
03-01-2023, 04:17 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,450
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 235)
من صــ 220 الى صـ 230
قال - تعالى -:
{وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل قاتلهم الله أنى يؤفكون} [التوبة: 30].
وقال - تعالى -:
{قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون} [آل عمران: 64].
فالمسلمون لم يهملوا روح القدس، وكلمة الله، وقد قال - تعالى - عن كلمة الله:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته} [النساء: 159].
، بل هم الذين اتبعوا دينه ودين الرسل قبله فإن دين الأنبياء - عليهم السلام - جميعهم واحد كما ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنا معاشر الأنبياء ديننا واحد.
وقد قال - تعالى -:
{شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} [الشورى: 13].
فدين المرسلين كلهم دين واحد، ويتنوع شرعهم ومناهجهم كتنوع شريعة الرسول الواحد، فإن دين المسيح هو دين موسى، وهو دين الخليل قبلهما، ودين محمد بعدهما، مع أن المسيح كان على شريعة التوراة ثم نسخ الله على لسانه ما نسخ منها وهو قبل النسخ وبعده دينه دين موسى ولم يهمل دين موسى.
كذلك المسلمون هم على دين المسيح وموسى وإبراهيم وسائر الرسل وهم الذين اتبعوا المسيح ولهذا جعلهم الله فوق النصارى إلى يوم القيامة.
والنصارى الذين بدلوا دين المسيح وكذبوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بريئون من دين المسيح والمسيح بريء منهم، كبراءة موسى ممن بدل وغير دينه وكذب المسيح.
والمسلمون أشد تعظيما للمسيح - عليه السلام - واتباعا له بالحق ممن بدل دينه وخالفه من النصارى، فإن المسلمين يصدقونه في كل ما أخبر به عن نفسه ولا يحرفون ما قاله عن مواضعه، ولا يفسرون كلامه بغير مراده، وكلام غيره من الأنبياء كما فعلت النصارى، فإنهم نقلوا عن المسيح أنه قال عمدوا الناس باسم الأب والابن وروح القدس، وهذا إذا قاله المسيح فإنه يفسر بلغته وعادته في خطابه وعادة سائر الأنبياء، (وليس في كلام المسيح ولا في كلام سائر الأنبياء ولا كلام غيرهم أن كلمة الله) القائمة بذاته سبحانه و - تعالى - تسمى ابنا، ولا روح قدس، ولا تسمى صفته القديمة ابنا، ولا روح قدس، ولا يوجد قط في كلام الأنبياء اسم الابن واقعا إلا على مخلوق.
والمراد في تلك اللغة أنه مصطفى محبوب لله، كما ينقلونه أنه قال لإسرائيل: (أنت ابني بكري)، ولداود (أنت ابني وحبيبي)، وأن المسيح قال للحواريين (أبي وأبيكم)، فجعله أبا للجميع، وهم كلهم مخلوقون فيكون اسم الابن واقعا على المسيح الذي هو ناسوت مخلوق، فعمد هؤلاء الضلال فجعلوا اسم الابن واقعا على اللاهوت، قديم أزلي مولود غير مخلوق.
وزعموا أن الابن يراد به الابن بالوضع، وهو المخلوق، وهو الابن بالطبع، وهو القديم الأزلي المولود غير المخلوق، وهذا التفريق هم أحدثوه وابتدعوه ولا يوجد قط في كلام المسيح ولا غيره أنه سمى القديم الأزلي ابنا، ولا جعل له ابنا قديما مولودا غير مخلوق، ولا سمى شيئا من صفات الله قط ابنا.
وكذلك لفظ روح القدس موجود في غير موضع من كلام الأنبياء - عليهم السلام - لا يراد بهذا قط حياة الله ولا صفة قائمة به.
وإنما يراد به ما أيد الله به الأنبياء والأولياء، ويجعله في قلوبهم من هداه ونوره ووحيه وتأييده، ومما ينزل بذلك من الملائكة، وهذا الذي تسميه الأنبياء روح القدس لم يختص به المسيح، باتفاق المسلمين وأهل الكتاب، بل قد أنزله على غيره من الأنبياء والصالحين كما هو موجود في كتبهم: إن روح القدس كانت في داود وغيره، وكانت أيضا عندهم في الحواريين.
وهكذا خاتم الرسل، كان يقول لحسان بن ثابت: «إن روح القدس معك ما دمت تدافع عن نبيه»، ويقول «اللهم أيده بروح القدس».
وقد قال الله - تعالى - عن عباده المؤمنين:
{لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه} [المجادلة: 22].
فروح القدس لا اختصاص للمسيح - عليه السلام - بها، بل ما يفسر به اسم الابن واسم روح القدس، وغير ذلك مما وصف به المسيح فهو مشترك بينه وبين غيره من الرسل، وإذا فسروا الحلول بظهور نور الله وعلمه وهداه في الأنبياء فهذا حق وهو مشترك بين المسيح وغيره.
فأما نفس ذات الله فلم تحل في أحد من البشر.
والمسلمون مع شهادتهم للمسيح بأنه عبد الله ورسوله يقولون: إنه مؤيد منصور عصمه الله من أعدائه وطهره منهم، ولم يسلطهم عليه.
والنصارى يدعون أن اسم المسيح اسم اللاهوت والناسوت وأنه إله تام وإنسان تام، وهذا يمتنع شرعا وعقلا ثم يصفونه بالصفات المتناقضة، يصفونه بأن طائفة من أشرار اليهود وضعوا الشوك على رأسه وبصقوا في وجهه، وأهانوه وصلبوه وفعلوا به ما لا يفعل بأخس الناس، ويقولون مع هذا: إنه رب السماوات والأرض وما بينهما.
(فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا (160)
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
وكذلك من قال من العلماء: إنه حرم على جميع المسلمين ما تستخبثه العرب وأحل لهم ما تستطيبه. فجمهور العلماء على خلاف هذا القول كمالك وأبي حنيفة وأحمد وقدماء أصحابه ولكن الخرقي وطائفة منهم وافقوا الشافعي على هذا القول وأما أحمد نفسه فعامة نصوصه موافقة لقول جمهور العلماء وما كان عليه الصحابة والتابعون أن التحليل والتحريم لا يتعلق باستطابة العرب ولا باستخباثهم؛ بل كانوا يستطيبون أشياء حرمها الله؛ كالدم والميتة؛ والمنخنقة والموقوذة؛ والمتردية والنطيحة؛ وأكيلة السبع؛ وما أهل به لغير الله وكانوا - بل خيارهم - يكرهون أشياء لم يحرمها الله حتى لحم الضب كان النبي صلى الله عليه وسلم يكرهه وقال: {لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه} وقال مع هذا: " إنه ليس بمحرم " وأكل على مائدته وهو ينظر وقال فيه: " لا آكله ولا أحرمه ". وقال جمهور العلماء: الطيبات التي أحلها الله ما كان نافعا لآكله في دينه والخبيث ما كان ضارا له في دينه. وأصل الدين العدل الذي بعث الله الرسل بإقامته فما أورث الأكل بغيا وظلما حرمه كما حرم كل ذي ناب من السباع. لأنها باغية عادية والغاذي شبيه بالمغتذي فإذا تولد اللحم منها صار في الإنسان خلق البغي والعدوان.
وكذلك الدم يجمع قوى النفس من الشهوة والغضب فإذا اغتذى منه زادت شهوته وغضبه على المعتدل ولهذا لم يحرم منه إلا المسفوح بخلاف القليل فإنه لا يضر. ولحم الخنزير يورث عامة الأخلاق الخبيثة؛ إذ كان أعظم الحيوان في أكل كل شيء لا يعاف شيئا والله لم يحرم على أمة محمد شيئا من الطيبات وإنما حرم ذلك على أهل الكتاب كما قال تعالى: {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} وقال تعالى: {وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون}.
وأما المسلمون فلم يحرم عليهم إلا الخبائث كالدم المسفوح فأما غير المسفوح كالذي يكون في العروق فلم يحرمه بل ذكرت عائشة أنهم كانوا يضعون اللحم في القدر فيرون آثار الدم في القدر؛ ولهذا عفا جمهور الفقهاء عن الدم اليسير في البدن والثياب إذا كان غير مسفوح وإذا عفي عنه في الأكل ففي اللباس والحمل أولى أن يعفى عنه.
(إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داوود زبورا (163) ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما (164)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق-:
وقد فرق سبحانه بين إيحائه إلى غير موسى وبين تكليمه لموسى في قوله تعالى {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح} إلى قوله: {حجة بعد الرسل} فرق سبحانه بين تكليمه لموسى وبين إيحائه لغيره ووكد تكليمه لموسى بالمصدر وقال تعالى: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض} إلى قوله: {بروح القدس} وقال تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} إلى آخر السورة. فقد بين سبحانه أنه لم يكن لبشر أن يكلمه الله إلا على أحد الأوجه الثلاثة: إما وحيا وإما من وراء حجاب وإما أن يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء؛ فجعل الوحي غير التكليم والتكليم من وراء حجاب كان لموسى.
وقد أخبر في غير موضع أنه ناداه كما قال: {وناديناه من جانب الطور} الآية. وقال: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن} الآية. و " النداء " باتفاق أهل اللغة لا يكون إلا صوتا مسموعا فهذا مما اتفق عليه سلف المسلمين وجمهورهم. وأهل الكتاب يقولون: إن موسى ناداه ربه نداء سمعه بأذنه وناداه بصوت سمعه موسى والصوت لا يكون إلا كلاما والكلام لا يكون إلا حروفا منظومة وقد قال تعالى: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقال: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وقال: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم}
فقد بين في غير موضع أن الكتاب والقرآن العربي منزل من الله. وهذا معنى قول السلف: منه بدأ قال أحمد بن حنبل رحمه الله منه بدأ أي هو المتكلم به فإن الذين قالوا إنه مخلوق قالوا خلقه في غيره فبدا من ذلك المخلوق فقال السلف: منه بدأ أي هو المتكلم به لم يخلقه في غيره فيكون كلاما لذلك المحل الذي خلقه فيه فإن الله تعالى إذا خلق صفة من الصفات في محل كانت الصفة صفة لذلك المحل ولم تكن صفة لرب العالمين فإذا خلق طعما أو لونا في محل كان ذلك المحل هو المتحرك المتلون به وكذلك إذا خلق حياة أو إرادة أو قدرة أو علما أو كلاما في محل كان ذلك المحل هو المريد القادر العالم المتكلم بذلك الكلام ولم يكن ذلك المعنى المخلوق في ذلك المحل صفة لرب العالمين وإنما يتصف الرب تعالى بما يقوم به من الصفات لا بما يخلقه في غيره من المخلوقات فهو الحي العليم القدير السميع البصير الرحيم المتكلم بالقرآن وغيره من الكلام بحياته وعلمه وقدرته وكلامه القائم به لا بما يخلقه في غيره من هذه المعاني.
ومن جعل كلامه مخلوقا لزمه أن يقول المخلوق هو القائل لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} وهذا ممتنع لا يجوز أن يكون هذا كلاما إلا لرب العالمين وإذا كان الله قد تكلم بالقرآن والتوراة وغير ذلك من الكتب بمعانيها وألفاظها المنتظمة من حروفها لم يكن شيء من ذلك مخلوقا؛ بل كان ذلك كلاما لرب العالمين. وقد قيل للإمام أحمد بن حنبل: إن فلانا يقول لما خلق الله الأحرف سجدت له إلا الألف فقالت: لا أسجد حتى أؤمر فقال: هذا كفر. فأنكر على من قال إن الحروف مخلوقة؛ لأنه إذا كان جنس الحروف مخلوقا لزم أن يكون القرآن العربي والتوراة العبرية وغير ذلك مخلوقا وهذا باطل مخالف لقول السلف والأئمة مخالف للأدلة العقلية والسمعية كما قد بسط في غير هذا الموضع.
(فصل)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
ومن قال إن جبريل أخذ القرآن من الكتاب لم يسمعه من الله كان هذا باطلا من وجوه: " منها " أن يقال إن الله سبحانه وتعالى قد كتب التوراة لموسى بيده فبنو إسرائيل أخذوا كلام الله من الكتاب الذي كتبه هو سبحانه وتعالى فيه فإن كان محمد أخذه عن جبريل وجبريل عن الكتاب كان بنو إسرائيل أعلى من محمد بدرجة. وكذلك من قال إنه ألقى إلى جبريل المعاني وأن جبريل عبر عنها بالكلام العربي فقوله يستلزم أن يكون جبريل ألهمه إلهاما وهذا الإلهام يكون لآحاد المؤمنين.
كما قال تعالى: {وإذ أوحيت إلى الحواريين أن آمنوا بي وبرسولي} وقال: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} وقد أوحى إلى سائر النبيين فيكون هذا الوحي الذي يكون لآحاد الأنبياء والمؤمنين أعلى من أخذ محمد القرآن عن جبريل؛ لأن جبريل الذي علمه لمحمد هو بمنزلة الواحد من هؤلاء؛ ولهذا زعم ابن عربي أن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء وقال: لأنه يأخذ من المعدن الذي يأخذ منه الملك الذي يوحي به إلى الرسول. فجعل أخذه وأخذ الملك الذي جاء إلى الرسول من معدن واحد وادعى أن أخذه عن الله أعلى من أخذ الرسول للقرآن ومعلوم أن هذا من أعظم الكفر وأن هذا القول من جنسه.
وأيضا فالله تعالى يقول: {إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط} إلى قوله: {وكلم الله موسى تكليما} ففضل موسى بالتكليم على غيره ممن أوحى إليهم وهذا يدل على أمور: على أن الله يكلم عبده تكليما زائدا عن الوحي الذي هو قسيم التكليم الخاص فإن
لفظ التكليم والوحي كل منهما ينقسم إلى عام وخاص فالتكليم هو المقسوم في قوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا} والتكليم المطلق هو قسيم الوحي الخاص ليس هو قسما منه وكذلك لفظ الوحي قد يكون عاما فيدخل فيه التكليم الخاص كما في قوله لموسى: {فاستمع لما يوحى} وقد يكون قسيم التكليم الخاص كما في سورة الشورى وهذا يبطل قول من يقول الكلام معنى واحد قائم بالذات فإنه حينئذ لا فرق بين التكليم الذي خص به موسى والوحي العام الذي يكون لآحاد العباد. ومثل هذا قوله في الآية الأخرى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} فإنه فرق بين الإيحاء وبين التكليم من وراء الحجاب وبين إرسال رسول يوحي بإذنه ما يشاء فدل على أن التكليم من وراء حجاب - كما كلم موسى - أمر غير الإيحاء.
وأيضا فقوله: {تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم} وقوله: {حم} {تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم} وقوله: {حم} {تنزيل من الرحمن الرحيم} وأمثال ذلك يدل على أنه منزل من الله لا من غيره. وكذلك قوله {بلغ ما أنزل إليك من ربك} فإنه يدل على إثبات أن ما أنزل إليه من ربه وأنه مبلغ مأمور بتبليغ ذلك.
وأيضا فهم يقولون: إنه معنى واحد فإن كان موسى سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه فقد تبعض وكلاهما ينقض قولهم؛ فإنهم يقولون: إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض فإن كان ما يسمعه موسى والملائكة هو ذلك المعنى كله كان كل منهم علم جميع كلام الله وكلامه متضمن لجميع خبره وجميع أمره فيلزم أن يكون كل واحد ممن كلمه الله أو أنزل عليه شيئا من كلامه عالما بجميع أخبار الله وأوامره وهذا معلوم الفساد بالضرورة. وإن كان الواحد من هؤلاء إنما يسمع بعضه فقد تبعض كلامه وذلك يناقض قولهم.
وأيضا فقوله: {وكلم الله موسى تكليما} وقوله: {ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} وقوله: {وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا} وقوله: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى} {وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى} الآيات. دليل على تكليم سمعه موسى. والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ومن قال إنه يسمع فهو مكابر ودليل على أنه ناداه والنداء لا يكون إلا صوتا مسموعا ولا يعقل في لغة العرب لفظ النداء بغير صوت مسموع لا حقيقة ولا مجازا.
وأيضا فقد قال تعالى: {فلما جاءها نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين} وقوله: {فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين} وقال: {هل أتاك حديث موسى} {إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى} وقال: {فلما أتاها نودي يا موسى} {إني أنا ربك} وفي هذا دليل على أنه حينئذ نودي ولم يناد قبل ذلك؛ ولما فيها من معنى الظرف كما في قوله: {وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا} ومثل هذا قوله: {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} {ويوم يناديهم فيقول أين شركائي الذين كنتم تزعمون} فإنه وقت النداء بظرف محدود فدل على أن النداء يقع في ذلك الحين دون غيره من الظروف وجعل الظرف للنداء لا يسمع النداء إلا فيه.
ومثل هذا قوله تعالى {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} وقوله: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم} وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين فإن الكلابية ومن وافقهم من أصحاب الأئمة الأربعة يقولون: إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته؛ بل الكلام المعين لازم لذاته كلزوم الحياة لذاته. ثم من هؤلاء من قال إنه معنى واحد؛ لأن الحروف والأصوات متعاقبة يمتنع أن تكون قديمة.
ومنهم من قال: بل الحروف والأصوات قديمة الأعيان وأنها مترتبة في ذاتها متقاربة في وجودها لم تزل ولا تزال قائمة بذاته والنداء الذي سمعه موسى قديم أزلي لم يزل ولا يزال. ومنهم من قال: بل الحروف قديمة الأعيان بخلاف الأصوات وكل هؤلاء يقولون: إن التكليم والنداء ليس إلا مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ولا تكليم؛ بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعا لما كان موجودا قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيرا لما كان موجودا قبل رؤيته من غير إحداث شيء منفصل عن الأعمى.
فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي. ولهذا يقولون: إنه يسمع كلامه لخلقه يدل عن قول الناس إنه يكلم خلقه وهؤلاء يردون على الخلقية الذين يقولون القرآن مخلوق ويقولون عن أنفسهم إنهم أهل السنة الموافقون للسلف الذين قالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق وليس قولهم قول السلف؛ لكن قولهم أقرب إلى قول السلف من وجه وقول الخلقية أقرب إلى قول السلف من وجه. أما كون قولهم أقرب فلأنهم يثبتون لله كلاما قائما بنفس الله وهذا قول السلف؛ بخلاف الخلقية الذين يقولون: ليس كلامه إلا ما خلقه في غيره فإن قول هؤلاء مخالف لقول السلف.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|