عرض مشاركة واحدة
  #5  
قديم 20-12-2022, 05:17 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,077
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير "محاسن التأويل"محمد جمال الدين القاسمي متجدد إن شاء الله


تفسير "محاسن التأويل"

محمد جمال الدين القاسمي
سُورَةُ الْأَنْعَامِ
المجلد السادس
صـ 2312 الى صـ 2327
الحلقة (325)




لطيفة:

إن قلت: قد أسند تعالى هنا التزيين إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله: كذلك زينا لكل أمة عملهم . فهل هو حقيقة فيهما. أو في أحدهما؟ قلت: وقع التزيين [ ص: 2312 ] في مواقع كثيرة: فتارة أسنده إلى الشيطان، كالآية الأولى، وتارة إلى نفسه كالثانية، وتارة إلى البشر كقوله: وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم - في قراءة - وتارة مجهولا غير مذكور فاعله كقوله: زين للمسرفين ؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسنا مزينا في نفس الأمر، كقوله تعالى: زينا السماء الدنيا والثاني: جعله مزينا من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، والثالث: جعله محبوبا للنفس، مشتهى للطبع، وإن لم يكن في نفسه كذلك. فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة، لإيجاده له، ولغة ونحوا لاتصافه بخلقه. وإن كان بمجرد تزويره وترويجه بالقول وما يشبهه، كالوسوسة والإغواء، [ ص: 2313 ] فهذا لا يسند إليه تعالى حقيقة، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإذا لم يذكر فاعله، يقدر في كل مكان ما يليق به. كذا في "العناية".
القول في تأويل قوله تعالى:

[44] فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون

فلما نسوا ما ذكروا به أي: من البأساء والضراء، أي: تركوا الاتعاظ به: فتحنا عليهم أبواب كل شيء أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن، وصنوف رغائبهم، استدراجا وإملاء ومكرا بهم، عياذا بالله من مكره حتى إذا فرحوا بما أوتوا من مطالبهم ورغائبهم، مع الشرك: أخذناهم أي: بالعذاب المستأصل بغتة أي: فجأة بلا تقديم مذكر، إذ لم يفدهم في المرة الأولى فإذا هم مبلسون متحسرون، يئسون من كل خير.
القول في تأويل قوله تعالى:

[45] فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين

فقطع دابر القوم الذين ظلموا أي: آخرهم. كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله. وهو من (دبره) إذا تبعه، فكان في دبره. أي: خلفه. فالدابر ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه تجوزا. وقال أبو عبيد: دابر القوم آخرهم. وقال الأصمعي: الدابر الأصل، ومنه: قطع الله دابره: أصله.

والحمد لله رب العالمين أي: على ما جرى عليهم من الهلاك. فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض، من شؤم عقائدهم وأعمالهم، نعمة جليلة يحق أن يحمد عليها، لا سيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم، عليهم السلام.

[ ص: 2314 ] تنبيهات:

الأول: روي في هذه الآية أخبار وآثار. منها ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج» . ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلما نسوا ما ذكروا به - إلى: هم مبلسون ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عنه.

وروى ابن أبي حاتم أيضا عن عبادة بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «إذا أراد الله بقوم اقتطاعا فتح لهم (أو فتح عليهم) باب خيانة حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة الآية.» . ورواه أحمد وغيره.

وقال الحسن البصري: من وسع الله عليه، فلم ير أنه يمكر به، فلا رأي له. ومن قتر عليه، ولم ير أنه ينظر له، فلا رأي له. ثم قرأ: فلما نسوا الآية. - قال الحسن: مكر بالقوم ورب الكعبة! أعطوا حاجاتهم ثم أخذوا.

وقال قتادة: بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوما قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله، فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون - روى ذلك ابن أبي حاتم -.

الثاني: قال الرازي: قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد، لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية.

الثالث: قال الزمخشري: في قوله تعالى: والحمد لله رب العالمين إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأنه من أجل النعم، وأجزل القسم. أي: فهو إخبار بمعنى الأمر، تعليما للعباد.

[ ص: 2315 ] قال الناصر في "الانتصاف": ونظيرها قوله تعالى: وأمطرنا عليهم مطرا فساء مطر المنذرين قل الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى فيمن وقف ههنا، وجعل الحمد على إهلاك المتقدم ذكرهم من الطاغين، ومنهم من وقف على: المنذرين وجعل الحمد متصلا بما بعده من إقامة البراهين على وحدانية الله تعالى، وأنه جل جلاله خير مما يشركون. فعلى الأول يكون الحمد ختما، وعلى الثاني فاتحة، وهو مستعمل فيهما شرعا، ولكنه في آية النمل أظهر في كونه مفتتحا لما بعده، وفي آية الأنعام ختم لما تقدمه حتما؛ إذ لا يقتضي السياق غير ذلك. انتهى.

فقلت: إذا جرينا على ما هو الأسد في الآي من توافق النظائر، اقتضى حمل آية النمل على ما هنا، وادعاء الأظهرية فيها ممنوع. فإن التنزيل يفسر بعضه بعضا. فتأمل. ثم أمر تعالى رسوله بتكرير التبكيت عليهم. وتثنية الإلزام.
القول في تأويل قوله تعالى:

[46] قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به انظر كيف نصرف الآيات ثم هم يصدفون

يقول تعالى: قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم بأن أصمكم وأعماكم وختم على قلوبكم بأن غطى عليها ما يزول به عقلكم وفهمكم: من إله غير الله يأتيكم به أي: بذلك المأخوذ. وإنما خصت هذه الأعضاء الثلاثة بالذكر؛ لأنها أشرف أعضاء الإنسان، فإذا تعطلت اختل نظام الإنسان، وفسد أمره، وبطلت مصالحه في الدين والدنيا.

انظر كيف نصرف الآيات أي: نوردها بطرق مختلفة، كتصريف الرياح. و (انظر) يفيد التعجيب من عدم تأثرهم بما عاينوا من الآيات الباهرة.

[ ص: 2316 ] ثم هم يصدفون أي: بعد رؤيتهم تصريف الآيات يعرضون عنها، فلا يتأملون فيها، عنادا وحسدا وكبرا.

تنبيهات:

الأول: المراد بالآيات: إما مطلق الدلائل القرآنية مطلقا، أو ما ذكر من أول السورة إلى هنا، أو ما ذكر قبل هذا من المقدمات العقلية الدالة على وجود الصانع وتوحيده المشار إليها بقوله: ( إن أتاكم عذاب الله ) الآية.. ومن الترغيب بقوله: فيكشف ما تدعون إليه ، والترهيب بقوله: إن أخذ الله سمعكم الآية. ومن التنبيه والتذكير بأحوال المتقدمين. ذهب إلى كل بعض من المفسرين، وعموم اللفظ يصدق على ذلك كله بلا تدافع.

الثاني: قال بعض المفسرين من الزيدية: دلت الآية على جواز الاحتجاج في أمر الدين. انتهى. وهو ظاهر.

الثالث: المقصود من هذه الآية: بيان أن القادر على تحصيل هذه القوى الثلاث، وصونها عن الآفات، ليس إلا الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك، كان المنعم بهذه النعم العالية، والخيرات الرفيعة، هو الله تعالى. فوجب أن يقال: المستحق للتعظيم والثناء والعبودية ليس إلا الله تعالى. وذلك يدل على أن عبادة الأصنام طريقة باطلة فاسدة - قرره الرازي -.

ثم أشار تعالى إلى تبكيت لهم آخر بإلجائهم إلى الاعتراف باختصاص العذاب بهم بقوله سبحانه:
[ ص: 2317 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[47] قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون

قل أرأيتكم إن أتاكم لإعراضكم عن الآيات بعد تصريفها: عذاب الله أي: المستأصل لكم بغتة أي: فجأة من غير تقديم ما يشعر به، إذ لم يفد ما تقدم أو جهرة بتقديمه مبالغة في إزاحة العذر. وقيل: ليلا أو نهارا، كما في قوله تعالى: بياتا أو نهارا لما أن الغالب فيما أتى ليلا البغتة، وفيما أتى نهارا الجهرة: هل يهلك إلا القوم الظالمون أي: هل يهلك بذلك العذاب إلا أنتم؟ ووضع الظاهر موضعه، تسجيلا عليهم بالظلم. وإيذانا بأن مناط إهلاكهم ظلمهم الذي هو وضعهم الإعراض عما صرف الله له من الآيات، موضع الإيمان.

ثم أشار تعالى إلى وظيفة الرسل، وتحقيق ما في عهدتهم، لبيان أن ما يقترحه الكفار عليه، صلى الله عليه وسلم، ليس مما يتعلق بالرسالة أصلا، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى:

[48] وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون

وما نرسل المرسلين إلا مبشرين بالثواب لأهل الإيمان والأعمال الصالحة ومنذرين بالعقاب لأهل الكفر والمعاصي فمن آمن وأصلح للأعمال والأخلاق، فهم أهل البشارة فلا خوف عليهم أي: من العذاب الذي أنذروا به دنيويا وأخرويا ولا هم يحزنون أي: بفوات ما بشروا به من الثواب العاجل والآجل.
[ ص: 2318 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[49] والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون

والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب أي: الذي أنذروا به عاجلا أو آجلا: بما كانوا يفسقون أي: عن أمر الله في ترك الإيمان، ومباشرة الأعمال الطالحة واكتساب الأخلاق الرديئة.
القول في تأويل قوله تعالى:

[50] قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك إن أتبع إلا ما يوحى إلي قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون

قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله أي: قل لهؤلاء المشركين المقترحين عليك تارة تنزيل الآيات، وأخرى غير ذلك: لا أدعي أن خزائن رزق الله مفوضة إلي، فأعطيكم منها ما تريدون من قلب الجبال ذهبا، وغير ذلك.

[ والخزائن: جمع خزانة، وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخزن الشيء إحرازه، بحيث لا تناله الأيدي ] .

ولا أعلم الغيب أي: من أفعاله تعالى حتى تسألوني عن وقت الساعة، أو وقت نزول العذاب أو نحوهما.

ولا أقول لكم إني ملك أي: حتى تكلفوني من الأفاعيل الخارقة للعادات ما لا يطيقه البشر، من الرقي في السماء ونحوه، أو تعدوا عدم اتصافي بصفاتهم قادحا في أمري، كما ينبئ عنه قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق . والمعنى: إني لا أدعي شيئا من هذه الأشياء الثلاثة، حتى تقترحوا علي ما هو من آثارها وأحكامها، [ ص: 2319 ] وتجعلوا عدم إجابتي إلى ذلك، دليلا على عدم صحة ما أدعيه من الرسالة التي لا تعلق لها بشيء مما ذكر قطعا. بل إنما هي عبارة عن تلقي الوحي من جهة الله عز وجل، والعلم بمقتضاه فقط، كما ينبئ عنه قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي أي: ما أتبع فيما أقول لكم إلا ما يوحى إلي من جهته تعالى، شرفني بذلك وأنعم به علي، إذ يكشف لي عن الملائكة فيخبرونني.

ثم كرر الأمر تثنية للتبكيت بقوله:

قل هل يستوي الأعمى والبصير مثل للضال والمهتدي على الإطلاق. والاستفهام إنكاري، والمراد إنكار استواء من لا يعلم ما ذكر من الحقائق، ومن يعلمها. وفيه الإشعار بكمال ظهورها، ومن التنفير عن الضلال، والترغيب في الاهتداء - ما لا يخفى. أفاده أبو السعود.

وقوله تعالى: أفلا تتفكرون تقريع وتوبيخ داخل تحت الأمر. أي: أفلا تتفكرون فتهتدوا، ولا تكونوا ضالين أشباه العميان.

تنبيهات:

الأول: جعل بعض المفسرين قوله تعالى: قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب تبرؤا من دعوى الألوهية؛ لأن قسمة الأرزاق بين العباد، ومعرفة الغيب، مخصوصان به تعالى: قال: ولذا كرر في الملكية لفظ: ولا أقول . والمعنى: لا أدعي الألوهية ولا الملكية.

وأورد على هذا أن المراد: لا أملك أن أفعل ما أريد مما تقترحونه، وليس المراد التبرؤ عن دعوى الإلهية، وإلا لقيل: لا أقول لكم إني إله. كما قيل: ولا أقول لكم إني ملك. وأيضا في الكناية عن الألوهية ب: عندي خزائن الله ما لا يخفى من البشاعة، بل هو جواب عن اقتراحهم عليه صلى الله عليه وسلم أن يوسع عليهم خيرات الدنيا. كذا في "العناية".

قال أبو السعود: وجعل هذا تبرؤا عن دعوى الإلهية، مما لا وجه له قطعا.

[ ص: 2320 ] الثاني: قال الجبائي: الآية دالة على أن الملك أفضل من الأنبياء؛ لأن المعنى: لا أدعي منزلة فوق منزلتي. ولولا أن الملك أفضل، وإلا لم يصح ذلك. قال القاضي: إن كان الغرض بما نفي طريقة التواضع، فالأقرب أن يدل ذلك على أن الملك أفضل، وإن كان المراد نفي قدرته على أفعال لا يقوى عليها إلا الملائكة لم يدل على كونهم أفضل.

وقرر الزمخشري الأول تأييدا لمذهبه فقال في تفسير الآية: أي: لا أدعي ما يستبعد في العقول أن يكون لبشر من ملك خزائن الله، وهي قسمه بين الخلق وأرزاقه، وعلم الغيب، وإني من الملائكة الذين هم أشرف جنس خلق الله تعالى، وأفضله، وأقربه منزلة منه. أي: لم أدع إلهية ولا ملكية؛ لأنه ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة، حتى تستبعدوا دعواي وتستنكروها، وإنما أدعي ما كان مثله لكثير من البشر، وهو النبوة. انتهى.

وتعقبه الناصر في "الانتصاف" بقوله: هو يبنى على القاعدة المتقدمة له، في تفضيل الملائكة على الأنبياء. ولعمري إن ظاهر هذه الآية يؤيده، فلذلك انتهز الفرصة في الاستدلال بها. ولمخالفه أن يقول: إنما أوردت الآية ردا على الكفار في قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز .. الآية - فرد قولهم: مال هذا الرسول يأكل الطعام بأنه بشر، وذلك شأن البشر، ولم يدع أنه ملك حتى يتعجب من أكله للطعام، وحينئذ لا يلزم منها تفضيل الملائكة على الأنبياء؛ لأنه لا خلاف أن الأنبياء، يأكلون الطعام، وأن الملائكة ليسوا كذلك، فالتفرقة بهذا الوجه متفق عليها، ولا يوجب عليه ذلك اتفاقا على أن الملائكة أفضل من الأنبياء.

وكذلك رد قولهم: أو يلقى إليه كنز بأنه لا يملك خزائن الله تعالى حتى يأتيهم بكنز منها على وفق مقترحهم، ولا قال لهم ذلك حتى يقام عليه الحجة به.

[ ص: 2321 ] ثم قال الناصر رحمه الله: ولم يحسن الزمخشري في قوله: [ ليس بعد الإلهية منزلة أرفع من منزلة الملائكة ] فإنه جعل الإلهية من جملة المنازل كالملكية، ومثل هذا الإطلاق لا يسوغ. والمنزلة عبارة عن المحل الذي ينزل الله فيه العبد من علو وغيره، فإطلاقها على الإلهية تحريف. والله الموفق للصواب.

الثالث: قال الرازي: ظاهر قوله تعالى: إن أتبع إلا ما يوحى إلي يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لا يعمل إلا بالوحي، وهو يدل على حكمين:

الأول: أن هذا النص يدل على أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكم من تلقاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنه ما كان يجتهد، بل جميع أحكامه صادرة عن الوحي، ويتأكد هذا بقوله تعالى: وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى

الثاني: أن نفاة القياس قالوا: ثبت بهذا النص أنه صلى الله عليه وسلم ما كان يعمل إلا بالوحي النازل عليه، فوجب أن لا يجوز لأحد من أمته أن يعملوا إلا بالوحي النازل عليه، بقوله تعالى: فاتبعوه ، وذلك ينفي جواز العمل بالقياس. ثم أكد هذا الكلام بقوله: قل هل يستوي الأعمى والبصير وذلك لأن العمل بغير الوحي يجري مجرى عمل الأعمى. والعمل بمقتضى نزول الوحي يجري مجرى علم البصير. ثم قال: أفلا تتفكرون والمراد منه التنبيه على أنه يجب على العاقل أن يعرف الفرق بين هذين البابين، وأن لا يكون غافلا عن معرفته. انتهى.

وفي "فتح الرحمن": تمسك بذلك من لم يثبت اجتهاد الأنبياء، عملا بما يفيده القصر في هذه الآية.

والمسألة مدونة في الأصول. وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: أوتيت القرآن ومثله معه.

ثم لما أخبر تعالى: أن أولئك المشركين كالصم البكم العمي، بل الموتى؛ إذ لم يتعظوا بتصريف الآيات الباهرة، أمر بتوجيه الإنذار إلى من يتأثر بما يوحى إليه، اطراحا لأولئك الفجار، فقال تعالى:
[ ص: 2322 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[51] وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون

وأنذر به أي: بما يوحى، المتقدم ذكره: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه يعني: من دون الله تعالى: ولي أي: ناصر ينصرهم: ولا شفيع يشفع لهم وينجيهم من العذاب، غيره تعالى: لعلهم يتقون أي: الاعتقادات الفاسدة، والأعمال الطالحة، والأخلاق الرديئة.

قال في "العناية": خص بالذكر هؤلاء، لأنهم الذين ينفعهم الإنذار، ويقودهم إلى التقوى. وليس المراد الحصر حتى يرد أن إنذاره لغيرهم لازم أيضا. انتهى.

وجملة: ليس لهم في موضع الحال من: يحشروا ، فإن المخوف هو الحشر على هذه الحالة. والمراد ب (الولي) و (الشفيع) الآلهة التي كان المشركون يزعمون أنها شفعاؤهم، وحينئذ فلا دلالة في الآية على نفي الشفاعة للمسلمين؛ لأن شفاعة الرسل يومئذ إنما تكون بإذنه تعالى، فكأنها منه تعالى.
[ ص: 2323 ] القول في تأويل قوله تعالى:

[52] ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء فتطردهم فتكون من الظالمين

روى الإمام مسلم عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال له المشركون: اطرد هؤلاء يجترئون علينا! قال: وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان لست أسميهما، فوقع في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله تعالى: ولا تطرد الذين الآية...

وأخرج نحوه الحاكم وابن حبان في صحيحيهما.

وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال: مر الملأ من قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعنده خباب وصهيب وبلال وعمار، فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء؟ فنزل عليه القرآن: وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم إلى قوله: أليس الله بأعلم بالشاكرين .

ورواه ابن جرير عن ابن مسعود أيضا قال: مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين.

[ ص: 2324 ] وفيه: فقالوا: يا محمد! أرضيت بهؤلاء من قومك، أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ونحن نصير تبعا لهؤلاء؟ اطردهم، فلعلك إن طردتهم نتبعك! فنزلت هذه الآية: ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي الآية.


ووراء ما ذكرنا، روايات لا تصح ولا يوثق بها.

إذا علمت ذلك تبين أنه صلى الله عليه وسلم لم يطردهم بالفعل، وإنما هم بإبعادهم عن مجلسه آن قدوم أولئك، ليتألفهم فيقودهم ذلك إلى الإيمان، فنهاه الله عن إمضاء ذلك الهم. فما أورده الرازي من كونه صلى الله عليه وسلم طردهم، ثم أخذ يتكلف في الجواب عنه، لمنافاته العصمة على زعمه، فبناء على واه. والقاعدة المقررة أن البحث في الأثر فرع ثبوته، وإلا فالباطل يكفي في رده، كونه باطلا. وقد أوضحت ذلك في كتابي: "قواعد التحديث من فنون مصطلح الحديث". والمعنى: لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك، بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك. كقوله: واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا

وقوله تعالى: يدعون ربهم أي: يعبدونه ويسألونه بالغداة والعشي قال سعيد بن المسيب وغيره: المراد به الصلاة المكتوبة.

وقوله تعالى: يريدون وجهه المراد بالوجه الذات، كما في قوله: كل شيء هالك إلا وجهه ومعنى إرادة الذات الإخلاص لها، والجملة حال من: يدعون أي: يدعون ربهم مخلصين له فيه، وتقييده به لتأكيد عليته للنهي، فإن الإخلاص من أقوى موجبات الإكرام، المضاد للطرد.

وقوله تعالى: ما عليك من حسابهم من شيء وما من حسابك عليهم من شيء [ ص: 2325 ] كقول نوح عليه السلام في الذين قالوا: قالوا أنؤمن لك واتبعك الأرذلون قال وما علمي بما كانوا يعملون إن حسابهم إلا على ربي لو تشعرون أي: إنما حسابهم على الله عز وجل، وليس علي من حسابهم من شيء، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء.

قال العلامة أبو السعود: الجملة اعتراض وسط بين النهي وجوابه، تقريرا له ودفعا لما عسى يتوهم كونه مسوغا لطردهم من أقاويل الطاعنين في دينهم، كدأب قوم نوح حيث قالوا: وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي أي: ما عليك شيء من حساب إيمانهم وأعمالهم الباطنة، حتى تتصدى له، وتبني على ذلك ما تراه من الأحكام، وإنما وظيفتك، حسبما هو شأن منصب النبوة، اعتبار ظواهر الأعمال، وإجراء الأحكام على موجبها. وأما بواطن الأمر فحسابها على العليم بذات الصدور، كقوله تعالى: إن حسابهم إلا على ربي وذكر قوله تعالى: وما من حسابك عليهم من شيء مع أن الجواب قد تم بما قبله، للمبالغة في بيان انتفاء كون حسابهم عليه صلى الله عليه وسلم، بنظمه في سلك ما لا شبهة فيه أصلا، وهو انتفاء كون حسابه عليه السلام، عليهم، على طريقة قوله تعالى: لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون وأما ما قيل من أن ذلك لتنزيل الجملتين منزلة [ ص: 2326 ] جملة واحدة، لتأدية معنى واحد، على نهج قوله تعالى: ولا تزر وازرة وزر أخرى فغير حقيق بجلالة شأن التنزيل. انتهى.

والقول المذكور للزمخشري، حيث ذهب إلى أن الجملتين في معنى جملة واحدة، تؤدي مؤدى: ولا تزر الآية. وأنه لا بد منهما.

هذا، وقيل: الضمير للمشركين، والمعنى: لا يؤاخذون بحسابك، ولا أنت بحسابهم، حتى يهمك إيمانهم، ويجرك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين.

وأغرب المهايمي حيث قال: والعماة، لكونهم أرباب شرف ومال، يكرهون مجالستهم، لقلة شرفهم ومالهم، فقال عز وجل لأشرف الناس: ما عليك من حسابهم من شيء أي: ما يعود عليك من نقصهم في الشرف والمال عليهم من شيء، فإذا لم يلحقك نقصهم، ولم يأخذوا كمالك بسلبه عنك، فلا وجه لطردهم. انتهى.

وفيه بعد؛ لعدم ملاقاته لآية نوح السالفة. ولا يخفى مراعاة النظائر.

وفي "العناية": قدم خطابه صلى الله عليه وسلم في الموضعين، تشريفا له. وإلا كان الظاهر [ وما عليهم من حسابك من شيء ] بتقديم (على) ومجرورها، كما في الأول. وفي النظم رد العجز على الصدر، كما في قوله: عادات السادات، سادات العادات.

وقوله تعالى: فتطردهم فتكون من الظالمين الظلم: وضع الشيء في غير محله؛ أي: فلا تهم بطردهم عنك، فتضع الشيء في غير موضعه.
القول في تأويل قوله تعالى:

[53] وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا أليس الله بأعلم بالشاكرين

وكذلك فتنا بعضهم هم الشرفاء: ببعض وهم المستضعفون، بما [ ص: 2327 ] مننا عليهم بالإيمان. وقوله: ليقولوا أي: الشرفاء: أهؤلاء أي: المستضعفون من الله عليهم من بيننا أي: بشرف الإيمان، مع أن الشرفاء على زعمهم، أولى بكل شرف، فلو كان شرفا لانعكس الأمر، فهو إنكار لأن يخص هؤلاء من بينهم بإصابة الحق، والسبق إلى الخير، كقولهم: لو كان خيرا ما سبقونا إليه . ثم أشار تعالى إلى أنه إنما من عليهم بنعمة الإيمان؛ لأنه علم أنهم يعرفون قدر هذه النعمة، فيشكرونها حق شكرها. وأما أولئك، فلا يعرفون قدرها، فلا يشكرونها، بقوله سبحانه: أليس الله بأعلم بالشاكرين ؟ رد لقولهم ذلك، وإبطال له، وإشارة إلى أن مدار استحقاق الإنعام، معرفة شأن النعمة، والاعتراف بحق المنعم. كما أن فيه من الإشارة إلى أن أولئك المستضعفين عارفون بحق نعم الله تعالى في تنزيل القرآن، والتوفيق للإيمان، شاكرون له تعالى على ذلك، مع التعريض بأن القائلين بمعزل عن ذلك كله - ما لا يخفى.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 45.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 45.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.37%)]