إنّ معرفة محمّد صلى الله عليه وسلم بالله لا تسبقها معرفة في الأوّلين والآخرين، ولا تدانيها.. لأنّها معرفة تنبع من شهود لا يخبو سناه، ولا يغيم ضحاه..
والمسلم المتأسّي برسول الله صلى الله عليه وسلم يحسّ أنّ لهذه المعرفة خاصّة تبدو في حديثه صلى الله عليه وسلم في كلّ موقف ومناسبة، فهي واضحة صادقة، حارّة نفّاذة، لا غموض فيها ولا افتعال، سواء في حديثه صلى الله عليه وسلم عن الله سبحانه، أو في ربط العباد به، وتربيتهم على عبوديّته.
وللكلام الإنسانيّ درجة حرارة معيّنة، يموت دونها، فلا يترك أثراً، ولا يبلغ هدفاً، وعندما يذكر محمّد صلى الله عليه وسلم ربّه راغباً أو راهباً يشتدّ النبض في الكلمات المنسابة، وتحتدّ العاطفة في المشاعر الحارّة، فلا يملك قارئ أو سامع إلاّ أن يخشع ويستكين لله ربّ العالمين " [" فنّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء " الشيخ محمّد الغزاليّ ص/16/].
وممّا يَدلّ على عظيمِ معرفتِه باللهِ تَعالى ما جاء في الحديث عَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لا تَسْمَعُونَ، أَطَّتْ السَّمَاءُ، وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلاّ وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِداً للهِ، وَاللهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلاً، وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيراً، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشِ، وَلَخَرَجْتُمْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ)، وَقَالَ أَبو ذَرٍّ رضي الله عنه: " وَاللهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي كُنْتُ شَجَرَةً تُعْضَدُ " [رواه الترمذيّ في كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2234/، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.].
وكَانَ صلى الله عليه وسلم من هديه إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ أن يفزع إلى ذكر الله: جاء فِي الصّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: (لا إلَهَ إلاّ اللهُ الْعَظِيمُ الحَلِيمُ، لا إلَهَ إلاّ اللهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمُ، لا إلَهَ إلاّ اللهُ رَبًّ السّمَاوَاتِ السّبْعِ وَرَبُّ الأَرْضِ، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمُ) [رواه البخاريّ في كتاب الدعوات، باب الدعاء عند الكرب برقم /5985/ ومسلم في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار باب دعاء الكرب برقم /4909/].
وَفِي جَامِعِ التّرْمِذِيّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ: (يَا حَيُّ يَا قَيّومُ بِرَحْمَتِكَ أَسْتَغِيثُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /3446/].
وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إذَا أَهَمّهُ الأَمْرُ رَفَعَ طَرْفَهُ إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ)، وَإِذَا اجْتَهَدَ فِي الدّعَاءِ قَالَ: (يَا حَيّ يَا قَيّومُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء ما يقول عند الكرب برقم /3358/].
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه أَنّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (دَعَوَاتُ المَكْرُوبِ: اللّهُمّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو، فَلا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَصْلِحْ لِي شَأْنِي كُلّهُ لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ) [رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ما يقول إذا أصبح برقم /4426/].
وَفِيهَا أَيْضاً عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُعَلّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولِيهِنّ عَنْدَ الْكَرْبِ، أَوْ فِي الْكَرْبِ: (اللهُ رَبّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً). وَفِي رِوَايَةٍ أَنّهَا تُقَالُ سَبْعَ مَرّاتٍ [رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في الاستغفار برقم /1304/].
وَفِي مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنْ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا أَصَابَ عَبْداً هَمٌّ وَلا حُزْنٌ فَقَالَ: اللَهُمّ إنّي عَبْدُك ابْنُ عَبْدِك ابْنُ أَمَتِك، نَاصِيَتِي بِيَدِك، مَاضٍ فِيّ حُكْمُك، عَدْلٌ فِيّ قَضَاؤُك، أَسْأَلُكَ بِكُلّ اسْمٍ هُوَ لَكَ، سَمّيْتَ بِهِ نَفْسَك، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِك، أَوْ عَلّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِك، أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجَلاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمّي، إلاّ أَذْهَبَ اللهُ حُزْنَهُ وَهَمّهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحاً) [رواه أحمد في السند برقم /3528/.].
وَفِي التّرْمِذِيّ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (دَعَوةُ ذِي النّونِ إذْ دَعَا رَبّهُ وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: (لا إلَهَ إلاّ أَنْتَ سُبْحَانَكَ إنّي كُنْت مِنْ الظّالِمِينَ)، لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطّ إلاّ اُسْتُجِيبَ لَهُ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم باب ما جاء في عقد التسبيح باليد برقم /3427/]. وَفِي رِوَايَةٍ: (إنّي لأَعْلَمُ كَلِمَةً لا يَقُولُهَا مَكْرُوبٌ إلاّ فَرّجَ اللهُ عَنْهُ، كَلِمَةَ أَخِي يُونُسَ..).
وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِي رضي الله عنه قَالَ: دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ المَسْجِدَ فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ مِنْ الأَنْصَارِ يُقَالُ لَهُ أَبُو أُمَامَةَ فَقَالَ: (يَا أَبَا أُمَامَةَ مَالِي أَرَاكَ فِي المَسْجِدِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصّلاةِ؟! " فَقَالَ: هُمُومٌ لَزِمَتْنِي، وَدُيُونٌ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ: (أَلا أُعَلّمُكَ كَلاماً إذَا أَنْتَ قُلْتَهُ أَذْهَبَ اللهُ عَزّ وَجَلّ هَمّكَ، وَقَضَى دَيْنَكَ؟) قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: (قُلْ إذَا أَصْبَحْتَ وَإِذَا أَمْسَيْتَ: اللّهُمّ إنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمّ وَالحَزَنِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ الجُبْنِ وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ غَلَبَةِ الدّيْنِ وَقَهْرِ الرّجَالِ)، قَالَ: فَفَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللهُ عَزّ وَجَلّ هَمّي، وَقَضَى عَنّي دَيْنِي " [رواه أبو داود في كتاب الصلاة باب في الاستعاذة برقم /1330/].
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها: (ما يمنعك أن تسمعي ما أوصيك به، أن تقولي إذا أصبحت، وإذا أمسيت: يا حيّ يا قيّوم برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) [رواه الحاكم في المستدرك 5/56/ وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه].
وذِكرُه صلى الله عليه وسلم لله تعالى باب عظيم من أبواب عبَادته صلى الله عليه وسلم، ومن طالَعَ ما جاء في كتب السيرة والسنّة من أدعيته وأذكاره صلى الله عليه وسلم، العامّة والخاصّة، ظنّ أنّ ذلك لا يمكن أن يصدر إلاّ عن متفرّغ للعبادةِ، منقطع للتبتّل، لا يعرف طيلة يومه سواها.! وتتملّك الإنسانَ الدهشةُ عندما يعلم أنّها قد صَدَرَتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي ملأ كلّ ساحات الحياة، وهيمن عليها بهديه وجهاده.. ولا عجب، فالله أعلم حيث يجعل رسالته..
فقد كان صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى، ويدعوه ويرجوه على جميع أحواله وأحيانه.. ويحثّ أصحابه على دوام الذكر، والأخذ منه بجوامع الكلم، والإكثار منه، والاجتهاد فيه..
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُنَا، يَقُولُ: (اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، أَنْتَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ، وَإِلَهُ كُلِّ شَيْءٍ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلاّ أَنْتَ، وَحْدَكَ لا شَرِيكَ لَكَ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، وَالمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي إِثْماً، أَوْ أَجُرَّهُ عَلَى مُسْلِمٍ، كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعَلِّمُهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عَمْرٍو أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ حِينَ يُرِيدُ أَنْ يَنَامَ) [رواه أحمد في المسند برقم /6309/].
ولا يفوتنّك أن تلاحظ أنّ هذا الدعاء على طوله كان يُعلّم لأطفال الصحابة ، فما أعظم الخير المرجّى ممّن ينشأ هذه النشأة الصالحة المباركة.!
ومن كمال عبوديّة النبيّ صلى الله عليه وسلم ومعرفته بربّه أنّه صلى الله عليه وسلم كان يدعو بجوامع الدعاء، التي تغني عن الإطالة بغير فائدة: عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادٍ قَالَ: صَلَّى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رضي الله عنه بِالْقَوْمِ صَلاةً أَخَفَّهَا، فَكَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوهَا، فَقَالَ: أَلَمْ أُتِمَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَمَا إِنِّي دَعَوْتُ فِيهَا بِدُعَاءٍ، كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بِهِ: (اللَّهُمَّ بِعِلْمِكَ الْغَيْبَ، وَقُدْرَتِكَ عَلَى الخَلْقِ، أَحْيِنِي مَا عَلِمْتَ الحَيَاةَ خَيْراً لِي، وَتَوَفَّنِي إِذَا عَلِمْتَ الْوَفَاةَ خَيْراً لِي، وَأَسْأَلُكَ خَشْيَتَكَ فِي الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، وَكَلِمَةَ الإِخْلاصِ فِي الرِّضَا وَالْغَضَبِ، وَأَسْأَلُكَ نَعِيماً لا يَنْفَدُ، وَقُرَّةَ عَيْنٍ لا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بِالْقَضَاءِ، وَبَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ المَوْتِ، وَلَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَفِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ) [رواه النسائيّ في كتاب السهو برقم /1289/].
وفي رواية: (.. وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ..).
وعَنْ جُوَيْرِيَةَ بِنتِ الحارثِ أمّ المؤمنين رضي الله عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم خَرَجَ مِنْ عِنْدِهَا بُكْرَةً حِينَ صَلَّى الصُّبْحَ، وَهِيَ فِي مَسْجِدِهَا، ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ أَضْحَى، وَهِيَ جَالِسَةٌ فَقَالَ: مَا زِلْتِ عَلَى الحَالِ الَّتِي فَارَقْتُكِ عَلَيْهَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: (لَقَدْ قُلْتُ بَعْدَكِ أَرْبَعَ كَلِمَاتٍ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، لَوْ وُزِنَتْ بِمَا قُلْتِ مُنْذُ الْيَوْمِ لَوَزَنَتْهُنَّ: سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ، وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ).
وفي رواية عَنْها قَالَتْ: مَرَّ بِهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حِينَ صَلَّى صَلاةَ الْغَدَاةِ، أَوْ بَعْدَ مَا صَلَّى الْغَدَاةَ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ: (سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ) [رواه مسلم في صحيحه 13/258/].
وفي رواية الترمذي: (أَلا أُعَلِّمُكِ كَلِمَاتٍ تَقُولِينَهَا؟ سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ عَدَدَ خَلْقِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ رِضَا نَفْسِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ زِنَةَ عَرْشِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ، سُبْحَانَ اللهِ مِدَادَ كَلِمَاتِهِ) [11/467/ وقَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ].
"... لقد كان محمّد صلى الله عليه وسلم عامر القلب بربّه، عميق الحسّ بعظمته، وكان ذلك أساس علاقته بالعباد، وبربّ العباد " [" فنّ الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء " الشيخ محمّد الغزاليّ ص/18/.]. فلا ريب أنّ الموعظة عندما كانت تصدر عن قلبه الشريف تفعل فعلها العجيب في أعماق القلوب، فترقّ وتصفو، وتقبل على الله تعالى، وتشهد الآخرة وعوالمها، وكأنّها تراها رأي العين، وتعيش في جوّ من الروحانيّة الخالصة، تتضاءل أمامها الدنيا بما فيها، وهذا ما عبّر عنه بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث عَنْ حَنْظَلَةَ الأُسَيِّدِيِّ قَالَ: وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ يَا حَنْظَلَةُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟! قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ فَنَسِينَا كَثِيراً، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: وَمَا ذَاكَ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالجَنَّةِ حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ عَافَسْنَا الأَزْوَاجَ وَالأَوْلادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيراً، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ أنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمْ المَلائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً، ثَلاثَ مَرَّاتٍ) [رواه مسلم في كتاب التوبة برقم /4937/].
وعَنْ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ رضي الله عنه قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَوْماً بَعْدَ صَلاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً، ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ، وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ، فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللهِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلافاً كَثِيراً، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الأُمُورِ، فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ المَهْدِيِّينَ، تَمَسَّكُوا بِهَا، وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ) [رواه الترمذيّ في كتاب العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /2600/، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، ورواه أبو داود في كتاب السنّة برقم /3991/، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ يُكْنَى أَبَا نَجِيحٍ، وَهُوَ مِمَّنْ نَزَلَ فِيهِ: {وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُون}[التوبة:92].
وأختم الكلام عن عبادة النبيّ صلى الله عليه وسلم، وصدق عبوديّته وضراعته إلى الله تعالى بهذا الدعاء النبويّ الجامع:
(اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِكَ، تَهْدِي بِهَا قَلْبِي، وَتَجْمَعُ بِهَا أَمْرِي، وَتَلُمُّ بِهَا شَعَثِي، وَتُصْلِحُ بِهَا غَائِبِي، وَتَرْفَعُ بِهَا شَاهِدِي، وَتُزَكِّي بِهَا عَمَلِي، وَتُلْهِمُنِي بِهَا رُشْدِي، وَتَرُدُّ بِهَا أُلْفَتِي، وَتَعْصِمُنِي بِهَا مِنْ كُلِّ سُوءٍ، اللَّهُمَّ أَعْطِنِي إِيمَاناً وَيَقِيناً، لَيْسَ بَعْدَهُ كُفْرٌ، وَرَحْمَةً أَنَالُ بِهَا شَرَفَ كَرَامَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْفَوْزَ فِي الْعَطَاءِ، وَنُزُلَ الشُّهَدَاءِ، وَعَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الأَعْدَاءِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أُنْزِلُ بِكَ حَاجَتِي، وَإِنْ قَصُرَ رَأْيِي، وَضَعُفَ عَمَلِي افْتَقَرْتُ إِلَى رَحْمَتِكَ، فَأَسْأَلُكَ يَا قَاضِيَ الأُمُورِ، وَيَا شَافِيَ الصُّدُورِ، كَمَا تُجِيرُ بَيْنَ الْبُحُورِ، أَنْ تُجِيرَنِي مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ، وَمِنْ دَعْوَةِ الثُّبُورِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْقُبُورِ، اللَّهُمَّ مَا قَصُرَ عَنْهُ رَأْيِي، وَلَمْ تَبْلُغْهُ نِيَّتِي، وَلَمْ تَبْلُغْهُ مَسْأَلَتِي، مِنْ خَيْرٍ وَعَدْتَهُ أَحَداً مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ خَيْرٍ أَنْتَ مُعْطِيهِ أَحَداً مِنْ عِبَادِكَ، فَإِنِّي أَرْغَبُ إِلَيْكَ فِيهِ، وَأَسْأَلُكَهُ بِرَحْمَتِكَ رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ ذَا الحَبْلِ الشَّدِيدِ، وَالأَمْرِ الرَّشِيدِ أَسْأَلُكَ الأَمْنَ يَوْمَ الْوَعِيدِ، وَالجَنَّةَ يَوْمَ الخُلُودِ، مَعَ الْمُقَرَّبِينَ الشُّهُودِ، الرُّكَّعِ السُّجُودِ، المُوفِينَ بِالْعُهُودِ، إِنَّكَ رَحِيمٌ وَدُودٌ، وَأَنْتَ تَفْعَلُ مَا تُرِيدُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا هَادِينَ مُهْتَدِينَ، غَيْرَ ضَالِّينَ، وَلا مُضِلِّينَ، سِلْمًا لأَوْلِيَائِكَ، وَعَدُوّاً لأَعْدَائِكَ، نُحِبُّ بِحُبِّكَ مَنْ أَحَبَّكَ، وَنُعَادِي بِعَدَاوَتِكَ مَنْ خَالَفَكَ، اللَّهُمَّ هَذَا الدُّعَاءُ وَعَلَيْكَ الإِجَابَةُ، وَهَذَا الجُهْدُ وَعَلَيْكَ التُّكْلانُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي نُوراً فِي قَلْبِي، وَنُوراً فِي قَبْرِي، وَنُوراً مِنْ بَيْنِ يَدَيَّ، وَنُوراً مِنْ خَلْفِي، وَنُوراً عَنْ يَمِينِي، وَنُوراً عَنْ شِمَالِي، وَنُوراً مِنْ فَوْقِي، وَنُوراً مِنْ تَحْتِي، وَنُوراً فِي سَمْعِي، وَنُوراً فِي بَصَرِي، وَنُوراً فِي شَعْرِي، وَنُوراً فِي بَشَرِي، وَنُوراً فِي لَحْمِي، وَنُوراً فِي دَمِي، وَنُوراً فِي عِظَامِي، اللَّهُمَّ أَعْظِمْ لِي نُوراً، وَأَعْطِنِي نُوراً، وَاجْعَلْ لِي نُوراً، سُبْحَانَ الَّذِي تَعَطَّفَ الْعِزَّ وَقَالَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لَبِسَ المَجْدَ وَتَكَرَّمَ بِهِ، سُبْحَانَ الَّذِي لا يَنْبَغِي التَّسْبِيحُ إِلاّ لَهُ، سُبْحَانَ ذِي الْفَضْلِ وَالنِّعَمِ، سُبْحَانَ ذِي المَجْدِ وَالْكَرَمِ، سُبْحَانَ ذِي الجَلالِ وَالإِكْرَامِ) [رواه الترمذيّ في كتاب الدعوات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برقم /3341/ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه، وقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لا نَعْرِفُهُ مِثْلَ هَذَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى إِلا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ].
وبعد؛ فقارن بين سيرة النبيّ صلى الله عليه وسلم وهديه في عبادته، وبين قول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِين}[الأنعام:162 ــ163]، ألا ترى أنّ صورته وسيرته هي المرآة التي انطبعت فيها آيات التنزيل العزيز، لتكون مصداق وصف الصدّيقة بنت الصدّيق رضي الله عنها وعن أبيها: (كان خلقه القرآن).
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.