
03-01-2023, 03:50 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,565
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية.
سُورَةُ النساء
المجلد السادس
الحلقة( 232)
من صــ 171 الى صـ 180
فلما استشعر المؤمنون أنهم مجزيون على السيئات ولا يغني عنهم فضل دينهم وفسر لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن الجزاء قد يكون في الدنيا بالمصائب بين بعد ذلك فساد دين الكفار من المشركين وأهل الكتاب بقوله: {ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى} الآية. فبين أن العمل الصالح إنما يقع الجزاء عليه في الآخرة مع الإيمان وإن كان قد يجزى به صاحبه في الدنيا بلا إيمان فوقع الرد على الكفار من جهة جزائهم بالسيئات ومن جهة أن حسناتهم لا يدخلون بها الجنة إلا مع الإيمان ثم بين بعد هذا فضل الدين الإسلامي الحنفي بقوله: {ومن أحسن دينا} فجاء الكلام في غاية الإحكام.
ومما يشبه هذا من بعض الوجوه نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يفضل بين الأنبياء التفضيل الذي فيه انتقاص المفضول والغض منه كما قال صلى الله عليه وسلم {لا تفضلوا بين الأنبياء} وقال: {لا تفضلوني على موسى} بيان لفضله وبهذين يتم الدين. فإذا كان الله هو المعبود وصاحبه قد أخلص له وانقاد وعمله فعل الحسنات فالعقل يعلم أنه لا يمكن أن يكون دين أحسن من هذا؛ بخلاف دين من عند غير الله وأسلم وجهه له أو زعم أنه يعبد الله لا بإسلام وجهه؛ بل يتكبر كاليهود ويشرك كالنصارى أو لم يكن محسنا بل فاعلا للسيئات دون الحسنات وهذا الحكم عدل محض وقياس وقسط دل القرآن العقلاء على وجه البرهان فيه.
وهكذا غالب ما بينه القرآن فإنه يبين الحق والصدق ويذكر أدلته وبراهينه؛ ليس يبينه بمجرد الإخبار عن الأمر كما قد يتوهمه كثير من المتكلمة والمتفلسفة أن دلالته سمعية خبرية وأنها واجبة لصدق المخبر؛ بل دلالته أيضا عقلية برهانية وهو مشتمل من الأدلة والبراهين على أحسنها وأتمها بأحسن بيان لمن كان له فهم وعقل؛ بحيث إذا أخذ ما في القرآن من ذلك وبين لمن لم يعلم أنه كلام الله أو لم يعلم صدق الرسول أو يظن فيه ظنا مجردا عن ما يجب من قبول قول المخبر كان فيه ما يبين صدقه وحقه ويبرهن عن صحته.
(فصل في معنى الخليل)
والخليل هو الذي تخللت محبة خليله قلبه، فلم يكن فيه مسلك لغيره كما قيل:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
وقد قيل: إنه مأخوذ من الخليل، وهو الفقير، مشتق من الخلة بالفتح. كما قيل:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة ... يقول لا غائب مالي ولا حرم
والصواب أنه من الأول، وهو مستلزم للثاني فإن كمال حبه لله هو محبة عبودية وافتقار، ليست كمحبة الرب لعبده، فإنها محبة استغناء وإحسان.
ولهذا قال - تعالى -: {وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا} [سورة الإسراء: 111].
فالرب لا يوالي عبده من ذل، كما يوالي المخلوق لغيره، بل يواليه إحسانا إليه، والولي من الولاية، والولاية ضد العداوة. وأصل الولاية الحب، وأصل العداوة البغض، وإذا قيل: هو مأخوذ من الولي، وهو القرب. فهذا جزء معناه، فإن الولي يقرب إلى وليه، والعدو يبعد عن عدوه. ولما كانت الخلة تستلزم كمال المحبة واستيعاب القلب، لم يصلح للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يخالل مخلوقا، بل قال: " «لو كنت متخذا من أهل الأرض خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن صاحبكم خليل الله» ".
(ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ... (127)
وسئل شيخ الإسلام - رحمه الله -:
عن صغيرة دون البلوغ مات أبوها: هل يجوز للحاكم أو نائبه أن يزوجها أم لا؟ وهل يثبت لها الخيار إذا بلغت أم لا؟
فأجاب:
إذا بلغت تسع سنين فإنه يزوجها الأولياء - من العصبات والحاكم ونائبه - في ظاهر مذهب أحمد وهو مذهب أبي حنيفة وغيرهما كما دل على ذلك الكتاب والسنة في مثل قوله تعالى {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} وأخرجا في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله عز وجل: {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} قالت؛ يا ابن أختي هذه اليتيمة في حجر وليها تشاركه في ماله فيعجبه مالها وجمالها؛ فيريد وليها أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها؛ فيعطيها مثل ما يعطيها غيره فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن ويبلغوا بهن على سنتهن في الصداق وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن.
قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن؛ فأنزل الله عز وجل: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن} الآية. قالت عائشة والذي ذكر الله أنه {يتلى عليكم في الكتاب} الآية الأولى التي قالها الله عز وجل؛ {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} قالت عائشة: وقول الله عز وجل في الآية الأخرى: {وترغبون أن تنكحوهن} رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حيث تكون قليلة المال والحال. وفي لفظ آخر: إذا كانت ذات مال وجمال رغبوا في نكاحها في إكمال الصداق؛ وإذا كانت مرغوبا عنها في قلة المال والجمال رغبوا عنها؛ وأخذوا غيرها من النساء.
قال: فكما يتركونها حتى يرغبوا عنها؛ فليس لهم أن ينكحوها إذا رغبوا فيها؛ إلا أن يقسطوا لها ويعطوها حقها من الصداق. فهذا يبين أن الله أذن لهم أن يزوجوا اليتامى من النساء إذا فرضوا لهن صداق مثلهن؛ ولم يأذن لهم في تزويجهن بدون صداق المثل؛ لأنها ليست من أهل التبرع؛ ودلائل ذلك متعددة. ثم الجمهور الذين جوزوا إنكاحها لهم قولان: " أحدهما " وهو قول أبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين: أنها تزوج بدون إذنها؛ ولها الخيار إذا بلغت.
و " الثاني " وهو المشهور في مذهب أحمد وغيره: أنها لا تزوج إلا بإذنها؛ ولا خيار لها إذا بلغت.
وهذا هو الصحيح الذي دلت عليه السنة كما روى أبو هريرة؛ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تستأذن اليتيمة في نفسها؛ فإن سكتت فهو إذنها؛ وإن أبت فلا جواز عليها} رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي. وعن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {تستأمر اليتيمة في نفسها فإن سكتت فقد أذنت؛ وإن أبت فلا جواز عليها}.
فهذه السنة نص في القول الثالث الذي هو أعدل الأقوال أنها تزوج؛ خلافا لمن قال: إنها لا تزوج حتى تبلغ فلا تصير " يتيمة ". والكتاب والسنة صريح في دخول اليتيمة قبل البلوغ في ذلك؛ إذ البالغة التي لها أمر في مالها يجوز لها أن ترضى بدون صداق المثل؛ ولأن ذلك مدلول اللفظ وحقيقته ولأن ما بعد البلوغ وإن سمي صاحبه يتيما مجازا فغايته أن يكون داخلا في العموم.
وأما أن يكون المراد باليتيمة البالغة دون التي لم تبلغ: فهذا لا يسوغ حمل اللفظ عليه بحال. والله أعلم.
(فصل: الظلم نوعان)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والظلم نوعان: تفريط في الحق وتعد للحد. فالأول ترك ما يجب للغير مثل ترك قضاء الديون وسائر الأمانات وغيرها من الأموال. والثاني الاعتداء عليه مثل القتل وأخذ المال وكلاهما ظلم؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع} فجعل مجرد المطل الذي هو تأخير الأداء مع القدرة ظلما فكيف بالترك رأسا. وقد قال تعالى: {ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن} إلى قوله: {وأن تقوموا لليتامى بالقسط}. قالت عائشة رضي الله عنها هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيريد أن يتزوجها بدون أن يقسط لها في مهرها. فسمى الله تكميل المهر قسطا؛ وضده الظلم.
وهذا في الجملة ظاهر متفق عليه بين المسلمين: أن العدل قد يكون أداء واجب وقد يكون ترك محرم وقد يجمع الأمرين وأن الظلم أيضا قد يكون ترك واجب وقد يكون فعل محرم وقد يجمع الأمرين. فإذا عرف هذا؛ وقد عرف أن العدل والظلم يكون في حق نفس الإنسان ويكون في حقوق الناس - كما تقدم وقد كتبت فيما تقدم من " القواعد " وفي آخر " مسودة الفقه " كلاما كليا في أن جميع الحسنات تدخل في العدل وجميع السيئات تدخل في الظلم.
(ياأيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا ... (135)
يقال: لوى يلوي لسانه: فيخبر بالكذب. والإعراض: أن يكتم الحق؛ فإن الساكت عن الحق شيطان أخرس. ومن مال مع صاحبه - سواء كان الحق له أو عليه - فقد حكم بحكم الجاهلية وخرج عن حكم الله ورسوله والواجب على جميعهم أن يكونوا يدا واحدة مع المحق على المبطل فيكون المعظم عندهم من عظمه الله ورسوله والمقدم عندهم من قدمه الله ورسوله والمحبوب عندهم من أحبه الله ورسوله والمهان عندهم من أهانه الله ورسوله بحسب ما يرضي الله ورسوله لا بحسب الأهواء؛ فإنه من يطع الله ورسوله فقد رشد؛ ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه. فهذا هو الأصل الذي عليهم اعتماده. وحينئذ فلا حاجة إلى تفرقهم وتشيعهم؛ فإن الله تعالى يقول: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء}. وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات}.
(إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا (145)
وقد اتفق العلماء على أن اسم المسلمين في الظاهر يجري على المنافقين لأنهم استسلموا ظاهرا؛ وأتو بما أتوا به من الأعمال الظاهرة بالصلاة الظاهرة والزكاة الظاهرة والحج الظاهر والجهاد الظاهر كما كان النبي يجري عليهم أحكام الإسلام الظاهر واتفقوا على أنه من لم يكن معه شيء من الإيمان فهو كما قال تعالى: {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار} وفيها قراءتان (درك ودرك قال أبو الحسين ابن فارس: الجنة درجات والنار دركات. قال الضحاك: الدرج: إذا كان بعضها فوق بعض.
والدرك: إذا كان بعضها أسفل من بعض فصار المظهرون للإسلام بعضهم في أعلى درجة في الجنة وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال في الحديث الصحيح: {إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه شفاعتي يوم القيامة} وقوله: صلى الله عليه وسلم {وأرجو أن أكون} مثل قوله: {إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بحدوده} ولا ريب أنه أخشى الأمة لله وأعلمهم بحدوده. وكذلك قوله: {اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا}.
وقوله: {إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة} وأمثال هذه النصوص وكان يستدل به أحمد وغيره على الاستثناء في الإيمان كما نذكره في موضعه.
والمقصود أن خير المؤمنين في أعلى درجات الجنة والمنافقون في الدرك الأسفل من النار وإن كانوا في الدنيا مسلمين ظاهرا تجري عليهم أحكام الإسلام الظاهرة؛ فمن كان فيه إيمان ونفاق يسمى مسلما إذ ليس هو دون المنافق المحض وإذا كان نفاقه أغلب لم يستحق اسم الإيمان بل اسم المنافق أحق به فإن ما فيه بياض وسواد وسواده أكثر من بياضه هو باسم الأسود أحق منه باسم الأبيض كما قال تعالى: {هم للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان} وأما إذا كان إيمانه أغلب ومعه نفاق يستحق به الوعيد لم يكن أيضا من المؤمنين الموعودين بالجنة وهذا حجة لما ذكره محمد بن نصر عن أحمد ولم أره أنا فيما بلغني من كلام أحمد ولا ذكره الخلال ونحوه.
وقال محمد بن نصر: وحكى غير هؤلاء عن أحمد أنه قال: من أتى هذه الأربعة: الزنا والسرقة وشرب الخمر والنهبة التي يرفع الناس فيها أبصارهم إليه أو مثلهن أو فوقهن فهو مسلم ولا أسميه مؤمنا ومن أتى دون الكبائر نسميه مؤمنا ناقص الإيمان فإن صاحب هذا القول يقول: لما نفى عنه النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان نفيته عنه كما نفاه عنه الرسول صلى الله عليه وسلم والرسول لم ينفه إلا عن صاحب كبيرة وإلا فالمؤمن الذي يفعل الصغيرة هي مكفرة عنه بفعله للحسنات واجتنابه للكبائر لكنه ناقص الإيمان عمن اجتنب الصغائر فما أتى بالإيمان الواجب ولكن خلطه بسيئات كفرت عنه بغيرها ونقصت بذلك درجته عمن لم يأت بذلك.
(لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما (148)
وقد نزلت فيمن ضاف قوما فلم يقروه، لأن قرى الضيف واجب، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، فلما منعوه حقه كان له ذكر ذلك، وقد أذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعاقبهم بمثل قراه في زرعهم ومالهم، وقال: " نصره واجب على كل مسلم " لأنه قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: " «انصر أخاك ظالما أو مظلوما " قلت: يا رسول الله، أنصره مظلوما فكيف أنصره ظالما؟ قال: تمنعه من الظلم فذلك نصرك إياه» ".
وأما الحاجة فمثل استفتاء هند بنت عتبة، كما ثبت في الصحيح أنها «قالت: يا رسول الله، إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني وبني ما يكفيني بالمعروف. فقال: النبي - صلى الله عليه وسلم: " خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» " أخرجاه في الصحيحين من حديث عائشة، فلم ينكر عليها قولها، وهو من جنس قول المظلوم.
وأما النصيحة فمثل «قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت قيس لما استشارته فيمن خطبها فقالت: خطبني أبو جهم ومعاوية. فقال: " أما معاوية فصعلوك لا مال له، وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه " وفي لفظ: " يضرب النساء "، " انكحي أسامة» " فلما استشارته حتى تتزوج ذكر ما تحتاج إليه.
وكذلك من استشار رجلا فيمن يعامله. والنصيحة مأمور بها ولو لم يشاوره ; فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح: " «الدين النصيحة، الدين النصيحة» " ثلاثا. قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ".
وكذلك بيان أهل العلم لمن غلط في رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أو تعمد الكذب عليه، أو على من ينقل عنه العلم. وكذلك بيان من غلط في رأي رآه في أمر الدين من المسائل العلمية والعملية ; فهذا إذا تكلم فيه الإنسان بعلم وعدل، وقصد النصيحة، فالله تعالى يثيبه على ذلك، لا سيما إذا كان المتكلم فيه داعيا إلى بدعة، فهذا يجب بيان أمره للناس، فإن دفع شره عنهم أعظم من دفع شر قاطع الطريق.
وحكم المتكلم باجتهاده في العلم والدين حكم أمثاله من المجتهدين. ثم قد يكون مجتهدا مخطئا أو مصيبا، وقد يكون كل من الرجلين المختلفين باللسان أو اليد مجتهدا يعتقد الصواب معه، وقد يكونان جميعا مخطئين مغفورا لهما، كما ذكرنا نظير ذلك مما كان يجري بين الصحابة.
ولهذا ينهى عما شجر بين هؤلاء سواء كانوا من الصحابة أو ممن بعدهم، فإذا تشاجر مسلمان في قضية، ومضت ولا تعلق للناس بها، ولا يعرفون حقيقتها، كان كلامهم فيها كلاما بلا علم ولا عدل يتضمن أذاهما بغير حق، ولو عرفوا أنهما مذنبان أو مخطئان، لكان ذكر ذلك من غير مصلحة راجحة من باب الغيبة المذمومة.
لكن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أعظم حرمة، وأجل قدرا، وأنزه أعراضا. وقد ثبت من فضائلهم خصوصا وعموما ما لم يثبت لغيرهم، فلهذا كان الكلام الذي فيه ذمهم على ما شجر بينهم أعظم إثما من الكلام في غيرهم.
فإن قيل: فأنتم في هذا المقام تسبون الرافضة وتذمونهم وتذكرون عيوبهم.
قيل: ذكر الأنواع المذمومة غير ذكر الأشخاص المعينة ; فإنه قد ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن أنواعا كثيرة، كقوله: " «لعن الله الخمر وشاربها، وعاصرها ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه، وبائعها وآكل ثمنها» " و " «لعن الله آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه» "، و " «لعن الله من غير منار الأرض» " وقال: " «المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا، أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".
وقال: " «لعن الله من عمل عمل قوم لوط» " وقال: " «لعن الله المخنثين من الرجال والمترجلات من النساء» " وقال: " «من ادعى إلى غير أبيه،أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفا ولا عدلا» ".
وقال الله تعالى في القرآن: {أن لعنة الله على الظالمين - الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا} [سورة الأعراف: 44 - 45].
فالقرآن والسنة مملوءان من ذم الأنواع المذمومة وذم أهلها ولعنهم، تحذيرا من ذلك الفعل، وإخبارا بما يلحق أهله من الوعيد.
ثم المعاصي التي يعرف صاحبها أنه عاص يتوب منها، والمبتدع الذي يظن أنه على حق كالخوارج والنواصب الذي نصبوا العداوة والحرب لجماعة المسلمين فابتدعوا بدعة، وكفروا من لم يوافقهم عليها، فصار بذلك ضررهم على المسلمين أعظم من ضرر الظلمة، الذين يعلمون أن الظلم محرم، وإن كانت عقوبة أحدهم في الآخرة لأجل التأويل قد تكون أخف، لكن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتالهم، ونهى عن قتال الأمراء الظلمة، وتواترت عنه بذلك الأحاديث الصحيحة.
فقال: في الخوارج: " «يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وقراءته مع قراءتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم» ".
وقال في بعضهم: " «يقتلون أهل الإيمان: ويدعون أهل الأوثان» ".
(إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا (150) أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا (151)
قال شيخ الإسلام - بعد كلام سبق -:
والأنبياء كلهم دينهم واحد وتصديق بعضهم مستلزم تصديق سائرهم وطاعة بعضهم تستلزم طاعة سائرهم وكذلك التكذيب والمعصية: لا يجوز أن يكذب نبي نبيا بل إن عرفه صدقه وإلا فهو يصدق بكل ما أنزل الله مطلقا وهو يأمر بطاعة من أمر الله بطاعته. ولهذا كان من صدق محمدا فقد صدق كل نبي؛ ومن أطاعه فقد أطاع كل نبي ومن كذبه فقد كذب كل نبي؛ ومن عصاه فقد عصى كل نبي قال تعالى: {إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا} {أولئك هم الكافرون حقا} وقال تعالى:
{أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون}. ومن كذب هؤلاء تكذيبا بجنس الرسالة فقد صرح بأنه يكذب الجميع؛ ولهذا يقول تعالى: {كذبت قوم نوح المرسلين}
ولم يرسل إليهم قبل نوح أحدا وقال تعالى: {وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقناهم}. وكذلك من كان من الملاحدة والمتفلسفة طاعنا في جنس الرسل كما قدمنا بأن يزعم أنهم لم يعلموا الحق أو لم يبينوه فهو مكذب لجميع الرسل كالذين قال فيهم: {الذين كذبوا بالكتاب وبما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون} {إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون} {في الحميم ثم في النار يسجرون} وقال تعالى: {فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} {فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين} {فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون} وقال تعالى عن الوليد: {إنه فكر وقدر} {فقتل كيف قدر} {ثم قتل كيف قدر} {ثم نظر} {ثم عبس وبسر} {ثم أدبر واستكبر} {فقال إن هذا إلا سحر يؤثر} {إن هذا إلا قول البشر}.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|