاهدين، بسقي العطشى، ومداواة الجرحى والمرضى بالضوابط الشرعية فلا بأس، ففي الحديث الصحيح عن أم عطية رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، نداوي الجرحى، ونسقي المرضى) ولذلك قال العلماء: إن المرأة تداوي الرجل في مثل هذه الحالة؛ لأنه من شدة الألم ووجود الجرح، يعزب عنه رشده، ويذهب عنه إدراكه، فيكون منشغلاً بالألم عن الفتنة، ومن هنا كان من مرونة الشريعة إباحة ذلك لوجود الحاجة، وتعلق ما يقصده الشرع من جلب المصلحة ودرء المفسدة بوجودها، كذلك أيضاً: ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما جُرِح، وشُجَّ -بأبي هو وأمي- يوم أحد، وجَعَل الدم ينزف، جاءت فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، فكانت تصب من الدرقة عليه صلوات الله وسلامه عليه والجرح ينزف، حتى أخذت حصيراً فأحرقته ثم سدت به الجرح فاندمل ووقف الدم، فهذا يدل على أنه لا بأس بشهود النساء الغزو لمصلحة، مع أمن الفتنة والمحافظة على الضوابط الشرعية.
الشرط الخامس: الحرية: فالعبيد والإماء لا يجب عليهم الجهاد لانشغالهم بخدمة أسيادهم.
الشرط السادس والأخير: القدرة على الجهاد في سبيل الله عز وجل:- فأما مَن كان مريضاً أو كان شيخاً كبيراً في السن، فأمثال هؤلاء لا يجب عليهم الجهاد، وهكذا إذا احتيج في الجهاد إلى مركب، وليس عنده مركب، ولا يستطيع أن يمشي على رجليه، {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92]، فكان الصحابة -رضوان الله عليهم- فقراء الأيدي؛ ولكنهم أغنياء في قلوبهم بالله عز وجل، وكان الرجل منهم قد لا يجد إلا لباسه الذي يواري به سوأته وعورته، وقد يمر عليه اليوم واليومان ولا يجد طعاماً، ولا يجد إلا قدر كفايته، فكان الرجل منهم يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله أن يخرج إلى الجهاد، فيعتذر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه لا يجد مركباً يُرْكِبُه عليه، فمن قوة إيمانه وحبه لله ورسوله وحبه لهذا الدين وحبه للشهادة في سبيل الله عز وجل يبكي بكاءً شديداً {تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} [التوبة:92]، فجمع الله لهم في هذه الآية بين أمرين: بين حزن القلب.
وحزن القالب.
فحزن القلب في قوله: (حَزَناً)، وحزن القالب في إفاضة العين من الدمع، يقال: فاض الوادي إذا كثر ماؤه، فقال الله عز وجل: (تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ) ولم يقل: تدمع، وإنما قال: (تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ)، فهذا يدل على كمال حبهم لله عز وجل، وإيثارهم لمرضاة الله سبحانه وتعالى على حظوظ النفس.
فإذا كان الرجل لا يجد الطاقة والقوة على أن يغزو راجلاً، ولم يجد ما يركبه، فإنه حينئذٍ يعتبر معذوراً، فإن خرج من لا يجب عليه الغزو، كشيخ كبير أو مريض، أو خرج مَن لا يجد المركب، فمشى على قدميه، فهذا فضل منه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فهذه الشروط ينبغي توفرها للحكم بفرضية الجهاد، فلا يجب الجهاد إلا إذا توفرت هذه الشروط، ولا يصير على الإنسان فرضاً إلا إذا استجمع هذه الشروط المعتبرة لفرضيته
‌‌الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين
وقوله رحمه الله: (ويجب إذا حضره) يقال: حضر الشيء إذا شهده، وهناك أحوال للجهاد في سبيل الله: منها حالة الخروج للجهاد.
ومنها حالة شهود الوقعة
‌‌إذا التقى الصفان وتقابل الزحفان

فأما الحالات التي يصير الجهاد فيها فرض عين: أولها: أن يشهد الوقعة، ويكون حاضراً فيها، وهذا يعبر عنه العلماء رحمهم الله بجمل مختلفة: فمنهم مَن يقول: (يجب إذا حضره)، أي: حضر الوقعة، كما عبر به المصنف رحمه الله.
ومنهم مَن يقول: (إذا التقى الصفان).
ومنهم مَن يقول: (إذا تقابل الزحفان).
والمعنى واحد، وهو: أن يحضر الوقعة، ويقابل العدو، فإذا لقي العدو فإنه لا يجوز له أن يتولى، وهذا من التولي يوم الزحف، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16]، فحرم الله عز وجل على مَن لقي العدو أن ينكص على عقبيه، فإذا نكص على عقبيه فقد خسر الدنيا والآخرة، إلا فيما استثناه الله عز وجل.
قال العلماء: إن هذه الآية الكريمة نصٌّ في وجوب الجهاد ووجوب القتال على من قابل العدو ولقيه، فما عليه إلا أن يصبر، وأن يتوكل على الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ} [الأنفال:45]، فأمر الله بأمرين: الأمر الأول: يتعلق بالقلوب: وهو ما عناه سبحانه بقوله: (فَاثْبُتُوا).
وأما الأمر الثاني: فما يجمع بين القلب والقالب (وَاذْكُرُوا اللَّهَ) فإن رأيتم عظَمةً من عدو الله فاعلموا أن الله أعظم، وإن كبُر في أعينكم فالله أكبر وأجل سبحانه وتعالى، يَغلِب ولا يُغلَب وهو القوي العزيز.
فإذا تقابل الزحفان، فإنه يتعين الجهاد بإجماع العلماء، وفي هذه الحالة إذا فر الإنسان أو عَدَل عن الجهاد، أو انخذل -والعياذ بالله- إلا فيما استثنى الله عز وجل -المتحرف للقتال، أو المتحيز إلى فئة- فإنه يبوء بغضب من الله، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اجتنبوا السبع الموبقات -أي: المهلكات، نسأل الله السلامة والعافية! فإنها تهلك صاحبها- وذكر منها: والتولي يوم الزحف)، فالتولي يوم الزحف فيه غضب الله وسخطه، قال العلماء: لأنه يدل على الخوف من أعداء الله، وخذلان دين الله؛ لأن العدو ينظر للإسلام بمن حظر الوقعة، فإذا كان أهل الإسلام على ثبات وقوة كان ذلك أرضى لله سبحانه وتعالى، وأعلى لدينه، وأقوى شكيمةً في وجه العدو، وأقوى بأساً في طاعة الله عز وجل ومرضاته، والله يحب الذين يجاهدون ويُظْهِرون القوة والجَلَدة في جهادهم، فإذا أظهر الخذلان، ونكص على عقبيه، فإن هذا -نسأل الله السلامة والعافية- خذلان لدين الله وخذلان لعباد الله، فإنه إذا تولى خذَّل غيره، وإذا جبُن فإنه يُضعِف غيره، بخلاف ما إذا ثبت، وذكر الله سبحانه وتعالى وقويت عزيمته على الخير وطاعة الله ومرضاته، فإنها تقوى عزائم مَن معه، وإذا تولى وكان قدوة للغير فالأمر أعظم وأشد: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت:13] نسأل الله السلامة والعافية! والعكس بالعكس، فإذا ثبت وثبت الناس بثباته، وقووا بقوته وصبره وجَلَده، فإنه ينال أجره وأجر من كان معه.
فهذه هي الحالة الأولى التي يتعين الجهاد: إذا تقابل الزحفان والتقى الصفان، وهذا بإجماع العلماء رحمهم الله.
وفي هذه الحالة لا يجوز له أن ينسحب أو يترك اللقاء إلا بإذن خاص من الإمام، فإذا كانت للإمام أو القائد مصلحة في أن يبعثه في طلب غوثٍ، أو نجدةٍِ، أو يبعثه في أمر يتعلق بمصلحة الجيش أو نحو ذلك، فإنه لا بأس أن يتخلف عن شهود هذه الوقعة والله يكتب له أجرها؛ لأنه تخلف لعذر، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة العسرة التي هي من أشد الغزوات على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنها كانت في شدة الحر، وابتلى الله عز وجل فيها المسلمين بلاءً شديداً، فلما قطعوا المسافات الشاسعة وابتعدوا عن المدينة، ووصلوا إلى تخوم الشام، إذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بالمدينة رجالاً، ما سلكتم شِعباً، ولا قطعتم وادياً، إلا كانوا معكم وشاركوكم الأجر، قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر) فمن حُبِس عن وقعةٍ لعذر فأجره كامل
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.68 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.05 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]