عرض مشاركة واحدة
  #8  
قديم 20-12-2022, 05:40 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,154
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2357 الى صـ 2372
الحلقة (328)





وروى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص أنه أقبل مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم من العالية، حتى إذا مر بمسجد بني معاوية، دخل فركع فيه ركعتين، وصلينا معه ودعا ربه طويلا، ثم انصرف إلينا فقال: «سألت ربي ثلاثا، فأعطاني ثنتين، ومنعني واحدة. سألت [ ص: 2357 ] ربي أن لا يهلك أمتي بالسنة، فأعطانيها. وسألته أن لا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها. وسألت ربي أن لا يجعل بأسهم بينهم، فمنعنيها» .

وروى الإمام أحمد من حديث أبي بصرة نحوه، لكن قال (بدل خصلة الإهلاك). أن لا يجمعهم على ضلالة. وكذا الطبري من مرسل الحسن.

قال الخفاجي: فإن قلت: كيف أجيبت الدعويان، وسيكون خسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب؟ أي: كما رواه الترمذي وغيره؟ قلت: الممنوع خسف مستأصل لهم، وأما عدم إجابته في بأسهم، فبذنوب منهم، ولأنهم بعد تبليغه صلى الله عليه وسلم لهم، ونصيحته لهم، لم يعملوا بقوله. انتهى.

وقد روى أحمد والترمذي من حديث سعد بن أبي وقاص قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: قل هو القادر إلخ. فقال: «أما إنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد» . قال الحافظ ابن حجر: وهذا يحتمل أن لا يخالف حديث جابر، بأن المراد بتأويلها [ ص: 2358 ] ما يتعلق بالفتن ونحوها. انتهى. أي: مما ستصدق عليها الآية، ولما تقع بالمسلمين. فقوله: إنها كائنة، أي: في المسلمين، لا أنها خطاب لهم، ونزولها فيهم - كما وهم - إذ يدفعه السياق والسباق، وتتمة الآية - كما لا يخفى - وسنزيده بيانا.

الثاني: ما روي عن ابن عباس من أنه كان يقول في قوله تعالى: عذابا من فوقكم يعني أئمة السوء و: من تحت أرجلكم يعني: خدم السوء. رواه ابن جرير وابن أبي حاتم. فإن صح عنه، فمراده أن لفظ الآية مما يصدق على ذلك؛ لأن العذاب كل ما مر (من المرارة) على النفس، وشق عليها، لا أن ذلك هو المراد من الآية. لنبوه عن مقام التهويل، في شديد الوعيد، ولخفاء الكناية عن ذلك من جوهر اللفظ، ولعدم موافقته لنظائر الآية في هذا الباب - كما لا يخفى.

والظاهر أن السلف كانوا يتلون بعض الآيات في بعض المقامات، إشعارا بأن معناها يحاكي تلك الواقعات، لا أنها نزلت في تلك القضيات. ومن ذلك قول أبي بن كعب، قال في هذه الآية: هن أربع خلال، كلهن واقع، منها ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين: (ألبسوا شيعا) و (ذاق بعضهم بأس بعض)، وبقيت اثنتان لا بد منهما الرجم والخسف - رواه الإمام أحمد وغيره - وقد أعل هذا الأثر بأن أبيا لم يدرك سنة خمس وعشرين من الوفاة النبوية، وكأن التقييد بذلك من كلام أبي العالية، رواية عنه. وبالجملة، فاستشهاد السلف بالآيات في بعض الشؤون، للإشعار المذكور - مما لا ينكر، فافهم ذلك، فإنه ينفعك في مواطن كثيرة.
[ ص: 2359 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[66] وكذب به قومك وهو الحق قل لست عليكم بوكيل

قوله تعالى: وكذب به قومك أي: بالقرآن المجيد: وهو الحق أي: الكتاب الصادق في كل ما نطق به قل لست عليكم بوكيل أي: لم يفوض إلي أمركم فأمنعكم من التكذيب، وأجبركم على التصديق. إنما أنا منذر، وقد بلغت. وبعضهم أرجع الضمير في (به) للعذاب. أي: كذب بالعذاب الموعود، قومك المعاندون، وهو الواقع لا محالة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[67] لكل نبإ مستقر وسوف تعلمون

لكل نبإ مستقر أي: لكل خبر عظيم وقت استقرار، لصدقه أو كذبه وسوف تعلمون أي: مستقر هذا النبأ ومآله، وأن العاقبة له، كما قال تعالى: ولتعلمن نبأه بعد حين
القول في تأويل قوله تعالى:

[68] وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين

وإذا رأيت الذين يخوضون أي: بالطعن والاستهزاء في آياتنا أي: المنسوبة إلى مقام عظمتنا، التي حقها أن تعظم بما يناسب عظمتنا. والموصول كناية عن مشركي مكة، فقد كان ديدنهم ذلك فأعرض عنهم أي: فلا تجالسهم، وقم عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره أي: حتى يأخذوا في كلام آخر، غير ما كانوا فيه من الخوض في آياتنا.

[ ص: 2360 ] وإما ينسينك الشيطان بأن يشغلك فتنسى النهي عن مجالستهم فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين أي: إن ينسينك الشيطان، فجلست معهم، فلا تؤاخذ به، لكن إذا ذكرت النهي، فلا تقعد معهم؛ لأنهم ظالمون بالطعن في الكلام المعجز، عنادا.

وفي الحديث: «إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» - رواه الطبراني عن ثوبان مرفوعا. وإسناده صحيح - وهذه الآية هي المشار إليها في قوله تعالى: وقد نـزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم الآية. لأن في حضور المنكر مع إمكان التباعد عنه، مشاركة لصاحبه.

فوائد:

قال السيوطي في "الإكليل": في هذه الآية وجوب اجتناب مجالس الملحدين، وأهل اللغو، ويستدل بها على أن الناسي غير مكلف، وأنه إذا ذكر عاد إليه التكليف، فيعفى عما ارتكبه في حال نسيانه. ويندرج تحت ذلك مسائل كثيرة في العبادات والتعليقات. انتهى.

وقال الرازي: ومن الحشوية من استدل بهذه الآية في النهي عن الاستدلال والمناظرة في ذات الله تعالى وصفاته. قال: لأن ذلك خوض في آيات الله، والخوض في آيات الله حرام بدليل هذه الآية.

والجواب عنه: أن المراد من الخوض في الآية الشروع في الطعن والاستهزاء. فسقط هذا الاستدلال. والله أعلم.

[ ص: 2361 ] وقال بعض مفسري الزيدية - ثمرة الآية أحكام:

الأول: وجوب الإعراض عن مجالس المستهزئين بآيات الله أو بحججه أو برسله، وأن لا يقعد معهم؛ لأن في القعود إظهار عدم الكراهة؛ وذلك لأن التكليف عام لنا، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يجب الإعراض، وترك الجلوس معهم، إذا لم يطمع في قبولهم، فإذا انقطع طمعه إذا، فلا فائدة في دعائهم. ويجب القيام عن مجالسهم إذا عرف أن قيامه يكون سببا في ترك الخوض، وأنهم إنما يفعلونه مغايظة للواقف، إذ كان وقوفه يوهم عدم الكراهة.

الحكم الثاني: جواز مجالسة الكفار، مع عدم الخوض؛ لأنه إنما أمرنا بالإعراض مع الخوض. وأيضا فقد قال تعالى: حتى يخوضوا في حديث غيره قال الحاكم: والآية تدل أيضا على المنع من مجالسة الظلمة والفسقة، إذا أظهروا المنكرات، وتدل على إباحة الدخول عليهم لغرض، كما يباح للتذكير. وفي الآية أيضا دلالة على وجوب الإنكار؛ لأن الإعراض إنكار. قال: وتدل على أن التقية من الأنبياء والأئمة بإظهارهم المنكر لا تجوز، خلاف الإمامية، وتدل على جواز النسيان على الأنبياء.

الحكم الثالث: أن الناسي مرفوع عنه الحرج، فإن قيل: النسيان فعل الله، فلم أضيف إلى الشيطان؟ أجيب: بأن السبب من الشيطان، وهو الوسوسة والإعراض عن الذكر، فأضيف إليك لذلك. كما أن من ألقى غيره في النار فمات، يقال، إنه القاتل، وإن كان الإحراق فعل الله، واختلف في النسيان ما هو؟ فقال الحاكم: هو معنى يحدثه الله في القلب. وقال أبو هاشم وأصحابه: ليس بمعنى، وإنما هو زوال العلم الضروري الذي جرت العادة بحصوله. انتهى.
[ ص: 2362 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[69] وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون

وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء أي: وما يلزم المتقين الذين يجالسونهم شيء عما يحاسبون عليه من خوضهم ولكن ذكرى أي: ولكن أمروا بالإعراض عنهم، ليكون ذكرى لضعفاء المسلمين؛ لئلا يقع شيء من مطاعن المستهزئين في قلوبهم لعلهم يتقون أي: يبلغ مبلغ التوقي من شبهاتهم، بالجلوس مع علمائه بدلهم.

تنبيهان:

الأول: ما ذكرناه في معنى الآية، هو ما قرره المهايمي رحمه الله تعالى. وقيل: المعنى: ولكن على المتقين أن يذكروهم ذكرى إذا سمعوهم يخوضون، بالقيام عنهم، وإظهار الكراهة لهم وموعظتهم، لعلهم يتقون الخوض حياء أو كراهة لمساءتهم، فلا يعودون إليه، وجوزوا أن يكون الضمير: للذين يتقون ، أي: يذكرونهم رجاء أن يثبتوا على تقواهم، أو يزدادوها. انتهى.

وما ذكرناه أسد وأوجه.

وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير، قال في الآية: أي: ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك. أي: إذا تجنبتهم، وأعرضت عنهم. وعليه فالموصول كناية عن النبي صلى الله عليه وسلم. التفت به تعظيما وتكريما.

الثاني: قال السيوطي في "الإكليل": قد يستدل بقوله تعالى: وما على الذين يتقون إلخ على أن من جالس أهل المنكر، وهو غير راض بفعلهم، فلا إثم عليه. لكن آية النساء تدل على أنه آثم، ما لم يفارقهم؛ لأنه قال: إنكم إذا مثلهم . أي: [ ص: 2363 ] إن قعدتم فأنتم مثلهم في الإثم، وهي متأخرة. فيحتمل أن تكون ناسخة لهذه كما ذهب إليه قوم منهم السدي. أقول: المنفي في الآية هو لحوق شيء من وبال الخائضين، وإثم كفرهم لمجالسيهم المتقين، فلا ينافي ذلك لحوق وبال المجالسة على انفرادها، وهو ما أفادته آية النساء. فالمثلية إذن في مطلق الإثم، وإن تباين (ماصدقه) فيهما؛ إذ لا قائل بأن مطلق مجالستهم ردة وكفر. نعم! لو قيل بأن المثلية محمولة على ما إذا حصل الرضا بشأن مجالستهم، فلا إشكال إذن. وبالجملة فاستدلال "الإكليل" واه، ولذا عبر ب (قد)، ودعوى النسخ أوهى. فتأمل! القول في تأويل قوله تعالى:

[70] وذر الذين اتخذوا دينهم لعبا ولهوا وغرتهم الحياة الدنيا وذكر به أن تبسل نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون

وذر الذين اتخذوا دينهم أي: الذي كلفوه ودعوا إليه، وهو دين الإسلام لعبا ولهوا حيث سخروا به واستهزؤوا: وغرتهم الحياة الدنيا حيث اطمأنوا بها، وزعموا أن لا حياة بعدها أبدا، وأن السعادة في لذاتها. أي: أعرض عنهم، ودعهم، ولا تبال بتكذيبهم، وأمهلهم قليلا، فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم وذكر به أي: ذكر الناس بهذا القرآن: أن تبسل نفس بما كسبت أي: مخافة أن تسلم إلى الهلاك، وترتهن بسوء كسبها. وغرورها بإنكار الآخرة. يقال: أبسله لكذا: عرضه ورهنه، [ ص: 2364 ] أو أسلمه للهلكة ليس لها من دون الله ولي ينصرها بالقوة: ولا شفيع يدفع عنها بالمسألة.

وإن تعدل كل عدل لا يؤخذ منها أي: وإن تفد كل نوع من أنواع الفداء، بما يقابل العذاب، لا يقبل منها، لبعدهم عن مقام الفداء. والعدل: الفدية؛ لأن الفادي يعدل المفدى بمثله.

أولئك إشارة إلى المتخذين دينهم لعبا ولهوا: الذين أبسلوا أي: سلموا للهلاك، بحيث لا يعارضه شيء بما كسبوا بهذا الاغترار من إنكار الآخرة معها، والانهماك في الشهوات المحرمة لهم شراب من حميم أي: ماء مغلي يتجرجر في بطونهم، وتقطع به أمعاؤهم وعذاب أليم أي: بنار تشتعل بأبدانهم بما كانوا يكفرون أي: بسبب كفرهم.
القول في تأويل قوله تعالى:

[71] قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا بعد إذ هدانا الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران له أصحاب يدعونه إلى الهدى ائتنا قل إن هدى الله هو الهدى وأمرنا لنسلم لرب العالمين

قل أندعو من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا أي: أنعبد من دونه ما لا يقدر على نفعنا، إن دعوناه، ولا ضرنا إن تركناه ونرد على أعقابنا عطف على (ندعو)، داخل في حكم الإنكار والنفي. أي: ونرد إلى الشرك. والتعبير عنه بالرد على الأعقاب - لزيادة تقبيحه بتصويره بصورة ما هو علم في القبح، مع ما فيه من الإشارة إلى كون الشرك حالة قد تركت ونبذت وراء الظهر . أفاده أبو السعود.

بعد إذ هدانا الله أي: للإسلام والتوحيد، وأنقذنا من عبادة الأصنام، فنصير [ ص: 2365 ] كالمستمر على الضلال، بل: كالذي استهوته الشياطين أي: استمالته عن الطريق الواضح مردة الجن في الأرض القفر المهلكة حيران أي: تائها ضالا عن الجادة، لا يدري كيف يصنع له أي: لهذا المستهوى: أصحاب أي: رفقة: يدعونه إلى الهدى أي: إلى الطريق المستقيم ائتنا على إرادة القول، أي: يقولون: ائتنا. أي: وهو قد اعتسف المهمه، تابعا للشياطين، لا يجيبهم ولا يأتيهم. فشبه حال من خلص من الشرك، ثم عاد له، بحال من ذهب به المردة في مهمه بعد ما كان على الجادة، ولا يدري مقصده الذي هو سائر إليه، مع وجود رفقة تناديه لتهديه، وهو لا يسمع لهم قل إن هدى الله أي: الذي أرسل به رسله هو الهدى أي: وما وراءه ضلال وغي وأمرنا لنسلم لرب العالمين
القول في تأويل قوله تعالى:

[72] وأن أقيموا الصلاة واتقوه وهو الذي إليه تحشرون

وأن أقيموا الصلاة واتقوه أي: في مخالفة أمره وأن أقيموا عطف على: لنسلم . ومعناه: أن نسلم. فاللام فيه رديفة: أن ، أو عطف عليه; واللام تعليلية، أي: للإسلام، ولإقامة الصلاة. وفي ورود: أقيموا الصلاة محكيا بصيغته، وورود: نسلم محكيا بمعناه. احتمال أن يكون صلى الله عليه وسلم حكى قول الله بمعناه، دون لفظه. انظر "الانتصاف".

تنبيه:

في تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع، وعطفها على الأمر بالإسلام، وقرنها بالأمر بالتقوى - دليل على تفخيم أمرها، وعظيم شأنها - ذكره بعض الزيدية -: وهو الذي إليه تحشرون
[ ص: 2366 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[73] وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم يقول كن فيكون قوله الحق وله الملك يوم ينفخ في الصور عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير

وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق أي: بالحكمة، كقوله: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا

وقوله تعالى: ويوم يقول كن فيكون قوله الحق بيان لقدرته تعالى على حشرهم، بكون مراده لا يتخلف عن أمره، وأن قوله هو النافذ والواقع، والمراد ب (القول) كلمة (كن) تحقيقا أو تمثيلا. ف (قوله الحق) مبتدأ وخبر. و (يوم) ظرف لمضمون هذه الجملة. كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون

وكأن قوله تعالى: وهو الذي خلق السماوات إلخ عقب قوله: وهو الذي إليه تحشرون سيق للاحتجاج على قدرته تعالى على البعث، ردا على منكري ذلك من المشركين، الذين السياق فيهم. وما أشبه الآية بقوله تعالى: أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم إنما أمره إذا أراد شيئا

ولا يخفى أن باستحضار النظائر القرآنية، تنجلي الحقائق. وقد توسع المفسرون هنا في إعراب هذه الجملة، بسرد وجوه ضاع الظاهر بينها - وقد علمته؛ فاحرص عليه.

[ ص: 2367 ] وله الملك يوم ينفخ في الصور أي: فلا بد أن يفعل بالمطيع والعاصي فعل الملوك، لمن يطيعهم أو يعصيهم. ف (يوم) ظرف لقوله: وله الملك - قاله أبو السعود - وتقييد اختصاص الملك به تعالى، بذلك اليوم، مع اليوم، مع عموم الاختصاص لجميع الأوقات، لغاية ظهور ذلك. بانقطاع العلائق المجازية الكائنة في الدنيا، المصححة للمالكية المجازية في الجملة، كقوله تعالى: لمن الملك اليوم لله الواحد القهار وقوله: الملك يومئذ الحق للرحمن

وقد زعم بعضهم أن المراد ب (الصور) هنا جمع صورة، أي: يوم ينفخ فيها، فتحيا. قال ابن كثير: والصحيح أن المراد ب (الصور) القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام، وهكذا قال ابن جرير: الصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إسرافيل قد التقم الصور، وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ» .

وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال: إن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصور؟ [ ص: 2368 ] فقال: «قرن ينفخ فيه» . ورواه أبو داود والترمذي والحاكم، عنه أيضا.

عالم الغيب والشهادة أي: هو عالمهما وهو الحكيم الخبير ذو الحكمة في سائر أفعاله. والعلم بالأمور الجلية والخفية.
ثم أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يذكر لمن اتخذ دينه هزوا ولعبا إنكار إبراهيم عليه الصلاة والسلام - الذي يزعمون أنهم على دينه، ويفتخرون به - على أبيه في شركه بقوله سبحانه:

القول في تأويل قوله تعالى:

[74] وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين

وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما أي: صورا مصنوعة آلهة إني أراك وقومك في ضلال مبين أي: باعتقاد إلهيتها، أو اتصافها بصفاته، أو استحقاقها للعبادة؛ لأن الإلهية بوجوب الوجود بالذات، وهي ممكنة مصنوعة وأنى لها الاتصاف بصفاته، وهي عاجزة عن النفع والضر، خالية عن الحياة والسمع والبصر، والعبادة غاية التذلل، فلا يستحقها من لا يخلو عن هذه الوجوه من الذلة، وإنما يستحقها من كان في غاية العلو - أفاده المهايمي -.

تنبيهات:

الأول: قرئ: آزر بالنصب، عطف بيان لقوله: لأبيه وبالضم على النداء.

الثاني: الآية حجة على الشيعة في زعمهم أنه لم يكن أحد من آباء الأنبياء كافرا، وأن آزر عم إبراهيم، لا أبوه، على ما بسطه الرازي هنا، وذلك لأن الأصل في الإطلاق الحقيقة، ومثله لا يجزم به من غير نقل.

[ ص: 2369 ] الثالث: قال بعض مفسري الزيدية: في الآية دلالة على بطلان قول الإمامية: إن الإمام لا يجوز أن يكون أبوه كافرا؛ لأنه إذا جاز نبي أبوه وزوجته كافران فالإمام أولى.

اشتمل كلام إبراهيم عليه الصلاة والسلام على ذكر الحجة العقلية إجمالا على فساد قول عبدة الأصنام، بإنكاره اتخاذها آلهة، وهي ما هي في عجزها. وقد جاءت مفصلة في سورة مريم في قوله: واذكر في الكتاب إبراهيم إنه كان صديقا نبيا إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا يا أبت إني قد جاءني من العلم ما لم يأتك فاتبعني أهدك صراطا سويا يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا يا أبت إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن فتكون للشيطان وليا قال أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا الآيات.

قال ابن كثير: ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة وغبرة. فيقول إبراهيم: ألم أقل لك لا تعصني؟ فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني يوم أن لا تخزني يوم يبعثون، فأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين. ثم يقال: يا إبراهيم! انظر ما تحت رجليك، فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار» .

الرابع: قال بعض مفسري الزيدية: ثمرة الآية الدلالة على وجوب النصيحة في الدين، لا سيما للأقارب، فإن من كان أقرب، فهو أهم. ولهذا قال تعالى: وأنذر عشيرتك الأقربين [ ص: 2370 ] وقال تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا قال صلى الله عليه وسلم: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» . ولهذا بدأ صلى الله عليه وسلم بعلي وخديجة وزيد، وكانوا معه في الدار، فآمنوا وسبقوا، ثم بسائر قريش، ثم بالعرب، ثم بالموالي. وبدأ إبراهيم بأبيه، ثم بقومه. وتدل هذه الآية على أن النصيحة في الدين والذم والتوبيخ لأجله، ليس من العقوق، كالهجرة - هكذا في التهذيب. انتهى.
[ ص: 2371 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[75] وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين

وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض أي: نطلعه على حقائقهما، ونبصره في دلالتهما على شؤونه عز وجل، من حيث إنهما بما فيهما، مربوبان ومملوكان، له تعالى. و (الملكوت) مصدر على زنة المبالغة، كالرهبوت والجبروت، ومعناه: الملك العظيم، والسلطان القاهر. وقيل: ملكوتهما عجائبهما وبدائعهما. وقد أسلفنا الكلام في (وكذلك) قريبا عند قوله تعالى: وكذلك فتنا وأن مختار الزمخشري كونه إشارة إلى مصدر ما بعده، والكاف مقحمة، والتقدير: تلك الإراءة والتبصير البديع، نريه ونبصره. فجدد به عهدا.

وليكون من الموقنين عطف على علة محذوفة لم تقصد بعينها، إشعارا بأن لتلك الإراءة فوائد جمة، من جملتها ما ذكر.

قال المهايمي في الآية: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليعلم أن شيئا من روحانيات الأفلاك والكواكب والمشايخ والشياطين لا يصلح للإلهية وليكون من الموقنين بالتوحيد بالاستدلال بالأدلة الكثيرة. وقيل: وليكون علة لمقدر هو عبارة عن المذكور. أي: وليكون من الموقنين بالتوحيد، فعلنا ما فعلنا من الإراءة والتبصير بآيات السماوات والأرض.

لطائف:

الأولى: قال الرازي: وههنا دقيقة عقلية، وهي أن نور جلال الله تعالى لائح غير [ ص: 2372 ] منقطع ولا زائل البتة، والأرواح البشرية، لا تصير محرومة عن تلك الأنوار إلا لأجل حجاب، وذلك الحجاب ليس إلا الاشتغال بغير الله تعالى. فإذا كان الأمر كذلك. فبقدر ما يزول ذلك الحجاب، يحصل هذا التجلي. فقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: أتتخذ أصناما آلهة إشارة إلى تقبيح الاشتغال بعبادة غير الله تعالى؛ لأن كل ما سوى الله فهو حجاب عن الله تعالى، فلما زال ذلك الحجاب، لا جرم تجلى له ملكوت السماوات بالتمام. فقوله: وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات معناه: وبعد زوال الاشتغال بغير الله حصل له نور تجلى جلال الله تعالى، فكان قوله: وكذلك منشأ لهذه الفائدة الشريفة الروحانية.

الثانية: قال الرازي: اليقين عبارة عن علم يحصل بعد زوال الشبهة بسبب التأمل. ولهذا المعنى لا يوصف علم الله تعالى بكونه يقينا؛ لأن علمه غير مسبوق بالشبهة، وغير مستفاد من الفكر والتأمل. واعلم أن الإنسان في أول ما يستدل به، فإنه لا ينفك قلبه عن شك وشبهة من بعض الوجوه، فإذا كثرت الدلائل وتوافقت وتطابقت، صارت سببا لحصول اليقين. وذلك لوجوه:

الأول: أنه يحصل لكل واحد من تلك الدلائل نوع تأثر وقوة، فلا تزال القوة تتزايد حتى تنتهي إلى الجزم.

الثاني: أن كثرة الأفعال سبب لحصول الملكة. فكثرة الاستدلال بالدلائل المختلفة على المدلول الواحد، جار مجرى تكرار الدرس الواحد. فكما أن كثرة التكرار تفيد الحفظ المتأكد الذي لا يزول عن القلب، فكذا ههنا.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.38%)]