
18-12-2022, 03:09 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,405
الدولة :
|
|
رد: شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع للشيخ محمد الشنقيطي
شرح زاد المستقنع في اختصار المقنع
(كتاب المناسك)
شرح فضيلة الشيخ الدكتور
محمد بن محمد المختار بن محمد الجكني الشنقيطي
الحلقة (241)
صـــــ(1) إلى صــ(27)
أركان العمرة وما يتعلق بها من أحكام
قال المصنف: [وأركان العمرة: إحرام]
الركن الأول: الإحرام للعمرة بنية الدخول في النسك
قوله: (وأركان العمرة: إحرام) تقدم هذا في أركان الحج، وأن مذهب طائفة من أهل العلم: أن الإحرام ونية الدخول في النسك يعتبر ركناً من أركان الحج والعمرة، فلا يحكم بدخول الإنسان في النسك إلا بها، كقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات) وهي ركن من أركان الحج وركن من أركان العمرة، وقد تقدم بيان ضابط الإحرام، وبيان ما ينبغي للإنسان أن يلتزمه إذا نوى الدخول في نسك الحج ونسك العمرة.
الركن الثاني: الطواف
قال المصنف: [وطواف]قوله: (وطواف)، فالطواف في العمرة يعتبر ركناً من أركانها، فلا يحكم للإنسان بكونه معتمراً إلا إذا طاف بالبيت، فلو جاء وأحرم من الميقات وسعى بين الصفا والمروة ورجع إلى بلده فإن عمرته لم تكتمل، ويلزمه أن يرجع ويطوف بالبيت، ثم يعيد السعي؛ لأن السعي لا يصح إلا إذا تقدمه طواف كما تقدم تفصيله في موضعه.
الركن الثالث: السعي بين الصفا والمروة
قال: [وسعي]أي: السعي بين الصفا والمروة، فإن السعي يعتبر ركناً من أركان العمرة، وهذا على مذهب جمهور العلماء رحمهم الله.
واجبات العمرة وما يتعلق بها من أحكام
قال المصنف: [وواجباتها: الحلاق] الواجب الأول: الحلق أو التقصير للمعتمر
أي: أن من واجبات العمرة الحلاق، والمراد بالحلاق هنا: أن يحلق أو يقصر، وسواء أخذ بالرخصة وهي التقصير، أو أخذ بالأفضل وهو الحلق، فالمراد بذلك أن يتحلل من عمرته.
الواجب الثاني: الإحرام من الميقات
قال المصنف: [والإحرام من ميقاتها، فمن ترك الإحرام لم ينعقد نسكه].أي: أن من واجبات العمرة: الإحرام من الميقات، فإن الإحرام من الميقات لازم في العمرة كما هو لازم في الحج كما لا يخفى.
فمن ترك نية الدخول في العمرة وهو الذي عبر عنه بالإحرام لم ينعقد نسكه، فلو أن سائلاً سألك فقال: مررت بالميقات ولكنني لم أنو، ومضيت إلى مكة وطفت وسعيت؟ تقول: لست بمعتمر، وطوافك وسعيك نافلة ولا يعتد به، وإنما العمرة أن تنوي الدخول في النسك، وعلى هذا فإنه لا ينعقد الإحرام بدون وجود هذه النية؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما الأعمال بالنيات)، وقد تقدم بيان الأدلة على اعتبار النية بالدخول في العبادة حينما تكلمنا على مسائل الإحرام.
حكم من ترك ركناً من أركان العمرة غير الإحرام
قال المصنف: [ومن ترك ركناً غيره]أي: ومن ترك ركناً غير الإحرام لم ينعقد نسكه إلا به، فنحن نقول: إن المعتمر إذا ترك الطواف بالبيت أو ترك السعي بين الصفا والمروة فإنه ليس بمعتمر، ولو جامع أهله قبل أن يطوف الطواف المعتبر، أو قبل أن يسعى السعي المعتبر حكم بفساد عمرته، وعليه المضي في هذه العمرة الفاسدة إتماماً لها على ظاهر نص آية البقرة، ثم يلزم بقضاء عمرته الفاسدة بعد انتهائه منها كما سبق بيانه.
حكم من ترك النية في ركن من أركان الحج والعمرة
قال المصنف: [أو نيته لم يتم نسكه إلا به]أي: أنه إذا لم ينو قبل أداء الركن، كأن يطوف بالبيت دون أن ينوي أنه عن طواف عمرته، أو لم ينو عن طواف الإفاضة فإنه لا يجزيه؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى) ، وهذا مبني على قول طائفة من أهل العلم في أن الأركان تحتاج إلى نية، فأركان الحج ينبغي أن يستحضر الحاج النية عند الابتداء بها، ومن أهل العلم من اختار أن الحج له نية واحدة تجزي عن سائر أفعاله، ولا يرى أن النية تتجدد بتجدد الأركان أو الواجبات، والأول أقوى وأجزم للأصل، ولا شك أن المسلم إذا التزم به أنه أبرأ لذمته وأورع له في عبادته، وبناء على هذا القول فلابد إذا أراد أن يطوف طواف الإفاضة أن ينوي، فلو لم ينو عند طوافه بالإفاضة لم يجزه ذلك الطواف عن الإفاضة، ولم يقع ركناً على الوجه المعتبر؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اعتبار العبادة موقوفاً على وجود النية المعتبرة، فإذا لم ينوها فإننا لا نحكم باعتبار طوافه ولا باعتبار سعيه، ونحوها من الأركان اللازمة.
حكم من ترك واجباً من واجبات الحج والعمرة
قال المصنف: [ومن ترك واجباً فعليه دم]أي: أن من ترك واجباً من واجبات الحج أو العمرة فعليه دم، والأصل في ذلك فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وقال بعض أهل العلم: الأصل في ذلك حديث كعب بن عجرة ، وهذا الحديث حاصله: أن كعب بن عجرة يوم الحديبية رضي الله عنه وأرضاه لما حُمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر من على وجهه، فقال صلى الله عليه وسلم: (ما كنت أُرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى، أتجد شاة؟ قال: قلت: لا، ثم نزلت آية الفدية) ، قالوا: فأمره بالدم أولاً، وكان هذا بمثابة الأصل، وهو أن الإخلالات أو الخروج من الواجبات أو الوقوع في المحظورات إنما يفتدى فيه بالدم، فنزلت آية الفدية استثناء من الأصل وبقي ما عداها من الواجبات اللازمة على الأصل الموجب لضمانها بالدم.
ثم إن حبر الأمة وترجمان القرآن رضي الله عنه وأرضاه، انتزع من آية التمتع وجوب الدم على من ترك الواجب، وتوجيه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى أوجب على من جاء بالعمرة في أشهر الحج -وبقي بمكة ثم أحرم بالحج من مكة- إن كان آفاقياً أن يريق دماً، وبالإجماع على أن المتمتع يلزمه الدم بشروط التمتع المعروفة، على ظاهر آية البقرة في التمتع، قالوا: فوجب على الآفاقي إذا تمتع أن يريق دم التمتع، وهذا الدم إنما وجب عليه؛ لأنه كان الفرض عليه بعد انتهائه من عمرته أن يرجع ويحرم بالحج من ميقاته، فلما ترك هذا الواجب ألزمه الشرع بالدم ضماناً له، ويدل على هذا أن أهل مكة حينما يتمتعون من مكة يتمتعون بالحج والعمرة، فيوقعون العمرة في أشهر الحج ويهلون بالحج بعدها ولا يجب عليهم الدم؛ لأنهم أحرموا بالنسكين من الموضع المعتد به، وأما الآفاقي فإنه يلزم بالدم، فدل تفريق الشرع بين الآفاقي وبين المكي في الإلزام بالدم، أن ذلك مبني على وجود السفر من الآفاقي؛ والسبب في هذا السفر إنما هو الواجب عليه من كونه يحرم من الميقات، قالوا: وعلى هذا كانت فتواه المشهورة، ويروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولا يصح: (من ترك شيئاً من نسكه فليهرق دماً) .
ثم قالوا أيضاً: إن الشرع أوجب على من كان به الأذى في رأسه، فهذا كعب بن عجرة يحمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض معذور من الشرع، قد دلت الأدلة على أن مثله يستحق أن يخفف عنه، ومع ذلك ألزمه الشرع بالفدية، قالوا: فإذا كان هذا المعذور عند تركه لهذا المحذور وحلق رأسه، أو أخل بالمحذور الذي ينبغي أن يلتزم تركه في إحرامه، ألزمه الشرع بالفدية التي فيها الدم، فمن باب أولى من يتعمد الإخلال، إذ لا يعقل أن تقول لإنسان يترك الواجب من دون عذر: لا شيء عليك، وتقول لمن هو معذور: يجب عليك واحد من ثلاثة: أن تطعم ستة مساكين، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تذبح شاة، مع أن الله عذره وقال: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا [البقرة:196] قالوا: فأصول الشرع تقوي فتوى ابن عباس .
ثم إننا وجدنا جماهير السلف رحمهم الله، ومنهم الأئمة الأربعة، وأتباع الأئمة الأربعة كلهم يفتون: أن من ترك الواجب فعليه دم، ولا شك أن مخالفة هذا السواد الأعظم من الأمة مع فتوى ابن عباس رضي الله عنهما، وعدم وجود من خالفه من الصحابة رضوان الله عليهم أمر لا يخلو من نظر، وعلى هذا درج جماهير السلف والخلف رحمهم الله على إلزام من ترك الواجب بالدم، وعليهم انعقدت فتاوى أئمة الإسلام، فقل أن تجد من أسقط الدم عمن ترك الواجب، وهو الذي اشتهر وذاعت الفتوى به، خاصة وأن له منتزعه من دليل الكتاب وظاهر حديث كعب بن عجرة الذي ذكرنا.
فقوله: (ومن ترك واجباً فعليه دم) أي: يلزمه دم، والدم هنا نكرة، وليس المراد به كل دم، وإنما المراد الواجب عليه شاة، وهذه الشاة تذبح بمكة ولا تذبح بغيرها؛ لأنه دم واجب، كما أوجب الله في قتل الصيد الذي هو إخلال في النسك، أن يكون هدياً بالغ الكعبة، فيجب عليه أن يكون بمكة، وهذا الدم يسمونه: دم الجبران في الواجبات، والأصل في إيجابه أنه منتزع من آية التمتع، والمتمتع لا يصح منه أن يريق دمه خارج مكة، قال صلى الله عليه وسلم: (نحرت هاهنا وفجاج مكة وشعابها كلها منحر)، فدل هذا على أنه ينبغي أن يتقيد بهذا الدم بمكة، ويكون طعمة للمساكين فهو دم واجب عليه كالهدي الواجب في قتل الصيد.
حكم من ترك سنة من مسنونات الحج والعمرة
قال المصنف: [أو سنة فلا شيء عليه]أي: من ترك السنة فلا شيء عليه؛ ولكن بشرط: أن لا يتركها رغبة عنها، فإذا تركها -والعياذ بالله- زهداً فيها وانتقاصاً لها ورغبة عنها فإنه يستغفر ويتوب إلى الله؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل هذه الرغبة عن السنة مذمومة فقال: (من رغب عن سنتي فليس مني) والقاعدة في الأصول: أن الذم لا يستحق إلا على ترك واجب أو فعل محرم. فلما كانت الرغبة عن السنة محرمة قال صلى الله عليه وسلم: (من رغب عن سنتي) أي: زهد فيها (فليس مني) أي: ليس على هديي الكامل).
الأسئلة
حكم من تجاوز الميقات
السؤال: من تجاوز الميقات ناسياً أو جاهلاً، فوصل إلى مكة في وقت ضيق لا يمكنه معه العودة إلى الميقات، فهل يسقط عنه الدم؟ وإذا كان ليس لديه قدرة مالية على ذبح الدم فماذا عليه؟
الجواب: باسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد:
ظاهر السؤال أنه تجاوز الميقات ناسياً، وعلى هذا ظاهره أنه لم يحرم، فإذا كان قد نسي ومضى وبلغ البيت وطاف وسعى فإنه ليس بمحرم أصلاً، وحينئذٍ لا تنعقد عمرته ولا ينعقد حجه. فإذا كان على هذا الوجه فإنه لم يحرم من الميقات؛ فالسؤال: ماذا يفعل إذا غلب على ظنه أنه لو رجع إلى الميقات يفوته الوقوف بعرفة؟
مثال: لو أن إنساناً خرج من المدينة ومرَّ بالميقات ولم يلبِّ -نسي أن يحرم- ثم وصل إلى مكة فتذكر، وكانت بينه انتهاء وبين وقت الوقوف ساعة أو ساعتين، فلو قلنا له: ارجع إلى المدينة، فاته الوقوف بعرفة.
فالحل في هذه الحالة: أن ينوي ويلبي ويعقد النية من موضعه، ثم يلزمه الدم؛ لفوات الواجب الذي ذكرناه. وعلى هذا فإن الإحرام من الميقات الإلزام به من جهة الحكم الوضعي، ويستوي فيه الناسي والمتعمد، فإن أمكنه أن يتدارك تدارك، وإن لم يمكنه التدارك فإنه يجبره بالدم، وفوات الواجب أهون من فوات الركن، وعليه فإنه يحرم من موضعه ثم يدرك الحج وعليه دم الجبران، وإلا صام عنه على الأصل الذي ذكرناه في ضمان دم الجبران بالصيام.
وأما إذا كان جاهلاً وعلم فإنه يلزمه الرجوع ثم يحرم من الميقات أيضاً، ويعقد نيته المعتبرة من الميقات، فإن رجع على هذا الوجه ولم يحرم دون الميقات سقط عنه الدم؛ لأن من مرَّ بالميقات ثم ذكِّر أو علِّم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم. وهذا على قول جماهير أهل العلم رحمهم الله؛ فإن كان جاهلاً وتعلم ورجع إلى الميقات وأحرم منه سقط عنه الدم، وإن كان جاهلاً وتعلم وأحرم من دون الميقات فحكمه حكم الناسي إذا أحرم من دون الميقات سواء بسواء، إلا أنه في حال الجهل والنسيان يسقط عنه الإثم؛ لوجود العذر -على الظاهر- وإن كان في الجاهل نظر؛ لأنه في هذا العصر يتيسر سؤال العلماء والرجوع إليهم، وأهل العلم ينصون على أن من تلبس بالعبادة يجب عليه سؤال أهل العلم عن كيفية تطبيقها، فإذا قصر في السؤال لم يخل من نظر موجب للتبعية من جهة هذا التقصير. والله تعالى أعلم.
سبب اختيار ركنية الإحرام
السؤال: لماذا جعل المصنف رحمه الله الإحرام ركناً للحج والعمرة، مع أن الإحرام هو نية، ومن المعلوم أن النية شرط وليست بركن؟
الجواب: هذا إشكال معروف ذكره العلماء رحمهم الله، ويتناظرون فيه بين القولين المشهورين: من يرى أن النية من الواجبات، ومن يرى أنها ركن، ولكن لما توقف اعتبار العبادة عليها كانت أشبه بالركنية من هذا الوجه، خاصة وأن من يقول: إنها ليست بركن يقول: الركن ما تتوقف عليه ماهية الشيء، فالركن لا تتوقف عليه الماهية من حيث الوجوب كأركان البيع كما هو واضح ولا يخفى، فقالوا: إن النية من هذا الوجه أشبه بالواجبات والشروط منها بالأركان، والقول بكونها ركناً مبني على أن فواتها فوات للعبادة، والعبادة لا تقع أصلاً بدونها، وكانت شبهيتها بالركن من هذا الوجه، وكأنهم نزلوا الصورة الحكمية في الشرع منزلة الصورة الوجودية في النظر، وقولهم قوي من هذا الوجه، وهذا هو الذي درج عليه المصنف، وإلا فهناك من أهل العلم من يرى أنها من الواجبات أو الشروط، لكن القول بالركنية له حظه من النظر الذي ذكرناه، وعليه فإنها تكون من الأركان لوجود الشبهية من جهة حكم الشرع بعدم الاعتداد بدونها، فنزل منزلة الفقد للاعتبار منزلة الفقد للوجود؛ فكانت أشبه بالركن، وتوقف الماهية عليها من هذا الوجه. والله تعالى أعلم.
وصية لطالب العلم
السؤال: تألمنا كثيراً لغيابك عنا، فنرجو أن لا تقطع تواصلك بنا. وجزاكم الله خيراً؟
الجواب: الله يعلم إنا نحبكم كما تحبونا، ويعلم الله كم يحصل في النفس من شوق وحب للقائكم، ووالله إني لآتي في مشقة السفر وعنائه والله يعلم أنه يزول جميع ما بي حين أراكم، وأسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلى كما جمعنا في هذا البيت الطيب الطاهر المبارك أن يجمعنا في دار كرامته، وأن يجعل كل لقاء من هذه اللقاءات اجتماعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وأن لا يجعل فينا ولا منا ولا معنا أبداً شقياً ولا محروماً، ووالله إنه ليصيب الإنسان الهم والغم، ويجد من لأواء الفتن والمحن ما الله به عليم، ولم يبق سلوة إلا بذكر الله، والجلوس مع الأحبة والإخوان في الله، وأسأل الله العظيم أن يديم هذا التواصل، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم.
وخير ما أوصي به: إرادة وجه الله العظيم، فإن الدنيا فانية، وكم من أحبة اجتمعوا وآلَ اجتماعهم إلى افتراق، وكم من أحبة تواصلوا وآلت صلتهم إلى فرقة وشتات؛ لأنها لم تقم على ذكر الله، والمحبة فيه، والتواصل في ذاته، ولقد وجبت محبة الله للمتزاورين والمتحابين والمتجالسين فيه، وتأذن الله لمن جلس مجلس ذكر لله وفي الله أن تغشاه السكينة، وأن تتنزل على هذه المجالس الرحمة، وأن يذكرها الله فيمن عنده.
ومما ينبغي أن نتواصى به: شكر الله على نعمه، فإن الله عز وجل اختار الدنيا لمن أحب وكره، ومن أراد الدنيا صرفه الله إليها وفتح له من أبوابها وخيراتها وفتنها حتى لا يبالي به في أي أوديتها هلك -نسأل الله السلامة والعافية- ولكن الله لا يعطي الدين إلا لمن أحب، ومن أعظم الدين وأجله وأزكاه وأنفعه: العلم النافع، والجلوس في حلق الذكر، وغشيان حلق العلماء، وحبهم والتواصل معهم، وتكثير سواد مجالس الذكر لله وفي الله لا رياء ولا سمعة، ولكن لمرضاة الله عز وجل.
ومما يوصى به طلاب العلم: شكر الله على نعمه وحمده سبحانه، فكل مجلس يمر عليك احمد الله على فضله، وقل: الحمد لله أنه لم يمر عليك هذا المجلس وأنت في صخب الدنيا ولغطها ولهوها وفتنها، الحمد لله أن اصطفاك واجتباك، وما يدريك فلعلك تقوم من هذا المجلس وقد بدلت سيئاتك حسنات، وما يدريك أنك بإخلاصك وإرادتك لوجه الله أن الله يقبل منك هذه النية الخالصة، فيغفر لك ما تقدم من ذنبك، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله غفر لعبد خطاء الكثير من الذنوب؛ لما مر على مجلس ذكر للصالحين فجلس معهم)، فنسأل الله العظيم أن يعيننا على هذا الخير، ويوفقنا لشكر نعمه، فإن من شكر الله زاده، وإذا زاد الله العبد في نعمته بارك له فيها.
ومما يوصى به الأحبة في مثل هذه المجالس: إتباع العلم العمل، والحرص على السنة وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، فلا تتعلم شيئاً إلا وعملت به ودللت الناس عليه.
ومما نتواصى به حب الخير للمسلمين لنشر هذا العلم، وأن تكون قلوبنا مليئة بحب الخير لإخواننا المسلمين، فنتعلم هذا العلم، ونشهد الله من الآن أننا لا نريد به علواً في الأرض ولا فساداً، وإنما نريد به وجه الله وما عند الله من نفع المسلمين بدلالتهم على الخير، ومن نوى الخير فإن الله عز وجل تأذن له بأحد أمرين:
الأول: إما أن يمتع عينه ويقرها في الدنيا قبل الآخرة برؤية الخير الذي نواه؛ فإذا نويت من الآن أن تحمل هذا العلم للأمة فتهدي ويهدى بك، وتدل الناس على الخير؛ ليأتين يوم يقر الله عينك لما نويت من الخير، وهذا مشهد لله -ولا نزكي أنفسنا في طلبنا للعلم- فما وجدنا الله إلا وفياً لعباده: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] ، والله تعالى يقول: وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ [المائدة:12] فالله مع عباده عامة، وخاصتهم من أهل العلم وطلاب العلم.
فيحرص الإنسان أن تكون نيته فيها نفع أبناء المسلمين، وأن لا يبخل على الناس بهذا العلم، فإما أن يريك الله بأم عينك أثر هذه النية الصالحة، ويأتي اليوم الذي تنعم فيه عينك بحمل العلم عنك، فتأمر فتجد الناس حين تفتيهم يأتمرون بأمرك وينتهون بنهيك؛ لأن الله هو الذي يقلب القلوب ويثبتها، فإذا علم الله منك النية الصالحة قلب القلوب على حبك والثقة بما تقول، والناس تشتري السمعة بالأموال، والله تعالى زكى أهل العلم ووضع لهم من الحب والود في قلوب عباده ما لو بذلوا له أموال الدنيا ما استطاعوا أن يصلوا إليه، وهذا كله بفضل الله.
الثاني: أن يبلغك الله الأجر بنيتك، ويصرف عنك البلاء بالعلم؛ لحكمته وعلمه سبحانه، فيبلغك أجر هذا العلم وأجر ما نويت من نشر العلم بنيتك.
فعلى الإنسان أن يجعل من هذه لمجالس عوناً له على طاعة الله، ومحبته؛ فالدنيا فانية. وكم جلسنا مع علماء قرت عيوننا برؤيتهم فأمسينا وأصبحنا كأن لم يكن شيء، وسيأتي يوم لا يرى الإنسان فيه من يراه:
كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مما مضى فقد مضى
ومما يوصى به أيضاً: الحرص على اغتنام العلم، واغتنام وجود العلماء وحلق الذكر، والحرص على الجد والاجتهاد، لا أن يأتي الإنسان إلى مجلس الذكر لكي يشغل وقت فراغه؛ إنما يأتي لكي يعلَم ويعمل ويعلِّم، ويحس أنها أمانة ثقيلة، وأن الله معينه ومسدده. ووالله ثم والله ما صدقت مع الله إلا صدق الله معك، وليفتحن الله لك من أبواب الخير والرحمة ما لم يخطر لك على بال، فإن أساس هذا الدين وأساس هذه الملة قائم على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا هو الدين والوحي الذي أوحى الله إلى نبيه، فإذا تجرد طلاب العلم لحمله وصدقوا مع الله صدق الله معهم، وجعل فيهم الخير للأمة، ونفع بهم الإسلام والمسلمين، ووالله ما حملت علماً صادقاً تريد به وجه الله إلا بلغه الله عنك، والله عز وجل على كل شيء قدير.
المهم أن هذه القلوب -التي تتقلب على العبد آناء الليل وأطراف النهار- تستشعر قيمة هذا العلم. وقد كان السلف لا يشتكون من شيء مثل قلوبهم، وقال سفيان رحمه الله: ما رأيت مثل قلبي -وفي رواية: ما رأيت مثل نيتي- إنها تتقلب عليَّ. والله عز وجل لا ينظر إلى عبده على كمال وجلال مثلما ينظر إليه وهو عالم عامل قائم بحجة الله عز وجل على خلقه، فهؤلاء هم ورثة الرسل والأنبياء (إن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم)، فيشهد الله أن هذا التواصل نريد به وجه الله، ولا نزكي أنفسنا على الله، ولكن نتمنى من طلاب العلم ونحب لهم ما نحب لأنفسنا من الإحساس بهذه النعمة، والحرص على ضبط هذا العلم، وكل طالب علم شعر أن هذا العلم عزيز، وأعطاه ما ينبغي أن يُعطاه من الإجلال والمحبة فسوف ينفعه الله عز وجل به عاجلاً أم آجلاً.
فإن الرجل إذا رأيته يعطي الشيء العزيز وهو يشعر بعزته فيحتضنه ويكتنفه، كانت العقبى بعزته ورفعته، فكم من أنفس زهقت في دفاع عن الأموال لما عزت على أصحابها، وكم من أنفس ذهبت في دفاع عن الأعراض لما عزت الأعراض على أهلها، فإذا عز العلم على أهله وعز العلم عند أصحابه بذلوا له ما ينبغي أن يبذل.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وأن يسددنا، ونسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل هذا العلم حجة لنا لا علينا، وأن يغفر لنا ولكم ما يكون فيه من الزلل والخطأ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
حكم طواف الوداع لمن أصابه مرض ويخشى فوات رفقته
السؤال: رجل انتهى من جميع أعمال الحج عدا طواف الوداع، ثم أصيب بمرض لا يستطيع معه الطواف إلا بمشقة كبيرة، ومعه رفقة ولا يستطيع أن يتأخر عنهم، فهل يسقط عنه الطواف؟
الجواب: طواف الوداع واجب من واجبات الحج، أسقطه النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة الحائض والنفساء، ولا يُجري كثير من أهل العلم القياس في هذا ولا يطرده، ويقولون: إن أمكنه أن يأتي به ولو ببعض المشقة أتى به، وإن كان لا يستطيع أثناء المرض ينتظر حتى يذهب ما به من المرض ثم يطوف إذا أمكنه التأخير، وأما إذا لم يمكنه وصدر مباشرة فإنه يلزمه الدم وإلا صام عنه عشرة أيام. والله تعالى أعلم.
حكم التنفل بالسعي بين الصفا والمروة
السؤال: هل يشرع التنفل بالسعي بين الصفا والمروة كما يشرع التنفل بالطواف؟
الجواب: قال بعض العلماء: إنه لا يشرع السعي بين الصفا والمروة إلا في الفرض، أي: في الحج والعمرة.
وقال بعض العلماء: إنه يجوز أن يتنفل في سعيه بين الصفا والمروة؛ لعموم قوله تعالى: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ [البقرة:158] ، وحكى بعض العلماء الإجماع عليه، لكنه لا يخلو من نظر في حكايته الإجماع، وقيل: إن مراده التنفل بالسعي أثناء الحج: أنه لا يتنفل كما أنه لا يتنفل بالطواف تأسياً برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه محمد.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|