العربية وطرائق اكتسابها
د. محمد حسان الطيان
4- تعلم مبادئ التجويد والتمرس به:
التجويد إعطاء كل حرف حقّه ومستحقّه مخرجًا وصفة[28]، وهو أمر يعدُّ من لوازم الفصاحة، إذ لا فصاحة لمن تتداخل الحروف في نطقه، أو يعتورها نقص في النطق، أو حَيْفٌ في الصفة، أو آفَةٌ من آفات الكلام كاللثغة والتأتأة والفأفأة وما أشبه ذلك مما فصَّل الحديث عنه أرباب الفصاحة والبيان.
إن تلقين الترتيل للناشئ في رحاب العربية أمر مهم للغاية، وهو يبدأ من كتاب الله عز وجل لينتهي بإتقان اللفظ العربي أيًا كان موضعه، إذ يضمن للناطق التلفظ بكلمات اللغة على النحو الأمثل الذي تتلقفه الآذان بشغف وتسمعه بعذوبة ويكون له أكبر الأثر في النفوس، خلافًا لمن يخرج الحروف من غير مخارجها، ويعطيها غير صفاتها مما يجعل نطقه ممجوجًا، يضيق به سامعه، وينتظر لحظة سكوته وفراغه، وما أكثر ما ابتلي الناس اليوم بمثل هؤلاء الناطقين الذي ذهبوا برُواء اللغة، ففقدت على ألسنتهم أجمل خصائصها وأروع صفاتها، واختلط حابل الحروف بنابلها، فرقَّقوا ما حقُّه التفخيم، وقلقلوا ما حقّه الاستطالة، وهمسوا ما حقّه الجهر، وضاعت على ألسنتهم مخارج الحروف وصفاتها، وصرنا إلى ما قاله العباس بن الأحنف:
مَن ذا يُعيرُكَ عينَه تَبكي بِها أرأيتَ عَينًا للبُكاءِ تُعارُ[29]
وإذا كان ابن الجزري يقول في منظومته المشهورة:
والأَخذُ بالتَّجويدِ حَتمٌ لازمُ مَن لم يُجَوِّدِ القُرانَ آثِمُ[30]
فإني أزيد فأقول إن من لم يجود القرآن فلن تكتمل له أدوات الفصاحة مهما أوتي من علم بالعربية، وبصر بالأدب، وحفظ للشعر، ودراية بالنحو والصرف، لأن نطقه سيبقى في مَنْزلة لا ترقى إلى ما ينبغي للناطق بالعربية، وذلك لكثرة ما اختلط في المجتمع من اللغات واللهجات، وما كثر من الفساد اللغوي والنطقي.
وما وضع التجويد حين وضع إلاَّ لمثل هذا، صدعًا بالأمر الإلهي: {وَرَتِلِ القُرْءَانَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4]، ووصولاً إلى الوجه الأمثل لهذه التلاوة، وقد حظي هذا الفن بمؤلفات جليلة بسط أصحابها فيها الكلام على مخارج الحروف وصفاتها وأحكام النون الساكنة والتنوين من إظهار وإخفاء وإدغام وإقلاب، وأحكام الميم الساكنة من إظهار شفوي وإدغام وإخفاء، وأحكام الراء وما أشبهها، وأحكام الممدود بأنواعها المختلفة، والعجيب أن بعض هذه المصنفات لم يقتصر على هذه الأحكام وإنما تعدَّاها إلى بيان ما ينبغي تجنبه من أغلاط وأخطاء في التلاوة والترتيل مما يحتاج طالب الفصاحة اليوم إلى أن يعلمه ليجتنبه ويتحاماه في كلامه.
ولعلَّ من أشهر ما ألف في هذه البابة رسالة ((التنبيه على اللحن الجلي واللحن الخفي)) لأبي الحسن علي بن جعفر السعيدي المقرئ (ت461هـ)[31]، وقد جاء في مستهلها: ((... واللحن الخفي لا يعرفه إلاَّ المقرئ المتقن الضابط الذي قد تلقَّن من ألفاظ الأستاذين المؤدى عنهم، المعطي كل حرف حقه غير زائد فيه ولا ناقص منه، المتجنب عن الإفراط في الفتحات والضمَّات والكسرات والهمزات، وتشديد المشددات وتخفيف المخففات وتسكين المسكنات، وتطنين النونات، وتفريط المدَّات وترعيدها وتغليظ الراءات وتكريرها، وتسمين اللامات وتشريبها الغنَّة، وتشديد الهمزات وتلكيزها...))[32].
إن فن التجويد واحد من الفنون التي لا يمكن أن تُتقن بالاعتماد على الكتب فحسب، إذ لا بدَّ فيه من التلقي والتلقين المباشر من أفواه الأشياخ المقرئين المتقنين ليتمرَّس الطالب بطريقة الأداء الصحيحة ويجتنب كل ما ينبغي اجتنابه، ومن فضل الله على هذه الأمة أن أرباب التجويد منتشرون في كل صقع من أصقاع الأرض، يعلِّمون هذا الفن حِسبةً لوجه الله سبحانه، إيمانًا بما ادَّخره الله سبحانه لهم من جزيل الثواب وواسع المغفرة وحسن المآب لقوله صلى الله عليه وسلم: ((خيركم من تعلم القرآن وعلَّمه))[33].
وكتب التجويد ورسائله كثيرة منتشرة، من أجلِّها وأقدمها كتاب الرعاية لتجويد القراءة وتحقيق التلاوة للإمام المقرئ مكي ابن أبي طالب القيسي (437هـ).
5- مزاولة الفصاحة قراءةً وكتابةً وكلامًا:
لا يَعرفُ الشَّوقَ إلاَّ مَن يُكابِدُهُ ولا الصَّبابةَ إلاَّ مَن يُعانِيها
وأكاد أقول: ولا الفصاحة إلاَّ من يعانيها، فالفصاحة معاناة ومزاولة، تشترك فيها جميع الحواسِّ والمدارك، تبدأ بالسماع وتمرُّ بالقراءة لتنتهي بالكتابة والكلام الفصيح، فهي عمل متواصل للأذن والعين واليد واللسان، إذ هي تمرّس وتدريب يتبع الاكتساب والتحصيل، ولا يغني فيها اكتساب عن تمرُّس، ولا تحصيل عن تدريب، إنما تحصل بمجموع ذلك كله، ولعل أثر التمرّس والتدريب أكبر من أثر التحصيل والاكتساب لما لهما من أهمية في نمو ملكة اللغة وتثبيت أركانها وتوطيد دعائمها، وكلما أكثر المرء من استعمال لسانه في ضروب من الفصاحة كان ذلك أطلق للسانه وأبلغ لبيانه وأعودَ عليه بزيادتها وبلوغ الغاية فيها.
روى المبرد في الكامل أن رجلاً قال لخالد بن صفوان: إنك لتُكثر! فقال: أُكثر لضربين: أحدهما فيما لا تغني فيه القلة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العُقلة. وكان خالد يقول: لا تكون بليغًا حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمة بما تتكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضو إذا مرَّنته مَرَن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبهه، والرِّجل إذا عُوِّدت المشيَ مشت[34].
ومما لا شكَّ فيه أن الخطابة ضرب من ضروب الفصاحة، بل هي مرتع خصب لها، وميدان واسع تتبدى مهارة الفصاحة من خلاله، والخطيب لا يغدو خطيبًا مصقعًا إلاَّ بمواصلة الدربة والتمرين، ومزاولة الخطابة والتمرس بأصولها والتدرب على فنونها، وما عرف عن خطيب أنه بلغ شأوًا في الخطابة متميزًا إلاَّ بعد طول دربة وتمرين وصقل، بالإضافة إلى ما حصَّله من علم ومعرفة، وما اكتسبه من ملكة وطبع.
جاء في زهر الآداب أن أبا داود كان يقول: ((رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه))[35].
وجاء في البيان والتبيين: ((... وطول الصمت يفسد اللسان، وقال بكر بن عبد الله المزني: ((طول الصمت حُبْسة)) وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: ((ترك الحركة عُقلَة))، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلَّدت نفسه، وفسَد حِسُّه، وكانوا يروُّون صبيانهم الأرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتق اللَّهاة، ويفتح الجِرْم [أي الحلق]، واللسان إذا أكثرت تقليبه رقَّ ولانَ، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلط. وقال عَبَايةُ الجُعْفي: ((لولا الدُّرْبة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضُهم بعضًا)).
وأية جارحة منعتها الحركة، ولم تمرِّنها على الاعتمال، أصابها من التعقُّد على حسب ذلك المنع، ولمَ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنابغة الجعدي: ((لا يفضُض اللهُ فاك))؟ ولمَ قال لكعب ابن مالك: ((ما نسي الله لك مقالك ذلك))؟ ولم قال لهيذان بن شيخ: ((ربَّ خطيب من عبس))؟ ولمَ قال لحسان: ((هيِّجِ الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غَبَش الظلام))[36].
وقد يتساءَل المرء أين يمارس مثل هذه الفصاحة؟ ومتى يزاولها ومع مَن يستطيع التدرُّب؟ وأنى له ذلك في هذا الزمن الذي بعد أهله عن الفصاحة والبيان؟
والجواب أن خير مكان لمزاولة الفصاحة هو المدرسة والجامعة وحِلَق العلم وأندية الثقافة وما أشبه ذلك، حيث ترتفع سوية الكلام، لتلائم شرف المعاني المطروحة، فالعلم على اختلاف أنواعه واختصاصاته، لا يليق به أن يعالج بلغة مبتذلة سوقيّة تحاكي لغة العامة في لهوهم وأسواقهم ولغطهم، وإنما يليق به أن ترتفع سوية الكلام وترقى العبارة إلى مدارج الفصاحة والبيان، مما يرقى بالعلم ويسمو به وبأهله، ويكون أنفع للطالب وأجدى له.
وكثيرًا ما يتساءل المربُّون: لماذا انحدرت سوية التعليم عن ذي قبل؟ وما أسباب ضعف الطلبة والخريجين في العربية بعد طول قوة؟ والجواب يكمن في طريقة تدريسهم التي تغيرت واستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير، أجل فقد غدت العاميات المبتذلة وسيلة تدريس العلوم المختلفة، حتى اللغة العربية!! فهي تدرس في كثير من المدارس والجامعات بلهجة عامية أحيانًا وبلغة ركيكة ليست من الفصاحة في شيء أحيانًا أخرى! فكيف يكتسب الطالب فصاحةً؟ وأنَّى له بها؟!
إن الحلَّ يكمن في إعادة النظر في طرق التدريس ولغة التدريس، ولا شكَّ أن ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة لتأهيل المدرسين لغويًّا ولإعادة النظر أيضًا بمن يؤهل للتدريس، وهي مسألة لا تخلو من صعوبة ولكنها ليست بمستحيلة إذا صحَّ العزم وصدقت النية ولاح الهدف من وراء ذلك مشرقًا ينبئ بمستقبل مشرق.
وعندما تغدو العربية هي الوسيلة الوحيدة للتعبير في قاعة الدرس يتسابق الطلبة إلى التعبير بها، ويتبارون في تجويدها، ويتفنَّنون في أساليب الكلام، مما يخرج ألسنتهم من طول الإسار، ويذهب عنها الحبسة والركاكة، والعيّ والفهاهة، قال أبو العطاء يصف لسانه:
أُقلِّبُهُ كي لا يَكِلّ بحُبسَةٍ وأبعَثُهُ في كُلِّ حَقٍّ وباطِلِ
بل إن العدوى ستنتقل من قاعة الدرس إلى المجالس الأخرى والأندية والمحافل، حيث يتمايز الناس بطريقة نطقهم، ولا يعلو حديث مهما سما على الحديث بالعربية المبينة، فهي التي تسيطر بسحرها وجمالها وروائها على كل أهل المجلس، فتراهم منقادين إلى من يتقن الحديث بها، مصروفين إليه، يلتذون بوقع كلامه على أسماعهم، تتجاوب معه نبضات قلوبهم، ولا غروَ فهي كما قال الشاعر السحر الحلال:
خُلِقَ اللسانُ لنُطقِهِ وبيانِهِ لا للسُّكوتِ وذاكَ حظُّ الأخرَسِ
فإذا جلستَ فكُنْ مُجيبًا سائلاً إنَّ الكلامَ يَزينُ ربَّ المجلسِ[37]
ولا يتوقف أمر الفصاحة على اللسان، وإنما يشاركه فيها القلم، فالقلم أحد اللسانين، وهو أبقى أثرًا، لأن الكتاب يقرأ بكل مكان ويدرس في كل زمان، ويتجاوز الحدود ويرتفع على القيود.
فإذا تمرَّس الطالب بأساليب الكتابة، حسن تعبيره وشقَّ طريقه إلى امتلاك ناصية القلم، مما يعود عليه بالخير العميم، والنفع المستديم، فالكتابة تفتح آفاقًا واسعة، وتصل إلى ما لا يصل إليه اللسان، ولكنها كاللسان أو هي أعصى، لمسيس حاجتها إلى طول الدربة، وكثرة التمرين، ومعاودة التجربة، وإعادة النظر فيما يكتب، فالكاتب يطمح دائمًا إلى تجويد كتابته والرقيّ بها إلى مدارج البلغاء، مما يضطره إلى إعادة النظر، والحذف والتعديل، والإضافة والتذييل، ورحم الله القاضي الفاضل إذ يقول في رسالة منه إلى العماد الأصفهاني:
((إني رأيتُ أنَّهُ لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلاَّ قال في غَدِهِ: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر))[38].
وبهذا تصقل الكتابة، وتتضح سمات الأسلوب، ويبلغ الكاتب حدَّ الفصاحة والإبداع.
يتبع