إسهامات علماء التعمية في اللسانيات العربية
د. يحيى مير علم
يتناول هذا البحث إسهامات أعلام التعمية في الدراسات اللغوية العربية وأثرها في تطورها، وذلك من خلال بيان العلاقة بين التعمية واللغة، وارتباط تطور التعمية بتطور الدراسات اللغوية، والوقوف عند ما يحتاج إليه استخراج المعمى من معارف لغوية كثيرة مثل : النحو والصرف والعروض والأصوات والمعاجم وأحكام نسج الكلمة العربية وغيرها، وأخيراً الكشف عن أبرز إسهامات أعلام التعمية في اللسانيات العربية في مجالات عدة : كالدراسات الإحصائية للحروف، ومعرفة تواتر الحروف ومراتبها، إضافة إلى تواتر الكلمات، وكذلك استغراق قوانين الائتلاف والتنافر فيما بين الحروف، وغير ذلك من علوم لغوية كانت بعيدة الأثر في التعمية واستخراجها كالعروض والقافية، والمعاجم وغيرها.
1 - العلاقة بين التعمية واللغة :
تُعدّ اللغة – كما هو معلوم – مادةً لكلٍّ من التعمية واستخراج المعمى، إذ تقوم الأولى على تحويل نص واضح إلى آخر غير مفهوم باستعمال طريقة محددة، يستطيع مَنْ يعرفها أن يفهم النص، وتقوم الثانية على عكس ذلك من تحويل النص المعمى إلى آخر واضح. وهذه العلاقة الوثيقة بين التعمية واللغة تفسر ارتباط تطور كلٍّ منهما بالآخر، وتفسر كذلك حاجة كل مَنْ يعاني التعمية واستخراجها إلى المعرفة الجيدة باللغة وعلومها وبخاصة الدراسات اللسانية النحوية والصرفية والمعجمية والعروضية والدلالية والإحصائية والصوتية، كما تفسر جمع عدد غير قليل من الأعلام بين علوم اللغة وعلوم التعمية، واشتراكهم في التصنيف فيهما، وشهرتهم بالتقدّم في النوعين.
لقد أوفى اهتمام العرب باللغة وعلومها على الغاية، ولا عجب في ذلك إذ كانت العربيةُ لغةً للوحي وللتنزيل الحكيم وللرسول صلى الله عليه وسلم ولهذا الدين الحنيف، والعناية بها على أيّ صورة كانت دراسة أو تدريساً أو تأليفاً أو نشراً بين المسلمين من غير العرب في أرجاء الدولة الإسلامية ممن تفيَّؤُوا ظلال هذا الدين = تُعدّ من أعظم القربات إلى الله، لما فيها من خدمة للكتاب العزيز، وصون للألسنة عن الوقوع في اللحن. ولذلك أدى اهتمام العرب بلغتهم إلى نتائج علمية مهمة في اللسانيات العربية، فقد نهضوا بدراسات صوتية هامة للحروف العربية ومخارجها وصفاتها، وأجروا دراسات كمّيّة وإحصائية على الحروف وتواترها وتنافرها واقترانها، وتعمقّوا في دراسة النحو والتراكيب، والصرف والأبنية، والدلالة وعلاقتها بغيرها، وسبقوا إلى وضع المعاجم اللغوية على اختلاف أنواعها ومناهج ترتيبها.
إن تقدم العرب في علوم اللسان كان من أبرز العوامل المهمة التي ساعدت العرب على إحراز قصب السبق في معالجة التعمية وحلّ المعمّى، وإرساء قواعدهما، وتدوين مصنفات مستقلة فيهما، بيد أن ثمّة عوامل أخرى كانت بعيدة الأثر في ذلك أيضاً، من مثل : نشاط حركة الترجمة من علوم الحضارات السابقة والمعاصرة إلى العربية، وتطوّر علوم الرياضيات كالجبر والمقابلة والحساب، وازدهار علوم الإدارة كالإنشاء والدواوين، وشيوع الكتابة والقراءة في الحضارة العربية الإسلامية وارتباطهما بالقرآن الكريم وعلومه، إضافةً إلى ما تعرّض إليه العالم الإسلامي من هجمات المغول في الشرق، والحملات الصليبية في الغرب[1]. على أن هذا التأثير لم يكن في اتجاه واحد، بل كان تأثيراً متبادلاً، فقد أسهم علماء التعمية في إغناء جوانب مهمة من الدراسات اللسانية وتطويرها، كما سيرد بيانه لاحقاً.
2- الجمع بين علوم التعمية و علوم العربية :
تقدّمت الإشارة في صدر البحث إلى ارتباط تطوّر التعمية بتقدم الدراسات اللسانية، وأن من أظهر الأدلة على ذلك جمعَ كثير من الأعلام بين علوم العربية والتعمية واستخراجها، وقد حفلت كتب التراجم على اختلاف مناهجها بأخبار أولئك العلماء، وسنورد فيما يأتي أشهر الأعلام الذين جمعوا في الاشتغال أو التصنيف بين علوم اللغة والتعمية، مقتصرين على إيراد أسمائهم مقرونةً بتواريخ وفياتهم، وموثّقةً بالعزو إلى مصادرها[2] :
- الخليل بن أحمد الفراهيدي : (100-170هـ / 718 – 786م)
نسب إليه الزبيدي قي (طبقات النحويين واللغويين) [ص51] كتاباً في المعمّى، ولا أثر له. ونقله عنه ابن نباتة في كتابه (سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون) وجعله أول من وضع علم المعمى. ثم نقله محمد بن الحنبلي عن ابن نُباتة في رسالته (شرح كنز من حاجى وعمّى في الأحاجي والمعمى) [ 3/ب – 4/أ ] مصورة عن نسخة المكتبة الظاهرية.
- ثوبان بن إبراهيم ذو النون المصري: (000-245هـ/000-859م)
له كتاب (حلّ الرموز وبرء الأسقام في أصول اللغات والأقلام). ذكره الدكتور رمضان ششن في كتابه (نوادر المخطوطات في مكتبات تركيا)[ 2/27 ].
- سهل بن محمد بن عثمان السجستاني : (000-248هـ/000-862م)
نقل ابن النديم في (الفهرست) [ ص92 ] عن ابن دريد أنه (كان يتبحر في الكتب، ويُخرج المعمى، حاذق بذلك، دقيق النظر فيه..).
- يعقوب بن إسحاق الكندي : (000-260هـ/000 – 873م)
له (رسالة في استخراج المعمى) وهي من رسائل الجزء الأول من كتاب (علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب) [1/211-255 ].
يتبع