الحلقة (438)
الجزء الثامن
- تفسير البغوى
سُورَةُ البينة
مكية
الاية 1 إلى الاية 8
سُورَةُ الْبَيِّنَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ( 1 ) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ( 2 ) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ( 3 ) )
( لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ) وَهْمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى ، ( وَالْمُشْرِكِينَ ) وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ ، ( مُنْفَكِّينَ ) [ مُنْتَهِينَ عَنْ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ ] : زَائِلِينَ مُنْفَصِلِينَ ، يُقَالُ : فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ ، أَيِ : انْفَصَلَ ، ( حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ) لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي ، أَيْ : حَتَّى أَتَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ، الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ ، يَعْنِي : مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فَبَيَّنَ لَهُمْ [ ضَلَالَاتِهِمْ ] وَجَهَالَتَهُمْ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ . فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ حَتَّى أَتَاهُمُ الرَّسُولُ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ . ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ : ( رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو ) يَقْرَأُ ( صُحُفًا ) كُتُبًا ، يُرِيدُ مَا يَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا ، وَهُوَ الْقُرْآنُ ; لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لَا عَنِ [ الْكِتَابِ ] ، قَوْلُهُ : ( مُطَهَّرَةً ) مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ . ( فِيهَا ) أَيْ فِي الصُّحُفِ ، ( كُتُبٌ ) يَعْنِي الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِيهَا ، ( قَيِّمَةٌ ) عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ ذَاتِ عِوَجٍ .
( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة ( 4 ) وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة ( 5 ) )
ثم ذكر من لم يؤمن من أهل الكتاب فقال : [ ص: 496 ] ( وما تفرق الذين أوتوا الكتاب ) في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ( إلا من بعد ما جاءتهم البينة ) أي البيان في كتبهم أنه نبي مرسل .
قال المفسرون : لم يزل أهل الكتاب مجتمعين في تصديق محمد - صلى الله عليه وسلم - حتى بعثه الله ، فلما بعث تفرقوا في أمره واختلفوا ، فآمن به بعضهم ، وكفر آخرون .
وقال بعض أئمة اللغة : معنى قوله " منفكين " : هالكين ، من قولهم : انفك [ صلا ] المرأة عند الولادة ، وهو أن ينفصل فلا يلتئم فتهلك .
ومعنى الآية : لم يكونوا هالكين معذبين إلا من بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسول وإنزال الكتاب ، والأول أصح . ثم ذكر ما أمروا به في كتبهم فقال : ( وما أمروا ) يعني هؤلاء الكفار ، ( إلا ليعبدوا الله ) يعني إلا أن يعبدوا الله ، ( مخلصين له الدين ) قال ابن عباس : ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا [ بالإخلاص في ] العبادة لله موحدين ، ( حنفاء ) مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام ، ( ويقيموا الصلاة ) المكتوبة في أوقاتها ، ( ويؤتوا الزكاة ) عند محلها ، ( وذلك ) الذي أمروا به ، ( دين القيمة ) أي الملة والشريعة المستقيمة . أضاف الدين إلى القيمة وهي نعته ، لاختلاف اللفظين ، وأنث " القيمة " ردا بها إلى الملة .
وقيل : الهاء فيه للمبالغة ، وقيل : " القيمة " هي الكتب التي جرى ذكرها ، أي وذلك دين الكتب القيمة فيما تدعو إليه وتأمر به ، كما قال : وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ( البقرة 213 ) .
قال النضر بن شميل : سألت الخليل بن أحمد عن قوله : " وذلك دين القيمة " ؟ فقال : " القيمة " : [ ص: 497 ] جمع القيم ، والقيم والقائم واحد ، ومجاز الآية : وذلك دين القائمين لله بالتوحيد .
( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ( 6 ) إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ( 7 ) جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ( 8 ) )
ثم ذكر ما للفريقين فقال : ( إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية ) قرأ نافع وابن عامر " البريئة " بالهمزة في الحرفين لأنه من قولهم : برأ الله الخلق وقرأ الآخرون مشددا بغير همز كالذرية ترك همزها في الاستعمال .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه ) وتناهى عن المعاصي .
وقيل : الرضا ينقسم إلى قسمين : رضا به ورضا عنه ، فالرضا به : ربا ومدبرا ، والرضا عنه : فيما يقضي ويقدر .
قال السدي رحمه الله : إذا كنت لا ترضى عن الله فكيف تسأله الرضا عنك ؟
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي أخبرنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة قال : سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي : " إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك : " لم يكن الذين كفروا " قال : وسماني ؟ قال : " نعم " فبكى .
وقال همام عن قتادة : " أمرني أن أقرأ عليك القرآن " .
] سُورَةُ الزَّلْزَلَةِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ( 1 ) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ( 2 ) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ( 3 ) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ( 4 ) )
( إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ ) حُرِّكَتِ [ الْأَرْضُ ] حَرَكَةً شَدِيدَةً لِقِيَامِ السَّاعَةِ ، ( زِلْزَالَهَا ) تَحْرِيكَهَا . ( وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ) مَوْتَاهَا وَكُنُوزَهَا فَتُلْقِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ ، حَدَّثَنَا وَاصِلُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " تَقِيءُ الْأَرْضُ أَفْلَاذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ [ الْأُسْطُوَانِ ] مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَتَلْتُ ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي ، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ : فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِي ، ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلَا يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا " . ( وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ) ؟ قِيلَ : فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ : ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ : " مَا لَهَا " ، أَيْ تُخْبَرُ الْأَرْضُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا . [ ص: 502 ]
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي أَيْوبَ ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذِهِ الْآيَةَ ( يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ) قَالَ : " أَتُدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا " ؟ قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ . قَالَ : " فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ وَأَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا ، أَنْ تَقُولَ : عَمِلَ عَلَيَّ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا قَالَ : فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا " .
( بأن ربك أوحى لها ( 5 ) يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم ( 6 ) فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ( 7 ) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ( 8 ) )
( بأن ربك أوحى لها ) أي : أمرها بالكلام وأذن لها بأن تخبر بما عمل عليها . قال ابن عباس والقرظي : أوحى إليها .
ومجاز الآية : يوحي الله إليها ، يقال : أوحى لها ، وأوحى إليها ووحى لها ، ووحى إليها ، واحد . قوله تعالى : ( يومئذ يصدر الناس ) يرجع الناس عن موقف الحساب بعد العرض ، ( أشتاتا ) متفرقين فآخذ ذات اليمين إلى الجنة وآخذ ذات الشمال إلى النار ، كقوله : يومئذ يتفرقون ( الروم - 14 ) ، يومئذ يصدعون ( الروم - 43 ) . ( ليروا أعمالهم ) قال ابن عباس : ليروا جزاء أعمالهم ، والمعنى : أنهم يرجعون عن الموقف فرقا لينزلوا منازلهم من الجنة والنار . ( فمن يعمل مثقال ذرة ) وزن نملة صغيرة أصغر ما يكون من النمل . ( خيرا يره ) ( ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ) قال ابن عباس : ليس مؤمن ولا كافر عمل خيرا أو شرا في الدنيا إلا أراه الله إياه يوم القيامة ، فأما المؤمن فيرى حسناته وسيئاته فيغفر الله سيئاته [ ص: 503 ] ويثيبه بحسناته ، وأما الكافر فترد حسناته ويعذبه بسيئاته .
قال محمد بن كعب في هذه الآية " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره " : من كافر يرى ثوابه في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله خير ، " ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " من مؤمن يرى عقوبته في الدنيا في نفسه وماله وأهله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس له عند الله شر .
قال مقاتل : نزلت هذه الآية في رجلين ، وذلك أنه لما نزل ويطعمون الطعام على حبه كان أحدهما يأتيه السائل فيستقل أن يعطيه التمرة والكسرة والجوزة ونحوها ، يقول : ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان الآخر يتهاون بالذنب اليسير كالكذبة والغيبة والنظرة وأشباه ذلك ، ويقول : إنما وعد الله النار على الكبائر ، وليس في هذا إثم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يرغبهم في القليل من الخير أن يعطوه ، فإنه يوشك أن يكثر ، ويحذرهم اليسير من الذنب ، فإنه يوشك أن يكثر ، فالإثم الصغير في عين صاحبه أعظم من الجبال يوم القيامة ، وجميع محاسنه [ في عينه ] أقل من كل شيء .
قال ابن مسعود : أحكم آية في القرآن " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " .
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسميها الجامعة الفاذة حين سئل عن زكاة الحمر فقال : " ما أنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الجامعة الفاذة " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " .
وتصدق عمر بن الخطاب ، وعائشة بحبة عنب ، وقالا فيها مثاقيل كثيرة .
وقال الربيع بن خثيم : مر رجل بالحسن وهو يقرأ هذه السورة فلما بلغ آخرها قال : حسبي قد انتهت الموعظة . [ ص: 504 ]
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أخبرنا محمد بن القاسم ، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله ، حدثنا الحسن بن سفيان ، حدثنا علي بن حجر ، حدثنا يزيد بن هارون ، حدثنا اليمان بن المغيرة ، حدثنا عطاء عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إذا زلزلت الأرض " تعدل نصف القرآن ، " قل هو الله أحد " ، تعدل ثلث القرآن ، " قل يا أيها الكافرون " تعدل ربع القرآن " .
سُورَةُ الْعَادِيَاتِ
مَكِّيَّةٌ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ( 1 ) )
( وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالْحَسَنُ ، وَالْكَلْبِيُّ ، وَقَتَادَةُ ، وَالْمُقَاتِلَانِ ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَغَيْرُهُمْ : هِيَ الْخَيْلُ الْعَادِيَةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - تَضْبَحُ ، وَالضَّبْحُ : صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عَدَتْ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنَ الْحَيَوَانَاتِ تَضْبَحُ غَيْرُ الْفَرَسِ وَالْكَلْبِ وَالثَّعْلَبِ ، وَإِنَّمَا تَضْبَحُ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتُ إِذَا تَغَيَّرَ حَالُهَا مِنْ تَعَبٍ أَوْ فَزَعٍ ، وَهُوَ مِنْ [ قَوْلِهِمْ ] ضَبَحَتْهُ النَّارُ ، إِذَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ .
[ وَقَوْلُهُ : " ضَبْحًا " نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ ، مَجَازُهُ : وَالْعَادِيَّاتُ تَضْبَحُ ضَبْحًا ] .
وَقَالَ عَلِيٌّ : هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ ، تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ ، وَمِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى ، وَقَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ ، [ كَانَتْ أَوَّلُ غَزْوَةٍ فِي الْإِسْلَامِ بَدْرًا ] وَمَا كَانَ مَعَنَا إِلَّا فَرَسَانِ ، فَرَسٌ لِلزُّبَيْرِ وَفَرَسٌ لِلْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْخَيْلُ الْعَادِيَاتُ ؟ وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ ، وَالسُّدَّيُّ .
وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ : هِيَ الْإِبِلُ : قَوْلُهُ " ضَبْحًا " يَعْنِي ضِبَاحًا تَمُدُّ أَعْنَاقَهَا فِي السَّيْرِ .
[ ص: 508 ] ( فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ( 2 ) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ( 3 ) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ( 4 ) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ( 5 ) )
( فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ) قَالَ عِكْرِمَةُ ، وَعَطَاءٌ ، وَالضَّحَّاكُ ، وَمُقَاتِلٌ ، وَالْكَلْبِيُّ ، : هِيَ الْخَيْلُ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا إِذَا سَارَتْ فِي الْحِجَارَةِ . يَعْنِي : وَالْقَادِحَاتِ قَدْحًا يَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ .
وَقَالَ قَتَادَةُ : هِيَ الْخَيْلُ تُهَيِّجُ الْحَرْبَ وَنَارَ الْعَدَاوَةِ بَيْنَ فُرْسَانِهَا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : هِيَ الْخَيْلُ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ تَأْوِي بِاللَّيْلِ [ إِلَى مَأْوَاهَا ] فَيُوَرُّونَ نَارَهُمْ ، وَيَصْنَعُونَ طَعَامَهُمْ .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ، وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ : هِيَ مَكْرُ الرِّجَالِ ، يَعْنِي رِجَالَ الْحَرْبِ ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ : أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لْأُوَرِّيَنَّ لَكَ .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ : هِيَ النِّيرَانُ تَجْتَمِعُ . ( فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ) هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ بِفُرْسَانِهَا ، عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصَّبَاحِ ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ : هِيَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى ، وَالسُّنَّةُ أَنْ لَا تَدْفَعُ [ بَرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ ] حَتَّى تُصْبِحَ وَالْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ : أَشْرَقَ ثَبِيرٌ كَيْمَا نُغِيرُ . ( فَأَثَرْنَ بِهِ ) أَيْ هَيَّجْنَ بِمَكَانِ [ سَيْرِهِنَّ ] كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ ، لِأَنَّ الْمَعْنَى مَفْهُومٌ ، ( نَقْعًا ) غُبَارًا ، وَالنَّقْعُ : الْغُبَارُ . ( فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ) أَيْ دَخَلْنَ بِهِ وَسَطَ جَمْعِ الْعَدُوِّ ، وَهُمُ الْكَتِيبَةُ يُقَالُ : وَسَطْتُ ، الْقَوْمَ بِالتَّخْفِيفِ ، وَوَسَّطْتُهُمْ ، بِالتَّشْدِيدِ ، وَتَوَسَّطُّهُمْ بِالتَّشْدِيدِ ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ . قَالَ الْقُرَظِيُّ : [ هِيَ الْإِبِلُ تَوَسَّطُ بِالْقَوْمِ ] يَعْنِي جَمْعَ مِنًى ، [ هَذَا مَوْضِعُ الْقَسَمِ ] ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ .