عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 23-12-2022, 06:34 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير البغوى****متجدد إن شاء الله

الحلقة (440)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى

سُورَةُ العصر
مكية

الاية 1 إلى الاية 3


سُورَةُ الْعَصْرِ

مَكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( وَالْعَصْرِ ( 1 ) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ( 2 ) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ( 3 ) )

( وَالْعَصْرِ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَالدَّهْرِ . قِيلَ : أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِ . وَقِيلَ : مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْثَالِهِ . وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : أَرَادَ بِالْعَصْرِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ، يُقَالُ لَهُمَا الْعَصْرَانِ . وَقَالَ الْحَسَنُ : مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا . وَقَالَ قَتَادَةُ : آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى . ( إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ) أَيْ خُسْرَانٍ وَنُقْصَانٍ ، قِيلَ : أَرَادَ بِهِ [ الْكَافِرَ ] بِدَلِيلِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى الْمُؤْمِنِينَ ، وَ " الْخُسْرَانُ " : ذَهَابُ رَأْسِ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَعُمُرِهِ [ بِالْمَعَاصِي ] ، وَهُمَا أَكْبَرُ رَأْسِ مَالِهِ . ( إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا فِي خُسْرٍ ، ( وَتَوَاصَوْا ) أَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، ( بِالْحَقِّ ) بِالْقُرْآنِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ . ( وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ) عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِقَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ . وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ : أَرَادَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي [ ص: 526 ] الدُّنْيَا وَهَرِمَ ، لَفِي نَقْصٍ وَتَرَاجُعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ ، فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شَبَابِهِمْ وَصِحَّتِهِمْ ، وَهِيَ مِثْلُ قَوْلِهِ : لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
سُورَةُ الْهُمَزَةِ

مَكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ( 1 )

( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ ، الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَيْبَ ، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيَّابُ .

وَقَالَ مُقَاتِلٌ : " الْهُمَزَةُ " : الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْغَيْبِ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْوَجْهِ . وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ بِضِدِّهِ .

وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَقَتَادَةُ : " الْهَمْزَةُ " الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ .

وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ : " الْهُمَزَةُ " الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ وَيَضْرِبُهُمْ ، وَ " اللُّمَزَةُ " : الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ .

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ : وَيَهْمِزُ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُ بِعَيْنِهِ . وَمِثْلُهُ قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ : " الْهُمَزَةُ " الَّذِي يُؤْذِي جَلِيسَهُ بِسُوءِ اللَّفْظِ وَ " اللُّمَزَةُ " الَّذِي يُومِضُ بِعَيْنِهِ وَيُشِيرُ بِرَأْسِهِ ، وَيَرْمُزُ بِحَاجِبِهِ وَهُمَا نَعْتَانِ لِلْفَاعِلِ ، نَحْوُ سُخَرَةٍ وَضُحَكَةٍ : لِلَّذِي يَسْخَرُ وَيَضْحَكُ مِنَ النَّاسِ [ وَالْهُمْزَةُ وَاللُّمْزَةُ ، سَاكِنَةُ الْمِيمِ ، الَّذِي يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهِ ] . [ ص: 530 ]

وَأَصْلُ الْهَمْزِ : الْكَسْرُ وَالْعَضُّ عَلَى الشَّيْءِ بِالْعُنْفِ .

وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ : نَزَلَتْ فِي الْأَخْنَسِ بْنِ شُرَيْقِ بْنِ وَهْبٍ الثَّقَفِيِّ كَانَ يَقَعُ فِي النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ .

وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : مَا زِلْنَا نَسْمَعُ أَنَّ سُورَةَ الْهُمَزَةِ [ نَزَلَتْ فِي أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ ] .

وَقَالَ مُقَاتِلٌ : نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، كَانَ يَغْتَابُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَرَائِهِ وَيَطْعَنُ عَلَيْهِ فِي وَجْهِهِ .

وَقَالَ مُجَاهِدٌ : هِيَ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ .
( الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ ( 2 ) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ( 3 ) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ ( 4 ) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ ( 5 ) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ ( 6 ) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ( 7 ) )

ثُمَّ وَصَفَهُ فَقَالَ : ( الَّذِي جَمَعَ مَالًا ) قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ ، وَابْنُ عَامِرٍ ، وَحَمْزَةُ ، وَالْكِسَائِيُّ : " جَمَّعَ " بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ عَلَى التَّكْثِيرِ ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ . ( وَعَدَّدَهُ ) أَحْصَاهُ ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ : اسْتَعَدَّهُ وَادَّخَرَهُ وَجَعَلَهُ عَتَادًا لَهُ ، يُقَالُ : أَعْدَدْتُ [ الشَّيْءَ ] وَعَدَّدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتُهُ . ( يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ ) فِي الدُّنْيَا ، يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَمُوتُ مَعَ يَسَارِهِ . ( كَلَّا ) رَدًّا عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّدَهُ مَالُهُ ، ( لَيُنْبَذَنَّ ) لَيُطْرَحَنَّ ، ( فِي الْحُطَمَةِ ) فِي جَهَنَّمَ ، وَالْحَطْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ، مِثْلُ : سَقَرَ ، وَلَظَى سُمِّيَتْ " حُطَمَةَ " لِأَنَّهَا تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَكْسِرُهَا . ( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ ) أَيِ الَّتِي يَبْلُغُ أَلَمُهَا وَوَجَعُهَا إِلَى الْقُلُوبِ ، وَالِاطِّلَاعُ وَالْبُلُوغُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ ، يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ : مَتَى طَلَعْتَ أَرْضَنَا ؟ أَيْ بَلَغْتَ .

وَمَعْنَى الْآيَةِ : أَنَّهَا تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى فُؤَادِهِ قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ .
[ ص: 531 ] ( إنها عليهم مؤصدة ( 8 ) في عمد ممددة ( 9 ) )

( إنها عليهم مؤصدة ) مطبقة مغلقة . ( في عمد ممددة ) قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : ( في عمد ) بضم العين والميم ، وقرأ الآخرون بفتحهما ، كقوله تعالى : رفع السماوات بغير عمد ترونها ( الرعد - 2 ) وهما جميعا جمع عمود ، مثل : أديم وأدم [ وأدم ] ، قاله الفراء .

وقال أبو عبيدة : جمع عماد ، مثل : إهاب وأهب وأهب .

قال ابن عباس : أدخلهم في عمد فمدت عليهم بعماد .

[ وقيل : " في عمد ممددة ] : في أعناقهم الأغلال السلاسل .

[ وقيل : " هي عمد ممددة " : على باب جهنم ] ، سدت عليهم بها الأبواب [ لا يمكنهم الخروج ] .

وقال قتادة : بلغنا أنها عمد يعذبون بها في النار .

وقيل : هي أوتاد الأطباق التي تطبق على أهل النار ، أي أنها مطبقة عليهم بأوتاد ممددة ، وهي في قراءة عبد الله " بعمد " بالباء .

قال مقاتل : أطبقت الأبواب عليهم ثم سدت بأوتاد من حديد من نار حتى يرجع عليهم غمها وحرها ، فلا يفتح عليهم باب ولا يدخل عليهم روح ، والممددة من صفة العمد ، أي مطولة فتكون أرسخ من القصيرة .
سُورَةُ الْفِيلِ

مَكِّيَّةٌ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ( 1 ) )

( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ؟ وَكَانَتْ قِصَّةُ أَصْحَابِ الْفِيلِ - عَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ - :

أَنَّ النَّجَاشِيَّ مَلِكَ الْحَبَشَةِ كَانَ قَدْ بَعَثَ " أَرْيَاطَ " إِلَى أَرْضِ الْيَمَنِ فَغَلَبَ عَلَيْهَا ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهُ : " أَبْرَهَةُ بْنُ الصَّبَاحِ " [ أَبُو يَكْسُومَ ] ، ، فَسَاخَطَ " أَرْيَاطَ " فِي أَمْرِ الْحَبَشَةِ ، حَتَّى انْصَدَعُوا صَدْعَيْنِ ، وَكَانَتْ طَائِفَةٌ مَعَ أَرْيَاطَ ، وَطَائِفَةٌ مَعَ أَبْرَهَةَ ، فَتَزَاحَفَا فَقَتَلَ أَبْرَهَةُ ، أَرْيَاطَ ، وَاجْتَمَعَتِ الْحَبَشَةُ لِأَبْرَهَةَ ، وَغَلَبَ عَلَى الْيَمَنِ وَأَقَرَّهُ النَّجَاشِيُّ ، عَلَى عَمَلِهِ .

ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ رَأَى النَّاسَ يَتَجَهَّزُونَ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ إِلَى مَكَّةَ لِحَجِّ بَيْتِ اللَّهِ ، فَبَنَى كَنِيسَةً بِصَنْعَاءَ وَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ : إِنِّي قَدْ بَنَيْتُ لَكَ بِصَنْعَاءَ كَنِيسَةً لَمْ يُبْنَ لِمَلِكٍ مَثَلُهَا ، وَلَسْتُ مُنْتَهِيًا حَتَّى أَصْرِفَ إِلَيْهَا حَجَّ الْعَرَبِ ، فَسَمِعَ بِهِ رَجُلٌ مِنْ بَنِي مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ [ فَخَرَجَ إِلَيْهَا مُسْتَخْفِيًا ] فَدَخَلَهَا لَيْلًا فَقَعَدَ فِيهَا وَتَغَوَّطَ بِهَا ، وَلَطَّخَ بِالْعُذْرَةِ قِبْلَتَهَا ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَبْرَهَةَ فَقَالَ : مَنِ اجْتَرَأَ عَلَيَّ وَلَطَّخَ كَنِيسَتِي بِالْعُذْرَةِ ؟ فَقِيلَ لَهُ : صَنَعَ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَيْتِ سَمِعَ بِالَّذِي قُلْتَ ، فَحَلَفَ أَبْرَهَةُ عِنْدَ ذَلِكَ : لِيَسِيرَنَّ إِلَى الْكَعْبَةِ حَتَّى يَهْدِمَهَا ، فَكَتَبَ إِلَى النَّجَاشِيِّ يُخْبِرُهُ بِذَلِكَ وَسَأَلَهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْهِ بِفِيلِهِ ، وَكَانَ لَهُ فِيلٌ يُقَالُ لَهُ مَحْمُودٌ ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ عِظَمًا وَجِسْمًا وَقُوَّةً ، فَبَعَثَ بِهِ إِلَيْهِ ، فَخَرَجَ [ ص: 536 ] أَبْرَهَةُ مِنَ الْحَبَشَةِ سَائِرًا إِلَى مَكَّةَ ، وَخَرَجَ مَعَهُ الْفِيلُ ، فَسَمِعَتِ الْعَرَبُ بِذَلِكَ فَأَعْظَمُوهُ وَرَأَوْا جِهَادَهُ حَقًا عَلَيْهِمْ ، فَخَرَجَ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ ، يُقَالُ لَهُ : ذُو نَفَرٍ ، بِمَنْ أَطَاعَهُ مَنْ قَوْمِهِ ، فَقَاتَلَهُ فَهَزَمَهُ أَبْرَهَةُ وَأَخَذَ ذَا نَفَرٍ ، فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ لَا تَقْتُلَنِي فَإِنَّ اسْتِبْقَائِيَ خَيْرٌ لَكَ مِنْ قَتْلِي ، فَاسْتَحْيَاهُ وَأَوْثَقَهُ . وَكَانَ أَبْرَهَةُ رَجُلًا حَلِيمًا .

ثُمَّ سَارَ حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ بِلَادِ خَثْعَمَ ، خَرَجَ نُفَيْلُ بْنُ حَبِيبٍ الْخَثْعَمِيُّ فِي خَثْعَمَ وَمَنِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ قَبَائِلِ الْيَمَنِ ، فَقَاتَلُوهُ فَهَزَمَهُمْ وَأَخَذَ نُفَيْلًا فَقَالَ نُفَيْلٌ : أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنِّي دَلِيلٌ بِأَرْضِ الْعَرَبِ ، وَهَاتَانِ يَدَايَ عَلَى قَوْمِي بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ ، فَاسْتَبْقَاهُ ، وَخَرَجَ مَعَهُ يَدُلُّهُ حَتَّى إِذَا مَرَّ بِالطَّائِفِ خَرَجَ إِلَيْهِ مَسْعُودُ بْنُ مُعَتِّبٍ فِي رِجَالٍ مِنْ ثَقِيفٍ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ نَحْنُ عَبِيدُكَ ، لَيْسَ لَكَ عِنْدَنَا خِلَافٌ ، وَإِنَّمَا تُرِيدُ الْبَيْتَ الَّذِي بِمَكَّةَ ، نَحْنُ نَبْعَثُ مَعَكَ مَنْ يَدُلُّكَ عَلَيْهِ ، فَبَعَثُوا مَعَهُ أَبَا رِغَالٍ ، مَوْلًى لَهُمْ ، فَخَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ [ بِالْمُغَمَّسِ ] مَاتَ أَبُو رِغَالٍ وَهُوَ الَّذِي يُرْجَمُ قَبْرُهُ ، وَبَعَثَ أَبْرَهَةُ مِنَ الْمُغَمَّسِ رَجُلًا مِنَ الْحَبَشَةِ ، يُقَالُ لَهُ : الْأَسْوَدُ بْنُ مَسْعُودٍ ، عَلَى مُقَدِّمَةِ خَيْلِهِ ، وَأَمْرَهُ بِالْغَارَةِ عَلَى نَعَمِ النَّاسِ ، فَجَمَعَ الْأَسْوَدُ إِلَيْهِ أَمْوَالَ الْحَرَمِ ، وَأَصَابَ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ مِائَتَيْ بَعِيرٍ .

ثُمَّ إِنَّ أَبْرَهَةَ بَعَثَ حَبَاطَةَ الْحِمْيَرِيَّ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، وَقَالَ : سَلْ عَنْ شَرِيفِهَا ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَا أُرْسِلُكَ بِهِ إِلَيْهِ ، أَخْبِرْهُ أَنِّي لَمْ آتِ لِقِتَالٍ ، إِنَّمَا جِئْتُ لِأَهْدِمَ هَذَا الْبَيْتَ . فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ مَكَّةَ فِلَقِيَ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ بْنَ هَاشِمٍ ، فَقَالَ : إِنَّ الْمَلِكَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ لِأُخْبِرَكَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِقِتَالٍ إِلَّا أَنْ تُقَاتِلُوهُ ، إِنَّمَا جَاءَ لِهَدْمِ هَذَا الْبَيْتِ ثُمَّ الِانْصِرَافِ عَنْكُمْ .

فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَا لَهُ عِنْدَنَا قِتَالٌ وَلَا لَنَا بِهِ يَدٌ إِلَّا أَنْ نُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ ، فَإِنَّ هَذَا بَيْتُ اللَّهِ الْحَرَامُ وَبَيْتُ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، فَإِنْ يَمْنَعْهُ فَهُوَ بَيْتُهُ وَحَرَمُهُ ، وَإِنْ يُخَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ فَوَاللَّهِ مَا لَنَا بِهِ قُوَّةٌ .

قَالَ : فَانْطَلِقْ مَعِي إِلَى الْمَلِكِ ، فَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرْدَفَهُ عَلَى بَغْلَةٍ كَانَ عَلَيْهَا وَرَكِبَ مَعَهُ بَعْضُ بَنِيهِ حَتَّى قَدِمَ الْمُعَسْكَرَ ، وَكَانَ ذُو نَفَرٍ صَدِيقًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَأَتَاهُ فَقَالَ : يَا ذَا نَفَرٍ ، هَلْ عِنْدَكَ مِنْ [ غَنَاءٍ ] فِيمَا نَزَلَ بِنَا ؟ فَقَالَ : مَا غَنَاءُ رَجُلٍ أَسِيرٍ لَا يَأْمَنُ أَنْ يُقْتَلَ بُكْرَةً أَوْ عَشِيًّا ، وَلَكِنْ سَأَبْعَثُ إِلَى أُنَيْسٍ ، سَائِسِ الْفِيلِ ، فَإِنَّهُ لِي صَدِيقٌ فَأَسْأَلُهُ أَنْ يَصْنَعَ لَكَ عِنْدَ الْمَلِكِ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ خَيْرٍ وَيُعَظِّمُ خَطَرَكَ وَمَنْزِلَتَكَ عِنْدَهُ ، قَالَ : فَأَرْسَلَ إِلَى أُنَيْسٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ لَهُ : إِنَّ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ صَاحِبُ [ ص: 537 ] عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، وَقَدْ أَصَابَ لَهُ الْمَلِكُ مِائَتَيْ بَعِيرٍ ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَنْفَعَهُ عِنْدَهُ فَانْفَعْهُ فَإِنَّهُ صَدِيقٌ لِي ، أُحِبُّ ، مَا وَصَلَ إِلَيْهِ مِنَ الْخَيْرِ ، فَدَخَلَ أُنَيْسٌ عَلَى أَبْرَهَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا الْمَلِكُ هَذَا سَيِّدُ قُرَيْشٍ وَصَاحِبُ عِيرِ مَكَّةَ الَّذِي يُطْعِمُ النَّاسَ فِي السَّهْلِ وَالْوُحُوشَ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، يَسْتَأْذِنُ إِلَيْكَ وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فَيُكَلِّمَكَ ، وَقَدْ جَاءَ غَيْرَ نَاصِبٍ لَكَ وَلَا مُخَالِفٍ عَلَيْكَ ، فَأَذِنَ لَهُ ، وَكَانَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجُلًا جَسِيمًا وَسِيمًا ، فَلَمَّا رَآهُ أَبْرَهَةُ أَعْظَمَهُ وَأَكْرَمَهُ ، وَكَرِهَ أَنْ يَجْلِسَ مَعَهُ عَلَى السَّرِيرِ وَأَنْ يَجْلِسَ تَحْتَهُ ، فَهَبَطَ إِلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَيْهِ ثُمَّ دَعَاهُ فَأَجْلَسَهُ مَعَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ : مَا حَاجَتُكَ إِلَى الْمَلِكِ ؟ فَقَالَ لَهُ التُّرْجُمَانُ ذَلِكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : حَاجَتِي إِلَى الْمَلِكِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيَّ مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَابَهَا لِي ، فَقَالَ أَبْرَهَةُ لِتُرْجُمَانِهِ قُلْ لَهُ : لَقَدْ كُنْتَ أَعْجَبْتَنِي حِينَ رَأَيْتُكَ ، وَقَدْ زَهِدْتُ فِيكَ ، قَالَ [ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ ] : لِمَ ؟ قَالَ : جِئْتُ إِلَى بَيْتٍ هُوَ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ وَهُوَ شَرَفُكُمْ وَعِصْمَتُكُمْ لِأَهْدِمَهُ لَمْ تُكَلِّمْنِي فِيهِ وَتُكَلِّمُنِي فِي مِائَتَيْ بَعِيرٍ أَصَبْتُهَا ؟ قَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : أَنَا رَبُّ هَذِهِ الْإِبِلِ وَإِنَّ لِهَذَا الْبَيْتِ رِبًّا سَيَمْنَعُهُ ، قَالَ مَا كَانَ لِيَمْنَعَهُ مِنِّي ، قَالَ فَأَنْتَ وَذَاكَ ، فَأَمَرَ بِإِبِلِهِ فَرُدَّتْ عَلَيْهِ .

فَلَمَّا رُدَّتِ الْإِبِلُ إِلَى عَبْدِ الْمُطَّلِبِ خَرَجَ فَأَخْبَرَ قُرَيْشًا الْخَبَرَ ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتَفَرَّقُوا فِي الشِّعَابِ وَيَتَحَرَّزُوا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، تَخَوُّفًا عَلَيْهِمْ مِنْ مَعَرَّةِ الْجَيْشِ ، فَفَعَلُوا ، وَأَتَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْكَعْبَةَ ، وَأَخَذَ بِحَلْقَةِ الْبَابِ وَجَعَلَ يَقُولُ :
يَا رَبِّ لَا أَرْجُو لَهُمْ سِوَاكَا يَا رَبِّ فَامْنَعْ مِنْهُمْ حِمَاكَا إِنَّ عَدُوَّ الْبَيْتِ مَنْ عَادَاكَا
امْنَعْهُمْ أَنْ يُخَرِّبُوا قُرَاكَا

وَقَالَ أَيْضًا :
لَا هُمَّ إِنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ رَحْلَهُ فَامْنَعْ حِلَالَكَ
لَا يَغْلِبَنَّ صَلِيبُهُمْ وَمِحَالُهُمْ غَدْوًا مِحَالُكْ
جَرُّوا جُمُوعَ بِلَادِهِمْ وَالْفِيلَ كَيْ يَسْبُوا عِيَالَكْ
عَمَدُوا حِمَاكَ بِكَيْدِهِمْ جَهْلًا وَمَا رَقَبُوا جَلَالَكَ
[ ص: 538 ] إِنْ كُنْتَ تَارِكَهُمْ وَكَعْبَتَنَا فَأْمُرْ مَا بَدَا لَكَ
فَلَمْ أَسْمَعْ بِأَرْجَسَ مِنْ رِجَالٍ أَرَادُوا الْغَزْوَ يَنْتَهِكُوا حَرَامَكَ


ثُمَّ تَرَكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ الْحَلْقَةَ وَتَوَجَّهَ فِي بَعْضِ تِلْكَ الْوُجُوهِ مَعَ قَوْمِهِ ، وَأَصْبَحَ أَبْرَهَةُ بِالْمُغَمَّسِ قَدْ تَهَيَّأَ لِلدُّخُولِ وَعَبَّأَ جَيْشَهُ وَهَيَّأَ فِيلَهُ ، وَكَانَ فِيلًا لَمْ يُرَ مِثْلُهُ فِي الْعِظَمِ وَالْقُوَّةِ وَيُقَالُ كَانَ مَعَهُ اثْنَا عَشَرَ فِيلًا .

فَأَقْبَلَ نُفَيْلٌ إِلَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ فَقَالَ : اُبْرُكْ مَحْمُودُ وَارْجِعْ رَاشِدًا مِنْ حَيْثُ جِئْتَ [ فَإِنَّكَ ] فِي بَلَدِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، فَبَرَكَ الْفِيلُ فَبَعَثُوهُ فَأَبَى ، فَضَرَبُوهُ بِالْمِعْوَلِ فِي رَأْسِهِ فَأَبَى ، فَأَدْخَلُوا مَحَاجِنَهُمْ تَحْتَ مِرَاقِهِ وَمَرَافِقِهِ فَنَزَعُوهُ لِيَقُومَ فَأَبَى ، فَوَجَّهُوهُ رَاجِعًا إِلَى الْيَمَنِ فَقَامَ يُهَرْوِلُ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الشَّامِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَوَجَّهُوهُ إِلَى الْمَشْرِقِ فَفَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَصَرَفُوهُ إِلَى الْحَرَمِ فَبَرَكَ وَأَبَى أَنْ يَقُومَ .

وَخَرَجَ نُفَيْلٌ يَشْتَدُّ حَتَّى [ صَعِدَ ] فِي الْجَبَلِ ، وَأَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ طَيْرًا مِنَ الْبَحْرِ أَمْثَالَ الْخَطَاطِيفِ مَعَ كُلِّ [ طَائِرٍ ] مِنْهَا ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ : حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ ، وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ ، أَمْثَالُ الْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ ، فَلَمَّا غَشَيْنَ الْقَوْمَ أَرْسَلْنَهَا عَلَيْهِمْ فَلَمْ تُصِبْ تِلْكَ الْحِجَارَةُ أَحَدًا إِلَّا هَلَكَ ، وَلَيْسَ كُلُّ الْقَوْمِ أَصَابَتْ وَخَرَجُوا هَارِبِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الطَّرِيقِ الَّذِي جَاءُوا مِنْهُ ، يَتَسَاءَلُونَ عَنْ نُفَيْلِ بْنِ حَبِيبٍ لِيَدُلَّهُمْ عَلَى الطَّرِيقِ إِلَى الْيَمَنِ ، وَنُفَيْلٌ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْجِبَالِ ، فَصَرَخَ الْقَوْمُ وَمَاجَ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ يَتَسَاقَطُونَ بِكُلِّ طَرِيقٍ وَيَهْلِكُونَ عَلَى كُلِّ [ مَهْلِكٍ ] .

وَبَعَثَ اللَّهُ عَلَى أَبْرَهَةَ دَاءً فِي جَسَدِهِ فَجَعَلَ يَتَسَاقَطُ أَنَامِلُهُ كُلَّمَا سَقَطَتْ أُنْمُلَةٌ اتَّبَعَتْهَا [ مِدَّةٌ مِنْ قَيْحٍ وَدَمٍ ] ، فَانْتَهَى إِلَى صَنْعَاءَ وَهُوَ مِثْلُ فَرْخِ الطَّيْرِ فِيمَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَمَا مَاتَ حَتَّى انْصَدَعَ صَدْرُهُ عَنْ قَلْبِهِ ثُمَّ هَلَكَ .

قَالَ الْوَاقِدِيُّ : وَأَمَّا مَحْمُودٌ ، فِيلُ النَّجَاشِيِّ ، فَرَبَضَ وَلَمْ [ يَسِرْ ] عَلَى الْحَرَمِ فَنَجَا ، وَالْفِيلُ [ ص: 539 ] الْآخَرُ شَجَّعَ فَحُصِبَ .

وَزَعَمَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ أَنَّ السَّبَبَ الَّذِي جَرَّأَ أَصْحَابَ الْفِيلِ : أَنَّ فِتْيَةً مِنْ قُرَيْشٍ خَرَجُوا تُجَّارًا إِلَى أَرْضِ النَّجَاشِيِّ فَدَنَوْا مِنْ سَاحِلِ الْبَحْرِ وَثَمَّ بَيْعَةٌ لِلنَّصَارَى تُسَمِّيهَا قُرَيْشٌ " الْهَيْكَلَ " ، فَنَزَلُوا فَأَجَّجُوا نَارًا وَاشْتَوُوا فَلَمَّا ارْتَحَلُوا تَرَكُوا النَّارَ كَمَا هِيَ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ فَعَجَّتِ الرِّيحُ فَاضْطَرَمَ الْهَيْكَلُ نَارًا فَانْطَلَقَ الصَّرِيخُ إِلَى النَّجَاشِيِّ فَأَسِفَ غَضَبًا لِلْبَيْعَةِ ، فَبَعَثَ أَبْرَهَةَ لِهَدْمِ الْكَعْبَةِ .

وَقَالَ فِيهِ : إِنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَبُو مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ وَكَانَ مَكْفُوفَ الْبَصَرِ يُصَيِّفُ بِالطَّائِفِ وَيَشْتُو بِمَكَّةَ ; وَكَانَ رَجُلًا نَبِيهًا نَبِيلًا تَسْتَقِيمُ الْأُمُورُ بِرَأْيهِ ، وَكَانَ خَلِيلًا لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ : مَاذَا عِنْدَكَ هَذَا يَوْمٌ لَا يُسْتَغْنَى فِيهِ عَنْ رَأْيِكَ ؟ فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : اصْعَدْ بِنَا إِلَى حِرَاءَ فَصَعِدَ الْجَبَلَ ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ : اعْمَدْ إِلَى مِائَةٍ مِنَ الْإِبِلِ فَاجْعَلْهَا لِلَّهِ وَقَلِّدْهَا نَعْلًا ثُمَّ أَرْسِلْهَا فِي الْحَرَمِ لَعَلَّ بَعْضَ هَذِهِ السُّودَانِ يَعْقِرُ مِنْهَا شَيْئًا ، فَيَغْضَبَ رَبُّ هَذَا الْبَيْتِ فَيَأْخُذَهُمْ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَعَمَدَ الْقَوْمُ إِلَى تِلْكَ الْإِبِلِ فَحَمَلُوا عَلَيْهَا وَعَقَرُوا بَعْضَهَا وَجَعَلَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ يَدْعُو ، فَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : إِنْ لِهَذَا الْبَيْتِ رَبًّا يَمْنَعُهُ ، فَقَدْ نَزَلَ تُبَّعُ ، مَلِكُ الْيَمَنِ صَحْنَ هَذَا الْبَيْتِ وَأَرَادَ هَدْمَهُ فَمَنَعَهُ اللَّهُ وَابْتَلَاهُ ، وَأَظْلَمَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَمَّا رَأَى تُبَّعُ ذَلِكَ كَسَاهُ الْقَبَاطِيَّ الْبِيضَ ، وَعَظَّمَهُ وَنَحَرَ لَهُ جَزُورًا .

[ ثُمَّ قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ ] فَانْظُرْ نَحْوَ الْبَحْرِ ، فَنَظَرَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَقَالَ : أَرَى طَيْرًا بَيْضَاءَ نَشَأَتْ مِنْ شَاطِئِ الْبَحْرِ ، فَقَالَ : اُرْمُقْهَا بِبَصَرِكَ أَيْنَ قَرَارُهَا ؟ قَالَ أَرَاهَا قَدْ دَارَتْ عَلَى رُءُوسِنَا ، قَالَ : فَهَلْ تَعْرِفُهَا ؟ قَالَ : فَوَاللَّهِ مَا أَعْرِفُهَا مَا هِيَ بِنَجْدِيَّةٍ وَلَا تِهَامِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ وَلَا شَامِيَّةٍ ، قَالَ : مَا قَدُّهَا ؟ قَالَ : أَشْبَاهُ [ الْيَعَاسِيبِ ] ، فِي مِنْقَارِهَا حَصًى كَأَنَّهَا حَصَى الْحَذْفِ ، قَدْ أَقْبَلَتْ كَاللَّيْلِ يَكْسَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا ، أَمَامَ كُلِّ رُفْقَةٍ طَيْرٌ يَقُودُهَا أَحْمَرُ الْمِنْقَارِ أَسْوَدُ الرَّأْسِ طَوِيلُ الْعُنُقِ ، فَجَاءَتْ حَتَّى إِذَا حَاذَتْ بِعَسْكَرِ الْقَوْمِ [ وَكَدَتْ ] فَوْقَ رُءُوسِهِمْ ، فَلَمَّا تَوَافَتِ الرِّجَالُ كُلُّهَا أَهَالَتِ الطَّيْرُ مَا فِي مَنَاقِيرِهِا عَلَى مَنْ تَحْتَهَا ، مَكْتُوبٌ فِي كُلِّ حَجَرٍ اسْمُ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ إِنَّهَا انْصَاعَتْ رَاجِعَةً مِنْ حَيْثُ جَاءَتْ ، فَلَمَّا أَصْبَحَا انْحَطَّا مِنْ ذُرْوَةِ الْجَبَلِ فَمَشَيَا رَبْوَةً فَلَمْ يُؤْنِسَا أَحَدًا ثُمَّ دَنَوْا رَبْوَةً فَلَمْ يَسْمَعَا حِسًّا فَقَالَا بَاتَ الْقَوْمُ [ سَاهِرِينَ ] ، فَأَصْبَحُوا نِيَامًا ، فَلَمَّا دَنَوْا مِنْ عَسْكَرِ الْقَوْمِ فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ، وَكَانَ يَقَعُ [ ص: 540 ] الْحَجَرُ عَلَى بَيْضَةِ أَحَدِهِمْ فَيَخْرِقَهَا حَتَّى يَقَعَ فِي دِمَاغِهِ وَيَخْرِقَ الْفِيلَ وَالدَّابَّةَ وَيَغِيبَ الْحَجَرُ فِي الْأَرْضِ مِنْ شِدَّةِ وَقْعِهِ ، فَعَمَدَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فَأَخَذَ فَأْسًا مِنْ فُؤُوسِهِمْ فَحَفَرَ حَتَّى أَعْمَقَ فِي الْأَرْضِ فَمَلَأَهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، مِنَ الذَّهَبِ الْأَحْمَرِ وَالْجَوْهَرِ ، وَحَفَرَ لِصَاحِبِهِ حُفْرَةً فَمَلَأَهَا كَذَلِكَ ، ثُمَّ قَالَ لِأَبِي مَسْعُودٍ : هَاتِ فَاخْتَرْ إِنْ شِئْتَ حُفْرَتِي وَإِنْ شِئْتَ حُفْرَتَكَ ، وَإِنْ شِئْتَ فَهُمَا لَكَ مَعًا ، قَالَ أَبُو مَسْعُودٍ : اخْتَرْ لِي عَلَى نَفْسِكَ ، فَقَالَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ إِنِّي لَمْ آلُ أَنْ أَجْعَلَ أَجْوَدَ الْمَتَاعِ فِي حُفْرَتِي فَهُوَ لَكَ ، وَجَلَسَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُفْرَتِهِ ، وَنَادَى عَبْدُ الْمُطَّلِبِ فِي النَّاسِ ، فَتَرَاجَعُوا وَأَصَابُوا مِنْ فَضْلِهِمَا حَتَّى ضَاقُوا بِهِ ذَرْعًا ، وَسَادَ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ بِذَلِكَ قُرَيْشًا وَأَعْطَتْهُ الْمُقَادَةَ ، فَلَمْ يَزَلْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَأَبُو مَسْعُودٍ فِي أَهْلِيهِمَا فِي غِنًى مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَدَفَعَ اللَّهُ عَنْ كَعْبَتِهِ وَبَيْتِهِ .

وَاخْتَلَفُوا فِي تَارِيخِ عَامِ الْفِيلِ ; فَقَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَ قَبْلَ مَوْلِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَرْبَعِينَ سَنَةً .

وَقَالَ الْكَلْبِيُّ : بِثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً .

وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْعَامِ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .

قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ ) ؟ قَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَ مَعَهُمْ فِيلٌ وَاحِدٌ . وَقَالَ الضَّحَّاكُ : كَانَتِ الْفِيَلَةُ ثَمَانِيَةٌ . وَقِيلَ اثْنَا عَشَرَ ، سِوَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ ، وَإِنَّمَا وُحِّدَ لِأَنَّهُ نَسَبَهُمْ إِلَى الْفِيلِ الْأَعْظَمِ . وَقِيلَ : لِوِفَاقِ رُءُوسِ الْآيِ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.


التعديل الأخير تم بواسطة ابوالوليد المسلم ; 23-12-2022 الساعة 07:57 PM.
رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 49.27 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 48.61 كيلو بايت... تم توفير 0.66 كيلو بايت...بمعدل (1.34%)]