
29-12-2022, 12:12 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,766
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد السادس
الحلقة (428)
سُورَةُ الشُّعَرَاءِ .
صـ 123 إلى صـ 130
قوله تعالى : بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون . أظهر أقوال أهل العلم عندي في هذه الآية الكريمة أن المعنى : بل ادارك علمهم ، أي : تكامل علمهم في الآخرة حين يعاينونها ، أي : يعلمون في الآخرة علما كاملا ، ما كانوا يجهلونه في الدنيا ، وقوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، أي : في دار الدنيا ، فهذا الذي كانوا يشكون فيه في دار الدنيا ، ويعمون عنه مما جاءتهم به الرسل ، يعلمونه في الآخرة علما كاملا لا يخالجه شك ، عند معاينتهم لما كانوا ينكرونه من البعث والجزاء .
وإنما اخترنا هذا القول دون غيره من أقوال المفسرين في الآية ، لأن القرآن دل عليه دلالة واضحة في آيات متعددة ; كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] فقوله : أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا ، بمعنى : ما أسمعهم وما أبصرهم للحق الذي كانوا ينكرونه يوم يأتوننا ، أي : يوم القيامة ، وهذا يوضح معنى قوله : بل ادارك علمهم في الآخرة ، أي : تكامل علمهم فيها لمبالغتهم في سمع الحق وإبصاره في ذلك الوقت ، وقوله : لكن الظالمون اليوم في ضلال مبين [ 19 \ 38 ] يوضح معنى قوله : بل هم في شك منها بل هم منها عمون ، لأن ضلالهم المبين اليوم ، أي : في دار الدنيا ، هو شكهم في الآخرة ، وعماهم [ ص: 123 ] عنها ; وكقوله تعالى : فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أي : علمك اليوم بما كنت تنكره في الدنيا مما جاءتك به الرسل حديد ، أي : قوي كامل .
وقد بينا في كتابنا " دفع إبهام الاضطراب عن آيات الكتاب " ، في سورة " الشورى " ، في الجواب عما يتوهم من التعارض بين قوله تعالى : ينظرون من طرف خفي [ 42 \ 45 ] وقوله تعالى : فبصرك اليوم حديد [ 50 \ 22 ] أن المراد بحدة البصر في ذلك اليوم : كمال العلم وقوة المعرفة . وقوله تعالى : ترى إذ المجرمون ناكسو رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون [ 32 \ 12 ] فقوله : إنا موقنون أي : يوم القيامة ، يوضح معنى قوله هنا : بل ادارك علمهم في الآخرة ، وكقوله تعالى : وعرضوا على ربك صفا لقد جئتمونا كما خلقناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ووضع [ 18 \ 48 ] فعرضهم على ربهم صفا يتدارك به علمهم ، لما كانوا ينكرونه ، وقوله : بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا ، صريح في أنهم في الدنيا كانوا في شك وعمى عن البعث والجزاء كما ترى ، إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن قوله : بل ادارك ، فيه اثنتا عشرة قراءة اثنتان منها فقط سبعيتان ، فقد قرأه عامة السبعة غير ابن كثير وأبي عمرو : بل ادارك بكسر اللام من بل وتشديد الدال بعدها ألف والألف التي قبل الدال همزة وصل ، وأصله : تدارك بوزن : تفاعل ، وقد قدمنا وجه الإدغام ، واستجلاب همزة الوصل في تفاعل وتفعل وأمثلة ذلك في القرآن ، وبعض شواهده العربية في سورة " طه " ، في الكلام على قوله تعالى : فإذا هي تلقف ما يأفكون [ 7 \ 117 ] وقرأه ابن كثير وأبو عمرو : بل أدرك بسكون اللام من بل ، وهمزة قطع مفتوحة ، مع سكون الدال على وزن : أفعل .
والمعنى على قراءة الجمهور : بل ادارك علمهم ، أي : تدارك بمعنى تكامل ; كقوله : حتى إذا اداركوا فيها جميعا [ 7 \ 38 ] وعلى قراءة ابن كثير وأبي عمرو : بل أدرك .
قال البغوي : أي بلغ ولحق ، كما يقال : أدرك علمي إذا لحقه وبلغه ، والإضراب في قوله تعالى : بل ادارك ، بل هم في شك ، بل هم منها عمون ، إضراب انتقالي ، والظاهر أن من في قوله تعالى : بل هم منها عمون ، بمعنى : عن ، [ ص: 124 ] و عمون جمع عم ، وهو الوصف من عمي يعمى فهو أعمى وعم ، ومنه قوله تعالى : إنهم كانوا قوما عمين [ 7 \ 64 ] وقول زهير في معلقته :
وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم قوله تعالى : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون . ومن ذلك اختلافهم في عيسى ، فقد قدمنا في سورة " مريم " ، ادعاءهم على أمه الفاحشة ، مع أن طائفة منهم آمنت به ; كما يشير إليه قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله كما قال عيسى ابن مريم للحواريين من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة [ 61 \ 41 ] والطائفة التي آمنت قالت الحق في عيسى ، والتي كفرت افترت عليه وعلى أمه ، كما تقدم إيضاحه في سورة " مريم " .
وقد قص الله عليهم في سورة " مريم " وسورة " النساء " وغيرهما ، حقيقة عيسى ابن مريم ، وهي أنه عبد الله [ 19 \ 30 ] ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه [ 4 \ 171 ] ولما بين لهم حقيقة أمره مفصلة في سورة " مريم " قال : ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون [ 19 \ 34 ] وذلك يبين بعض ما دل عليه قوله تعالى هنا : إن هذا القرآن يقص على بني إسرائيل أكثر الذي هم فيه يختلفون .
قوله تعالى : وإنه لهدى ورحمة للمؤمنين . قد قدمنا الآيات الموضحة له في أول سورة " الكهف " في الكلام على قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب الآية [ 18 \ 1 ] .
قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين . اعلم أن التحقيق الذي دلت عليه القرائن القرآنية واستقراء القرآن أن معنى قوله : إنك لا تسمع الموتى ، لا يصح فيه من أقوال العلماء ، إلا تفسيران : الأول : أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع الكفار الذين أمات الله قلوبهم ، وكتب عليهم الشقاء في سابق علمه إسماع هدى وانتفاع ; لأن الله كتب عليهم الشقاء ، فختم على قلوبهم ، وعلى سمعهم ، وجعل على قلوبهم الأكنة ، وفي آذانهم الوقر ، [ ص: 125 ] وعلى أبصارهم الغشاوة ، فلا يسمعون الحق سماع اهتداء وانتفاع . ومن القرائن القرآنية الدالة على ما ذكرنا ، أنه جل وعلا قال بعده : وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع [ 27 \ 81 ] .
فاتضح بهذه القرينة أن المعنى : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الكفار الذين هم أشقياء في علم الله إسماع هدى وقبول للحق ، ما تسمع ذلك الإسماع وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم ، فمقابلته جل وعلا بالإسماع المنفي في الآية عن الموتى بالإسماع المثبت فيها لمن يؤمن بآياته ، فهو مسلم دليل واضح على أن المراد بالموت في الآية موت الكفر والشقاء ، لا موت مفارقة الروح للبدن ، ولو كان المراد بالموت في قوله : إنك لا تسمع الموتى ، مفارقة الروح للبدن لما قابل قوله : إنك لا تسمع الموتى بقوله : إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا بل لقابله بما يناسبه ، كأن يقال : إن تسمع إلا من لم يمت ، أي : يفارق روحه بدنه ، كما هو واضح .
وإذا علمت أن هذه القرينة القرآنية دلت على أن المراد بالموتى هنا الأشقياء ، الذين لا يسمعون الحق سماع هدى وقبول .
فاعلم أن استقراء القرآن العظيم يدل على هذا المعنى ; كقوله تعالى : إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون [ 6 \ 36 ] وقد أجمع من يعتد به من أهل العلم أن المراد بالموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله : الكفار ، ويدل له مقابلة الموتى في قوله : والموتى يبعثهم الله بالذين يسمعون في قوله : إنما يستجيب الذين يسمعون ، ويوضح ذلك قوله تعالى قبله : وإن كان كبر عليك إعراضهم فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية [ 6 \ 35 ] أي : فافعل ، ثم قال : ولو شاء الله لجمعهم على الهدى فلا تكونن من الجاهلين إنما يستجيب الذين يسمعون الآية [ 6 \ 35 - 36 ] وهذا واضح فيما ذكرنا . ولو كان يراد بالموتى من فارقت أرواحهم أبدانهم لقابل الموتى بما يناسبهم ; كأن يقال : إنما يستجيب الأحياء ، أي : الذين لم تفارق أرواحهم أبدانهم ، وكقوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون [ 6 \ 122 ] .
[ ص: 126 ] فقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : أومن كان ميتا ، أي : كافرا فأحييناه ، أي : بالإيمان والهدى ، وهذا لا نزاع فيه ، وفيه إطلاق الموت وإرادة الكفر بلا خلاف ; وكقوله : لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين [ 36 \ 70 ] وكقوله تعالى : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : لا يستوي المؤمنون والكافرون .
ومن أوضح الأدلة على هذا المعنى ، أن قوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى الآية ، وما في معناها من الآيات كلها ، تسلية له - صلى الله عليه وسلم - لأنه يحزنه عدم إيمانهم ، كما بينه تعالى في آيات كثيرة ; كقوله تعالى : قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون [ 6 \ 33 ] وقوله تعالى : ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون الآية [ 15 \ 97 ] وقوله : ولا تحزن عليهم الآية [ 16 \ 127 ] وقوله تعالى : فلا تأس على القوم الكافرين [ 5 \ 68 ] وكقوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات الآية [ 35 \ 8 ] وقوله تعالى : فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا [ 18 \ 6 ] وقوله تعالى : لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين [ 26 \ 3 ] إلى غير ذلك من الآيات ، كما تقدم إيضاحه . ولما كان يحزنه كفرهم وعدم إيمانهم ، أنزل الله آيات كثيرة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - بين له فيها أنه لا قدرة له - صلى الله عليه وسلم - على هدى من أضله الله ، فإن الهدى والإضلال بيده جل وعلا وحده ، وأوضح له أنه نذير ، وقد أتى بما عليه فأنذرهم على أكمل الوجوه وأبلغها ، وأن هداهم وإضلالهم بيد من خلقهم .
ومن الآيات النازلة تسلية له - صلى الله عليه وسلم - ، قوله هنا : إنك لا تسمع الموتى ، أي : لا تسمع من أضله الله إسماع هدى وقبول ، إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا ، يعني : ما تسمع إسماع هدى وقبول إلا من هديناهم للإيمان بآياتنا فهم مسلمون .
والآيات الدالة على هذا المعنى كثيرة ; كقوله تعالى : إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل الآية [ 16 \ 37 ] وقوله تعالى : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] وقوله تعالى : إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء الآية [ 28 \ 56 ] وقوله تعالى : أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون [ 10 \ 99 ] إلى غير [ ص: 127 ] ذلك من الآيات . ولو كان معنى الآية وما شابهها : إنك لا تسمع الموتى ، أي : الذين فارقت أرواحهم أبدانهم لما كان في ذلك تسلية له - صلى الله عليه وسلم - كما ترى .
واعلم : أن آية " النمل " هذه جاءت آيتان أخريان بمعناها : الأولى منهما : قوله تعالى في سورة " الروم " : فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون [ 30 \ 52 - 53 ] ولفظ آية " الروم " هذه كلفظ آية " النمل " التي نحن بصددها ، فيكفي في بيان آية " الروم " ، ما ذكرنا في آية " النمل " .
والثانية منهما : قوله تعالى في سورة " فاطر " : إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور [ 35 \ 22 ] وآية " فاطر " هذه كآية " النمل " و " الروم " المتقدمتين ، لأن المراد بقوله فيها : من في القبور الموتى ، فلا فرق بين قوله : إنك لا تسمع الموتى ، وبين قوله : وما أنت بمسمع من في القبور ; لأن المراد بالموتى ومن في القبور واحد ; كقوله تعالى : وأن الله يبعث من في القبور [ 22 \ 7 ] أي : يبعث جميع الموتى من قبر منهم ومن لم يقبر ، وقد دلت قرائن قرآنية أيضا على أن معنى آية " فاطر " هذه كمعنى آية " الروم " ، منها قوله تعالى قبلها : إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة الآية [ 35 \ 18 ] لأن معناها : لا ينفع إنذارك إلا من هداه الله ووفقه فصار ممن يخشى ربه بالغيب ويقيم الصلاة ، وما أنت بمسمع من في القبور ، أي : الموتى ، أي : الكفار الذين سبق لهم الشقاء كما تقدم . ومنها قوله تعالى أيضا : وما يستوي الأعمى والبصير [ 35 \ 19 ] أي : المؤمن والكافر . وقوله تعالى بعدها : وما يستوي الأحياء ولا الأموات [ 35 \ 22 ] أي : المؤمنون والكفار . ومنها قوله تعالى بعده : إن أنت إلا نذير [ 52 \ 23 ] أي : ليس الإضلال والهدى بيدك ما أنت إلا نذير ، أي : وقد بلغت .
التفسير الثاني : هو أن المراد بالموتى الذين ماتوا بالفعل ، ولكن المراد بالسماع المنفي في قوله : إنك لا تسمع الموتى خصوص السماع المعتاد الذي ينتفع صاحبه به ، وأن هذا مثل ضرب للكفار ، والكفار يسمعون الصوت ، لكن لا يسمعون سماع قبول بفقه واتباع ; كما قال تعالى : ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء [ ص: 128 ] ونداء [ 2 \ 171 ] فهكذا الموتى الذين ضرب بهم المثل لا يجب أن ينفى عنهم جميع أنواع السماع ، كما لم ينف ذلك عن الكفار ، بل قد انتفى عنهم السماع المعتاد الذين ينتفعون به ، وأما سماع آخر فلا ، وهذا التفسير الثاني جزم به واقتصر عليه أبو العباس ابن تيمية ، كما سيأتي إيضاحه إن شاء الله في هذا المبحث .
وهذا التفسير الأخير دلت عليه أيضا آيات من كتاب الله ، جاء فيها التصريح بالبكم والصمم والعمى مسندا إلى قوم يتكلمون ويسمعون ويبصرون ، والمراد بصممهم صممهم عن سماع ما ينفعهم دون غيره ، فهم يسمعون غيره ، وكذلك في البصر والكلام ، وذلك كقوله تعالى في المنافقين : صم بكم عمي فهم لا يرجعون [ 2 \ 18 ] فقد قال فيهم : صم بكم مع شدة فصاحتهم وحلاوة ألسنتهم ، كما صرح به في قوله تعالى فيهم : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] أي : لفصاحتهم ، وقوله تعالى : فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] فهؤلاء الذين إن يقولوا تسمع لقولهم ، وإذا ذهب الخوف سلقوا المسلمين بألسنة حداد ، هم الذين قال الله فيهم : صم بكم عمي ، وما ذلك إلا أن صممهم وبكمهم وعماهم بالنسبة إلى شيء خاص ، وهو ما ينتفع به من الحق ، فهذا وحده هو الذي صموا عنه فلم يسمعوه ، وبكموا عنه فلم ينطقوا به ، وعموا عنه فلم يروه مع أنهم يسمعون غيره ويبصرونه ، وينطقون به ; كما قال تعالى : وجعلنا لهم سمعا وأبصارا وأفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء الآية [ 46 \ 26 ] وهذا واضح كما ترى .
وقد أوضحنا هذا غاية الإيضاح مع شواهده العربية في كتابنا " دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب " في سورة " البقرة " في الكلام على وجه الجمع بين قوله في المنافقين : صم بكم عمي [ 2 \ 18 ] مع قوله فيهم : ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم [ 2 \ 20 ] وقوله فيهم : سلقوكم بألسنة حداد [ 33 \ 19 ] وقوله فيهم أيضا : وإن يقولوا تسمع لقولهم [ 63 \ 4 ] وقد أوضحنا هناك أن العرب تطلق الصمم وعدم السماع على السماع ، الذي لا فائدة فيه ، وذكرنا بعض الشواهد العربية على ذلك .
مسألة تتعلق بهذه الآية الكريمة .
اعلم أن الذي يقتضي الدليل رجحانه هو أن الموتى في قبورهم يسمعون كلام من [ ص: 129 ] كلمهم ، وأن قول عائشة - رضي الله عنها - ومن تبعها : إنهم لا يسمعون ، استدلالا بقوله تعالى : إنك لا تسمع الموتى ، وما جاء بمعناها من الآيات غلط منها رضي الله عنها ، وممن تبعها .
وإيضاح كون الدليل يقتضي رجحان ذلك مبني على مقدمتين :
الأولى منهما : أن سماع الموتى ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث متعددة ثبوتا لا مطعن فيه ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك خاص بإنسان ولا بوقت .
والمقدمة الثانية : هي أن النصوص الصحيحة عنه - صلى الله عليه وسلم - في سماع الموتى لم يثبت في الكتاب ولا في السنة شيء يخالفها ، وتأويل عائشة رضي الله عنها بعض الآيات على معنى يخالف الأحاديث المذكورة ، لا يجب الرجوع إليه ; لأن غيره في معنى الآيات أولى بالصواب منه ، فلا ترد النصوص الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بتأول بعض الصحابة بعض الآيات ، وسنوضح هنا إن شاء الله صحة المقدمتين المذكورتين ، وإذا ثبت بذلك أن سماع الموتى ثابت عنه - صلى الله عليه وسلم - من غير معارض صريح ، علم بذلك رجحان ما ذكرنا ، أن الدليل يقتضي رجحانه .
أما المقدمة الأولى ، وهي ثبوت سماع الموتى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقد قال البخاري في صحيحه : حدثني عبد الله بن محمد ، سمع روح بن عبادة ، حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنس بن مالك عن أبي طلحة أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش ، فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث ، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال ، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ، ثم مشى واتبعه أصحابه ، وقالوا : ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته ، حتى قام على شفة الركي ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم : " يا فلان بن فلان ، ويا فلان بن فلان ، أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله ، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ قال : فقال عمر : يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تكلم من أجساد لا أرواح لها ؟ ! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " والذي نفس محمد بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم " ، قال قتادة : أحياهم الله له حتى أسمعهم توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما .
فهذا الحديث الصحيح أقسم فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الأحياء الحاضرين ليسوا بأسمع لما يقول - صلى الله عليه وسلم - من أولئك الموتى بعد ثلاث ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - في ذلك [ ص: 130 ] تخصيصا ، وكلام قتادة الذي ذكره عنه البخاري اجتهاد منه ، فيما يظهر .
وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثني عثمان ، حدثني عبدة عن هشام عن أبيه ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال : وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - على قليب بدر ، فقال : " هل وجدتم ما وعد ربكم حقا " ؟ ثم قال : " إنهم الآن يسمعون ما أقول " ، فذكر لعائشة ، فقالت : إنما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق " ، ثم قرأت : إنك لا تسمع الموتى ، حتى قرأت الآية ، انتهى من صحيح البخاري .
وقد رأيته أخرج عن صحابيين جليلين هما : ابن عمر ، وأبو طلحة ، تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن أولئك الموتى يسمعون ما يقول لهم ، ورد عائشة لرواية ابن عمر بما فهمت من القرآن مردود ، كما سترى إيضاحه إن شاء الله تعالى .
وقد أوضحنا في سورة " بني إسرائيل " ، في الكلام على قوله تعالى : ولا تزر وازرة وزر أخرى [ 17 \ 15 ] ، أن ردها على ابن عمر أيضا روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الميت يعذب ببكاء أهله بما فهمت من الآية - مردود أيضا ، وأوضحنا أن الحق مع ابن عمر في روايته لا معها فيما فهمت من القرآن .
وقال البخاري في " صحيحه " أيضا : حدثنا عياش ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد ، قال : وقال لي خليفة : حدثنا ابن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه ، وإنه ليسمع قرع نعالهم ، أتاه ملكان فيقعدانه فيقولان : ما كنت تقول في هذا الرجل محمد - صلى الله عليه وسلم - ؟ فيقول : أشهد أنه عبد الله ورسوله ، فيقال : انظر إلى مقعدك من النار أبدلك الله به مقعدا في الجنة " الحديث ، وقد رأيت في هذا الحديث الصحيح تصريح النبي - صلى الله عليه وسلم - بأن الميت في قبره ، يسمع قرع نعال من دفنوه إذا رجعوا ، وهو نص صحيح صريح في سماع الموتى ، ولم يذكر - صلى الله عليه وسلم - فيه تخصيصا .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|